الشيوعية... نهاية الإنسان! -في نقد الفكر الماركسي-


محمد مسافير
2017 / 8 / 13 - 21:10     

لعبت الماركسية أدوارا تقدمية كبيرة على المستويين الفكري والعملي، أولا من حيث الإسهام في إغناء البنك الفكري العالمي فلسفيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ثانيا من حيث الأدوار الريادية التي لعبها معتنقو هذا الفكر، من تأطير النضالات الإجتماعية والنقابية وردع الجشع الرأسمالي والوصول إلى حالة توازنات سياسية لا تأتي على هذا ولا ذاك!
إلى هذا الحد تنتهي الفائدة، فدراسة التاريخ ماديا وجدليا هو من أنجع المنهجيات الحديثة في الدراسة والتحليل، لكن ليس بالضرورة يقود إلى نفس النتائج التي خلص إليها ماركس ومن جاء بعده، فربما يكمن الخلل في إحدى الحلقات... لكن المنطلقات سليمة مئة بالمئة، كمنطق الصراع والتناقضات وفائض القيمة وغيرها من المفاهيم، فالطبقة العاملة ستُدك دكا وستُستنزف استنزافا ما لم تستطع فرض موازين قوى معينة، لكن لا يجب أن تتجاوزها إلى ما عدا ذلك، أو على الأقل، ألا تتجاوز ذاك الحد إلى ما تمليه عليها الماركسية!
لكن... لماذا؟ هل هو حقد على الماركسية؟ أم أن هذا الهجوم هو تسخير مأجور أو مجاني من الرأسمالية؟ أم أنه نتيجة التأثيرات التي يعمقها الإعلام البرجوازي وننهل منها دون وعي؟ هذه كلها أحكام قد يستنجد بها أي ماركسي أرتودوكسي ليدافع بها عن ماركسية غدت ركاما! فلننطلق إذن في رحلة تبيان جرم الماركسية والمصائب التي قد يقودنا إليها حاملو هذا الفكر بحسن نية!
نتعرض للإشكال التالي أولا:
هل النظام الشيوعي هو حتمية تاريخية أم اختيار واع!
إذا أخذنا بعين الاعتبار التحليل من منطلق المقولة الفلسفية الماركسية: نفي النفي، فإن فيها جوابا للإشكال الأول، والجواب أن النظام الشيوعي هو حتمية تاريخية، لأن المقولة تصرح أن تطور المجتمعات هو تطور لولبي/حلزوني، يدور حول محور ما، لكنه لا يعود إلى نفس البداية، بل يرتقي إلى مستوى أعلى، أي أننا حتما سنعود إلى المجتمع اللاطبقي، لكنه سيكون أكثر تطورا من المجتمع المشاعي، ولأنه تطور لولبي، فإن مستواه سيتجاوز جميع الأنظمة التي سبقته، وهذا سيقودنا إلى الاعتقاد بأن دور الماركسيين هو تسريع انهيار النظام الرأسمالي، لا أقل ولا أكثر!
لكننا إذا انطلقنا من مقولة لينين: "الوعي الاشتراكي يأتي من خارج الطبقة العاملة" أي من حزب الطبقة العاملة الاشتراكي، وهذا يعني في المقابل، أن الطبقة العاملة مهما ناضلت ومهما ارتفع وعيها، فلن تصل البتة إلى الوعي الاشتراكي، وكذا أكد إرنست ماندل أن الشيوعية هي أول تدخل واع للإنسان في تحديد مسار التاريخ، أي أن قدومها ليس أمرا حتميا، بل هو اختيار واع!
وأي كان الجواب، فإننا لن نتفق وإياكم في تشييد هذه المدينة الفاضلة، فربما نهلك أثناء التشييد جميعا!
ولأن الركن الأساس في التحليل الماركسي هو المادية التاريخية، فسنتبناها أيضا في نقدنا هذا:
لقد عمرت المشاعة البدائية آلافا من السنين، قد عمرت أكثر من أي نظام اجتماعي آخر، حيث كانت علاقات الانتاج في أدنى مستويات تطور القوى الإنتاجية، بالإضافة إلى علاقات الإنتاج ذات الطابع التشاركي لوسائل الإنتاج البدائية، ورغم ذلك، فإن هذا الإقتصاد التشاركي، وإن كان يرغم قوى الإنتاج على العمل الدائم (الصيد، جني الثمار...) لتوفير القوت، إلا أن الواحد فيهم لم يكن يموت جوعا إلا بموت الجماعة كلها! فإن قل الإنتاج أو كثر، يقسم بين كل أفراد الجماعة بالتساوي...
لكن ما يجدر بنا الإشارة إليه هنا، هو أن المتناقضات في هذا المجتمع كانت شبه منعدمة، ما نتج عن ذلك تطورا بطيئا جدا للمجتمع على كافة المستويات!
عندما بلغت بعض المجتمعات مستوى معين من التطور، خاصة بعد ظهور الملكية الخاصة، كان على الحتمية التاريخية أن تتدخل وتفرز لنا علاقات إنتاجية جديدة مناسبة، هكذا ظهر المجتمع العبودي، الذي انقسم فيه المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين: الملاكين والعبيد، بالإضافة إلى فئات هامشية أخرى كانت قليلة نوعا ما، كرجال الدين والبدايات الحرفية والتجارية والمراباة... والملاحظ في هذا البناء المجتمعي، هو بروز بعض المتناقضات التي ستساهم في الدفع بعجلة تقدمه إلى الأمام، هذه المتناقضات، وإن كانت قليلة، فقد عجلت في انقضاء العصر العبودي نسبيا، حيث لم يعمر إلا اليسير إن أقرناه بسلفه المشاعي!
بلغت المتناقضات التي كانت تنخر المجتمع العبودي مرحلة الطفرة، وهي آخر مراحل التطور داخل منظومة ما، لتمهد بأفولها وبروز أشكال جديدة من الإنتاج، قضت الثورة على الأشكال البائدة، وأفرزت علاقات إنتاج جديدة، أسماها التاريخ، علاقات إقطاعية، جمعت في أحشائها بعض مخلفات العصر البائد/العبودي، وعناصر جديدة لم يعرف لها التاريخ القديم شبها إلا داخل هذه المنظومة، كعلاقات الإنتاج الجديدة التي تشكل طرفيها طبقة الإقطاعيين، وطبقة الأقنان، وطبعا في خضم تطور وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج داخل النمط الإقطاعي، وربما في مراحل متقدمة منه، ستتولد عناصر جديدة تحمل مشعل التغيير، لتشكل الركيزة الأساسية في الطفرة النوعية/الثورة، كالمعالم الأولى والبدائية لظهور طبقة البرجوازية ونقيضها البروليتارية!
وعصر الإقطاع، بشكله المتطور على ما سبقه، ولأنه كان يعج بالمتناقضات، القديمة والجديدة والآتية، فقد قيض له أن يكون أكثر إنتاجية وتطورا والأسرع انقضاءً في نفس الوقت!
ويمكننا جميعا أن نلاحظ اليوم، مدى التطور السريع الذي نعيشه داخل المنظومة الرأسمالية، إنه تطور مهما تباينت نتائجه ومهما أضرت في بعض مناحيها ببني البشر، ومهما هلكت بسبب جشعها ومنطقها الربحي من ملايين، إلا أنه تطور، والتطور لن يكون مثاليا خال من نواقص أو مهالك أو ضحايا!
وهذا العصر، هو عصر المتناقضات، علاقات إنتاجية وفيرة، مصالح كثيرة ومتباينة، أشكال اقتصادية غزيرة، مؤسسات حقوقية وسياسية وقضائية وتشريعية تؤطر هذا وذاك، وتتدخل أحيانا وتعدل أحيانا أخرى، مؤسسات اجتماعية، جمعيات مدنية، تجارة رقمية، حسابات رقمية، البورصة، الأسواق المالية، الأنترنيت.... لقد غذا العالم أكثر تعقيدا، وأكثر ازدحاما بالتناقضات، لهذا فقد أصبحنا نعيش في عالم السرعة، وفي نفس الوقت، هو عالم الوفرة، وإن احتججنا عن طريقة التزويع الاجتماعي لهذه الوفرة!
وخلاصتنا إلى ها هنا تقول: إن التناقضات هي أساس تقدم الإنسانية وابتعادها عن عالم الحيوانات، والمهام المطروحة على المناضلين ليس القضاء على هذه التناقضات، لكن تقويضها لخدمة الإنسان، عن طريق المؤسسات الرقابية والحكومية والتشريعية والقضائية، وعن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة!
أما محاولة إلغاء المتناقضات فهو بمثابة محاولة للقضاء على الإنسان والإختلاف والتنوع البشري والثقافي والفكري الذي هو ركيزة التقدم وعجلة التطور، ولنا في هذا المضمار مثال تجربة الشيوعيين في الصين، فبعد الثورة مباشرة، حاولوا القيام بتدابير تقدمية تخدم المشروع الاشتراكي المزعوم عن طريق تصفية البرجوازيين والملاكيين العقاريين، وتأميم أملاكهم وإخضاعها للإدارة البيروقراطية للدولة، لقد حاولوا إلغاء المتناقضات أو على الأقل تقليصها، وفي إقدامهم هذا استطاعوا تحقيق الكفاف للشعب، وإيصالهم إلى وضع أحسن من سابقه حسب أقوال المهتمين، لكن تقدمهم لم يكن إلا في نطاق حدودهم، لأنه إذا قورن بالتقدم الدولي وما حققه الإقتصاد الرأسمالي أو الإمبريالي من ازدهار، فإنه لم يكن يعني شيء، بل كان تقدم الصين أقرب إلى الجمود من البطء!
لذا فإننا، وبناء على المنهج المادي الجدلي، فيجب أن نسلم أن لا حركة بدون متناقضات، وانعدام المتناقضات يعني الجمود، والجمود يعني الفناء والموت، فلا مادة ساكنة أبدا، بل كل شيء في حركة، هذا ما يعني تماما أن إلغاء التناقضات الإجتماعية سيؤدي حتما إلى التخلف والجمود، وهنا لا يصح تحوير التناقض إلى صراع مع الطبيعة، لأن هذا لا يصح البتة، فالتناقض الذي يُحدث حركة هو الذي يَحدث داخل الوحدة وفي أحشائها، وليس مع الخارج، لأن لا وجود لوحدة دون تناقض حتى تستطيع التفاعل مع الخارج، ولا حاجة لنا أيضا إلى سماع تلك الأحاجيج التي تقول أن التناقض سيكون خفيفا ومرتبطا فقط بالصراع الفكري والنظري، فإن صرحنا بهذا فسنكف عن أن نكون ماديين!
ننتشبث بالتحليل الماركسي والنظريات الاقتصادية والفلسفية والاجتماعية التي أسهمت بها الماركسية، لكننا نرفض إطلاقا التسليم بنجاعة البديل الشيوعي الذي تطرحه!