حول الاشتراكية الديمقراطية


مولود مدي
2017 / 8 / 12 - 02:48     

يعاني مفهوم الاشتراكية من تشويه عنيف و متعمّد في العالم العربي, و هذا بسبب الأنظمة العربية التوتاليتارية التي استغلّت جوهر الاشتراكية التقليدية الذي يدعوا الى ديكتاتورية البروليتاريا أو ديكتاتورية العمّال, لذا يلجئ خصوم اليسار الى حصر معنى الاشتراكية في الاشتراكية القديمة التوتاليتارية و كأنهم لا يزالون يعيشون في القرن التاسع عشر.. ولا يدركون أن المتغيرات و الظروف أدت الى ولادة فكر جديد يجمع بين الاصلاحية و الثورة و هو الفكر الاشتراكي الديمقراطي, فمن أوجه الاصلاح في الاشتراكية الديمقراطية الايمان بتقدّم المجتمعات لكنها تعارض الحركات السياسية التي تلجأ الى الديكتاتورية و الستالينية في تحقيق الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية, وفي موضوع الثورة فان الاشتراكية الديمقراطية تؤمن بأن التغيير يأتي عن طريق الشعب بـالتوعية الاجتماعية و المظاهرات و الاضرابات و الكفاح البرلماني و سياسة الأحلاف مع الأحزاب الديمقراطية, و تنبذ سلك سبيل العنف و الارهاب و الفوضوية.

نقطة التحوّل في تاريخ الاشتراكية هو الدعوة الى تثبيت الاشتراكية بالوسائل السلمية و الديمقراطية و ليس باستعمال العنف, وبالتحديد في عام 1869 في ألمانيا بتأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي أصبح حاليا الحزب الديمقراطي الاجتماعي, لا يمكن الانكار بأن منبع فكر الاشتراكية الديمقراطية هو في الاشتراكية التقليدية لكن الاختلاف هو تجنّب الاستبداد و الشمولية التي يتميّز بها النظام الشيوعي, اضافة الى رفض كل أشكال التنظيمات المركزية و أسلوب التخطيط المركزي البيروقراطي, بحيث لا تعارض الديمقراطية الاشتراكية نمط الانتاج الرأسمالي, لكنها ترفض دعوات النيوليبرالية الى ابعاد كلّي لدور الدولة في الاقتصاد, ان الاشتراكية الديمقراطية تجمع بين اقتصاد السوق الحر، وفي نفس الوقت تلافي مساوئ طرق المنافسة الشرسة وعدم السماح الاحتكار ومن استغلال العاملين, وذلك عن طريق السماح بتكوين نقابات عمال قوية وعدم السماح لعمليات تجارية تسيئ إلى النظام الاجتماعي.

تبنّي الاشتراكية الديمقراطية سياسة التعديل و المراجعة جعل دعواتها للعدالة الاجتماعية أكثر تقبّلا من دعوات التيارات السياسية الأخرى, فجميع التيارات تدعوا الى الى احلال العدالة الاجتماعية لكن بمنظور مختلف من تيّار الى أخر, و لعل سبب نجاح الاشتراكية الديمقراطية هو قراءتها للتاريخ, بحيث أثبت هذا الأخير أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق بسياسة التأميم و القضاء على الملكية الفردية, إن تجربة ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وللخيرات العامة كما طبقت في الإتحاد السوفييتي وبعض بلدان المعسكر الاشتراكي أثبتت إن استحواذ السلطة الرسمية على القرار الاقتصادي ليس فقط لا يزيح الفوارق الاجتماعية و انعدام المساواة بين أفراد المجتمع, بل يخلق ظروفا لولادة أنواع جديدة حتى غير متوقعة من التفاوت الاجتماعي وانعدام المساواة, خاصة في ظل غياب الرقابة, فالقضاء على الملكية الاجتماعية هو أمر غير واقعي و ضد فطرة الانسان الذي يحبّ التملّك, ان الاشتراكية الديمقراطية فهمت بأن العدالة الاجتماعية تتحقق بضبط سلوك الانسان في مسعاة نحو الملكية الفردية و ليس بالقضاء عليها, ان العدالة الاجتماعية لا تتحقق بإعلان الحرب على فطرة الانسان, بل تتحقق بالغاء الظواهر المعبّرة عن الاضطهاد الاجتماعي من عدم مساواة الفرص, و التوزيع غير العادل للثروة, و حكم الأقلّية المفروض بالقوّة على الأغلبية, و التمييز على أسس دينية و طائفية و عرقية و جنسية, كما لا تتحقق العدالة الاجتماعية بالدعوة الى فرض دين رسمي على الدولة, و منع غير المسلم في الدول العربية من الوصول الى أعلى مناصب صنع القرار, و محاولة فرض النزعة الذكورية و اقصاء دور المرأة في الاقتصاد و السياسة.

كانت الأنظمة الشيوعية التي ادّعت الدعوة الى الحريّة, من أعتى الحصون المناهضة لحرية الانسان, ففي الاتحاد السوفياتي تمّ مطاردة كل مواطن روسي سوّلت له نفسه معاداة الحزب الشيوعي, او انتقاد " الملاك " ستالين الذي تسبب في احداث مجاعة 1932-1933 التي أدت الى مقتل 5 ملايين سوفياتي و الهدف كان اخضاع اصحاب الأرياف لنظام ستالين, ويبدوا أن النظام النازي الهتلري كان أكثر صدقا عندما أعلن أنه نظام اشتراكي معادي للرأسمالية, لأنه استخدم فائض انتاجه في صناعة الأسلحة للاعتداء على الشعوب الأخرى و تحويلها الى مجال حيوي عكس الاتحاد السوفياتي الذي استخدم فائض انتاجه في الاعتداء على العمّال و الفلاّحين السوفيات وسلب محاصيلهم و تركهم يموتون جوعا, ان الاشتراكية الديمقراطية تعارض نظرة الليبرالية للحرية بجعل حريّة الانسان بلا حدود, بينما في المفهوم الاشتراكي الديمقراطي, الحرية هي جزء من العلاقات الاجتماعية المسؤولة التي توفّق بين مصلحة الفرد بمصالح المجموع و تمنع أو المساس بحرية الآخرين من قبيل استغلالهم واستغلال جهودهم, وهي حرية النشاط الشخصي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي لا يتصادم مع مصلحة الآخرين وهي حرية العقيدة والفكر والانتماء والمذهب والتبشير على عكس التيارات الاسلامية السنّية و الشيعية التي ترى نفسها الوحيدة صاحبة الحق في التبشير بالآراء و تمنع اصحاب الطوائف الدينية الأخرى من ابداء رأيها بحريّة بذلك الشعار المزيّف الذي يسمّونه الثوابت.

ان الاشتراكية الديمقراطية لا تدّعي أنها نظام متكامل و مثالي, فلم يسبق للانسان أن وصل الى التكامل و المثالية الا في خياله فقط و المثالية تنافى نسبية الأفكار و سياسة اعادة المراجعة و التعديل التي انبثقت عنها الاشتراكية الديمقراطية, لكن هذه الأخيرة تسعى الى الوصول الى أعلى درجات التكامل الاجتماعي و الاقتصادي و محاولة خلق الانسجام بين مصالح جميع قوى المجتمع ومكوناته بالانفتاح على جميع الأفكار و الأراء و محاولة الوصول الى نقط الالتقاء بالمنهج النقدي المقارن, الفكر الاشتراكي الديمقراطي لا يرتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته الاشتراكية التقليدية باقصاء دور الدين في المجتمعات, و ما سبب تراجع الفكر الاشتراكي القديم و سقوطه في العالم العربي الا بسبب عدم اعطاء الدين دوره و مكانته الخاصة, ان الاشتراكية الديمقراطية ترفض أن تسير في الخط الذي رسمه ماركس و لينين, بمحاولتهما إنهاء المعتقدات الدينية التي تأصلت في نفوس الإنسان الشرقي منذ آلاف السنين بضربة واحدة.

أهمّ ما يميز الاشتراكية الديمقراطية هو الابتعاد عن التنظير المفرط و الجدال العقيم, و الاهتمام بالواقع و نقده, ان الخطاب السياسي للاشتراكية الديمقراطية هو خطاب موجّه لجميع شرائح الشعب ف, فمن الخطأ الاعتقاد بأن درجة التثقيف و الوعي السياسي للأحزاب اليسارية هو من مظاهر نجاحها, بل النجاح الحقيقي هو في القضاء على المسافة الكبيرة بين الطبقة السياسية المثقّفة و الجماهير العادية باعتماد خطاب و برنامج سياسي تفهمه جميع العقول, و هذا من أهم عوامل نجاح الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا و السويد و تمهيدها لما يسمّي بدولة الرفاة الاجتماعي, و التي نجحت في الجمع بين النمو الاقتصادي الذي يتميز بـ مستويات المعيشة المرتفعة وظروف العمل الجيدة.