افول الماركسية - ماركس بعد مئة سنة (7/أزمة الماركسية = تحقيق الماركسية)


موسى راكان موسى
2017 / 8 / 8 - 04:21     



ماركس ، بعد مئة سنة (183ـ186) :


إن أزمة الماركسية تبدأ في الإرتسام في اللحظة ذاتها التي يتجسد فيها (( تحقيقها )) و بين المضامين الطوباوية للعقيدة من جهة و واقع الدولة الكليانية التي تنتظم من جهة أخرى ، تبرز إلى الوجود معارضة ما تنفك تصبح مزعزعة ، و لا يمكن الدفاع عنها ، و منذ ذلك الحين تأخذ الأزمة شكلين رئيسيين : فمن جهة أولى تستخدم الدولة السوفياتية الأيديولوجيا كغطاء لـ(( سياستها الواقعية )) ، و خصوصا تجاه الحركة الشيوعية العالمية و من خلال الكومنترن ، و في هذه الحالة فإن الماركسية و قد تحولت إلى (( أداة حكم )) خالصة عليها إبتلاع و هضم كل (( تقلبات )) موسكو ، تتقوقع بشكل شبه مباشر في الأشكال الدوغمائية المعروفة للغاية . و من جهة أخرى فإن شخصيات ثقافية متعددة تنفصل و بما أنها تتراجع أمام (( الإنجاز ـ التجربة )) السوفياتي و تبقى وفية (( للنقاء الأصلي )) للعقيدة ، فإنها تجد نفسها مستثناة من الحركة الفعلية و رويدا رويدا ملقاة إلى الحياة الجامعية و الأكاديمية . و في هذه الحالة الثانية فإن الماركسية تواجه (و حتى لو كان ذلك تحت أشكال أكثر نبلا من الناحية الأكاديمية) عملية تغيير طبيعة ـ (أو نزع طبيعتها الأصلية) ليست أقل مغزى من الحالة الأولى . و من تحليل للرأسمالية و نظرية للثورة تتحول من الآن فصاعدا إلى (( فلسفة )) خالصة ، مولدة بهذا الشكل مفارقة النظرية التي تدعي نقاء الماركسية ، في نفس اللحظة التي ترفض فيها (( إنجازها ـ تجربتها )) التاريخية و تعارضها بملائكية طوباوياتها .


إن إحدى الشهادات الأكثر جدة حول (( أزمة الماركسية )) هذه يُقدمها لنا (و لكن بشكل لا إرادي طبعا) الجزء الرابع و الأخير من تاريخ الماركسية الذي نشره إينودي . إن تنوع المساهمات المجمعة في هذا العمل و لا تناسق وجهات النظر و الإتجاهات النظرية المتلازمة ، تجعل من الصعب طبعا إعطاء حكم شمولي .


و لكن هذا لا يمنع أنه بالإمكان أن نجد في الكتاب إتجاها حاضرا بصورة ضمنية : إنه ذلك الذي يقوم على الفصل ما بين مصير الماركسية كـ(( نظرية نقية خالصة )) ، و ما بين ما وصلت إليه أيضا في بلاد (( الإشتراكية الفعلية )) .


من الواضح أيضا أنه حتى في هذه الحالة ، و كما دائما ، ينبغي أن نعرف كيف نميز بين خصوصية الحلقات التي تتشكل منها السلسلة التاريخية .. إن ماركس ليس ستالين و لينين ليس مثل ماركس . و لكن أيضا يبدو أنه من المهم أن نفهم أن كل شيء يتكامل و أنه حتى مع الكثير من التأمل هناك صلة أو رابط بين الحلقات . و الحال أن الإهتمام الرئيسي للبحث المذكور سابقا و الذي كتبه هوبزباوم (و هو أحد القلائل الواردين في هذا الكتاب الذي يستحق عناء نقاشه) هو بالضبط الكشف عن هذه الصلة .


إن هذا النص هو في جزء منه مناقشة ـ جدال ، تارة ظاهر و تارة باطني ، مع كتاب (( الماركسية و ما بعد الماركسية )) لفيتوريوسترادا . يحاول هوبزباوم أن ينفي أو أن يقلل إلى درجة قصوى من نسبة العلاقة بين (( ماركسية نظرية )) من جهة و (( إشتراكية فعلية )) من جهة أخرى ، و هي نقطة قدم سترادا حولها أبحاثا مذهلة . و يكتب هوبزباوم (( بأنه إبتداء من 1965 تبدأ مرحلة تكون فيها غالبية الماركسيين مضطرة للإستنتاج بأن الأنظمة الإشتراكية الموجودة (من الإتحاد السوفياتي إلى كوبا و فيتنام) كانت بعيدة عما كانوا يأملون أن يكون عليه المجتمع الإشتراكي )) . و يضيف بأن (( غالبية الماركسيين كانت مضطرة للعودة إلى المواقف التي كان عليها الإشتراكيون في كل مكان قبل 1917 )) أي حين كانت الإشتراكية لا تعدو كونها أمنية ، دون أي سند في التجربة الفعلية . إنه من السهل أن نلاحظ بأن العودة إلى نقطة البدء التي يقترحها هوبزباوم هي غير مقبولة . لا نستطيع أن نغمض أعيننا في مواجهة ما حدث و أن نتصرف و كأن شيئا لم يكن . و لكن في العمق ، تبقى الحقيقة أنه حتى هوبزباوم لا يفكر بهذا الشكل . و على الرغم من الإنفتاحات النقدية الظاهرة فإن كل بحثه هو محاولة يائسة (( لتبرير ما هو قائم )) . إنه يعنون المقطع الختامي في نصه هكذا : (( أزمة في داخل الماركسية )) .. و واضح أن هذا الـ(( في داخل )) لا يعني شيئا : إنه ليس سوى التعبير عن ضمير ورع .


يعتقد أنه بإمكانه تمرير الأزمة على أنها مشكلة للحل (( ضمن العائلة )) . الأزمة (( في داخل )) الماركسية هي ببساطة و وضوح أزمة الـ(( ماركسية )) . و إن الفذلكة اللغوية أو (( تذاكي )) مثقف ما ، لن تعيد تجميع قطع الزجاج المتناثر . غير أنه من السهل توقع أن تجد هذه المحاولة مقلدين آخرين .


بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ماركس هناك خطئ (على ما أظن) ينبغي تجنب إرتكابه تجاه ذكراه . إنه ذلك الذي يقوم على إعتباره (( غير مسؤول )) عن كل ما ارتكب بإسمه . أن نفصل بين الماركسية و الأنظمة الكليانية التي بنيّت بإسمها قد يبدو عملا كريما . و بالفعل فإن الرضوخ لهذه الرغبة في الإحتماء في الماركسية (( النقية و البسيطة )) ، ليس له من معنى آخر غير التخلي غير المبرر عن الفهم و غير الهروب أمام الواقع . إن فكر ماركس أراد بكل قواه أن يسير في هذه المغامرة ، و أن يجازف في (( التجربة و التطبيق )) و قد نال ذلك . و لا يبقى علينا من الآن فصاعدا إلا أن نعيد قراءة العمل ـ النتاج على ضوء و إنطلاقا من الآثار و النتائج التي كان مصدرا لها ...