افول الماركسية - ماركس بعد مئة سنة (2/الماركسية ليست ثورة علمية)


موسى راكان موسى
2017 / 7 / 31 - 04:33     



ماركس ، بعد مئة سنة (176ـ178) :


لا يوجد أي دليل أو محاججة جدية تسمح لنا بدعم قضية إعتبار الماركسية على أنها (( ثورة علمية )) ، أما المقارنات ( (( ماركس مثل داروين )) أو الكلام الأوضح (( ماركس مثل نيوتن )) ) التي غالبا ما تقابلنا فهي مدعاة للإيحاء و لكنها فارغة لا تقوم على شيء .. إن إسم نيوتن يستدعي (( الجاذبية الكونية )) ، و إسم داروين يستدعي نظرية (( الإنتقاء الطبيعي )) . و بالمقابل لا يوجد أي قانون علمي يمكن نسبته أو لصقه بإسم ماركس . و حتى لو افترضنا جدلا أنه بالإمكان إعتبار المفهوم الذي يقول بأن (( الصراع الطبقي هو محرك التاريخ )) (( قانونا )) ، فإنه من المعلوم بأن ماركس هو أول من رفض نسبة أبوته إليه .


من الصحيح أن ماركس قد اعتبر و على الأقل خلال فترة معينة من حياته بأن عمله هو (( إنتاج )) علمي ، و إنه قدّر بأنه اكتشف (( قانون الحركة )) في النظام الاقتصادي الحديث ، و لكن حتى و لو أن بعض إسهاماته في تاريخ الفكر الإقتصادي هي من النوع الممتاز ، فإن الإطروحة التي تريد أن تمنحه صفة تحقيق (( ثورة علمية )) لا تقف على رجليها .


إن نظرية داروين قد استكملت و صححت بالطبع و في نقاط كثيرة ، و أساسا بسبب التطورات في حقل علم الوراثة الحديث . و لكن حسب رأي الغالبية الكبرى من (( علماء الحياة )) المعاصرين فإن منهاج أو (( مشروع البحث )) ، أي الفرضية أو الفكرة التي قام عليها (( أصل الأنواع )) لا تزال قائمة و حاضرة و معتبرة صحيحة حتى اليوم . و لكن الأمر لم يكن كذلك في حالة ماركس . إن (( القانون )) الذي كان مقدرا له إضفاء نوع من الوحدة و من الأساس على كل تحليلاته (نظرية القيمة ـ العمل) لم يكن أبدا مقبولا من العلم الإقتصادي بل على العكس من ذلك فإنه إنتهى إلى أن يتركه حتى القسم الأكبر من الماركسيين المعاصرين ، إلى حد أن الإسهامات التي أعطاها ماركس للنظرية الإقتصادية لم تستطع دخول حقل النقاش العلمي إلا بعد إنتزاعها من غلافها الأصلي ، و بعد تفتت (( النظام ـ أو النسق )) إلى شظايا ..


لا ثورة علمية ، و لا دين .. أين تكمن إذن نقطة القوة في الماركسية ، و سبب (( سحرها )) الخارق للعادة ؟ إن الجواب يكمن في طبيعة نجاحها التاريخي ذاته ، أي في (( وحدة النظرية و الممارسة )) التي حققتها العقيدة . إن سر الماركسية يكمن بالكامل هنا . و لكن بشرط أن نعرف جيدا كيف نفهم الطريقة الخاصة جدا لتحقق هذه الوحدة . و في الواقع فإن كل الفكر المعاصر هو بمعنى ما (( إتحاد النظرية مع الممارسة )) . إن العلوم التجريبية ، و المعرفة الإختبارية الحديثة ، ليست في الحقيقة سوى هذه الوحدة . ففيها نجد أن الفرضية أو الإستباق النظري يخضع للرقابة العملية (التجريبية ـ الإختبارية) التي تدعمه أو ترفضه .. و لكن معنى هذه الصيغة في حالة الماركسية مختلف جذريا . فإن ما وحدته العقيدة هو بالضبط ما فرّقه الفكر النقدي الحديث (بعد جهد جهيد و آلاف المصاعب) لحظة ولادته و بكلمات أخرى فإن الماركسية قد جمعت و مزجت بين (( العلم )) و (( الإيديولوجيا )) ، بين (( المعرفة )) و (( الأمنية )) ، بين (( الوقائع )) و (( المعايير )) ، و هي تقدم نفسها اليوم بإعتبارها المحاولة الأكثر طموحا لمعارضة النتيجة الأعلى مستوى للثقافة العلمانية المعاصرة ، أي لما أسماه ماكس فيبر (( تبدد أحلام العالم )) : التباعد و المعارضة القوية التي تفصل بين العقلانية الحديثة و التطلب (( النرجسي )) أو (( المركزي البشري )) الأصلي ( (( التحالف القديم )) الذي تحدث عنه أيضا جاك مونود) في رؤية العالم وفقا و من زاوية (( الرغبة في الخلاص )) التي لدى الإنسان ، و حاجته إلى (( الأمان )) الأنطولوجي .. إن ما يشكل بالضبط سبب عدم التماسك الذي تعانيه الماركسية في الصميم و عقمها المعرفي ، هو إذن السبب الأول لنجاحها في (( السحر ـ الفتنة ـ الإستحواذ )) و لفعاليتها التاريخية .