عن ثقافة الرأسمالية


مجدي الجزولي
2006 / 2 / 7 - 12:05     

"الحياة هي الشراء، الجميع هنا سعداء لأن كل واحد قد تمت برمجته ليحب ما يفعل منذ اللحظة الأولى للإخصاب المعملي (..) في الحضانات تقوم الأصوات بترديد أنا أحب الملابس الجديدة...أنا احب الملابس الجديدة...أنا أحب الملابس الجديدة، وذلك ليتعلم الأطفال منذ عهد الرضاعة أن يحققوا في مستقبلهم التوازن الضروري بين العرض والطلب" (من رواية أ. هكسلي ’عالم جديد شجاع‘).

المنطق الذي أفلح هكسلي في تصويره هو روح السيطرة الرأسمالية السلمية بامتياز، أي الاستهلاك كشريعة أولى وأخيرة للوجود الإنساني. تتكامل تصورات هكسلي مع رواية أخرى ذات طابع رؤيوي لجورج أورويل بعنوان "1984". هكسلي، سليل أسرة مرفهة من المثقفين والعلماء، ركز على شمولية الاستهلاك وتغييب المستهلكين فروايته تذخر بالحمامات الساخنة ونشاطات الترفيه والملابس الجميلة. أورويل من الناحية الأخرى، وهو ابن أسرة من صغار الإداريين الاستعماريين، عاشت في بورما لفترة ثم عادت إلى انجلترا لتحافظ بصعوبة على موقعها في الطبقة الوسطى، اهتم بالتفكك المؤلم وليس المخدّر. تجد في عمله وصفاً لشقق سكنية باردة نتنة ومتهالكة، وحجرات تعذيب مرعبة.
يستند تحليل هكسلي على فكرة الإغراء، وقد شرح تصوره في مقدمة طبعة 1945 لروايته "عالم جديد شجاع" بالقول: "الدولة الشمولية الفعالة حقاً هي دولة تقوم فيها السلطة التنفيذية المكونة من الزعماء السياسيين وجيش من المدراء بالسيطرة على مواطنين عبيد لا حوجة لقسرهم لأنهم يحبون عبوديتهم". أما مستقبل أورويل فمختلف، حيث يجيب الكاتب على السؤال "كيف يمكن لشخص ما أن يفرض قوته على شخص آخر؟" بالآتي: "عن طريق التسبب في معاناته.. القوة هي فرض الألم والإذلال.. القوة هي أن تمزق العقول البشرية ثم تعيد تشكيلها بحسب ما تختار.. إذا أردت أن ترى صورة للمستقبل عليك أن تتخيل "بوت" يسحق وجهاً آدمياً – إلى الأبد! تغيب الحرب تماماً في رواية هكسلي، لكنها بؤرة الاقتصاد والسياسة والثقافة في "1984"، إذ لا تنتهي الحرب على الإطلاق، ضد أعداء كانوا بالأمس أصدقاء أو أصدقاء كانوا أعداء (ضمن بورستين، 2005). جناحي الرأسمالية الناجحة، الجزرة والعصا، هما الاستهلاك المخدّر الذي وصفه هكسلي، والعنف الذي رسم صورته أورويل، وحتى الأخير في أقصاه – أي الحرب - هو في جانب منه تمدد لمصالح السوق لكن ليس بالحسنى. لا شك أن المنطق القائد للنظام الرأسمالي المتأخر كما نعيشه هو الاستهلاك، وإذا تناقص الاستهلاك يفعل هذا النظام كل ما في وسعه لضمان المشترين.

نعود عند هذا الحد إلى الفقرات الشهيرة الواردة في المانفستو الشيوعي، حيث نلتقي الوصف المبكر لديالكتيك الرأسمالية (ماركس وانجلز، 1848)، وفيها يطلب منا ماركس أن ندرك في آن واحد سالب الرأسمالية وموجبها دون تخفيف الحكم على أي من الإثنين: فهي مؤذية ومشؤومة أيما شؤم، لكن ذات ديناميكيات تحريرية استثنائية. درس ماركس أن نستحث عقولنا لفهم أن الرأسمالية هي أفضل ما حدث للنوع البشري، وأسوأ ما حدث كذلك، هي الكارثة والتقدم (جيمسون، 1991). سبق ماركس غيره في إدراك التسليع الذي تفرضه شمولية الرأسمالية على المدركات الثقافية من قيم وأعراف ومعارف، وكذلك التسليع الذي تخضع له العلاقات والمشاعر الإنسانية ، ما دامت علاقات الإنتاج الرأسمالية حاضرة. "المعرفة قوة"، هذا مثل ألماني يعود إلى القرون الوسطى، يجب تعديله بحسب ماركس ليصبح: "المعرفة سلعة تتيح القوة".

التحرير الرأسمالي أخرج شطأه واستغلظ في حمل الحداثة وعهدتها؛ وهي عند فيلسوف مدرسة فرانكفورت يورغن هابرماس (1929 - ) جملة رهانات متكاملة تتراكم وتتآزر عناصرها في صيرورة متجددة: نمو قوى الإنتاج، تزايد إنتاجية العمل، فرض سلطات دولة مركزية، تطور هوية قومية، تمدد حقوق المشاركة السياسية وأنماط الحياة الحضرية والتعليم النظامي، علمنة القيم والمقاييس والمعتقدات (هابرماس، 1988)، مرتبطة بعملية "عقلنة" ثقافية، هي الفضاء الذي نشأت فيه واللازم لفعالية التحديث، شروطها: أن يتيح الموروث الثقافي مفاهيم لتحديد المجال الموضوعي والذاتي والاجتماعي، ويمكن من اختبار أشكال متمايزة للحقائق فرضية وذاتية وقيمية، وبالتالي تمايز مواقف قرينة، موضوعية وتعبيرية وملتزمة بالقيم السائدة؛ أن يسمح الموروث الثقافي بتولد منظور تأملي تجاه ذاته، أي التحلل من الدوغما (الجمود) بحيث يمكن مساءلة التفاسير المدعمة بالتراث وطرحها للمراجعة النقدية، وبالتالي تشكّل فعاليات ذهنية تتمايز حتى تنشأ مجالات للتفكير الموضوعي، والإدراك الجمالي، والرأي الأخلاقي-العملي من خلال عمليات تعلم مستندة إلى الفرضيات والحجج؛ أن تدعم الموروث الثقافي حجج متمايزة تمكن من الترسيخ الاجتماعي لعمليات التعلم القرينة بحيث تنشأ نظم ثقافية أدنى للعلوم والأخلاق والقانون، وللموسيقى والفنون والأداب، تتبلور في هيئة تقاليد احترافية تدعمها الحجج ويذيبها النقد الدائم؛ أن يفسر الموروث الثقافي الحياة بطريقة تتيح للفرد أن يوجه سلوكه بطريقة عقلانية نحو النجاح ويحرره على الأقل جزئياً من ثقل الارتباط بالتوافق الاجتماعي (هابرماس، 1981). الحرية الحديثة من هذا المنظور تفك عن "الذات" قيوداً ثقافية واجتماعية وسياسية على قاعدة المبادرة الرأسمالية، بحيث يتم تغليب تفسير "عقلاني" للعالم على تفاسير مثولوجية أو ما ورائية تموضع الأهداف البشرية المشروعة خارج الحياة المدركة. المؤسسات التي تعكس ترسيخ هذه العقلانية الاجتماعية في العالم عند ماكس فيبر (1846 – 1920) هي في المقام الأول الدولة المركزية المحتَكِرة للعنف والبيروقراطية المنظمة، بينما تشكل المبادرة والحوافز الرأسمالية هيكلها الداخلي. فيبر يعتبر أن روح المبادرة الرأسمالية كمسؤولية عن "إعمار" الكون هي انعكاس لشروط وحوجات الإنتاج الجديدة يعضده ويوفر شرعيته التصور البروتستانتي للعالم – كصيغة أكثر عقلنة وعلمنة للإيمان المسيحي – ومن ثم الأخلاق وأنماط السلوك الناجمة عن هذه التصور (فيبر، 1905). احتفى ماركس بهذا التحرير (التنوير) المبطن في الرأسمالية، فقد خرجت به أوروبا من إسار الخرافة والعلاقات الاقطاعية ودشنت بدفعه أوسع ثورة علمية – تكنولوجية شهدها التاريخ البشري. لكنه أدرك بفطنة الدارس المنهجي أن لب الرأسمالية هو تسليع شمولي ينزع القيمة ليحل محلها السعر، ويتمدد ليسمم كافة مجالات الحياة، وليس الاقتصاد فقط. في اللغتين الألمانية والانجليزية يتم افراد لفظة "حر" (free) لوصف الأشياء والخدمات المقدمة مجاناً. بحانب شهادة الاقتصاد السياسي يثبت هذا الاستخدام انعدام الحرية المنبث في علاقات التبادل أياً كانت. في الواقع ليس من حرية ما دام كل شئ له سعر؛ توجد الأشياء المستثناة من آلية السعر في المجتمع الخاضع للرسملة كبقايا أولية تدعو إلى الشفقة، وحتى هذه، إذا تم فحصها بتمعن، عادة ما يكون لها سعر، أو يتم توزيعها بالترافق مع سلع ما أو لكسب الهيمنة. الحدائق تجعل السجون أكثر احتمالاً فقط للذين هم خارج السجن (أدورنو وهوركهايمر، 1944).

شمولية النمط الرأسمالي أصبحت شمولية جغرافية بتمدد النشاط الامبريالي إلى كافة أنحاء الأرض وانهزام كافة التراثات الأخرى أمام ضغط التفوق الإنتاجي والعلمي والعسكري للحداثة الرأسمالية. فاليوم ليس من مجتمع خارج حدود الرأسمالية. حتى الاحتجاجات الصادرة من الأطراف ضد المركز الامبريالي بدعوى الصراع الثقافي و"الأصولية" أياً كان طابعها إنما تصدر في هذا المحتوى وكرد فعل على ألم الرسملة، لكن ليس كتجاوز للنمط الرأسمالي. بهذا المعنى لا يمكن تصور "تحرير" مرتد عن الرأسمالية إلى أنماط أدنى من الإنتاج، أو عازف عن الحداثة إلى تراثات أسبق، بل ليس من سبيل إلى تجاوز الرأسمالية إلا عبرها، أي بفعل ديناميكياتها هي، هذا أحد دروس ماركس أيضاً.