لينين و-شيوعيو السوبر ماركت-!


طلال الربيعي
2017 / 7 / 14 - 05:07     

قال ماركس أن الناس يصنعون تاريخهم، ولكن ليس حسب الشروط التي يختارونها. ولا يمكن أن يكون المرء قد اختار ظروفا او شروطا اكثر صعوبة مما كان عليه الحال في روسيا في عام 1921. روسيا كانت بلدا فقيرا قبل الثورة، ولينين فهم بشكل كامل أن حكومة العمال في روسيا لا يمكن لها البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة بدون ثورة في أماكن أخرى لتقديم الدعم لها. لينين نفسه قال مرارا "بدون ثورة في ألمانيا سيحكم علينا بالفناء." وكان هناك ثورة في ألمانيا، كانت هناك ثلاثة ثورات في ألمانيا في الواقع، بين عامي 1918 و 1923. وكان عندها فقط، بعد الهزيمة الأخيرة من الثورة الألمانية في عام 1923، تم سحق في نهاية المطاف آمال الحصول على دعم من الخارج.

في عام 1921، والمستقبل كان لا يزال غير واضحا، اتخذ البلاشفة القرار الصعب جدا والذي يقتضي الصمود, ولكن القرار اصبح كان سهلا نسبيا لأن هزيمة الثورة الروسية ستعني العودة إلى حكم القياصرة. والمناهضون للثورة الذين شرعوا في القيام بأعمال الشغب المعادية للسامية ضد اليهود في جميع أنحاء روسيا تذّكر الكل بما يعنيه العودة إلى القيصرية. وسجل ّّسحق التمرد في كرونشتادت في 1921 (وهو اكبر تمرد جابهته الثورة البلشفية, وكان قائد التمرد هو النقابي-فوضوي ستيبان مكسيموفتش بيتريتشينكو) بدايات الستالينية في روسيا رغم ان لينين وحتى وفاته في عام 1924 قاتل (بأسنانه وأظافره ) ضد حكم البيروقراطية الذي كان ستالين يشرع في عملية بنائه.

نعم ان ثورة اكتوبر الروسية لم تبق على قيد الحياة. لكن المأساة هي أنه، بعد حوالي 100 عام، وبدلا من الاحتفاء بها لأنها تمنح الأجيال اللاحقة لمحة وضاءة لما يمكن ان يكون عليه الحال عند حدوث ثورة عمالية والإمكانات الهائلة التي يمكن ان ينطوي عليها المجتمع الاشتراكي, نجد كثيرا من الاشخاص والجهات وحتى من هم في المعسكر اليساري او الشيوعي يتقبل الاطروحة الرسمية لمنظري اليمين ويلقون اللوم لفشل الثورة الروسية على الحزب البلشفي وعلى لينين على وجه الخصوص. وجوهر الاشتراكية هو تقاسم الثروة وليس تقاسم الفقر في المجتمع. وإذا كان هناك اشخاصا هم المسؤولين عن هزيمة الثورة الروسية فإنهم الرأسماليين الذين غزت جيوشهم روسيا وقامت بمحاصرة روسيا الثورية واختزال اقتصادها, وفقا لأحد الاقتصاديين, الى مستوى لم يسبق ان شهد التاريخ له مثيلا (ويمكن الاضافة, ما عدا الحصار الدولي الغاشم ضد الشعب العراقي بعد غزو صدام الكويت). وكل ما سُمِِحَ به للبلاشفة هو تقاسم الفقر. الثورة لم تكن قادرة على العمل في غير ظروف رهيبة اتسمت بالندرة والشحة الهائلتين. بدلا من اعتبار الثورة الروسية كدليل خطأ اللينينية، فإنه من المنطقي أكثر بكثير أن نقدر الإنجازات الهائلة للثورة الروسية على الرغم من العيوب الهائلة التي اكتنفت الوضع.

ومع ذلك، كثير من الناس في اليسار الذين يعتنقون المثل العليا المتضمنة إنهاء الظلم والاستبداد (وكان ذلك لفترة نتاج الثورة), يستبعدون هم يدورهم الحاجة إلى وجود حزب ثوري. ومن الشائع إلآن ان تجد اشخاصا او احزابا يصفون انفسهم على هيئة "أنا ماركسي، ولكني ليست لينينيا"! ولكن هذا هو التناقض المتأصل. ان وجود او بناء حزب ثوري هو السبيل الوحيد لتحقيق التحرر الذاتي للطبقة العاملة وحليفاتها من طبقات او فئات اخرى التي هي ايضا عرضةً للقمع والظلم والاستغلال .ولن تشعر الطبقة الحاكمة بالذنب عند حصول اضرابات او احتجاجات جماهيرية مهما كان حجمها او زخمها. والطبقة او الطبقات الحاكمة يستخدمون كل ما في جعبتهم من ترسانة اسلحة, منظورة او خفية, من اجل قمع هذه الاضرابات او الاحتجاجات وتحويلها الى ممارسات استعراضية قد يؤديها البعض من باب تأدية الواجب ولدرء اي نقد محتمل. وهذه الطبقات تلجأ الى اسلوب القمع الظاهر للمحتجين والمعارضين لسياساتها, ولكنها في الاعم الغالب تلجأ الى القمع الخفي او ما يمكن تسميته باستخدام اساليب السلطة الناعمة لكونها اكثر فعالية بكثير وتقلل من استخدامها للقمع الظاهر الذي يعري لاديمقراطيتها ويفاقم من تأليب الناس ضدها. والقمع الخفي يتخذ اشكالا عديدة مثل القمع الايديولوجي للمعارضة او تشويه السمعة وقطع سبل الرزق الا للموالين, او بالاغراءات كفسح المجال لاشتراك رمزي في السلطة وبدون اية صلاحيات تذكر, والهدف هو امتصاص غضب الحماهير والحيلولة دون خلق المزاج الثوري الذي يشكل عنصرا لا غنى عنه لقيام اية ثورة. والمعارضة الاصلاحية (الشيوعية او سواها) تتقبل اجندة السلطة وتعمل كالفرامل التي تكبح الثورة او تعيق وتعرقل حدوثها. وهذه المعارضة تستخدم ضعف المزاج الثوري, الذي هو من صنعها الى حد كبير (اي انه عامل ذاتي), كحجة لتقديم المزيد من التنازلات للقوى الحاكمة بعد تصوير العامل الذاتي كعامل موضوعي لا علاقة له بموضوعة عدم ثوريتها او باصلاحيتها! والهدف للآخر للمعارضة الاصلاحية هو خلق اوهام كاذبة بامكانية تغيير الوضع من خلال تغيير ميزان القوى باستخدام البرلمان مثلا او بتغيير فني في موضوعة الانتخابات او قوانينها مع ابقاء مجمل النظام على ما هو عليه, وغيرها من الاوهام الاصلاحية المناقضة للثورية او الماركسية باعتبار ان الماركسية بحد ذاتها نظرية ثورية ولا يمكن لحزب يدعي اعتناقه الماركسية ان يتخلى عن الثورية المتأصلة في الماركسية. فماركسية لا ثورية هي لاماركسية لا غير.

ولكن بدون الحزب الثوري البلشفي، لما كان امكن للعمال الحكم في روسيا في عام 1917، وتحرير المرأة، او اي تحرير للشعوب المضطهدة -لأنه لما كان هناك ثورة روسية. ولا احد يستطيع انكار حقيقة صمود البلاشفة برغم مرورهم بفترات من الصعود والهبوط، وبوقوعهم في الاخطاء وتحولهم لاحقا, على حد قول احد البلاشفة, من "أقلية محتقرة" معزولة عن جماهير العمال ليصبحوا حزبا سيفوز بدعم غالبية العمال الروس والفلاحين في عام 1917. فلا يمكن أن يكون ان يكون هناك لينين في "الدولة والثورة" بدون لينين في "ما العمل؟", فلا يمكن لاحدهما ان يوجد دون الآخر. ان لينين ليس سوق سوقا مركزيا او سوبر ماركت يقتتي الشخص فيه ما يشاء او يترك ما يشاء. ان شيوعية السوبر ماركت تعامل لينين بانتقائية كي تشوه تعاليم لينين وتمسخه وتقضي على ثوريته وتحوله الى حيوان مسالم, الى "كلب مطيع" للنظام الرأسمالي العالمي!

ان المخابرات الغربية تعمل بكل جهدها على تخريب الاحزاب والحركات الشيوعية من داخلها. وهذه الاحزاب او الحركات الشيوعية قد تلقت تدريبا جيدا بل وممتازا على ايدى هذه الاستخبارات كي يحعلها تدّعي في الظاهر انها لا تعادي ولا تعارض لينين, بل انها حتى تزعم, وبدون ادنى خجل وبرياء ونفاق لا ينطلي حتى على الرضع من الاطفال, ان اللينينية "لا تزال حاضرة في فكر وتنظيم واستراتيجيات الاحزاب الشيوعية!"- اي نعم: .YES SIR! ان هذه الاحزاب الشيوعية السوبر ماركتية ليست بهذه السذاجة, والاستخبارات الغريية التي تعمل هذه الاحزاب الشيوعية على ضوء توجيهاتها تملك جيوشا جرارة من الخبراء والاختصاصين think tank في مختلف العلوم ومجالات المعرفة كعلم النفس وعلم التواصل وتوصيل الرسائل الى الطرف الآخر عن طريق مخاطبة العقل الظاهر او مخاطبة العقل الباطن وهو امر اكثر فعالية بكثير وذلك عن طريق استخدام ما يسمى الرسائل الخفية subliminal messages والتي هي مشابهة الى حد كبير لما يستخدمه اخصائيو شركات الاعلانات التجارية وخبراء السوق لكسب الزبائن وترويج البضاعة. وهذه الاجهزة الاستخباراتية وملحقاتها في السفارات او المراكز الثقافية والتجارية او حتى في بعض منظمات المجتمع المدني تملك ترسانة لا مثيل لها من المعارف والخبرات الفكرية الكفيلة بقمع ثورية الاحزاب الشيوعية وتحويلها الى احزاب متصالحة مع النظام ومؤيدة له, ان لم يكن بالكلمة فبالفعل. ومما يزيد الطين بلة, ان هذه الاحزاب لا تمتلك الحصانة الفكرية ولا تتوفر لها التقنيات المناسبة حتى بحدها الادنى لدرء الغزو الفكري المضاد, ولذا فمن السهل جدا تطويعها وترويضها. فالاحزاب الشيوعية, وخصوصا في منطقتنا, تتميز بضعف فكري مدقع لانعزالها الكامل او شبه الكامل عن التطورات الهائلة في مجالات العلوم والفلسفة والمعرفة مما يؤدي الى تقزيم رسالتها و محق فعاليتها. وهذا ينعكس ايضا على اساليب ايصالها رسالتها, فهي تخاطب الجميع بنفس الشاكلة وبلغة خشبية تتصنع فيها, بكل فجاجة, الموضوعية والعلمية والعقلانية, ولكنها كنقيض صارخ لا تستخدم حتى ابسط قواعد المنطق لكبح شطحاتها الفكرية او انها لا تستخدم المهج العلمي والثوري الصارم وتميل في اغلب الاوقات ان لم يكن كلها الى اعتناق مقولات شعبوية لا وزن معرفي لها ولذا سرعان ما تذرها الريح كعصف مأكول.

لقد شهد التاريخ نضالات بطولية للعمال والمظلومين والمضطهَدين في نضالهم ضد الظلم والاستغلال، ولكن هذه النضالات سحقت في العديد من الاحيان لعدم امتلاك الحزب الثوري أو بسبب عدم توفر الخبرة لقيادة الحركة الثورية او عدم وجود الرغبة او القدرة في اكتساب الخبرة. والهزيمة الدموية للثورة الألمانية هي ابرز مثال.

نحن لينينيون لأننا نريد أن نرى انتصار الطبقة العاملة وكل الناس من الطبقات الخاضعة للقمع والاستغلال والتي تشكل هي الاغلبية الساحقة للبشرية التي يملك فيها الآن حفنة من الناس اكثر مما تملكه شعوبا باكملها.

ان ديكتاتورية البروليتاريا لا تعني في عصرنا الحاضر, وكما في اي عصر, سوى اعادة توزيع الثروات المادية والفكرية لصالح الغالبية العظمى من البشر. انها الديمقراطية الحقيقية ولا ديمقراطية غيرها. وبدون هذه الديمقراطية يصبح اي كلام عن الاشتراكية او المجتمع الاشتراكي ليس ثرثرة غير مجدية فقط, بل انه تضليل لا مثيل له ويؤدي لا محالة الى الاصطفاف مع قوى الظلم والاضطهاد والاستغلال والقمع وبالضد من الاغلبية الساحقة من البشر.

وبسبب تفاقم الفوارق في توزيع الثروات على مستوى الافراد والشعوب في عالمنا الراهن ينبغي ليس التخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا, بل ان مهمة التمسك بها وتحقيقها اصبحت اكثر الحاحا من ذي قبل.