افول الماركسية - التناقض الجدلي و اللا تناقض (3)


موسى راكان موسى
2017 / 6 / 29 - 02:22     


الماركسية و هيغل (ص 124ـ134) :

لقد أعطت الماركسية (و لنؤجل الآن الحديث عن ماركس الشاب) دورا مركزيا لمفهوم (( التناقض _في_ الخارج )) الذي ورثته عن هيغل و ذلك في إطار تفسير الإجتماع و الطبيعة ، غير أنها غفلت تماما عن الحيثيات و اللوازم التي لا تنفك عن هذا المفهوم في إطار الفلسفة الهيغلية .


تأخذ الماركسية عن هيغل قضيتين تأسيسيتين : الأولى و تتعلق بالطابع المتناقض الذي يشمل جميع الأشياء أي بالمبدأ القائل بأن كل شيء هو نفسه و سلبه في آن معا : أو _كما يقول إنجلز_ (( كل موجود متكون ، هو في كل آن نفسه و ليس بنفسه )) و الثانية و هي أن الواقع المتكوّن على هذا النحو ، لا يحيط به مبدأ عدم إجتماع النقيضين (فبالنسبة لهذا المبدأ يقول إنجلز : (( إما أن يوجد الشيء و إما أن لا يوجد و ليس لشيء ما أن يكون نفسه و غيره في آن )) ) .


في حين أن المنطق الجدلي وحده هو الذي يستطيع إعطاء تصور يصدق على الواقع (إن الجدل ، كما يشير ماركس في مقدمته للطبعة الثانية لرأس المال يضمّن الحد الإيجابي لحالة الأشياء الموجودة نفي هذه الحالة نفسها) .


و ها هنا استنتاج شديد الوضوح . و هو أن أطروحتي الماركسية تتبنيان الإتحاد و التبادل المتضائف اللذين يُقيمُهما هيغل بين الفكر و الوجود ، بين العقل و الواقع ، و ذلك على الرغم من أن الماركسية _و هنا تكمن المفارقة_ تدعي كونها تصوّر مادي للواقع .


و يلتقط هانس كلسن هذه الدقيقة بوضوح ، و هو يشير إلى أن ماركس يدفع (( متأثرا بمنطق الجدل الهيغلي بالتناقضات المنطقية من الفكر إلى الوجود )) . (( و هو يأوّل القوى المتضادة في الطبيعة و المجتمع فيجعلها تناقضات منطقية )) . و لهذا التضمين الذي يدخل التناقض _في_ الذهن في متن الواقع ، معناه في الفلسفة الهيغلية : (( ذلك أن الفكر و الوجود متحدان في إطار هذه الفلسفة المثالية )) و من هنا يمكننا أن نتفهّم تضمين التناقضات المنطقية في الواقع بوصفه إلى حد ما نتيجة لهذا الإتحاد .


و لكن من العبث أن تفسر القوى المتصارعة و المصالح المتضاربة في المجتمع في إطار الفلسفة المادية التي يقول بها ماركس و أنجلز _و هي لا تقبل أصلا بهذا الإتحاد_ بوصفها تناقضات منطقية .


و من الصعب حقا الطعن بمصداقية هذه الملاحظة التي يبديها كلسن ، ذلك أنه كان لا بد للماركسية ، بوصفها مذهبا ماديا ، أن تعني بدقة بالتمييز بين التقابل في الذهن و التقابل في الواقع ، بين التناقض و التضاد غير أن شيئا من هذا لم يحصل ؛ بل إن أنجلز لا يأتي أبدا على ذكر التقابل _في_ الخارج و لا يتعرّض لتمايزه التكويني عن التقابل في الذهن . و كذلك الحال بالنسبة لبليخانوف و لوكاش . أما عند لينين فتبدو هذه الغواشي أكثر تجذّرا ، حيث أنه يعطي في كتابه (( دفاتر فلسفية )) أمثلة عن التناقضات الجدلية تدور جميعها حول متضادات لا علاقة لها بالجدل : السلب و الإيجاب في الرياضيات ، الفعل و رد الفعل في الميكانيك ، الكهرباء الموجبة و السالبة في الفيزياء ، إتحاد الذرات و تفككها في الكيمياء ، و هي أمثلة شائعة لا تشم رائحة التناقض .


و تصل هذه المفارقة إلى قمتها حين نعي أن الماركسية تطمح و بخلاف فلسفة هيغل إلى أن تكون رؤيا علمية للواقع ، و هي تريد أن تكون علما بكل ما للكلمة من معنى ، و مع ذلك فهي تتحدث بإستمرار عن التناقضات : التناقضات في الطبيعة و المجتمع ، في حين أن العلم لا ينظر إلى التناقضات إلا بوصفها منطقية صرفة أو بوصفها أخطاء لا تنفك عن ذاتية الباحث و لا بد من التخلص منها . يفترض العلم إذن مبدأ عدم إجتماع النقيضين و يعتبره من لوازمه . و هو لا يعترف بما يُسمى بالتناقضات الموضوعية أو التناقضات في الواقع ، بل فقط بالتناقضات التي قد تبتلى النظريات بها ، و لكن عندما تتناقض النظرية تتعرّى و تُنزع عنها مصداقيتها فورا .


و قد نتصور أن الإشكال هنا لا يعدو كونه لغويا متعلقا بالمفردات . أي أن الماركسية تسمي تناقضا ما كان يجب أن تسميه بدقة و تأنٍ صراع بين القوى أو تحديدا (( تقابل في الخارج )) أو تضاد . غير أن ها هنا إشكالا يتخطى التسميات . إذ لا يقع ماركس عندما يسمي تنافس المصالح في المجتمع الصناعي الحديث (( تناقضات الرأسمالية )) في مجرد خطأ شكلي ناتج عن تسمية غير مناسبة ، بل الواقع أنه يبني نقائض أطروحاته (من حيث شكلها و مضمونها) بصورة تجعلها قابلة للمعالجة الجدلية . و يعتبر هنا التقابل بين العمل المأجور و رأس المال حالة أنموذجية .


و تقتفي مجمل الصيرورة الماركسية أثر التطور الجدلي عند هيغل : فهي تبدأ من (( الوحدة بين الناس الأحياء الفاعلين و الشروط الطبيعية غير المتكوّنة التي تحكم تبادلهم المادي مع الطبيعة )) . ثم أن هذه الوحدة الأصلية تنشطر و تنشعب إلى إثنين أو تتنزّل خالقة نفيها المخصوص . ثم إننا نصل مع تملّك العمال ما تنزّل على إيديهم ليصبح رأسمالا إلى (( نفي النفي )) أي رفع الإنشطار و التنزل و استعادة الوحدة ، في مرتبة أعلى ، فيما بين الناس و بينهم و بين الطبيعة .


تستلزم المعالجة الجدلية إذن _و تحت غطاء التفسير العلمي_ المعلِّل بأن يسلك مسار الأشياء مسلك التطور الغائي ، أو الإلهي و تلك هي بالضبط صفة الصيرورة الجدلية : حيث للتناقض حل أو وحدة مسبقة و للتنزّل و (( التنقصّ )) صعود و نجاة لا محال حاصلة . أي أن الهدف أو نقطة الوصول محددة سلفا . (و ذلك ما يستفاد من حكم هيغل في أن أول الصيرورة الجدلية هو آخرها في آن و العكس بالعكس) . تجد قراءتنا هذه لماركس بوصفه وريث هيغل ما يناهضها في الأحكام البالغة الإيجابية التي أعطيت في إيطاليا (خاصة من قبل (( ديلا فولبي )) ) حول كتابات ماركس الشاب في موضوع الجدل الهيغلي و خاصة في نقد الفلسفة الهيغلية في ميدان القانون العام (1843) و كذلك في (( مخطوطات إقتصادية فلسفية عام 1844 )) .


لا بد لنا من أن نقوّم هذه النصوص و ما يربطها بكتابات فورباخ المناهضة لهيغل و المنشورة بين 1839 - 1843 أي من (( نقد فلسفة هيغل )) إلى (( المطارحات الأولية لإصلاح الفلسفة )) و حتى (( مبادئ فلسفة المستقبل )) ، و ذلك بإعطاء بعض الدقائق حول فكر ماركس في مرحلة الشباب ، خاصة و أن هذه المرحلة تكشف كيفية استخدام ماركس _و كذلك أو بالتأكيد فورباخ أيضا_ لأبحاث ترندلنبورغ المنطقية .


يتمحوّر نقد فورباخ و ماركس الموجه للجدل الهيغلي ، كما نعلم ، حول التبادل أو الإنقلاب الذي قام هيغل به بين الموضوع (موضوع القضية) و المحمول أو العام المنطقي . أي بين الوجود و الفكر . يعتبر هذا النقد (الذي استوصينا منه التوجّهات الرئيسية لإعادة تكوين الحركتين الأساسيتين الخاصتين بالصيرورة الجدلية عند هيغل) إن هيغل قد حوّل الفكرة أو ما هو منتزع في الذهن إلى جوهر بذاته (تجوهر الذهني) أي أنه جعل من المحمول أو المقولة موضوعا أو أصلا _في_ الخارج ، أي تجليا أو تجسدا للفكرة/الأقنوم .


يؤسس فورباخ و ماركس في نقدهما لهيغل كما يشير إليه ديلا فولبي و يؤكده أنريكو برتي ، على نقد أرسطو لا أفلاطون . إن إكتشاف أرسطو مفهوم (( الموضوع )) ، كما يقول برتي ، هو المبدأ الوحيد الذي إبتكره أرسطو فعليا فجاء بجديد بالنسبة لسلفه . و هو (( يتفرّع كليا عن التمييز بين الجوهر و المقولات الأخرى )) لقد بيّن أرسطو و للمرة الأولى و بوضوح عندما إكتشف (( الموضوع )) ، ضرورة أن تكون _الصيرورة_ صيرورة موضوع معين ... هذه العقيدة ــ ذات الميول المناهضة تماما للمثالية ، كونها تُبيّن عجز المفاهيم المنتزعة عن تفسير الصيرورة ، تجعل من الفلسفة الأرسطية ، يستخلص برتي ، (( الشعار الذي أصبح عبر تاريخ الفكر الفلسفي مرتكزا لنقد المثالية )) . و هو يذكّر بعد ذلك في الهامش بمقطع من (( نقد 1843 )) مضت الإشارة إليه ، حيث يقول ماركس : (( بقدر ما ينطلق هيغل من المحمول في القضايا و اللوازم العامة ، و ليس من الوجود الواقعي .. و لأن هذه اللوازم محتاجة إلى موضوع/أساس ، تقوم الفكرة الصوفية بدور هذا الأساس )) .




يحتوي مؤلف برتي على تقييم مماثل ، حيث يذكر ، مشددا دائما على الأطروحة القائلة بأن (( معيار الجوهرية )) عند أرسطو (( هو قدرة الجوهر على لعب دور الموضوع في الحمل )) :


و ينتج عما تقدم أن أرسطو قد أحدث إنقلابا شاملا في الموقف الأفلاطوني .



و لئن كان العام أشد واقعية بالنسبة لأفلاطون من الخاص ، أي الجنس من النوع ، و النوع من الفرد ، أي بصورة عامة المحمول من الموضوع ، فإن مبدأ الواقعية يكمن برأي أرسطو ، في الأفراد أو في (( الموضوع )) و هذا هو الخيار الأعظم الذي يواجه جميع أشكال المثالية : أرسطو مقابل أفلاطون ، فورباخ مقابل هيغل ، و كيركغارد مقابل ماركس .



يستعيد التحليل الذي يتناول أفكار فورباخ و ماركس الشاب هنا على ما يبدو ، بعض الموضوعات النقدية حول هيغل ، التي قدمها المفكر الأرسطي ترندلنبورغ ، و المثل الأكثر تعبيرا في هذا المقام إنما موضوعة (( الدس )) L Ein - Unterschiebung أو (( أندساس )) عناصر منطقية منتزعة خلسة من التجربة . Ganz Unter der Hand كما يقول ماركس في 1857 L Einleitung Grundrisse و تشكل هذه الموضوعة الأساس الذي ينطلق منه ليس فقط ماركس بل فورباخ أيضا في نقدهما لهيغل حيث يقرران ، بأنه يصل في نهاية المطاف _حين يدعي القدرة على البدء (( بدون مسلمات ))_ إلى شكل من أشكال الإيجابية التي تخلو من النقد ، فيلحظ فورباخ مثلا في كتاباته عام 1841 Uber den Anfang der Philosophie إن الفلسفة التي التي تنتهي إلى فكر بدون واقع تصل منطقيا إلى واقع بدون فكر .



ثم يضيف (( بأنه من الأحوط أن نبدأ باللا ـ فلسفة و ننتهي بالفلسفة من القيام بعكس ذلك ، مثلما هو نهج فيلسوف ألماني كبير إفتتح صناعته بالفلسفة و اختتمها باللا ـ فلسفة )) .



و ها هنا إشارة واضحة جلية إلى هذا الشكل المخصوص من الوضعية اللا ـ نقدية التي تطبع إضافة إلى موقف هيغل من الدولة البروسية في عصره إحتفاؤه بهذه الدولة بوصفها (( تجلي الله في العالم )) .
و يقترب نقد ترندلنبورغ من نقد فورباخ في موضوعة أخرى بالغة الأهمية أيضا ، و هي الطابع الأفلاطوني المحدث و الكلامي الذي تتخذه الجدلية (( لم تنطبق الجدلية إلا في الفلسفة الإلهية (و علم الكلام) ، فيما لا نلحظ لها مثلا واحدا في ميدان العلوم الفيزيائية و الطبيعية )) . هذه الملاحظة يُبديها ترندلنبورغ بعد إشارته إلى (( أن وحده بروكلس من الأقدمين يلتقط إيقاع الجدل )) . و إننا لنجد إعتبارات مماثلة في كتابات فورباخ : لا يعتبر هيغل أرسطو الألماني أو أرسطو المسيحي بل بروكلس الألماني إن الفلسفة المطلقة هي إنبعاث فلسفة الإشراقية الإسكندرانية .

يعتبر موضوع جذور الجدل في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة موضوعا بالغ الأهمية ، ليس من وجهة تاريخية ـ ثقافية فحسب ، بل لأنه يضيء المتكونات التي لا تنفك عن الصيرورة الجدلية . يُبيّن فورباخ ، مشيرا إلى إعتبار المادة كلا ـ وجود ، و بالتالي إلى قول هيجل بأن المتناهي مثالي : (( إن المادة أو العالم المادي الواقعي ـ لم تعد بصورة عامة مشكلة بنظر الأفلاطونيين المحدثين لأنها لم تعد واقعية )) ثم إنه يضيف : (( حتى المادة توجد برأي الأفلاطونيين المحدثين في العالم اللا مادي ، إلا أن المقصود هنا المادة المثالية الخيالية المفارقة )) . يعي فورباخ بعد كل ذلك أنه لا يبقى بعدما سلب المتناهي وجوده الواقعي إلا أن تسقط وظيفة الموجود على الفكر أو على المجردات في الذهن . (( تصبح الفكرة في الخارج (واقعية) أما ما يميز الحدس فيحمل على التفكر و ما هو من وظائف الإحساس يصبح من وظائف الفكر ... أي أن ما هو في الأعيان يصبح محمولا على الفكرة )) .


و ها هنا استنتاج و هو (( أن التصور ليس بالنسبة للأفلاطونية ـ المحدثة ، تصورا ، بل المصداق عينه ، و الصورة ليست صورة ، بل الشيء نفسه ، و الفكرة إنما الواقع عينه ، إن الإنيّة ، عندما تفقد تعلقها بالعالم الواقعي المفهوم بوصفه موضوعا تحوّل تصوراتها إلى موضوع )) . ثم أن فورباخ يستنتج : (( و بقدر ما يكون التجريد أشد ، و يكون نفي العالم المحسوس جذريا يكون المجرد موجودا محسوسا : الله ، الوحدة ، الموجود الإسمي الذي هو ثمرة تجريد المتكثّر ، و المتغاير أي أن ثمرة العالم الإحساسي تُعرف عبر الوصال المباشر و الحضور المباشر )) .


يلخص فورباخ القول ، مختتما نقده لفلسفة هيجل ، بأن الجدل الهيجلي هو صوفية عقلانية ـ أو بعبارة أخرى يستعيدها ماركس ، في (( النقد عام 1843 )) ، (( صوفية منطقية )) ، و ليس المقصود هنا بالصوفية ، كما هو معلوم ، نتاجا للإحساسي أو للشعور ، بل نتاج ذلك التبادل أو التمازج ، الذي مضت الإشارة إليه ، و الذي يقود إلى إعطاء العقل وظيفة تتخطى الوظيفة المنطقية أو التفكرية ، إلى وظيفة الموجود في الخارج أو وظيفة الإحساس و الشعور .


تسمح هذه الإشارات السريعة بإعطاء فكرة عن مدى غنى و تعقيد الدوافع التي كانت وراء نقد الجدل في كتابات فورباخ ، في فترة ما بين 1839 و 1843 ، و كتابات ماركس الشاب 1843 - 1844 ، فها هنا موضوعات إنتزعت مباشرة من أرسطو ، و أخرى متأثرة بالهامش الأرسطي عبر ترندلنبورغ . و أكثر من ذلك فها هنا أيضا و في حال فورباخ رجوع إلى مصادر كانط في مرحلة حجة (( المئة تالر )) (( Cent Thalers )) أو إلى مرحلة نقد الدليل الأنطولوجي .


إلا إننا لا نشك في أن نقد فورباخ و ماركس يبدو ناقصا ، بالمقارنة مع دقة خطاب ترندلنبورغ و قدرته على إلتقاط المسائل المنطقية المستخرجة من جدل هيجل (المسائل المتعلقة خاصة بطبيعة التمايز بين التضاد و التناقض) . فهذا الخطاب هو من حيث قصده و وقعه الأكثر جذرية على الإطلاق . و على الرغم من أن فورباخ يصل إلى تصفية الجدل الهيجلي نهائيا و إن ماركس (( 1843 )) يعدم هذا الجدل ، فإن أحدا من هذين المفكرين لا ينجح في النفاذ إلى جذور المشكلة .


قد يبدو هذا التقييم مجحفا ، غير أن ها هنا حالة نادرة ، حيث يقترن الحكم بحجة دامغة . ففورباخ الذي يرفض الجدل الهيجلي برمته ، يتابع في الوقت نفسه الكلام عن التنزل Aliénation بشأن الدين . أي إنه يرفض الجدل في الوقت الذي يدأب على إفتراضه أصلا و يستخدمه . إذ ليس التنزل إلا لحظة من صيرورة الجدل ، و هو يتناسب مع إنشعاب الوحدة إنشعابا ذاتيا ، أما الإدعاء بتحميله دلالة تقنية دقيقة خارج إطار لوازم المنطق الجدلي ، و بغض النظر عنه ، فإدعاء مستحيل و فارغ . يستبعد فورباخ الجدل إذن من ناحية ، و يدعه يعمل ضمنيا من ناحية أخرى ، دون أن يعي ماذا يفعل .


و تتردد هذه المفارقة أيضا في حال ماركس الشاب ، إذ يتضمن نقده رفضا قاطعا للجدل الهيجلي هذا الجدل المتمحور حول (( الصوفية المنطقية )) الذي لا بد من كشف غواشيها ، غير أنه لا يتوقف في الوقت نفسه ، عن تبني أدوات الجدل و الإنطلاق منه . فهو يحلل مثله مثل فورباخ ، الدولة السياسية الحديثة ، إنطلاقا من مفهوم التنزل .


أما النتيجة فهي مفارقة للواقع بشكل لا يتخيله عاقل . ففي حين يخضع ماركس جدل هيجل لنقد جذري ، فإنه يستعيد في الوقت نفسه ، و دون أن يعي ، خواتمه : إنه يرفض منطق التناقض الجدلي و يفسر في اللحظة نفسها الدولة التمثيلية الحديثة ، على قاعدة نظرية التنزل . يتولد (( التنزل السياسي )) لحظة الإنفصال _أو الإنشعاب_ الذي يفصل في إطار الشروط الحديثة بين الدولة و المجتمع المدني . و لأن التنزل يعتبر بوصفه إنشعاب (( الوحدة الأصلية )) (وحدة الحياة العامة و الحياة الخاصة التي سادت في المشاعية البدائية و جزئية من المدينة اليونانية) . كمثال (( للتناقض )) يقبل ماركس في النهاية ضمنيا نواة فلسفة هيجل و جوهرها الأساسي : وجود التناقضات الواقعية .


لا يبدو تطور العلاقة بين ماركس و هيجل على أساس هذه الأوليات مفهوما فقط بل ضروريا ، إذ يقود مفهوم التنزل _و قد بات مركزيا حتى منذ مخطوطات 1844_ شيئا فشيئا إلى تقييم جديد لجدل هيجل (الذي لا ينفك عنه مفهوم التنزل) حتى تصل الأمور إلى إعادة إعتبار حقيقية تتضح جلية في كتاب ماركس لإنجلز 14/كانون الثاني/1858 و قد ورد فيه (( فيما يتعلق بطريقة العمل )) (المقصود هنا صياغة الـ Grundisse) (( كانت العودة إلى منطق هيجل في منتهى الإفادة )) .


و إننا نشهد هنا حسما لموضوع تردد منذ 1844 . فالعمل الذي ينتج (( قيمة )) هو العمل المتنزل ، أي أن نظرية القيمة (أي نظرية المال و رأس المال) تعود فتتطابق مع نظرية التنزل . و لما كان التنزل هو التناقض المتأتي مع إنشعاب ذاتي ، يصيب الوحدة ، فإننا لا نشك في أن (( نظرية القيمة )) و (( نظرية التنزل )) و (( نظرية التناقض الجدلي )) تبدو في النهاية شيئا واحدا . مما يعني أن محاولة ماركس الوصول إلى تحليل علمي لنمط الإنتاج الرأسمالي فاسدة .


أ ـــ فهم سلبي أو (( أفلاطوني )) للمادة أي للموجود الوضعي ـ الواقعي بوصفه لا ـ وجود . لنلحظ أيضا هذا الفهم ، الذي مضت الإشارة إليه ، عند ليبنتز . إنه يعطل التمايز بين التناقض و التضاد و يجعله غير قابل للتصور . و هو حين يعتبر الواقع كلا ـ وجود يحول مباشرة المتضاد أو المتقابل في الخارج إلى مجرد نفي منطقي أو متقابل في الذهن .


يقول كانط إن ليبنتز يعتبر أن في هذا التحول مصير جميع الوقائع المتضادة . إذ ليست جميع الشرور برأيه إلا حدود المخلوقات . أي إنها نفي . كونها الشيء الوحيد الذي يقابل الواقع . و من هنا نفهم مبدأ (( اللا ـ متعيّنات )) عند ليبنتز ، و هو (( يقوم ، كما يؤكد كانط ، على المسلمة القائلة بأنه لو لم يكن الإختلاف متضمنا في مفهوم الشيء عامة لما وجدنا هذا الإختلاف في الأشياء نفسها )) . أي إنه يقوم بعبارة أخرى على أنه لا تضاد في الخارج ، بدون تناقض في الذهن . (( و لا يرى أتباع ليبنتز ، يضيف كانط ، إنه من الممكن فقط ، بل من الطبيعي أن نجمع في متن الوجود جميع الوقائع بغض النظر عن التقابلات القائمة فيما بينها ، لأن كل هذه التقابلات ترد إلى تقابل واحد و هو تقابل التناقض (حيث يسلب مفهوم الشيء نفسه) و هم لا يقيمون أي إعتبار للحالة العكسية حيث يلغي مبدأ واقعي معين أثر مبدأ آخر )) .


ب ـــ يشكل الفهم السلبي أو الأفلاطوني للمادة أيضا الأصل الذي يبني عليه فكر هيجل . ليس للمتناهي وجودا حقيقيا ، (( إن المتناهي مثالي )) ، و هو يعتبر مباشرة من حيث هو كذلك _بالنسبة لهيجل أيضا_ نفيا منطقيا أي أن المتقابل بالتضاد و المتضاد الواقعي يتحول عنده أيضا إلى متناقض . مع فارق و هو أن هيجل يؤكد التناقض في حين أن ليبنتز يستبعده و يرفضه . و هو يحاول إعادة مزج العناصر المتناقضة في وحدة كما لو إنها تشترك شأنها في ذلك شأن الأضداد عند أرسطو ، في نوع واحد .


غير أن الإختلاف يبقى في أن نوع المشترك عند أرسطو هو نوع في الخارج ، فيما تتعيّن وحدة المتقابلين عند هيجل كمطلق أو كوحدة ـ كلية . ها هنا إذن مغالطة منطقية حقيقية (و هي منشأ لأخطاء لا تحصى) : ذلك أن هيجل يتعامل مع المتناقضين _و هما المتقابلان الأكثر تغايرا و تنابذا_ و كأنهما متضائفان يستدعي أحدهما الآخر .


ج ـــ يؤدي الفهم السلبي أو (( الأفلاطوني )) للمادة . عند هيجل ، و هو تحويل الإيجابي أو الواقعي إلى سلبي منطقي في الذهن ، إلى الطرح القائل بأن (( كل الأشياء متناقضة بذاتها )) أي أن المادة هي التناقض . أو إنها تؤدي إلى (( جدلية المتناهي )) أو جدلية المادة ، التي تعتبرها الماركسية ، غارقة في جهلها الفلسفي ، بمثابة الشكل الأرقى للمادية الحديثة .


د ـــ و الواقع أن الطرح الذي يعتبر المادة كتناقض هو المحاولة الأشد تطرفا لتصفية المادية ، أو لتحويل الواقعية الوضعية ، من فلسفة _في حال علاقتها بالفلسفة_ إلى صوفية .


إذ القول بأن المتناهي هو نفي الذات بذاتها هو القول بأن المتناهي مثالي أي متضمن بالفكرة . و لما كان هذا الطرح يستتبع بوضوح أن المتناهي خال من الوجود أو لا يوجد بموجودية ذاتية فإنه يستتبع أيضا نفي الوجود الخارجي و حصره داخل الذهن أو إعتباره كوجود ذهني . و ليس صدفة أن يكون هذا تأكيد كانط في هذا المقام أساس التمييز بين التقابل في الذهن و التقابل في الخارج .


هـ ـــ ينقض الطرح الذي يقول بوجود (( تناقضات واقعية )) ، إذن مبدأ عدم إجتماع النقيضين و طابع الوجود الذي لا يستوعبه المنطق دفعة واحدة . و بتعبير آخر لا إنفكاك بين الواقعية الوضعية و مبدأ عدم إجتماع النقيضين ، فهما إما أن يعيشا معا أو أن يموتا معا ، و يعتبر العلم حجة في هذا المقام _و هو (( يقوم ـ على حد تعبير بوبر ، دائما على مبدأ عدم إجتماع النقيضين )) و بالتالي على الجزم بأنه لا يمكن لأي قضية متناقضة ذاتيا أو لأي متناقضين أن يصدقا على الوقائع_ أي أن العلم يقوم فعلا على مبدأ الواقعية في العرفان أو على نظرية الحقيقة بوصفها تصديقا أو تطابقا .