ماديّة البنيوية ولا-جدليتها


علي عامر
2017 / 6 / 20 - 14:06     

أهم الاختلافات الجوهرية بين البنيوية والماركسية, بتصرّف مما ورد في كرّاس "البنيوية والماركسية- لوسيان سيف":

1- (الفصل الآلي بين التزامنية والتعاقبية)

تؤكد البنوية على الأولوية المنهجية للتزامنية على التعاقبية, وتفصل جوهرهما فصلاً تعسفيّاً بحيث تستبعد أيّة وحدة داخلية بينهما.
تقر البنيوية بتطوّر البنى المختلفة مع الزمن, إلّا أنّها تتناول ذلك ليس كعملية تنعكس في المستقبل, بل على العكس, كحركة تتجه نحو الكمال ومن ثمّ الركود (أي كحركة دائرية وليست حلزونية.)
هذا يستثني مبدأ أساسي في الماركسية, وهو أنّ التاريخ عملية تطوّر مستمرة لا نهاية لها للمجتمع الانساني.

2- (الفصل بين البنية وعوامل تطوّرها الداخلية- البنية كهوية فارغة)

تعترف البنيوية بحدوث تغيّرات في البنى, إلّا أنها تعتبر التغيّرات مجرد "انفجارات للبنية" ناجمة عن اصطدامها بظروف خارجية, أي تتجاهل القوانين الداخلية للتطوّر التاريخي, أو الدور الأساسي لنمو التناقضات الداخلية في عملية التطوّر.
بحيث يُترك التاريخ مفتوحاً, ويُنظر إليه كعرض لتتابع عهود وفترات متعاقبة وغير مترابطة.

مثلاً: ينظر ميشيل فوكو في كتابه "كلمات وأشياء" إلى عهود تطوّر المعرفة الانسانية كسلسلة من صور نظرية المعرفة, كخليط من التغيّرات, بدلاً من اعتبارها عملية مثابرة من تطوّر المعرفة التقدمي.

فيمَ يدرس الديالكتيك البنية والتاريخ في وحدتهما الجدلية العميقة, تتجاهل البنيوية هذه الوحدة, بل تؤكد على الثبات النسبي للبنى.
البنيوية تأسر نظرها في حلقة مفرغة تتذبذب بين البنى التي لا تاريخ حقيقي لها, والتاريخ الذي لا بنى حقيقية فيه.

3- تكشف الماركسية عن القوة الدافعة لكل العمليات والتي هي التناقض الديالكتيكي, وتنظر لوحدة النقيضين باحتواءها على كلّ من الثبات النسبي للبنية, ونفي تلك البنية, في التتابع التاريخي الذي تحكمه قوانين التطوّر التاريخي.
بذلك تكشف الماركسية أيضاً عن الدينامية الداخلية للبنية والتغيّرات التي تقرر تاريخها الحقيقي.
التناقض الديالكتيكي الداخلي, غريب على البنيوية, فهي تتجاهل التناقضات الداخلية-أساس عملية التطوّر- وتقرّ بتجاور للحقائق يكمّل بعضه بعضاً, بتجاور الظواهر والبنى, فهي ترفض التناقضات الداخلية الجدلية وتقرّ بالعلاقات الشكلانية الخارجية.
أمّا شكل العلاقات الخارجية, فهو التجاور والتحاذي التكاملي لعناصر النظام, مثل نظام القرابة أو نظام المفاهيم.

تهدف الماركسية بشكل رئيسي ومن خلال التحليل العلمي إلى كشف العمليات المتناقضة الداخلية المختفية تحت سطح ثبات وسكون الظاهر, وأنّ تلك التناقضات هي التي أنتجت الظاهر بشكله الحالي وبآليّاته الظاهريّة الحالية, وأنّ تلك التناقضات من شأنها أن تحوّل وتطوّر تلك الآليات إلى آليات جديدة في مجرى التطوّر التاريخي الضروري.

الماركسية إذ تحلل آليّات التطوّر الملموسة, آليّة الظواهر, تسعى من خلال ذلك التحليل إلى الكشف عن العمليات الديالكتيكية الكامنة وراء الثبات النسبي لتلك الظواهر.

لذا يؤكد ماركس على أنّ "المجتمع الحالي ليس متماسكاً تماسك البلور, بل هو جهاز قادر على التغيير وهو دائم التغيّر"-رأس المال, ويؤكد على أنّ هذا التغيّر يحدث بفعل ودفع من نمو التناقضات الداخلية للمجتمع.

4- تجاهل البنيوية للتناقضات الديالكتيكية التي تصل بين التاريخ والبنية, هو انعكاس لتجاهلها لأساس التطوّر الاجتماعي ذاته, لديالكتيك الانتاج الاجتماعي للقيم المادية.
فيم لا ينفصل ديالكتيك ماركس العلمي عن ماديته, تتجاهل البنيوية القاعدة المقررة في كل الظواهر, وهي ديالكتيك الانتاج الاجتماعي المادي, وهذا كفيل بأن يلغي فاعليتها.

5- نقطة انطلاق البنيوية هي في إضفاء صفة مطلقة على اللغة والبنى اللغوية التي من المفروض أن تقرر جميع العوامل الاجتماعية.

مثلاً يقول ليفي شتراوس: "اللغة هي بالدرجة الأولى ظاهرة ثقافية تميّز الانسان عن الحيوان"-الانثروبولوجيا البنيوية

تسلّم البنيوية بأنّ علم اللغات هو العلم الأساس في ميدان العلوم الانسانية الرحب.

تتناقض البنيوية مع ذاتها, حين تطالب بتحليل مجمل العناصر وارتباطاتها ضمن نظام ما, ثم تعزل عاملاً واحداً, عنصراً واحداً (البنية اللغوية), ثم تعلن عن أهمية هذا العامل الحاسمة, دون أن تحتاج لأي اثبات أو برهان علمي على هذا الادعاء العريض.

ديكارت اعتبر في زمانه أنّ اللغة هي الشيء الوحيد الذي يميّز الانسان عن الحيوان, ولكن في عصرنا توجد أدلة علمية على وجود نظام كامل للعوامل السببية حيث تكون اللغة فيه عنصراً من العناصر, ورغم تلك الشبكة الواسعة والمعقدة من الأسباب تحدد الماركسية العامل الاقتصادي ليس كعامل وحيد, ولا كعامل آخر من ضمن عوامل متعددة, بل كعامل حاسم في العملية التاريخية, أمّا البنيوية فرغم كل الكشوف العلمية التي تلت ديكارت, إلّا أنّها تضرب بها عرض الحائط, وتتمسك بافتراض ديكارت كمسلمة وبديهية.

البنيوية تذهب حد الافتراض بأنّ تجميع عدد معيّن من المفاهيم والمصطلحات التي لها صلة بمجموعة من الحقائق المبعثرة عن الظرف الانساني يوفّر المفتاح لأسرار المعرفة.
وهذا المنهج الابستمولوجي منهج شكليّ وعقيم تماماً. بل هو منهج اعتباطي, وهو ما يسميه لينين باللعب.

تغاضي البنيوية عن المادية التاريخية, يفرض عليها العودة إلى لغز التاريخ غير المحلول, إلى مأزق المثالية الانثروبولوجية واعتباطية الوصفات الابستمولوجية.

(تكثيف)
فيمَ تعتبر البنوية تقدماً بالنسبة للمناهج البرجوازية الكلاسيكية (الذاتوية) إلّا أنها تعتبر تخلّفاً بالنسبة للماركسية رغم ظهورها بعدها زمنياً, وهذا التخلّف كفيل بأن تصنّف البنيوية في صفوف المناهج البرجوازية المناهضة لإمكانيات الثورة الاشتراكية وتحرر الشعوب.

فيمَ تقرّ البنيوية بالمادية, إلّا أنها تغفل قوانين الواقع التاريخي الجدلية, وبالتالي, من الصحيح القول أنها ماديّة من حيث الموضوع, إلّا أنّ ماديتها ميتافيزيقية ميتة من حيث المنهج.