رأسمالية اليوم وطورها المالي


هيفاء أحمد الجندي
2017 / 10 / 6 - 11:54     

يَلْعَبُ الرّأسمالُ الْماليُّ الْيومَ، دوراً مُؤثِّراً، وغالِباً ما يكونُ مُسَيطِراً في مناطقَ مُختلفةٍ مِن الْمَعْمورَةِ، في ضوْءِ ما يُقَدّمُهُ مِنْ مَوارِدَ ماليّةٍ وقُروضٍ واسْتثماراتٍ ماليّة، وأصبَحَتْ الزّراعَةُ والصِّناعَةُ خاضِعَةً لِهَيْمَنتِهِ، وارْتبَطتْ عَوْلَمَةُ الْأسْواقِ الْماليَّةِ بِنهايَةِ عَصْرِ بريتون وودز، والتّحَوُّلِ مِنْ نِظامِ أسْعارِ الصّرْفِ الثّابِتةِ إلى أسْعارِ الصّرفِ الْمُعَوَّمَةِ.

ظُهورِ فَوائضَ ماليّةٍ ضَخْمَةِ عَجِزَت الأنْظمَةُ الْوَطنيّةُ في الْبلادِ الصّناعيّةِ عَن اسْتِيعابِها عَمَليّاَ، فراحَتْ تَبْحثُ عَن فُرَصٍ للتّثْميرِ الْمُربحِ وأصبحتْ الرّأسماليّةُ الْماليّةُ ذاتُ طابَعٍ رَيْعيٍّ، وصارَتْ تعيشُ على رَيْعِ الأوْراقِ الْماليّةِ، وليسَ على رِبْحِ الْمَشْروعاتِ الانْتاجِيّة، وانْتَقلَ رأسُ الْمالِ إلى الْمَناطِقِ التي تَشْهدُ تَركيباَ بَسيطاً لِرأس الْمالِ الثّابِتِ، أيْ الْمناطقِ ذاتِ التّكنولوجيا الأدْنى، بِسببِ بَساطةِ الْعَمَليّةِ الانتاجِيَّةِ، بِما يَجعلُ الْمَرْدودَ الرّبْحِيَّ لِرأسِ الْمالِ أعلى، نظراً لانْعدامِ التّكاليفِ التّكنولوجية.

وهكذا يُحافِظُ رأسُ الْمالِ الْمُهاجِرُ على الْوَضعِ الْمُتَأخّرِ لِأساليبِ الانتاجِ في هذه المناطق، لِأنّ تأخيرَها هذا، هو مَصْدَرُ رِبْحِه الأعلى الذي لا يَستطيعُ تَحْقيقَهُ في بَلادِه ذاتِ التركيبَةِ التكنولوجيةِ العاليَةِ، وهذه الاعْتِباراتُ الرّبحيَّةُ تُعيقُ تَطوُّرَ أساليبِ الإنتاج.

تحت تأثيرِ وتَدْويلِ رأسِ الْمالِ الْمالي، أصبحَت الْبنوكُ الْمَركزيّةُ ووزارةُ الخِزانَةِ، واقعَةً تحتَ تأثيرِ حرَكاتِ رُؤوسِ الْأمْوالِ الدّوْليّةِ في البلدانِ النّامِيَةِ، التي خضَعَتْ لِشُروطِ الْعَوْلَمَةِ الْمالِيّة. والبلدانُ التي فَتحتْ أبْوابَها لِأنْشِطَةِ رأسِ الْمالِ الْمالي الْعالَمي، مِنْ خِلالِ السّماحِ له بالتّعامُلِ مَعَ أسْواقِ النّقْدِ الْمَحَلّيَةِ، معَ إعْطائهِ الكثيرَ من الضّماناتِ وأنْواعِ الْحِمايَةِ والامْتيازات.

في هذه الأثناء، تكوّنَتْ على هامِشِ هذه الْعَمليّةِ، شرائحُ كمبرادوريّة مَحلّيّةٌ ارْتبَطتْ مَصالِحُها معَ مصالِحِ رأسِ الْمال الْمالي، وأصْبحَتْ وَكِيلَةً ومُمَثّلَةً له. وبَدأتْ عَملِيَّةُ خَصْخَصَةِ الْقِطاعِ الْعامّ ولَعِبَتْ هذه الاخيرةُ دَوْراً لا يُسْتَهانُ به في تَوْسيعِ الْعَوْلَمَةِ الْمالِيّة، وخاصّةً بعدَ عمليّاتِ التّحريرِ الْمالي الْمَحلّي والدّوْلي، والسّماحِ للأجانِبِ بتملّكِ الشّرِكاتِ والْمُساهَمَةِ في مُلْكِيّتِها. والْمَطلوبُ وجودُ دُوَلٍ تُناسِبُ مَرحلةَ الْعَوْلَمَةِ وتتكيّفُ معَ الْمُؤسساتِ الْماليّة، وتَضْمَنُ عمليّةَ القضاء على الْقطاعِ العام.

ولا ضَيْرَ من الْقَول، إنّ الرّأسماليّةَ الْعالَميّةَ تُقدِّمُ نفسَها اليومَ، في صورةِ مؤسساتٍ ماليَّةٍ، وإنْ دلَّ ذلك على شيء إنّما يّدلُّ على أنّ تَغيُّراً جَذْريّاً قد حَصلَ للرّأسماليّةِ، فبعدَ أنْ كانتْ تُباشِرُ عمليّةَ التّوَسُّعِ الرّأسماليِّ الْعالَميّ، مُنذُ الْقرن السابعَ عشرَ، وذلك عن طريقِ التّدخُّلِ الْعَسكَريِّ الْمُباشِرِ للْجُيوش، اسْتغْنَتْ الرّأسماليّةُ عَن هذه الْوَسيلَةِ كأسْلوبٍ في الانْتِشار، وظهَرتْ بَدلاً عنْها الْمُؤسساتُ الْمالِيّةُ الْعالَميّة. والْمَهَمَّةُ الْأساسيّةُ لِهذه الْمُؤسسات، هيَ نَقْلُ رأسِ الْمالِ مِنْ مَرْكَزِ النّظامِ الرّأسماليِّ إلى أطرافِهِ، على شكلِ قُروضٍ واسْتِثماراتٍ وجَعْلُ هذه الأطرافِ، مَجالاً خَصْباَ لِتحقيقِ الأرْباح التي تَصُبُّ كُلُّها في الْمَرْكَز.

هذا ما جعلَ عددًا مِن الاقتصاديين، مثل سَمير أمين وأرْنِستْ ماندل وديفيد هارفي يعتبرون الأرباحَ الطّائلَةَ للاسْتِثمارِ الْمُباشِر لِخدمَةِ الدَّيْنِ شكلاً جديداً من أشكالِ الْخَراجِ تَدْفعُها الأطرافُ التّابِعَةُ لِلْمراكزِ الْمُسَيْطِرَة، وقد راجَ في الْآوِنةِ الأخيرة استخدامُ مُصطَلَحَ “الكازينو” لِوَصْفِ أنْشِطَةَ رأسِ المالِ الْمالي، الْمُتَمَثِّلَةَ بِالْمُضارَباتِ الشّبيهَةِ “بِلُعْبَةِ الْقِمار” بِمَعْنى أنَّهُ قد تَمَّ الاسْتِغْناءُ عنْ إنْتاجِ السّلَعِ كَوسيطٍ في عَمليّةِ تَوْليدِ الْمال، وأصبحَ الْمالُ يُوَلَّدُ مِن الْمال، عن طريقِ الأسْهُمِ والسَّنداتِ والْمُضارَبةِ في الْبورصات، وأصبح الاقتصادُ الْمالي الاسْتِثماريُّ، هو الشُّغلُ الشّاغِلُ للطبَقةِ الْمُتْرَفَة. هذه الأخيرةُ هي التي تَعزلُ نفسَها عن العملِ الشّاق، أيْ العملِ المُنتِجِ لِلْقيمَةِ الاسْتعِماليَّةِ، وتتَخَصّصُ في الْأعمالِ الْمُنتِجةِ لِلْقيمَةِ التّبادُلِيّة، أيْ الْمُوَلِّدَةِ لِلرّبحِ الْمالي، وهي الطبقةُ الْمُقامِرَةُ، التي تَنْظُرُ إلى عالَمِ الاقتصادِ على أنَّهُ صالةُ قِمارٍ وتلْعَبُ فيهِ لُعْبَةَ الْحَظ.

هكذا، تكونُ الدّولُ قد تَحولَتْ إلى خادِمٍ لِتَسْييرِ شُؤونِ الرّأسماليّةِ الْماليّةِ “ضامِنَة السّوق العالَمي”. وهُنا يَصحُّ تَوْصيفُ ماركس للدولة على أنّها “جهازُ إدارةِ الشّؤونِ الْعامّةِ للبورجوازية”، بَيْدَ أنّ الْحِراكَ الْعالَمي لِرأسِ الْمال، يَتطلّبُ بالْمُقابِل، حَراكاً مُماثِلاً لِلْعَمالَة، كَيْ يَسْتَطيعَ تَوْظيفَها أيْنَما ذهَب. ويُساعدُ هذا الْحَراكُ الْعالَميُّ لِرأسِ الْمالِ، في خَلْقِ حَراكٍ عالَميٍّ مَثيل، في صُورَةِ عَمالَةٍ دَوْلِيَّةٍ رَخيصَةٍ، وسَهْلَةِ التّحرُّكِ مِنْ مكانٍ لِآخرَ يستطيعُ رأسُ المالِ جَلْبَها مَعَهُ أيْنَما تَوَجَّهَ. وبذلك يُساعِدُ على تَكْوينِ بروليتاريا عَالَميّة.

حرَكةُ رأسِ الْمالِ الْمالي لَيْسَتْ بِمَعْزِلٍ عن الأزَمات، فقد تَعَرَّضَ لأزَماتٍ خانِقةٍ عديدة. ففي خريف 1982 توقّفَتْ المكسيك وتشيلي عن دفْعِ أعباءِ دُيونِهما الخارجية، والتي كان الشّطرُ الأكبرُ مِنْها مُسْتَحَقّا للبنوك التّجاريّةِ الْكُبرى، الأمرُ الذي هدّدَ تلك البنوك بأزمَةٍ هائلة، وكان من الْواضِحِ أنَّ رأسَ الْمالِ الْمالي، قد وصلَ في امْتِصاصِه لِلْفائضِ الاقتصادي في هذَين البلدين إلى مدى بعيد، بحيثُ وصلَ معدّلُ خِدْمَةِ الدين الخارجي، إلى مُسْتَوياتٍ حَرِجَةٍ جداً، جعلتْهُ يَمْتصُّ كلَّ حصيلَةِ هذه البِلاد، مِنَ السِّلَعِ والْخدماتِ ما أدَّى إلى ارْتِفاعِ تَكاليفِ الْمَعيشةِ وزِيادةِ حَجمِ الطاقاتِ الانتاجيَّةِ الْمُعطَّلَةِ وتردّي مُعدّلاتِ النُّموِّ الاقتصاديِّ وارْتِفاعِ مُعدّلاتِ الْبَطالَة. وكان اسْتِمرارُ دَفْعِ أعْباءِ الدُّيونِ الْخارِجيّةِ في هذه الْحالَةِ يَعني الْمَزيدَ مِن اسْتفحالِ الاوْضاعِ الاقتصاديّةِ والاجْتماعيَّةِ وبالتالي السّياسيَّة.

وتَلاحقَت الأزَماتُ فيما بعدُ، وصولاً إلى الأزمةِ الْبُنْيَويَّةِ لِرأسْماليَّةِ الْيوم. وما انْدلاعُ الانْتِفاضاتِ الشّعبِيَّةِ في الْأطرافِ وحركاتِ الاحْتجاجِ الْعُمّاليَّةِ-الشّعْبيَّةِ في الْمَراكِزِ سِوى ردَّةِ فِعلٍ على هذه الأزمَةِ، ومِنْ شأنِ هذه الأخيرة أنْ تُفاقِمَ الصّراعَ الطبقيَّ في الْعالَمِ بِأسْرِهِ ضدَّ الرأسماليَّةِ الْهَرِمَة. والْمَعروفُ أنَّ كَعْبَ آخيل الرأسماليَّةِ هو مُقاوَمَةُ الشّعوبِ لها والرَّدُ على التَّحالُفاتِ بينَ أصْحابِ الرَّساميلِ يكونُ بِعَقْدِ تحالُفاتٍ طَبقيَّةٍ نَقيضَةٍ بينَ الطبقةِ العاملَةِ والْمُفْقَرين على مُسْتَوى العالمِ بِأسْرِهِ. وما يُثيرُ رُعْبَ قوى الاحْتِكارِ الْعالَميِّ هو تَشكيلُ جَبْهةٍ أُمَمِيَّةٍ للشُّعوبِ في الشّمالِ والْجنوبِ ضدَّ رأسِ الْمال.