ترسمل المتمركس : عصام الخفاجي أنموذجاً /8-20


حسين علوان حسين
2017 / 5 / 25 - 02:53     

بوسع القارئات و القراء الأعزاء التأكد حالاً من النص الماركسي الذي أوردته في ختام الحلقة السابقة و المنشور على الملأ في شهر شباط من عام 2006 من طرف الحزب الإشتراكي البريطاني بأنه قد توصل إلى الإستنتاج بأن الأزمة الرأسمالية القادمة الوشيكة الانفجار ستضرب أسواق المال العالمية ، و ليس غيرها – مثل أزمة الإنتاج البضاعي الزائد . و بالفعل ، فقد أشتعل فتيل تلك الأزمة العالمية الرهيبة في شهر تموز من العام اللاحق / 2007 . ليس هذا فحسب ، بل أن ذلك البرنامج الحزبي يشخِّص بالضبط أسبابها و مركزها : العجز المتفاقم في الميزان التجاري الأمريكي (الذي ضرب رقماً قياسياً في نهاية ذلك العام ليبلغ 763.3 بليوناً من الدولارات ، ليدلل بذلك على كون الإمبريالية الأمريكية "الثورية اليسارية" على حد قول الأستاذ عصام الخفاجي المحترم إنما :"تعيش بالدَيْن على حساب كدح عمال بقية شعوب العالم ، و خصوصاً عمال أوربا و اليابان و الصين و الهند و البلدان المصدرة للنفط) . و هذا الاستنتاج الماركسي العلمي مبني على واقع تدهور الإدخار النقدي نتيجة لتفاقم الانفاق الإستهلاكي في أمريكا بسبب سياسة الإقراض المالي الإنفجارية على الرهونات العقارية غير الممتازة (أي الرهونات طويلة الأجل ذات المخاطر العالية و التي تستوجب فرض أسعار فائدة أكبر عليها مما لو كانت من الدرجة الممتازة) و ذلك عبر إتاحة تلك القروض - التي يسميها ماركس في الجزء الثالث من كتابه (رأس المال) باسم "النقد الخيالي : fictitious money" - من طرف المصارف التجارية بأسعار فائدة ميسَّرة خلال أول سنتين فقط لإغراء الزبائن بالاقتراض ، و من ثم رفع أسعار الفائدة و العمولات تصاعدياً بعد ذلك على نحو مضاعف ، لإشباع نهم قروش رأس المال لقشط الأرباح الفلكية المتراكمة ، و التي ما عادت أسواق المال تستطيع تحمل ضغط أثقالها ، فأشرفت على الهاوية لكون غالبية المقترضين زادت تكلفة خدمة ديونهم تلك على كامل مداخيلهم الشهرية ، فتردَّت ادخاراتهم ، و لن يستطيعوا تسديد أقساط تلك القروض ، فتعرض دورهم السكنية للبيع بالمازادات بالجملة ، و تهوي أقيامها كالسيل المتحدر بين عشية وضحاها ، فيصبح الدَيْن المصرفي ديناً ميتاً لا أمل في استرداده . و يصف التقرير الماركسي تلك الفقاعة المصطنعة بكونها تشبه لعبة بناء البيت الورقي (أي الهيكل المصنوع من رزمة أوراق اللعب "الكوتشينة") الذي يتهاوى فجأة بفعل ثقل نفسه على نفسه بالذات عند إضافة و لو ورقة جديدة واحدة إليه ، للكناية عن أن السيل قد بلغ الزبى في تلك الفقاعة الاقراضية المصطنعة التي هيمنت على أسواق المال الأمريكية لاشباع جشع حفنة من قروشه الهبّارة ؛ و أن ما بعد بلوغه القمة سيأتي السقوط الذي ما منه مناص ، و الذي سيجبر شغيلة العالم – و ليس أحداً غيرهم باعتبارهم وحدهم خالقي القيمة على وجه البسيطة من خلال عملهم على ثروات الطبيعة – تكبد ترليونات دولاراته من ضرورات عيشهم اليومي . و من المفروغ منه أن قروش رأس المال سبق لهم و أن أتقنوا هذه اللعبة أيما اتقان منذ قرنين من الزمان !
طيب ، هل سبق لماركس أن أستنتج إمكانية حصول مثل هذا الوضع بسبب الجشع الراسمالي الذي يتجاوز كل الحدود للاستحواذ على المزيد و المزيد من رأس المال المسروق من قوة عمل الشغيلة ؟ نعم ، بالتأكيد ، و بالتفصيل المتكرر ! مثلاً ، في الفصل العاشر من الجزء الأول من "رأس المال" يقول ماركس (القوس لي) :

"رأس المال هو العمل الميت (أي العمل غير المدفوع الأجر المتجسد في البضائع و الخدمات التي ينتجها عمل الشغيلة و الذي يتحول إلى رأس المال من خلال بيع تلك البضائع و الخدمات للمشترين) ، و هو ، مثل مصاص الدماء ، لا يعيش إلا على امتصاص العمل الحي ، و كلما طالت حياته ، كلما إزداد مَصَّه للعمل" .

هكذا تحدث أعظم عالم اقتصاد عرفته البشرية لحد الآن .

و لكن ، كيف سمحت الإدارة الأمريكية لبيوت المال بأن يكون الجشع الرأسمالي "اليساري الثوري !" للاستحواذ على الثروة بكل الوسائل هو القانون الفوقي الذي يتحكم بمقدرات أسواق المال و ملايين المودعين و المقترضين ؟ الجواب سبق و أن تعلمناه من ماركس و انجلز : الدولة الرأسمالية هي الخادم الأمين لمصالح الرأسماليين .
بدأت أحداث هذه الفضيحة الرهيبة عام 1998 في أمريكا عندما أستحوذت الشركة القابضة لأحد أكبر المصارف التجارية في أمريكا و العالم (سِتي كورب Citicorp) على شركة التأمين العملاقة (ترافلرز گروب Travelers Group) ، فأبدلت إسمها إلى (سِتيگروب Citigroup) خلافاً للقانون الأمريكي النافذ المفعول في حينها ، و المعروف بأسم (قانون گلاس ستيگال) العائد لعام 1933 ، و الذي يمنع منعاً باتاً الجمع بين النشاط المصرفي و التأميني و المتاجرة بالأسهم و السندات في وقت واحد من طرف أي مؤسسة مالية واحدة بعينها . لماذا ؟ لأن هذا الدمج يتضمن على نحو فاضح تضارباً في المصالح : المصارف التجارية تؤمن على قروضها عند شركات التأمين ، و شركات التأمين تؤمن على بوالص الأخيرة عند شركات إعادة التأمين . و عندما تصبح هذه المؤسسات المالية الثلاث مقبوضة من طرف شركة واحدة (أي شخصاً اعتبارياً واحداً ) ، فمَن الذي يَكْفَل مَنْ في ظل تضارب المصالح بين المصارف و شركات التأمين و إعادة التأمين ؟ ثم أن هذا الوضع يعني أن سقوط المصرف التجاري سيؤدي حتماً إلى سقوط شركة التأمين المعنية بمنع سقوطه أصلاً و لكنها تهوي معه لكونها تابعة له ، و العكس بالعكس ! و بدلاً من منع مثل هذا الأندماج المخالف للقانون ، دفعت سِتيگروب برهاوة و مقدرة أعلى سلطة تشريعية في أمريكا - مجلسي الكونغرس الأمريكي - بنفس العام إلى إصدار تشريع خاص (و الذي أصبح يعرف بعدئذ بقانون : گرام-ليݘبليلي ،1999) المصمم بالذات للسماح بتكوين مثل هذه الشركات المالية العملاقة رغم تضارب المصالح بين أذرعها نفسها ، بدعوى أن مثل هذه الشركات العملاقة هي "أقوى من السقوط" ! و هكذا فقد تشكلت عدة مجموعات من الشركات المالية القابضة الجديدة التي لديها البليونات من رؤوس الأموال التي أصبحت تتسابق فيما بينها لإغواء المقترضين حتى بقروض مشكوك في تحصيلها مثل الرهونات العقارية طويلة الأجل ذات المخاطر العالية وقروض الطلبة (سأعود لهذا الموضوع) ووو . لدينا هنا الخلق لمؤسسة مالية جديدة : (الشركة المالية المصرفية-التأمينية-البورصوية القابضة) ، و المنتج المالي الجديد : (القرض العقاري من الدرجة غير الممتازة عالي الفائدة) . ماذا يقول ماركس عن كل هذا ؟ في مؤلفه "المتطلبات البشرية و تقسيم العمل" (1844) ، يقول ماركس:

"في ظل الملكية الخاصة ... يحاول كل واحد أن يؤسس فوق الآخرين قوة غريبة يُرضي بواسطتها حاجاته الأنانية . هنا ، الزيادة في كمية الأشياء يصاحبها التوسيع لمملكة هذه القوى الغريبة التي تُخْضِع الإنسان ، و كل منتج جديد يمثل الإمكانية الجديدة لغش الآخرين و نهبهم ."

طيب ، كيف إذن - و وقائع التاريخ هي هذه بالضبط – يزعم الأستاذ عصام الخفاجي المحترم :" أما التعامل مع الماركسية كبرنامج سياسي أو كدليل لعمل الثوريين في الأمد القصير والمتوسط أو حتى للتنبؤ به، فقد كانت له عواقب وخيمة على اليسار" ؟ و كيف يمكن أن يكون البرنامج السياسي الماركسي و دليل العمل الثوري على المدى القصير أو "التنبؤ به" (كذا) له عواقب وخيمة على اليسار في ضوء كون هذه البرامج قد حققت الإنجازات الهائلة للبشرية جمعاء لا تدانيها أي إنجازات لأي فصيل ثوري ثان منذ عام 1848 و حتى الآن ، و أهمها يوم العمل من ثمان ساعات (الذي نادى به لأول مرة مؤتمر الأممية الأولى المنعقد في جنيف عام 1866) و عيد العمال العالمي و قانون الضمان الاجتماعي للعمال ؟! أليست مثل هذه البرامج و غيرها كثير هي السلاح القوي لشغيلة العالم ، و هي التعرية لمساحيق التجميل لقباحة الرأسمالية التي أصبحت قوة رجعية منذ القرن التاسع عشر عندما رفع ماركس و انجلز شعار "يا عمال العالم اتحدوا" ؟
ثم كيف يجوز للباحث المنصف أن يتكلم عن "التنبؤ" الماركسي ؟ لا بد من التوكيد هنا بأن مفردة "التنبؤ" غير دقيقة بالمرّة في هذا السياق المشوِّه ؛ الصحيح هو : "الإستنتاج العلمي المبني على وعي القوانين الفاعلة المفعول في النظام الرأسمالي " ، لأن الماركسيين ليسوا "فتّاحين فال" مثلما يتوهم الأستاذ عصام الخفاجي المحترم . يقول ماركس في رسالته إلى صحيفة "الحوليات الألمانية-الفرنسية" (Deutsch-Französische Jahrbücher) عام 1843 :

"و مع أن تركيب المستقبل و حل كل شيء لكل الأزمان ليس هو قضيتنا ، و لكن هذا يجعل من الأوضح ما الذي يجب علينا إنجازه حالياً : أنا أقصد النقد الذي لا هوادة فيه لكل ما هو موجود ؛ لا هوادة فيه بمعنى عدم مخافة النتائج التي يتوصل إليها ، و كذلك عدم مخافة التصادم مع القوى الموجودة ".
إذن ، ماركس يؤكد بعظمة لسانه بأن "تركيب المستقبل و حل كل شيء لكل الأزمان ليس هو قضية الماركسية" عكسما يفتري عليها المفترون من مطوبي الراسمالية عدوة الشعوب .
و لكن ما الذي أستنتجه ماركس و انجلز من تحليله و نقده الملازم و الذي لا هوادة فيه لطبيعة الرأسمالية و لم يحصل ؟ ها ؟
بدلاً من رمي الكلام على عواهنه ، سأورد في الحلقة القادمة النزر القليل من نصوص ماركس و انجلز التي تكشف أستنتاجاتهما العلمية بصدد طبيعة النظام الرأسمالي ، و إلى أين ستقود تناقضاته الداخلية شعوب العالم أجمع ، و التي زكّاها التاريخ . و بالمقابل ، و ما دام الأستاذ عصام الخفاجي المحترم ينتقد الماركسية على نحو تشويهي متعالياً عليها و موجهاً "نصائحة" المضحكة-المبكية للطبقة العاملة و أحزابها السياسية ، و يطوِّب الرأسمالية على نحو فج ؛ فأنا ألتمس منه أن يثبت جدارته على نحو مقنع لقارئات و قراء الحوار المتمدن الأعزاء و ذلك بأن يفعل مثلما فعل من ينتقدهم - ماركس و انجلز خلال القرن التاسع عشر - في أي يوم يختاره ، فيستنتج لنا أمراً واحداً قد يحصل في الاقتصاد الكلي للنظام الرأسمالي الحالي ، و لو بعد شهر واحد فقط !

النقد الأنشائي سهل ؛ أما الإبداع العلمي الرائي فهو العبقري الصعب ، و هو ما يتطلع الثوريون الأحرار إليه في دروب النضال الشاقة الطويلة .

يتبع ، لطفاً .
24/5/2017