افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (14)


موسى راكان موسى
2017 / 5 / 14 - 01:37     



الايديولوجيات اليوم (ص 76ـ82) :


إن مسرحيات الدراما التاريخية ، و ككل الدراميات ، تبدأ بإستهلال أو تمهيد ، و تتواصل مع تطور الحركة (أو عقدة الموضوع) و تنتهي أو تجد خاتمة لها بحل العقدة ... و في المسرحية الدرامية التي نحن بصددها ، يبقى أنه من المستحيل كتابة خاتمة لها . فبعد 11 عاما على حركة 1968 ، ما يزال الوضع الإيطالي يتخبط وسط بحر هائج . و من الضروري أن نتساءل عن أسباب طول أمد ظاهرة ، نجحت في بلدان غربية أخرى في استيعابها بسرعة و دون جهد ، في حين إنها استمرت عندنا حتى التعفن و وصلت أخيرا إلى الانحطاط في هاوية الإرهاب المكشوف . غير أن هذا الخطاب (أو التحليل ـ التنظير أو النص النظري الخ ..) الذي عليه ذكر المسؤوليات الخطيرة جدا التي تتحملها طبقتنا السياسية (أكانت حكومية أو معارضة) و أن يُدين النواقص الثقافية العميقة لدى القوى الكاثوليكية كما لدى القوى الماركسية ، وصولا إلى توجيه المشكلات الخطيرة لمجتمع صناعي حديث ، هو أمر خارج نطاق مهمتنا في هذا المقال .


و لكن يبقى هناك حقيقة أكيدة و هي أنه بعد 11 عاما على 1968 تبدو البلاد (في مواجهة و ضدا من كل التفاؤلات الشكلية) ضائعة فاقدة لإتجاه البوصلة ، مستنزفة منهكة ، و في أماكن معينة مدمرة أو مصابة بعمق في بعض هياكلها الأساسية . و الهوة بينها و بين أوروبا الغربية ، و التي كنا نظن إننا سنردمها في مجرى الستينات ، قد إزدادت شقا .. أما وزن البلاد على المستوى الدولي فقد انخفض و بإختصار فإن البلاد تبدو مرة أخرى و كأنها نجت من حرب خسرتها ، و لكن دون أن تجد من يساعدها على وعي هذا الأمر و أساسا دون وجود الآمال و الإرادة المتشوقة للخروج من هذا الوضع ، كما حدث في عام 1945 .


إن الإعصار الايديولوجي الذي هب في السنوات الماضية قد خفّت حدته بكل تأكيد . و لكن و بما أنه لم يُبذل حتى اليوم أي جهد جدي لإجراء جردة حساب تلك السنوات و البحث عن أسباب ذلك الإعصار ـ الاضطراب ، فإن هبوط التوتر أو الضغط الذي نشهده و نسجله اليوم ، يبدو في النهاية على أنه ليس سوى مجرد (( هدنة )) أو (( فاصلة )) (بين فصلين من المسرحية) .


إن السمة العامة (نبرة و نكهة) هذه المرحلة الخاصة جدا يُعبر عنها أفضل تعبير نشر و توزيع فلسفات نيتشه و هايدجر (في أوساط ضيقة و محدودة نسبيا و لكن من الخطأ التقليل من تأثيرها) . و للثقافة المسماة بثقافة (( اليأس )) و (( الأزمة )) ، كان الأمر عبارة عن ظاهرة جديدة _تتمحور حول موضوعة العدمية_ و من المحال إعتبار أن أبعادها الضيقة قد تخدع أو تضل . و يحتمل أن تكون هذه الظاهرة من علامات الزمن . و لم يكن من قبيل الصدف أن تقوم دور نشر أقصى اليسار ، و هي في هذا المجال مرجاف (آلة لتسجيل الزلازل) شديد الحساسية ، بتسجيل هذا التحول .. فإنتقلت من روزا لوكسبورغ إلى لوصالومي و من ماركس إلى نيتشه . و إذا كانت لم تتمسك بهايدجر فذلك لأن دور النشر الكاثوليكية قد سبقتها في هذا السبيل .


إن تحليل العدمية يعود إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فكر نيتشه . في نص شهير يعود إلى حزيران (يونيو) 1887 تساءل نيتشه عن (( الامتيازات )) التي تقدمها (( فرضية الأخلاق المسيحية )) ، و أجاب (( بأنها كانت تعطي للانسان قيمة مطلقة ، متناقضة مع صغره و سمته أو صفته العرضية (غير الجوهرية) في هذا البحر المائج من الولادة و الموت [...] .


لقد كانت تكتسي القيم المطلقة للانسان بالحكمة و العلم ، و تعطيها هكذا المعرفة المطابقة للأشياء الأكثر أهمية . كانت تمنع الانسان من إحتقار نفسه كانسان ، و من أن يأخذ موقفا ضد الحياة ، من اليأس من المعرفة .. لقد كانت وسيلة للحفاظ على الذات أو البقاء ، و بالإجمال فإن الأخلاق كانت الدواء الأكثر نجاعة ضد العدمية النظرية و العملية )) .


إن عالم القيم هذا كان حسب نيتشه إحدى الصيغ المتعددة التي عبّر عن نفسه من خلالها (على الأقل منذ أفلاطون) ذلك الفهم الميتافيزيقي للواقع ، الذي كان يفصل بثنائيته المعهودة بين العالم (( التحتي )) ـ الأرضي ، و عالم (( الما ـ فوق )) السماوي . و وفق هذا الفهم فإن العالم التحتي كان ساقط القيمة لحساب و بإسم الله و الغيب (أو الما فوق) أو القيمة المطلقة . إلا أن هؤلاء كانوا جميعا يردون السلام بأحسن منه و ذلك (( بحمايتهم أو كفالتهم )) إلى حد ما للانسان و لوجوده الأرضي و بإدماجهما في (( كلية ذات معنى )) ، بإعطائهما (( معنى )) و (( غاية )) .


غير أن هذا (( النظام )) كان يحمل في داخله أسباب أزمته بالذات . فهو كان يستند ، كما رأينا ، إلى الأخلاق . و لكن نيتشه يلاحظ بأنه (( من بين القوى التي رفعتها الأخلاق ، هناك شيء إسمه (( الحقانية )) و هذه الأخيرة تنقلب ضد الأخلاق ، و تعري الغائية Téléologie (نظرية تقول بأن كل شيء في الطبيعة موجود لغاية معينة) ، و الإعتبار النفعي )) . و هي بذلك تقوم بكشف الأخلاق في إدعاء كونها (( مطلقا )) .. و في الواقع ، كيف يمكن أن نكون صادقين (مطابقين في حكمنا للواقع) و أن نصدق إنه يوجد فعلا (( ما وراء )) ؟ .


إن واجب الحقيقة (و هو واجب ضمني للأخلاق) قد إكتشف إذن (( الكذبة الطويلة و المتأصلة )) التي هي في أساس الأخلاق نفسها و قيمها : أي الطابع النفعي ، الهدف النفعي ، الذي استثارها ، و (( غايتها )) التي تهدف إلى (( ضمان )) و (( تطمين )) الانسان ، و هي الأمور التي خلقت لها بالأساس . و من هنا نفهم ما كان نيتشه يراه من (( تدمير للقيم )) ، و أيضا (( موت الله )) . و قد اختتم قائلا : (( إننا نلاحظ الآن في داخلنا وجود حاجات (أنتجتها الممارسة الطويلة للأخلاق) تبدو لنا و كأنها حاجات لأشياء غير حقيقية . و من جهة أخرى ، فإن هذه الحاجات هي الحاجات التي تتوقف عليها (( القيمة )) التي تجعلنا نتحمل الحياة . و من هذا التناقض بين واقعة عدم تقدير ما نعرفه و واقعة عدم القدرة على تقدير ما نريد أن نوهم أنفسنا به ، ينتج سياق معيّن من التحلل )) .


هذا التحليل لم يكن خفيفا بالطبع . في مقطع شهير من (( الحكمة المرحة )) (عاد إليه هايدجر في (( هولز ويغ ))) فإن موضوعة (( موت الله )) أو كما يقولها فيبر (( فك سحر العالم ـ تبدد أحلامه )) ، كانت مرتبطة ، بوضوح بولادة (( الثورة الكوبرنيكية )) ، و معها أيضا بنهاية الرؤية المركزية ـ البشرية (يعتبر أن الانسان حقيقة الكون المركزية) و التجسيمية (خلع الصفات البشرية على الله و تشبيهه بالانسان) للواقع . تساءل نيتشه : (( ماذا فعلنا حين فصلنا الأرض عن شمسها ؟ إلى أين نسير حاليا ؟ أين نذهب بعيدا عن أي شمس ؟ ألا نواصل السقوط ـ الإنهيار : إلى الوراء ، على الجانبين ، إلى الأمام ؟ هل لا يزال يوجد فوق و تحت ؟ ألا نتيه في عدم لا متناه ؟ ألا يشتد البرد أكثر ؟ ألا يُخيّم الليل ، و أكثر فأكثر ظلاما ؟ ألا نحتاج إلى مصابيح في عز النهار ؟ )) .


لقد بيّن نيتشه (بالتلميح إلى كوبرنيك) بأنه عرف جيدا كيف يرى أصل الأزمة الحديثة . إن الثقافة و الفلسفة المعاصرة للثورة العلمية في القرن السابع مملوءة بالإعتبارات المشابهة . و يكتب كويري بأنه (( عند نهاية الثورة ، نجد العالم المرعب (( لفاسق )) باسكال ، العالم العاري من معنى الفلسفة الحديثة العلمية : و نجد أخيرا العدمية و اليأس )) . (كويري ـ في كتابه (( من العالم المغلق إلى الكون اللا متناه ))) . و لم يكن من قبيل الصدف أن يعزي باسكال إلى (( فاسقه )) الجملة الشهيرة : (( إن الصمت الأبدي لهذه الفضاءات اللا متناهية يفزعني )) .


و على أساس هذه الخلفية أيضا تطورت الفلسفة الحديثة للعلوم حيث أن (( الواقعية )) و (( الرواقية )) ، (( فك سحر العالم )) و في نفس الوقت إرادة (( الاحتفاظ بالنظر مرفوعا بإتجاه الوجه القاسي لقدر هذه الأزمنة )) ، تأخذ كلها ، بفضلها (أي فلسفة العلم) كل معناها . و قد بيّن راسل نفسه بأنه كان لديه وعي واضح بذلك . و قال مذكرا بأن (( المركزية ـ البشرية )) قد إنتهت مع كوبرنيك . و بغية تصحيح (( قساوة )) العلم و إعادة الإعتبار إليه ، فإنه كان من الضروري اللجوء إلى الميتافيزيقيا و إلى المثالية .


إن التحليل الذي أعطاه نيتشه للعدمية كان إذن ليس فقط جديا و إنما صعب الإلغاء بواسطة بضع ثرثرات ـ و بالنسبة للرجل الحديث الذي لا يريد أن يكون مخدوعا ، فإنه ليس فقط لم يعد هناك من دين ، و من ما وراء (ميتافيزيقيا) ، و إنما أيضا لم يعد ممكنا أن يوجد (( تاريخانية ، كعقيدة إيمان في وجهة التاريخ )) . بما أن (( التاريخانية )) (كما لاحظ لوويث) (( تمثل دين (( الرجال المتعلمين )) الذين تكون شكوكيتهم ضعيفة للغاية لكي يكون بإمكانهم العيش بمعزل عن أية عقيدة إيمان كانت )) . أما النقطة التي لا يعود بالإمكان متابعة نيتشه بعدها ، و حيث ينغلق هو في تناقض واضح ، فهي في اقتراحه الأسطوري (و هنا أيضا عقيدة إيمان أخرى) و اللا عقلاني ((( الرجوع الأبدي )) ، (( إرادة القوة )) الخ ..) الذي حاول من خلاله الخروج من المأزق أو الطريق المسدود .


إن إعتبارات من هذا النوع تقلق اليوم العديد من الشبان . إنهم لا يتحملون الإنتقادات ضد (( اللا عقلانية )) . و لكي يكونوا أكثر إطمئنانا في قراراتهم فإنهم يذهبون حتى إلى حد نفي وجودها (أي : اللا عقلانية) . و مع ذلك ، فأن يكون قد نقص نيتشه (( صرامة و دقة المفهوم ، و هدوء التأملات التاريخية )) و أن تكون (( ميتافيزيقيا نيتشه قد سارت بالرغم من الفكر ، بإستنادها إلى الحياة )) ، فإن هايدجر هو نفسه يقوم بالإشارة إلى ذلك : و نحن نعرف ماذا فعل هايدجر بالمنطق ، و على الأخص (( بصرامة و دقة المفهوم )) ! .


و فيما بعد فإن الموضوعة النيتشوية عن العدمية قد دخلت (و لو مع بعض التغييرات الظاهرة) في فلسفة هايدجر . و هي تسيطر على كل تحليله عن العالم الحديث . و العدمية عند هايدجر هي (( نسيان الكائن )) ، و هي تحدث حين يقوم الانسان ، و بدلا من الإلتفات نحو الكائن ، بإهماله ، للإهتمام (( بالكينونة )) ، أي بالأشياء و الموضوعات . و بالفعل ، فإن هايدجر يتساءل : (( أين تفعل العدمية الحقيقية ؟ )) و هو يجيب (( حيث نظل مرتبطين بالكينونة العادية ، حيث فكر أنه يكفي أخذ الكينونة بالإعتبار ، و هو ما تم حتى اليوم ، أي ككينونة نقية و بسيطة ، و هذا كل شيء )) . (( العدمية هي أن نهتم فقط و حصرا بالكينونة مع إهمال الكائن )) ... و أيضا (( إن جوهر العدمية ... هو التخلي عن الكائن ، و ذلك في نطاق أنه في حالة تخلي كهذه ، يحصل أن يترك الكائن نفسه تسير في مجرى (( الصنع )) و ما هو آلي .. إن موقف (( ترك الأمور تجري في أعنتها )) هذا يستعبد الانسان بطريقة مطلقة غير مشروطة )) .


هذا الاستشهاد الأخير الذي نقلناه عن هايدجر ، مع فصاحته و براءته ، يسمح لنا بإبداء ملاحظة ، من بضعة أسطر . أن (( الآلي )) ، هو الصناعة الحديثة . و المعرفة الكامنة خلفها ، هي العلم ، الذي يفكر ـ يعي (منذ زمن أرسطو) الموضوع المحدد ، بدل العدم أو الكائن . و أخيرا فإن العلم و الصناعة ينتجان استعباد الرجل غير المشروط .


لقد أُغلقت الدائرة . و ها نحن نعود إلى نقد (( المجتمع الصناعي )) و هو النقد الذي كان نقطة إنطلاقنا . و كل شيء كان بمعنى من المعاني كما في السابق . أما الآن ، في هذه اللحظة ، فإنه كان يوجد هواء أقل في شراع السفينة . ففي مرحلة إنطلاق و سير سفينة البشرية إلى الأمام ، كان يبدو أن عليها أن تتقدم نحو المستقبل و على رأسها ماركوز .


أما الآن و قد توقفت السفينة في الهدوء المسطّح و المؤقت لتلك (( الهدنة )) المشحونة بالتوتر ، فإنه و خلف رأس التلميذ ، يطفو رأس هايدجر الذي كان هو أستاذه أصلا .


من البداية إلى النهاية ، بدا أن هناك موضوعة واحدة اخترقت كل هذا التحليل حول الايديولوجيا : نقد المجتمع الصناعي ، و هو نقد مستوحى من الرفض الكبير ، و في النتيجة عاجز عن اقتراح بدائل معقولة . إن هذا النقد و قد خيض بداية بإسم الماركسية جرى تعديلها وفق مفتاح طوباوي و أخروي ، يبدو الآن مدعوما و مسندا بالفكر اللاهوتي لهايدجر الذي يُعتبر (على حد اعتراف الجميع) هو نفسه (( علم أخرويات تاريخي )) .. لقد انتقلنا إذن من أخرويات إلى أخرويات ..


أن هذه الواقعة البسيطة قد تكون كافية لإثبات إننا لم نخرج بعد من الأزمة ، إن المشكلات الخطيرة للمجتمع الصناعي الحديث تستمر عندنا في أن تكون متفكّرة ، و خصوصا معاشة ، على ضوء ثقافة هي أساسا قديمة و غريبة عن العالم الذي عليها مواجهته . إن التشاؤم لن يكون سيد الموقف ، إضافة إلى أنه لن يفيد في شيء . و رغم ذلك فإنه من الواجب الإعتراف بأن علامات ظهور ثقافة عقلانية جديدة ، ثقافة عصر ما بعد الايديولوجيا ، لم تظهر بعد في إيطاليا .