غربة الحق: المانفستو الشيوعي في طبعة جديدة


مجدي الجزولي
2006 / 1 / 26 - 10:10     

كتب الصديقان ماركس وانجلز بيانهما المعنون "المانفستو الشيوعي" أواخر عام 1847 ونُشرت طبعته الأولى في فبراير 1848. في السنة الماضية، وبعد 157 عام من ذلك التاريخ صدرت طبعة جديدة للمانفستو بعنوان "المانفستو الشيوعي: خارطة طريق لأهم وثيقة سياسية في التاريخ"، عن دار هيماركت للكتب في 224 صفحة، تحرير البروفسور فيل قاسبر، أستاذ الفلسفة بجامعة نوتر دام دو نامور، نورث كارولينا. لتقدير الجهد الذي بذله الأستاذ المحرر، تجدر الإشارة إلى أن متن المانفستو يتكون من 45 صفحة، حيث أضاف عليها مقدمة وشروح وتعريفات وتعليق ملحق بخصوص مغزاه الحاضر. حري بالذكر أن المانفستو قد أعيد طبعه مراراً وتكراراً وترجم إلى غالب لغات الأرض المكتوبة، بل يحسبه البعض ثاني أكثر الكتب مبيعاً في التاريخ (روش، 2006).

لنشوء المانفستو قصة تعود إلى تاريخ الحركة العمالية في أوروبا، قبل مساهمات ماركس وانجلز النظرية والسياسية. في العام 1834 أسس لاجئون ألمان في باريس "عصبة الخوارج" (جمهورية برلمانية)، عن هذه انقسمت العناصر الأكثر جذرية وبروليتارية في العام 1836 تحت إسم "عصبة العدالة". هذه الأخيرة مثلت الفرع الألماني لحركة العمال الفرنسيين الشيوعية، وعندما نهض هؤلاء للثورة في 12 مايو 1839 اشترك الفرع الألماني معهم في تحمل تبعات الهزيمة. كان بين المعتقلين الذين سُجنوا ثو أبعدوا من باريس كارل شابر (طالب غابات في جامعة غيسن الألمانية) وهاينريش باور (صانع أحذية). التقى الإثنان مرة أخرى في لندن لينضم إليهما جوزيف مول (صانع ساعات من مدينة كولون الألمانية). تمتعت هذه الجماعة الصغيرة في لندن بحرية التنظيم والتعبير مما ساعد على انتشار أفكارها بين العمال في بلدان أوروبية عديدة، فقامت بتأسيس "رابطة العمال الألمان التعليمية" كقاعدة لتجنيد العضوية الجديدة في العصبة. من ناحية أخرى ساعدت سياسة الإبعاد التي إتبعتها حكومات عديدة في أوروبا تجاه العمال الثوريين في توسيع العصبة حيث أصبح كل مبعد بمثابة رسول للقضية في ديار غربته (انجلز، 1885). كان الخياطون المركز المحرك للعصبة، إذ انتشر الخياطون الألمان في كافة أنحاء اوروبا. تدريجياً أخذت العصبة طابعاً دولياً لتضم بجانب عضويتها السويسرية والألمانية رفاق من الدول الاسكندنافية وهولندا والتشيك وبولندا بجانب السلاف والروس. الخطاب السياسي للعصبة العمالية ظل حتى ذلك الحين شبه خال من المنطلقات الاقتصادية، على حد تأكيد انجلز "في حدود علمي، لم يقرأ أحدهم كتاباً واحداً في الاقتصاد السياسي". في "الحوليات الألمانية الفرنسية" توصل ماركس إلى حقيقة أن الدولة ليست هي التي تشرط نشاط المجتمع، بل العكس، أي أن الدولة مشروطة بحالة الاجتماع وأن التاريخ والسياسة تشرحهما العلاقات الاقتصادية وليس العكس. حتى ذلك الحين لعبت العلاقات الاقتصادية دوراً وضيعاً في كتابة التاريخ، لكنها، في المجتمع الحديث على الأقل، تمثل قوة تاريخية حاسمة بل تكون أساس التناقضات الطبقية الحاضرة (االمصدر السابق). مصممين على تثوير الحركة العمالية انغمس الإثنان ماركس وانجلز في النشاط السياسي للبروليتاريا، فأسسا معاً جمعية للعمال الألمان في بروكسل، وساهما بالكتابة في عدة صحف ونشرات عمالية عبر القارة.

في ربيع 1847 قام جوزيف مول، مبعوث عصبة العدالة وأحد مؤسسيها، بزيارة كارل ماركس في بروكسل، ثم فردريك انجلز في باريس، داعياً إياهما إلى الانضمام للعصبة، ومؤكداً أن رفاقه على استعداد لقبول وجهة نظرهما النقدية بخصوص الشيوعية، وأكثر من ذلك السماح لهما بطرح رؤيتهما على مؤتمر للعصبة لتحقيق الانعتاق من تقاليد وسياسات "التآمر السري" البالية. عليه أسس ماركس جمعية للعصبة في بروكسل ضمت أصدقائه المقربين، بينما إنضم انجلز إلى جمعياتها الباريسية. في صيف 1847 انعقد المؤتمر الأول للعصبة في لندن، في غياب ماركس الذي تعذر عليه الحضور لأسباب مالية. في هذا المؤتمر تمت إعادة تنظيم الجماعة لتتكون من جمعيات قاعدية، ثم دوائر أوسع، ودوائر قائدة، ثم لجنة مركزية ومؤتمر عام، كما تم تغيير إسمها إلى "العصبة الشيوعية". جاء في البند الأول لنظام الحركة الجديدة: "إن هدف العصبة هو الإطاحة بالبرجوازية وتحقيق حكم البروليتاريا؛ القضاء على المجتمع البرجوازي القديم القائم على التناحر الطبقي، وتأسيس مجتمع جديد تنعدم فيه الطبقات وتزول الملكية الخاصة". المؤتمر الثاني للعصبة انعقد في نوفمبر وديسمبر من نفس العام، وشهد مشاركة كارل ماركس. في هذا المؤتمر تم تفويض ماركس وانجلز بكتابة وثيقة تأسيسية سماها الإثنان "المانفستو الشيوعي".

الواقع أن المانفستو ظل يحتفظ بنفاذ بصيرة تجعله حتى اليوم ملهماً لأجيال متلاحقة من الذين تؤرق مضجعهم وحشية الرأسمالية، وهو مكتوب بلغة سياسية في المقام الأول وليس كتاباً عصياً على الإفهام في الإقتصاد السياسي كسفر صاحبه الأكبر "رأس المال"، وبالتالي فهو سهل القراءة والهضم يخاطب في فقرات عديدة الوجدان السليم لأي كان، وليس بالضرورة العقل التحليلي للنقاد النقديين. جاء فيه: "البرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبّعت الإنتاج والاستهلاك في جميع البلدان بطابع كوني وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. فالصناعات القومية الهرمة دُمّرت و تدمَّر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة، أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الإكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والإنعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم (..) والبرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، تشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفاً إلى الحضارة. الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وتُرغم البرابرة الأكثر حقداً وتعنتاً تجاه الأجانب على الإستسلام، وتجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبّل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. بكلمة، هي تخلق عالماً على صورتها." لعل في قول ماركس وصفاً صلباً ومتماسكاً لما نعرف اليوم بإسم العولمة، وقد كان هذا الذكي لا يرى منها إلا ما شهد في رأسمالية بريطانيا الفكتورية، وهي بعد في أول مهدها. المسار التاريخي البرجوازي فعلاً قضى على كل منافسيه وجعل من الأرض سوقاً عظيماً. بل في قوله ما بشير إلى المعارضة المشحونة بالاعتبارات الثقافية والعرقية ضد هذا التمدد الواثق والمسلح، بما في ذلك الإسلام السياسي، فهو كقرينيه المسيحية الانجيلية والهندوسية المسيسة ظاهرة حديثة في الأساس، ويمثل في أحد أبعاده ترياقاً تأخذ به العمالة الفقيرة لتهدئة آلام الاضطهاد الطبقي و"مكاجرة" الامبريالية. في هذا السياق أجاد الإسلاميون في دول عديدة حرفة المطبب المصلح، فتعلموا مهارات التنظيم وتعبئة المجتمعات، وشيدوا المدارس والعيادات ومراكز التشغيل، كما طالبوا بالتبرعات لصالح الفقراء وأقاموا مؤسسات موازية لتوفير الدعم الاجتماعي والمعنوي والمادي لضحايا زحف الليبرالية الجديدة عديم الشفقة (لوبيك، 1999). معارضة الإسلاميين للنظام وصلت قمتها المشهدية في 11 سبتمبر تغذيها فوضوية الرأسمالية الإرهابية نفسها. فالمدن المكتظة بالسكان والمظالم تشكل مسرح الفعل وخلفية النجاعة للإسلام المسلح، في الدول الإسلامية العشر الأكثر سكاناً نصف السكان حضريون ومعظمهم من الشباب دون سن 35. في القاهرة وعمان وكانو وكوالا لامبور وفاس وغيرها من المدن الكبرى ينشأ مجال عام حول ردة فعل الإسلاميين على الحياة الحضرية المتنامية، لكنه ليس، كحالة أميركا الجنوبية، بأي معنى سياسي تبسيطي، الصوت المعبر عن عالم أحياء الصفيح غير الخاضع. في المغرب مثلاً، معظم التكفيريين والانتحاريين من البروليتاريا المتفسخة التي تعيش خارج مجتمعاتها، على حدود الكفاف في نواحي المدن، لكن غالب "المنظرين" من الطبقات المهنية (بلالة، 2004). أما كسب الإسلاميين فلم يخرج عن ثنايا النظام الذي زعموا محاربته، إذ غاب عن حدسهم أصل ظلمه، رغم أن جذوراً أولى لرؤاهم نهلت من معين العدالة الاجتماعية واندغمت في المعارضة الشعبية للاضطهاد الامبريالي، مثال ذلك ما سجله فرانتز فانون عن فعالية مفاهيم المساواتية والعدل والإحسان المستقاة من التراث الإسلامي المحلي في التعبئة الجماهيرية للثورة الجزائرية. من جانب آخر كفر الإسلام السياسي في إخراجه "المعتدل" بنصرة المستضعفين وأخذ برأسمالية ليست أقل بأساً من التي نوى معاداتها في حين ثوريته الخجولة، والدليل قائم في بلد كتركيا مثلاً حيث يحكم حزب إسلامي معتدل لا تختلف سياساته الاقتصادية والخارجية عن أحزاب الإتجاه السائد في أوروبا، بل يتفوق التزامه بحلف الامبريالية على دعواه الآيديولوجية الشعبوية، إذ جعل أراضي تركيا قاعدة انطلاق للحرب الأميركية على العراق في وجه معارضة شعبية وبرلمانية عارمة. كان قدر التاريخ في بلادنا أن نخبر الإسلاميين في الحكم أيضاً، فبادروا أول ما بادروا بانتزاع حقوق شعبية اصبحت تقاليد للدولة والإجتماع في السودان بعد مثابرة طويلة، كمسؤولية الدولة عن دفع مرتبات العاملين لديها، ومسؤوليتها عن علاج وتعليم مواطنيها. ثم زادوا فاستأصلوا الملكية العامة من جذورها مندرجين بالكلية في الليبرالية الجديدة، وذلك ببطش لم يعرفه السودانيون ربما إلا في التركية السابقة، وما تجرأ عليه ديكتاتوريو البلاد "العلمانيون". واقع الأمر أن رسالية الإسلاميين السودانيين انتهت إلى تقسيم اجتماعي حاد، لا تجمعه صلة لا بالإسلام أو بغيره من مكارم الأخلاق، لكن تجمعه صلات برأس المال وبالاستغلال الطبقي. لا عجب إذن أن ازدهرت تحت حكمهم تيارات للإسلام المسلح في أطراف مدن البلاد تحتج بمضمون أخلاقي ديني على فعل الرأسمالية الذي أشار إليه ماركس في المانفستو بقوله: "البرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون، التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين، ولم تُبق على أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة، والإلزام القاسي بـ "الدفع نقدا". وأغرقت الرعشة القدسية للورع الديني، والحماسة الفروسية، وعاطفة البرجوازية الصغيرة، في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة، وحوّلت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية، وأحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها، محل الحريات المُثبَتة والمكتسبَة التي لا تحصى. بكلمة أحلّت استغلالاً مباحاً وقحاً مباشراً وشرسا، محل الإستغلال المُغلّف بأوهام دينية. فالبرجوازية جرّدت كل الفعاليات، التي كان يُنظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة والخشوع، من هالتها. فحوّلت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر والعالم، إلى أجراء في خدمتها. البرجوازية نزعت حجاب العاطفية عن العلاقات العائلية و قَصَرتها (العلاقات) على علاقات مالية بحتة." بشأن الملاحظة الأخيرة يكفي المراقب أن ينظر إلى إعلانات المحاكم في الصحف السيارة التي تطالب أزواجاً فارين من أسرهم بالحضور لمواجهة دعاوى طلاق بسبب "الغيبة".

وصف ماركس البرجوازية في بيانه بأنها في "حاجة دائمة لتصريف منتجاتها، بشكل متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية، فلا بد لها أن تعشعش في كل مكان، وتنغرز في كل مكان، وتقيم علاقات في كل مكان"، وأفاض في شرح ظلمها. ثم عين التناقض الكامن بين رأس المال والعمل، ليبين أن رأس المال فاعلية اجتماعية ونشاط جماعي لا يتسنى إلا بالحركة المشتركة لكافة أفراد المجتمع، وليس فاعلية شخصية، وبالتالي رأس المال هو في الحقيقة ملكية مشتركة. ثم كتب أن ما يميز الشيوعية، ليس القضاء على الملكية بشكل عام، بل إلغاء الملكية البرجوازية، ورد على منتقديه بالقول التالي: "لقد أصبتم بالذعر لأننا نريد إلغاء الملكية الخاصة، لكن الملكية الخاصة في مجتمعكم الراهن ملغاة بالنسبة إلى تسعة أعشار أعضائه. إنها موجودة بين القلة بالضبط لأنها غير موجودة بالنسبة للأعشار التسعة. أنتم إذن تلوموننا لأننا نريد إلغاء ملكية تفرض، كشرط ضروري لوجودها، انعدام الملكية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المجتمع. بكلمة، إنكم تتهموننا بأننا نريد إلغاء ملكيتكم، وهذا بالتأكيد ما نريده! (..) الشيوعية لا تجرد أحداً من القدرة على تملك منتجات مجتمعية، بل تنتزع فقط القدرة على استعباد عمل الغير بواسطة هذا التملك."

تباعد الشقة بين من يملكون ومن لا يملكون، والتناقض الكامن بين العمل ورأس المال، وإجحاف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بجانب تدمير الإنتاج الرأسمالي للبيئة الطبيعية بدافع الربح، كلها قضايا ما تزال حية وحاضرة، لم تزول لأن الإتحاد السوفييتي سقط صريعاً، أو لأن الامبريالية بات إسمها العولمة. هاكم دليلاً عارضاً من جنة الرأسمالية الأميركية، في العام 1998 كان أغنى 10% من سكان الولايات المتحدة يمتلكون أكثر من 85% من الأصول والاعتمادات المالية، و84% من الضمانات النقدية، و91% من الودائع البنكية، و92% من الأسهم في القطاع الخاص (قاسبر، 2005). على صعيد العالم يملك أقل من 500 فرد أكثر من مجموع الدخل لما يزيد على نصف سكان الأرض (ديفيس، 2005). تقدر منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة أن واحد من كل ثمانية أفراد حول العالم، ما يساوي 840 مليون شخص، لا يجد الحد القياسي لسد الرمق في اليوم؛ وأن 2 بليون فرد (واحد من كل ثلاثة) يعانون من الأنيميا (فقر الدم)، بينما ينتج العالم ما يكفي من الغذاء لحصول كل ساكن له على 2800 من السعرات الحرارية في اليوم، أي ما يفوق بنسبة 20% الحد الأدنى القياسي الذي وضعته المنظمة. بالإضافة إلى ذلك تستطيع الأرض الصالحة للزراعة في عالمنا، حال تم استغلالها بصورة منطقية، توفير ما يكفي لإطعام أكثر من 40 بليون شخص، أي ستة أضعاف عدد سكان الكوكب في الوقت الحالي. بحسب مكتب الإحصاء المركزي الأميركي يعتبر واحد من كل عشرة بيوت في الولايات المتحدة غير آمن غذائياً، أي ما يقارب 33 مليون فرد. في نفس الوقت كانت كلفة المجهود الحربي الأميركي في 2003 تزيد على 400 بليون دولار، أي أكثر من خمسة أضعاف مبلغ 80 بليون دولار في العام اللازم لسد النقص في الغذاء، والسكن، والماء الصالح للشرب، والتعليم الأولي، والرعاية الصحية الأولية حول العالم وذلك بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. على مستوى آخر تقدر "الرابطة الأميريكية لتقدم العلوم" أن 78% من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يعيشون في بلاد تنتج ما يكفي لإطعام سكانها. في بنغلاديش مثلاً، وهي بلد ارتبط اسمها بالجوع منذ أزمة الغذاء في السبعينات، تقول الإحصاءات أن المحصول السنوي للأرز يكفي لتوفير رطل لكل فرد يومياً، أي 2000 سعر حراري من الأرز فقط، لكن في الواقع لا يستطيع الثلث الأفقر من السكان الحصول على أكثر من 1500 سعر حراري يومياً بسبب فقرهم (مآس، 2003). هذا هو المصير الذي تقودنا إليه الرأسمالية، قديمة وجديدة، ولا يمكن تحت شروطها تصور استقرار أو سلام اجتماعي ناهيك عن عدالة اجتماعية في بلاد تعج بالمظالم ويسيل الدم قرباناً لمواردها. سيطرة الرأسمالية على حد قول ماركس "بزغ فجرها الدموي باكتشاف الذهب والفضة في أميركا، واقتلاع واستعباد ثم قبر السكان المحليين، ونهب الهند الشرقية واخضاعها، وتحويل افريقيا إلى مطردة لصيد ذوي البشرة السوداء تجارياً (..) إن النفاق الفج والبربرية الكامنة في الحضارة البرجوازية قد انكشفت أمام أعيننا، في الديار تأخذ اشكالاً أكثر تهذيباً، لكنها تبدي سوءتها عارية في المستعمرات". على أية حال، لأنصار ماركس ولمعارضيه، المانفستو حري بالقراءة مرة أخرى، وكما قال أديبنا الطيب صالح النقد الهادف لا يكون إلا ببعض محبة.