لينين وتروتسكي ,ما هي مواقفهما الحقيقية؟

آالن وودز,تيد غرانت
2017 / 4 / 24 - 00:27     

إشارة من الكاتبين
العمل الحالي هو رد على المقال الذي نشره مونتي جونستون عن تروتسكي في مجلة رابطة الشباب الشيوعي الكوجيطو
(Cogito((العدد 5 .)لقد أثار ذلك المقال سلسلة كاملة من المسائل التاريخية وااليديولوجية التي تعتبر ذات أهمية جوهرية لكل
عضو نشط في الحركة العمالية اليوم. إن قضايا مثل نظرية الثورة الدائمة وتاريخ الحزب البلشفي ال يمكن نقاشها في بضعة
أسطر. إن تقليصها إلى نقاش في بضع فقرات سيؤدي حتما إلى السقوط في األخطاء والتحريفات. ومن تم فليس لدينا أي حاجة
إلى االعتذار عن طول هذه الوثيقة.
لقد حاولنا التعامل مع القضايا النظرية الرئيسية التي أثيرت في مقال الكوجيطو. لذلك كان من الضروري علينا اتباع الحجج بنفس
التسلسل الذي تظهر فيه في ذلك المقال، على الرغم من انه يمر في كثير من األحيان عبر كل من التسلسل المنطقي والمسائل
النظرية المعنية بالنقاش والسياق التاريخي الذي نشأت فيه. ومن تم صار من الحتمي السقوط في كم من التكرار، على الرغم من أنه
تم التعامل، بصفة عامة، مع تلك القضايا التي تتكرر بطريقة مختلفة في مختلف الفصول. وهكذا، تظهر جوانب مختلفة لنظرية الثورة
الدائمة في الفصل المخصص لتاريخ البلشفية، وفي فصل "االشتراكية في بلد واحد"، إضافة إلى الفصل المخصص لها. في هذه
المسألة وغيرها تمت التضحية بجمالية األسلوب توخيا للوضوح السياسي.
نفس الشيء يقال فيما يتعلق باالقتباسات. لقد تجنبنا اقتباس عبارات معزولة، يمكن بسهولة التالعب بها وتشويهها. و بالتالي فإن
معظم االقتباسات نقلت بالكامل من أجل أن نوصل بدقة المعنى المقصود بها من قبل مؤلفيها. هذا ال يجعل القراءة سهلة، لكنه
ضمانة ضرورية ضد التزوير.
النية المعلنة لمونتي جونستون هي صياغة مؤلف عن تروتسكي في ثالثة أجزاء. وقد ظهر بالفعل الجزء األول الذي يناقش "أفكار
تروتسكي". لكن الجزء الثاني: "تروتسكي والحركة العمالية األممية"، والثالث: "السياسات التروتسكية اليوم ، لم يريا النور بعد. نحن
من جانبنا نرحب بهذا التحدي ونحن مستعدون تماما للرد على حجج الرفيق جونستون نقطة نقطة، وبالتالي فإننا نمتنع هنا عن
استباق كتابات الرفيق جونستون المستقبلية من خالل االشارة مثال إلى الثورة الصينية أو الجبهة الشعبية. لقد تطرقنا إلى هذه المسائل
فقط كأمثلة وا هذه المسائل بطريقة شا ارت توضيحية للمسائل المطروحة على طاولة المناقشة. وسنقوم في مؤلف الحق بنقاش كل
مفصلة.
يحتوي العمل الحالي على قدر كبير من كتابات لينين. لقد أدرجنا مقتطفات من العديد من األعمال الغير مألوفة بالنسبة لمعظم
أعضاء رابطة الشباب الشيوعي والحركة العمالية عموما، نظرا لصعوبة او استحالة الحصول عليها. جميع االقتباسات من لينين تأتي،
ما لم تتم االشارة إلى خالف ذلك، من األعمال الكاملة باالنجليزية في 24 مجلدا، والتي اكتمل صدورها مؤخرا. لكن من الضروري
أن نشير، مع ذلك، إلى أن هذه الطبعة نفسها بعيدة عن االكتمال. الطبعة الروسية لألعمال الكاملة تبلغ 42 مجلدا، وتحتوي على
مادة أكثر، بما في ذلك سلسلة كاملة من الرسائل الهامة الموجهة إلى تروتسكي، والتي كتبت قبل وقت قصير من وفاة لينين، والتي
تم استبعادها من النسخة اإلنكليزية. وكتكملة لهذا العمل، سنصدر كتيبا آخر، هو قيد اإلعداد، سوف يجعل هذه المادة، وغيرها ذات
الصلة، متاحة للقارئ باللغة اإلنجليز ية.
3
الفصل األول: المقدمة
»لقد تأجل طويال النقاش الشامل بين الماركسيين حول المواقف السياسية لكل من ستالين وتروتسكي واألدوار التي لعبها كل منهما.
مثل هذا النقاش الذي سيتضمن تقييما للسياسات واألحداث الرئيسية في الحركة العمالية الروسية والدولية على مدى أربعة عقود،
سوف يكون صعبا ومعقدا، لكنه مفيد بشكل هائل«. )Cogito ،صفحة 4)
هذا هو الوعد الذي يقدمه مونتي جونستون لقراء مجلة رابطة الشباب الشيوعي، Cogito .وهو الوعد الذي سيكون موضع ترحيب
من قبل جميع األعضاء النزيهين في رابطة الشباب الشيوعي والحزب الشيوعي، والذين ال بد أن يتسائل الكثير منهم أيضا عن السبب
وراء "تأجيل" إجراء هذه المناقشة الهامة منذ فترة طويلة، وهو التأجيل الذي استمر على وجه الدقة ألكثر من أربع عقود من الزمن.
حتى وقت قريب كان من غير الممكن أن نتصور إثارة النقاش داخل رابطة الشباب الشيوعي والحزب الشيوعي بشأن التروتسكية.
لمدة أربعين عاما كانت قراءة أعمال تروتسكي محضورة على غالبية أعضاء الحزب الشيوعي، الذين ووجهت شكوكهم وتساؤالتهم من
قبل القادة بحملة متواصلة من "الفضح" المعادي للتروتسكية، المستند على أساس قراءة مشوهة لتاريخ البلشفية والثورة الروسية. كانت
آخر محاولة للتعامل مع مسألة التروتسكية علنا هي مقال بيتي ريد]1 ]في جريدة Todayy Marxism( الماركسية اليوم( قبل أربع
سنوات فقط، والذي، من بين عجائبه، تأكيده على أن محاكمات موسكو هي مجرد شأن للبحث التاريخي السوفياتي! ال يمكن لمثل
هذه الكتابات أن تلبي حاجيات الشيوعيين الذين يطالبون بحسابات وتحاليل صادقة للقضايا المعنية بالنقاش. ألولئك الرفاق، يمكننا
أن نقول، جنبا إلى جنب مع الرفيق جونستون، ما يلي:
»نأمل... أال يكتفوا فقط بتعلم ترديد التاريخ االنتقائي للغاية للحركة العمالية األممية والتقييم األحادي الجانب للشيوعية الذي يقدم
في صحفهم وفصول الدراسة«. )Cogito ،صفحة 3)
يمكننا مع الرفيق جونستون أن نقتبس كلمات لينين لرابطة الشيوعيين الشباب الروسية حول أنه من الضروري التعامل مع »مجموع
المعارف اإلنسانية... بطريقة ال تصير الشيوعية معها شيئا يحفظ عن ظهر قلب، بل شيئا تكونون أنتم أنفسكم قد فكرتم فيه، وأنه
يجب أن تكون نتيجة حتمية لوجهة نظر التربية الحديثة«.
إن النقاش يفترض وجود طرفين. والرفيق جونستون يدعو خصومه للرد على حججه. سوف نرى إلى أي مدى سيكون هو وقيادة
الحزب الشيوعي ورابطة الشباب الشيوعي مستعدين للسماح لـ"نقاش شامل" بالمضي قدما عندما ستطرح فعال األسئلة النظرية األساسية
أمام أنظار قواعد هذه المنظمات.
يبدو أن مقاربة مونتي جونستون لهذا الموضوع معقولة وموضوعية بشكل كبير. لقد بذل مجهودا كبيرا للتأكيد على انه يقف في
الوسط:
»من شأن هذا العمل أن يكون عقيما تماما إذا ما تم القيام به انطالقا من المواقع القديمة القائمة على الوالء الثابت لستالين أو
لتروتسكي. ليس مطلو با تبني المنطق التبريري وال المنطق التجريمي بل المطلوب هو األسلوب الماركسي القائم على النقد والنقد
الذاتي في ضوء التجربة التاريخية للوصول إلى تقييم متوازن«. )Cogito ،صفحة 4.)
هذا هو أساس موضوعية جونستون النبيلة. انه يعدنا بعدم "الوالء الثابت" للموقف الستاليني "القديم"، وبالتالي لماذا يستمر خصومه
في الدفاع عن أفكار تروتسكي؟ هذا منطق حجة جونستون التي ال تشوبها شائبة: ال أحد يتبنى "الموقف القديم" لدوهرينغ هذه األيام،
وبالتالي لماذا االستمرار في تبني أفكار إنجلز؟ ال أحد يتصور أن هللا قد خلق العالم في سبعة أيام، وبالتالي لماذا الدفاع األحادي
الجانب عن اينشتاين وداروين؟
4
في الواقع لقد طرح جونستون المسألة بطريقة مخالفة تماما للماركسية. المسألة ليست ما إذا كنا "نلتزم بثبات" بالوالء لتروتسكي أو
ستالين أو أي فرد. إن المسألة هي ما إذا كنا ما نزال ندافع عن األفكار األساسية للماركسية نفسها، أي األفكار التي تم التوصل إليها
علميا، والتي تم إغناءها في ضوء التجربة التاريخية، لكن التي ما تزال، من حيث الجوهر، هي نفسها اليوم كما كانت عليه في زمن
تروتسكي ولينين، أو ماركس وا والتي تكمن وراء كل الحجج التي نجلز. القضية األساسية التي يسعى الرفيق جونستون إلى تجنبها،
يتعامل معها، هي بالضبط ما إذا كان "الموقف القديم" للماركسية ما يزال صحيحا بخصوص المسائل األساسية مثل األممية، ودور
الطبقة العاملة في النضال من أجل االشتراكية وطبيعة المجتمع االشتراكي، وما إلى ذلك. لقد دافع جميع الماركسيين العظام عن هذه
األفكار األساسية ضد محاوالت االنتهازيين، المتنكرين في زي "اشتراكيين" و"شيوعيين"، لثلم نصلها وتحريفها، وتحويلها إلى أفكار
إصالحية مدجنة. تحت ستار "الحداثة" و"العلمية" و"الموضوعية"، يحاول مونتي جونستون عزل هذه األفكار بوصفها بـ "التروتسكية"،
وهو الشيء الغريب عن التقاليد والمفاهيم الماركسية، وبذلك يعود إلى "الموقف القديم" لبرنشتاين وكاوتسكي والمناشفة.
إن مزاعم مونتي جونستون بتبني األسلوب الماركسي ال تساوي شيئا، ألن هذا األسلوب يعتمد، أوال وقبل كل شيء، على األمانة
والصدق التام عند التعامل مع كتابات المعارضين أثناء الجدال السياسي. يمكن أن نرى االقتباسات المضنية الشديدة الدقة في كل
نجلز ولينين وتروتسكي الجدالية. لم يكن هؤالء الماركسيون العظام يلجئون إلى استخدام االقتباس المشوه واالفت ارءات
أعمال ماركس وا
ألن الجدال السياسي بالنسبة لهم يعتبروسيلة لتوضيح المسائل األيديولوجية األساسية المعنية بالنقاش ورفع المستوى السياسي
لألعضاء، وليس تسجيل نقاط تافهة. لم يكونوا ينحدرون إلى مستوى اإلساءة الشخصية كبديل عن البراهين، لكن في نفس الوقت لم
يكن أي منهم يمتنع عن وصف الوغد بكونه وغدا، في محاولة إللقاء هالة من "الحياد" األستاذي الخادع على كتاباتهم.
في الصفحة الثالثة من مقالته كتب مونتي جونستون ما يلي:
»هذه القضية قضية سياسية. وبالتالي فإن اإلساءة والتلميحات الشخصية ال تظهر فيه.« )التشديد من عندنا(
هذا صحيح، حيث ال نجد أي أثر للقذارة القديمة التي كانت تردد طيلة عقود من قبل زمالء جونستون عن "التروتسكيين الفاشيين"
و"المنحطين السياسيين" و"عمالء هتلر" وما إلى ذلك. لكن دعونا نتذوق عينات قليلة من هذه الموضوعية الجليلة:
"مؤلفات تروتسكي الجدالية المكتوبة بشكل رائع لكن المنحرفة للغاية"، "الخطابة والتهور اللفظي والتحليق في سماء الو هم ]بدل[
التفحص الهادئ لموقف معارضيه..."، "يتصرف بطريقة أبوية..."،"يلقي بالشتائم من الهامش..."، "المنطق المعقول ظاهريا..."،
"التمني واالفتتان بالجملة الثورية..."، "التعميمات العاصفة والمبالغ فيها ]بدال من[ التحليل المتوازن..."، "فكر تروتسكي الدوغمائي..."،
الخ، الخ.
لقد أحرز الرفيق جونستون تقدما مقارنة بأيام التحاليل "الماركسية المتوازنة" لبالم دوت، وبوليت، وكامبل عن التروتسكية الفاشية.
تقدمه يتمثل في االستعاضة عن لغة المجاري بالشتائم والغمز في قاعة الندوات.
"عبادة الشخصية"
»إن المؤتمر العشرين، ومن خالل تحطيمه لنزعة تقديس ستالين، فتح الطريق لمثل هذه المقاربة داخل الحركة الشيوعية العالمية...
إن التقاليد العصبوية والمواقف القديمة والمقاومة البيروقراطية قد عطلت هذا االتجاه، لكن األمور بدأت تتغير في هذا الصدد داخل
صفوف العديد من األحزاب الشيوعية«. )Cogito ،صفحة 4.)
بهذه الكلمات القليلة، "يوضح" الرفيق جونستون انقالب قادة الحركة "الشيوعية" في العالم بخصوص الموقف من ستالين، وهو
الموقف الذي دافعوا عنه بحرارة لمدة ثالثين عاما، والذي كان هو الشرط الضروري واألساسي للتعبير عن اإليمان، والذي بواسطته
كان يمكن للمرء أن يميز المناضل الشيوعي عن "التروتسكي الفاشي". وبعد أن اعترف، في بضعة كلمات، بأن النقاش حول التطورات
5
الجوهرية في الحركة العمالية الروسية واألممية قد قمع طيلة عقود، أعلن بدون مباالة أن المؤتمر العشرين شكل نوعا من المفتاح
السحري الذي فتح جميع األبواب التي كانت مغلقة في وجه الوصول إلى المعرفة.
لكن مهال أيها الرفيق جونستون، ماذا عن "األسلوب الماركسي القائم على النقد والنقد الذاتي في ضوء التجربة التاريخية"؟ ماذا عن
كلمات لينين عن "مجموع المعارف للبشرية"، وعن التعلم بطريقة الحفظ عن ظهر قلب؟ لقد كشف المؤتمر العشرين للحركة "الشيوعية"
العالمية أنه طيلة ثالثين عاما، أي طيلة فترة تاريخية كاملة، كان جميع قادتها، ومنظريها الموثوق بهم، وصحفييها األكثر موهبة،
يتبنون ليس موقفا خاطئا فحسب، بل موقفا إجراميا من وجهة نظر الطبقة العاملة الروسية واألممية. هل تطلب من الشيوعيين القبول
بهذا دون احتجاج، وابتالعه بالكامل، وعدم طرح أي سؤال؟ لكن هذا بالتأكيد هو نقيض األسلوب الماركسي تماما. هذا بالتأكيد هو
بالضبط ما حذر لينين رابطة الشباب الشيوعي الروسية منه قبل خمسين عاما مضت.
السؤال األول الذي سيتبادر إلى ذهن أي شيوعي هو: لماذا؟ لماذا حدث ذلك؟ كيف أمكن لذلك أن يحدث؟ نحن ندرك أنه ال أحد
يتصف بالكمال، وأنه حتى أعظم الماركسيين يمكنهم أن يرتكبوا األخطاء... لكن أن ترتكبمثل هذه "األخطاء"، طيلة هذه المدة
الطويلة، فهذا شيء رهيب، ويحتاج تفسيرا. انه يتطلب تفسيرا.
لم يقدم مونتي جونستون أي تفسير. وبدال من ذلك، يشير لنا إلى نص خطاب خروتشوف عن ستالين في المؤتمر العشرين. لكن
ليس هناك جدوى من البحث عن طبعة موسكو. فالخطاب، الذي تم تداوله وراء األبواب المغلقة، لم ينشر في روسيا أبدا. وقد وجد
جونستون نفسه مجبرا على اقتباس نص تحفة الفكر الماركسي الحديث هذه من... صحيفة الغارديان مانشستر!
ما هو "تحليل" الستالينية الوارد في الوثائق الصادرة عن موسكو؟ إنها "النظرية" الشهيرة عن "عبادة الشخصية". يبدو، أن "الدولة
االشتراكية" كانت لفترة تاريخية كاملة تحت حكم دكتاتور بونابارتي، أرسل الماليين إلى األشغال الشاقة في سيبيريا، وقضى على
شعوب بأسرها، وأباد بالكامل القيادة البلشفية القديمة من خالل المحاكمات األكثر وحشية في التاريخ – كل هذا اعتمادا فقط على قوة
شخصيته. أي تزييف للماركسية ولطريقة التحليل الماركسي أبشع من هذا! أيها الرفيق جونستون إن أعضاء رابطة الشباب الشيوعي
والحزب الشيوعي ليسوا أطفاال يؤمنون بالقصص الخ ارفية، حتى وان كتبت هذه القصص الخيالية في الكرملين أو في كينغ ستريت.
من المستحيل بالنسبة للماركسي أن يطرح المسألة بهذه الطريقة. إن األسلوب الماركسي ال يفسر التاريخ على أساس العبقرية أو
الشر، ال يفسره باألهواء أو "الشخصية"، بل يفسره على أساس الطبقات االجتماعية ومصالحها وعالقاتها. من غير المعقول تماما،
أن يكون رجل واحد قادرا على فرض أفكاره على المجتمع بأسره. لقد سبق لماركس منذ زمن طويل أن أوضح أنه إذا تم طرح فكرة،
ولو خاطئة، والقت التأييد، وصارت قوة في حياة الناس، فال بد أنها تمثل مصالح شريحة من المجتمع. فإذا ما كان حديث جونستون
عن األسلوب الماركسي ليس مجرد خدعة لغوية، وتالعب باأللفاظ، فإننا نصر على أن يجيب على السؤال التالي: مصلحة من كان
ستالين يمثل؟ هل كان يمثل مصلحته الخاصة؟
قلنا إن كل شيوعي صادق سيرحب بفتح نقاش مستفيض حول مسألة الستالينية والتروتسكية. وفي هذا الصدد، نحن نرحب بمساهمة
الرفيق جونستون. لكن أي نوع من التحليل الماركسي هذا الذي يطنب في الكالم المنمق عن األسلوب الماركسي، بينما يتجنب أي
محاولة لتحليل السيرورات االجتماعية الجوهرية التي يمكنها وحدها أن تلقي الضوء على األفكار التي عبر عنها تروتسكي ولينين في
أوقات مختلفة؟ من دون توضيح هذه السيرورات التاريخية يصبح كل شيء تعسفيا تماما، ويتحول إلى مجرد سلسلة من االقتباسات
المعزولة عن السياق والممزقة من أعمال لينين وتروتسكي، والموضوعة في مواجهة بعضها البعض بشكل مصطنع من أجل "إثبات"
هذه النقطة أو تلك. بطبيعة الحال، أيها الرفيق جونستون، هذا هو جوهر "الطريقة الماركسية" التي استخدامها الستالينيون قبل عقود
لتبرير كل منعطف وتحول من خالل اقتباس الجملة المناسبة من لينين. ليس لمثل هذا األسلوب أية عالقة بالماركسية، لكنه يمتلك
الكثير من أوجه الشبه باألساليب العلمية للـ.. اليسوعيين.
6
هوامش:
]1 ]بينما هذا الكتيب في طريقه إلى المطبعة الحظنا أن السيدة ريد انشغلت مرة أخرى بـ "إغناء" الفكر الماركسي. إن احدث هجوم
لها على التروتسكية يتميز بشراسة أقل من هجومها األخير، لكنه يتفوق عليه في الجهل.
7
الفصل الثاني: من تاريخ البلشفية )الجزء األول(
»عندما يصور التروتسكيون تروتسكي باعتباره رفيق لينين في النضال والممثل الحقيقي لللينينية بعد وفاة لينين، من المهم أن ندرك
أن تروتسكي لم يعمل في الحقيقة إلى جانب لينين داخل الحزب البلشفي إال لمدة ست سنوات فقط )ما بين 1111-1143 .»)
)2 الصفحة، Cogito(
تبدو حجة جونستون الحسابية سليمة ال تشوبها شائبة. لكن دعونا أوال نرى ما الذي مثلته تلك السنوات الست. تشمل تلك الفترة
ثورة أكتوبر، التي لعب فيها تروتسكي الدور األهم إلى جانب لينين، كما تشمل الحرب األهلية عندما كان تروتسكي مفوض الشعب
لشؤون الحرب )وهو المنصب الذي شغله حتى عام 11444 ،)وعندما كان مسؤوال عن تأسيس الجيش األحمر انطالقا من الصفر
تقريبا، وبناء األممية الثالثة، التي كتب تروتسكي البيانات السياسية لمؤتمراتها الخمس األولى والعديد من أكثر مواضيعها السياسية
أهمية؛ كما تشمل فترة إعادة اإلعمار االقتصادي التي نظم تروتسكي خاللها شبكات السكك الحديدية المحطمة لالتحاد السوفياتي.
هذه ليست سوى بعض األعمال البسيطة التي أنجزها تروتسكي خالل إقامته القصيرة في الحزب البلشفي.
إال أن مونتي جونستون ال يأبه لمثل هذه األمور التافهة. انه يفضل أن يتناول الفترة األكثر أهمية التي تمتد من 1193 إلى 1111
)أي ما ال يقل عن ثالث عشرة أو أربع عشرة سنة... ( والتي وجد تروتسكي نفسه خاللها )"ليس مصادفة..."( خارج الحزب البلشفي.
الشيء الذي لم يوضحه مونتي جونستون هو أن الحزب البلشفي نفسه لم يتشكل سنة 1193 ،بل سنة 1114 .وحتى ذلك الوقت
كان كل من البالشفة والمناشفة يعتبران أنفسهما جناحان لحزب واحد: حزب العمال االشتراكي الديمقراطي الروسي. باستعماله لعبارات
غامضة وا ة 1193 ،غفال تواريخ مختلف االقتباسات، يعطي جونستون االنطباع بأن الحزب البلشفي ظهر على مسرح التاريخ، سن
مكتمال تماما ومسلحا، مثلما ظهرت مينرفا من رأس زيوس. في الصفحة السادسة من مقالته يتحدث الرفيق جونستون عن انشقاق
البالشفة والمناشفة سنة 1114 عندما "انفصل البالشفة أخيرا عن المناشفة وشكلوا حزبهم المستقل"، لكنه في الصفحة السابقة كتب
ما يلي:
»في عام 1192 ترك ]تروتسكي[ المناشفة، وعلى الرغم من استمراره في الكتابة في جرائدهم، بل واشتغل في إحدى المرات في
الخارج إلى جانبهم، فقد بقي منذ ذلك الحين وحتى 9191 رسميا خارج كال الحزبين«. )Cogito ،صفحة 4)
يشعر القارئ بالحيرة، إذ كيف يمكن لتروتسكي أن يكون "رسميا خارج كال الحزبين" من سنة 1192 إلى 1114؟ سوف نتطرق
لهذه الفترة الحقا، ونظهر أسباب تحفظ الرفيق جونستون الغريب حول هذه المسألة.
»كان أساس هذا العداء معارضة تروتسكي العنيفة لنضال لينين من أجل بناء حزب ماركسي ثابت وممركز ومنضبط. عندما وقع
انشقاق خالل المؤتمر الثاني لحزب العمال االشتراكي الديمقراطي الروسي بين البالشفة... الذين دافعوا عن مثل ذلك الحزب، وبين
المناشفة... الذين كانوا يريدون شكال من التنظيم أكثر مرونة بكثير. وقد انضم تروتسكي إلى هؤالء األخيرين...«
يشكل تحليل جونستون هذا تشويها صارخا لتاريخ البلشفية. لم يحدث االنقسام خالل مؤتمر لندن عام 1193 ،على أساس مسألة
"حزب ماركسي ثابت وممركز ومنضبط"، كما يدعي جونستون، بل على أساس مسألة تركيبة الهيئات المركزية للحزب ومادة واحدة
من النظام األساسي للحزب. لم تظهر الخالفات إال خالل الدورة الثانية والعشرين. أما قبل ذلك فلم يكن هناك أي خالف بين لينين
وبين "أقلية" مارتوف حول أي من المسائل السياسية والتكتيكية.
إن عرض جونستون لالختالفات بكونها انشقاقا واضح المعالم بين البالشفة "الممركزين" والمناشفة "المعادين للمركزية" هو محض
افتراء يجد جذوره في االفتراءات التي أطلقها المناشفة ضد البالشفة بعد المؤتمر. وحول المادة الشهيرة من النظام األساسي للحزب،
قال لينين نفسه: »أود أن أستجيب لهذا النداء عن طيب خاطر ]أي للتوصل إلى اتفاق مع "المناشفة"[ ألنني ال أعتبر مطلقا أن
8
خالفاتنا حيوية إلى درجة أن تصير مسألة حياة أو موت للحزب. علينا بالتأكيد أال نهلك بسبب مادة غير موفقة للنظام األساسي
للحزب!«]4]
بعد المؤتمر، وعندما رفض مارتوف وأنصاره المشاركة في أعمال هيئة تحرير األيسكرا، كتب لينين:
»بدراسة سلوك المارتوفيين منذ المؤتمر، ورفضهم للتعاون في الجهاز المركزي... رفضهم للعمل في اللجنة المركزية، إضافة إلى
دعايتهم للمقاطعة - كل ما يمكنني قوله هو إن هذه محاولة حمقاء، غير جديرة بأعضاء الحزب، لبث الفوضى في صفوف الحزب-
ولماذا؟ فقط ألنهم غير راضين عن تركيبة الهيئات المركزية؛ للحديث بموضوعية، فقط حول هذه المسألة افترقت طرقنا...« )لينين،
األعمال الكاملة، المجلد 1 ،الصفحة 32[ الطبعة االنجليزية[(
لقد أكد لينين مرارا أنه لم تكن توجد بينه وبين "أقلية" مارتوف أي خالفات من حيث المبدأ، لم تكن توجد خالفات مهمة إلى درجة
التسبب في حدوث انشقاق. وهكذا عندما التحق بليخانوف بمارتوف، كتب لينين قائال: »اسمحوا لي أن أقول، أوال وقبل كل شيء،
إنني اعتقد أن كاتب المقال ]بليخانوف[ محق ألف مرة عندما يصر على أنه من الضروري المحافظة على وحدة الحزب وتجنب
حدوث انقسامات جديدة - ال سيما بسبب خالفات ال يمكن أن تعتبر هامة. إن الدعوة إلى الهدوء واالعتدال واالستعداد لتقديم تنازالت
صفات جديرة بالثناء عند القيادي في كل األوقات، وفي الوقت الحاضر على وجه الخصوص«. )المرجع نفسه، ص 114 )وعارض
لينين طرد مجموعات من الحزب، ودعى إلى فتح صحافة الحزب، من أجل توضيح الخالفات »لتمكين هذه المجموعات الصغيرة
من الحديث وا سره الفرصة لتقييم أهمية أو عدم أهمية هذه الخالفات وتحديد أين بالضبط وكيف وحول ماذا حدث عطاء الحزب بأ
الخالف«. )المرجع نفسه، ص 111)
كانت هذه دائما مقاربة لينين لمسألة الخالفات داخل الحزب: االستعداد للمناقشة والمرونة والتسامح، وقبل كل شيء النزاهة المطلقة
تجاه خصومه. لألسف ال يمكن أن يقال الشيء نفسه عن قادة الحزب "الشيوعي" اليوم!
يعمد مونتي جونستون عن قصد إلى خلق انطباع زائف حول االنقسام بين جناحي الحزب االشتراكي الديمقراطي الروسي خالل
المؤتمر الثاني. وللقيام بذلك، يختار اقتباسات من األعمال المختارة للينين )الطبعة الستالينية القديمة من إثني عشر جزءا(، التي
تغفل معظم المواد عن هذا المسألة وغيرها. لماذا لم يشر الرفيق جونستون إلى طبعة موسكو الكاملة؟ هل يتجاوز هذا موارد كينغ
ستريت]*[؟ أم أن السبب هو فقط الرغبة في إثارة إعجاب قواعد رابطة الشباب الشيوعي الذين قد ال يملكون الوقت أو الفرصة للتحقق
من األصول؟ لقد بين الرفيق جونستون، هنا وفي أماكن أخرى من مؤلفه، انه باحث دؤوب عندما يتعلق األمر باالستشهاد بعبارات
وجمل معزولة من كتاب خطوة إلى األمام خطوتان إلى الوراء. لكن مجرد لمحة على مؤلفات لينين ذات الصلة بالموضوع في األعمال
الكاملة تكشف الزيف المطلق لطريقة عرض جونستون. وهكذا ففي الصفحة 2122 من مؤلفات لينين )المجلد 11 ،)نقرأ:
»تقول الرفيقة ليكسمبورغ... إن كتابي ]أي: خطوة إلى األمام خطوتان إلى الوراء[ هو تعبير واضح ومفصل عن وجهة نظر
"المركزية المتصلبة". وبالتالي فإن الرفيقة ليكسمبورغ تفترض أنني أدافع عن نظام معين للتنظيم ضد نظام آخر، لكن الواقع ليس
كذلك. لقد دافعت، من الصفحة األولى إلى الصفحة األخيرة من كتابي، عن المبادئ األساسية ألي نظام حزبي يمكن تصوره. ليس
كتابي معنيا باالختالفات بين نظام معين للتنظيم وآخر، بل بمسألة كيف يمكن ألي نظام أن يستمر وينتقد ويصحح بطريقة تنسجم
مع فكرة الحزب«.
في الواقع، لم تكن الخالفات بين البلشفية والمنشفية واضحة على اإلطالق في عام 1193 ،على الرغم من أن النقاش كشف عن
وجود ميول إلى التصالحية بين المناشفة، أو "الليونة"، كما كانوا معروفين. لم يتبلور االتجاهان إال الحقا، تحت تأثير األحداث، ورغم
ذلك لم يصال إلى نقطة االنشقاق النهائي حتى عام 1114 .بعيدا عن فترة مونتي جونستون الشهيرة المكونة من "ثالثة عشر أو
أربعة عشر سنة" التي شهدت فصال واضحا بين حزبين سياسيين، فالواقع هو انه حتى عام 1114 ،كان تاريخ البلشفية تاريخ
محاوالت عديدة ومتكررة لتوحيد الحزب على أساس مبدئي. وعالوة على ذلك، لم تقتصر الخالفات بين البالشفة والمناشفة، كما يمكن
9
للمرء أن يتوهم، بناء على قراءة مونتي جونستون، على مسألة تنظيم الحزب، بل شملت كل المسائل السياسية األساسية الناشئة عن
تحليل طبيعة الثورة الروسية نفسها.
بقدر ما يحاول مونتي جونستون تحديد الخالفات، بقدر ما يظهر عجزه الكبير عن إنجاز المهمة. وبثقة مذهلة في النفس يآخذ
جونستون تروتسكي على انتقاده للفكرة التي أعرب عنها لينين في كتابه ما العمل؟ حول أن الطبقة العاملة، إن تركت لنفسها، ليست
قادرة سوى على إنتاج "وعي نقابي"، أي الوعي بالحاجة إلى النضال من أجل المطالب االقتصادية في ظل الرأسمالية. إن مونتي
جونستون، مثله مثل بقية زعماء الحزب الشيوعي، يجهل على ما يبدو أن لينين نفسه قد انتقد في وقت الحق هذه الصيغة، والتي
كانت من قبيل المبالغة التي نشأت خالل جداله ضد االقتصادويين، الذي هو تيار كان يرغب في حصر نضال العمال في مستوى
المطالب االقتصادية البحتة. في إشارة إلى هذا أوضح لينين أن "االقتصادويين عوجوا العصا في اتجاه. ومن أجل تقويم العصا كان
من الضروري تعويجه في االتجاه اآلخر". لقد كان لينين أبعد ما يكون عن الرأي السائد بين الستالينيين والقائل بأن الطبقة العاملة
مجرد عجينة يمكن للقيادة "الفكرية" أن تشكلها كما يحلو لها.
ما هو الهدف من وراء تشويه مونتي جونستون لتاريخ البلشفية؟ إن الجواب واضح في بقية مؤلفه. يرغب جونستون في تأبيد
األسطورة الستالينية عن الحز ب البلشفي المتجانس، والذي كان له وجود مستقل منذ إنشائه عام 1193 .وبعد أن يثبت هذا يمكنه
وضع تروتسكي بحزم "خارج" الحزب باعتباره غير منضبط، رغم كونه موهوبا ومثقفا. بعد ذلك تأتي مرحلة االنتقال إلى التشويه
الرئيسي: جعل "التروتسكية" أيديولوجية سياسية غريبة ومتميزة معادية لللينينية.
صحيح أنه خالل مؤتمر 1193 ،وجد تروتسكي نفسه في معسكر المعارضين للينين. كما أنه من الصحيح أيضا أن بليخانوف،
االشتراكي الوطني الحقا، وقف إلى جانب لينين. الواقع هو أن االختالفات فاجأت الجميع، بمن فيهم لينين نفسه، الذي لم يفهم في
البداية مغزاها. كان الهدف الحقيقي للمؤتمر الثاني هو االنتقال بالمنظمة من عصبة صغيرة للدعاية إلى حزب حقيقي، وبخصوص
هذه المسألة كان لينين بدون شك صاحب الموقف الصحيح. في السنوات الالحقة عمل تروتسكي، الذي كان نزيها دائما في ما يتعلق
بأخطائه، على االعتراف بخطئه دون تحفظ، وأكد أن لينين كان دائما على حق بخصوص هذه المسألة. وقد استشهد مونتي جونستون
باعتراف تروتسكي، بينما أكد في مكان آخر أن تروتسكي رفض دائما االعتراف بأخطائه السابقة!
لكن جونستون يخطأ مرتين عندما يصور المسألة كما لو تروتسكي كان وحده من أساء فهم موقف لينين. في الواقع كانت فئات
واسعة من مناضلي الحزب داخل روسيا تنظر النقسام عام 1193 ،وبعد ذلك أيضا، باعتباره مجرد شجار بين المهاجرين ال أهمية
عملية له، أو بعبارة ستالين الفذة "زوبعة في فنجان شاي". دعونا نستشهد بفقرة نموذجية من عمل يحب الرفيق جونستون أيضا
االستشهاد به: كتاب لوناتشارسكي Silhouettes Revolutionary:
»... نزلت علينا أنباء االنقسام مثل صاعقة من سماء صافية. كنا نعلم أن المؤتمر الثاني سيشهد حسم الصراع مع تيار قضية
العمال )االقتصادويين(، لكن أن تسير األحداث في اتجاه وضع لينين ومارتوف في معسكرين متعارضين و"ينعزل" بليخانوف في
المنتصف بينهما – ال شيء من هذا دخل رؤوسنا.
»المادة األولى من النظام األساسي للحزب... هل كان هذا شيئا يبرر االنقسام حقا؟ وتعديل المهام داخل هيئة التحرير - ما الذي
دهى هؤالء الناس في الخارج، هل فقدوا عقولهم؟« )صفحة 31)
تشير مراسالت لينين خالل هذه الفترة إلى أن غالبية أعضاء الحزب لم يستوعبوا االنقسام وكانوا يعارضونه. وحده مونتي جونستون
من يمكنه، بعد مرور خمسة وستين عاما، أن يرى كل تلك القضايا واضحة وضوح الشمس. فهو فيما يخص مسألة المؤتمر الثاني،
يتفوق حتى على لينين نفسه! ومن االرتفاعات الشاهقة للمجلد الثاني من األعمال المختارة، يصدر مونتي جونستون حكما يدين
تروتسكي الذي »بجرة قلم... غير تاريخ ظهور البلشفية والمنشفية كتيارين منفصلين من سنة 1193 إلى سنة 1192 ،من أجل أن
يتمكن من تقديم نفسه باعتباره لم ينتم أبدا إلى المناشفة، مشيرا إلى أن مواقفه "التقت في كل ما هو جوهري مع مواقف لينين".«
11
بادئ ذي بدء، على القارئ أن يالحظ أن جونستون أكد أن تروتسكي بقي منذ 1192 حتى 1111" ،رسميا خارج كال الحزبين"،
وبالتالي غير، "بجرة قلم"، تاريخ ظهور البلشفية، ليس كتيار، بل بوصفها حزبا من 1114 إلى 1192!
ما معنى تأكيد تروتسكي على أن مواقفه التقت مع مواقف لينين حول جميع المسائل األساسية؟ ال بد أن يشعر قارئ تاريخ مونتي
جونستون الشديد االنتقائية عن البلشفية بالحيرة أمام بيان من هذا القبيل. لكن السبب وراء حيرته ليس تروتسكي، بل مونتي جونستون،
الذي يقتبس االستشهادات عمدا خارج سياقها من أجل اإليحاء بأن تقييم تروتسكي لعالقته مع لينين مشوه. إن التشويه هو ما يقوم
به الرفيق جونستون الذي يخفي عن القارئ، كما سنرى الحقا، االختالفات السياسية الحقيقية بين البلشفية والمنشفية، التي يشير إليها
تروتسكي في االقتباس أعاله.
لقد أظهرنا سابقا تفاهة قراءة جونستون لمؤتمر لندن عام 1193 .إن تأكيده على أن البلشفية والمنشفية برزتا كاتجاهين منفصلين
بالمعنى السياسي للكلمة سنة 1193 هو ادعاء ال أساس له من الصحة. لو أن ذلك كان صحيحا لكان لينين نفسه متهما بالخطيئة
التروتسكية الفضيعة أي النزعة التصالحية بسبب محاوالته المتكررة إعادة المناشفة للتعاون في تسيير الحزب خالل األشهر التي تلت
المؤتمر. لم يعترف لينين بوجود اتجاهين داخل الحزب إال عام 11922 ،حيث عمل على إقامة مكتب للجان األغلبية )البالشفة(.
إن الفرق الحاسم بين البلشفية والمنشفية -أي الموقف من البرجوازية الليبرالية- لم يظهر إلى السطح إال عام 1192 .كانت هذه
المسألة السياسية، وليس الخالف بشأن قواعد الحزب، هي التي حددت تطور االتجاهين في طريق انقسام ال رجعة فيه، وانتهى بانتقال
المنشفية إلى جانب قوات الجيش األبيض سنة 1111 .كانت هذه بالضبط هي المسألة التي انشق على أساسها تروتسكي عن
المناشفة عام 1192 .لكن الرفيق جونستون يلزم الصمت حول هذا الموضوع. سنرى سبب صمته في مقطع الحق من هذا العمل.
هوامش:
Vtoroy S yezd RSDRP Protokoly, page 275 ]4[
]*[ كينغ ستريت شارع بلندن حيث يوجد مقر الحزب الشيوعي البريطاني.
11
الفصل الثالث: من تاريخ البلشفية )الجزء الثاني(
تروتسكي في عام 9195
ما هو الدور الذي لعبه تروتسكي في ثورة 1194 ،وما هي عالقته بلينين والبالشفة آنذاك؟ لوناتشارسكي، الذي كان في ذلك الوقت
واحدا من أقرب مساعدي لينين، كتب في مذكراته قائال:
»علي أن أقول أن تروتسكي برهن، رغم صغر سنه، من دون شك، انه كان األفضل استعدادا من بين جميع القادة االشتراكيين
الديمقراطيين اآلخرين في 1194-1191 .وكان أقلهم عرضة لذلك النوع من ضيق أفق المهاجرين. لقد فهم تروتسكي على نحو
أفضل من جميع اآلخرين معنى خوض الصراع على المستوى الوطني الشامل. وخرج من الثورة مسلحا بشعبية هائلة، بينما لم يكتسب
لينين أو مارتوف أية شعبية على اإلطالق. أما بليخانوف، فقد خسر كثيرا بسبب إبدائه ميوال مشابهة للكاديت ]أي اللبراليين[. لقد
وقف تروتسكي آنذاك في مقدمة الصف األول«. )61 page, Silhouettes Revolutionary)
كان تروتسكي رئيس مجلس سوفييت بطرسبرغ لنواب العمال، الذي كان في مقدمة تلك الهيئات التي وصفها لينين بأنها "األجهزة
الجنينية للسلطة الثورية". كانت معظم البيانات السياسية وقرارات مجلس السوفييت من تأليف تروتسكي، الذي حرر أيضا جريدة
مجلس السوفييت ازفستيا. عجز البالشفة، في بطرسبورغ، عن تقدير أهمية السوفييت، وكانت تمثيليتهم فيه ضعيفة. وقد كتب لينين،
من منفاه في السويد، إلى مجلة "نوفايا جيزن" البلشفية، يحث البالشفة على اتخاذ موقف أكثر إيجابية من السوفييتات، لكن الرسالة
لم تنشر، ولم تر النور إال في وقت الحق، بعد أربعة وثالثين عاما.
لقد تكرر هذا الوضع عند كل منعطف كبير في تاريخ الثورة الروسية؛ نفس االرتباك والتردد من طرف قادة الحزب داخل روسيا،
عندما تواجههم ضرورة اتخاذ مبادرة جريئة، لوال قيادة لينين.
سيتم التطرق للموقف السياسي لتروتسكي وعالقته مع أفكار لينين بشكل مفصل في الفصل المخصص لنظرية الثورة الدائمة. كان
جوهر المسألة هو موقف الحركة الثورية من البرجوازية ومما يسمى باألحزاب "الليبرالية". كانت هذه هي المسألة التي دفعت تروتسكي
للقطع مع المناشفة عام 1192 .فمثله مثل لينين، صب تروتسكي جام غضبه على نزعة التعاون الطبقي لدان وبليخانوف وغيرهما،
و أشار إلى البروليتاريا والفالحين باعتبارهما القوى الوحيدة القادرة على إنجاز الثورة حتى النهاية.
في عام 1194 ،استخدم تروتسكي جريدة "ناشالو"، التي كانت توزع على نطاق واسع، للمزيد من توضيح وجهة نظره للثورة، والتي
كانت قريبة من وجهة نظر البالشفة ومعارضة بشكل مباشر لوجهة نظر المناشفة. فكان من الطبيعي، على الرغم من النزاع المرير
خالل المؤتمر الثاني، أن يلتقي نضال البالشفة ونضال تروتسكي في الثورة. وهكذا، عملت جريدة تروتسكي "ناشالو" وجريدة البالشفة
"نوفايا جيزن"، التي كان لينين رئيس تحريرها، بتضامن ودعما بعضهما البعض ضد هجمات الرجعية، ودون شك الجدال ضد
بعضهما البعض. وقد زفت الجريدة البلشفية العدد األول من جريدة "ناشالو" على النحو التالي:
»لقد صدر العدد األول من جريدة ناشالو. ونحن نرحب برفيق لنا في النضال. يتميز العدد األول بالوصف الرائع إلضراب أكتوبر
الذي كتبه الرفيق تروتسكي«.
يتذكر لوناتشارسكي أنه عندما أخبر أحدهم لينين بنجاحات تروتسكي في السوفييت، »اكفهر وجهه للحظة، ثم قال: "حسنا، لقد
كسب الرفيق تروتسكي ذلك بفضل عمله الدؤوب والمثير لإلعجاب"«.
أعطى تقدم الثورة دفعة هائلة لحركة توحيد قوى الماركسية الروسية. لقد خاض العمال البالشفة والمناشفة النضال جنبا إلى جنب
تحت نفس الشعارات؛ ولجان الحزب المتنافسة اندمجت تلقائيا. أخيرا، وبناء على اقتراح من اللجنة المركزية البلشفية، بمن فيها لينين،
12
بدأت التحركات على قدم وساق لتحقيق إعادة التوحيد. كان تروتسكي يدعو باستمرار إلى إعادة التوحيد في جريدته "ناشالو"، وحاول
أن يبقى بعيدا عن الصراع بين التيارين، لكنه اعتقل وسجن بسبب دوره في السوفييت قبل عقد المؤتمر الرابع )التوحيدي( في ستوكهولم.
انعقد المؤتمر في مايو 1191 ،لكن المد الثوري كان قد بدأ في االنحسار، ومعه انحسرت الروح القتالية والخطابات "اليسارية"
للمناشفة. كان بليخانوف قد بدء بالفعل يتحسر على العمل الجماهيري "السابق ألوانه" وأطلق عبارته الشهيرة: "لم يكن ينبغي عليهم
حمل السالح". كان الصراع حتميا بين الثوريين المنسجمين وبين أولئك الذين كانوا قد بدأوا بالفعل في التخلي عن الجماهير وصاروا
يتكيفون مع الردة الرجعية.
مؤتمر ستوكهولم
كانت النقاط الرئيسية الموضوعة للنقاش بين البالشفة والمناشفة في مؤتمر ستوكهولم هي:
)1 )المسألة الزراعية
)4 )الموقف من األحزاب البرجوازية
)3 )الموقف من النزعة البرلمانية
)2 )مسألة االنتفاضة المسلحة
ندد بليخانوف، المدافع عن شعار المناشفة االنتهازي المرعوب، بخطة لينين لتعبئة الفالحين من أجل تأميم األراضي باعتبارها
"خطيرة... بالنظر إلمكانية الردة )restoration .")وقد لخص موقف المناشفة من االستيالء على السلطة من جانب العمال والفالحين
بهذه الكلمات:
»إن االستيالء على السلطة إلزامي بالنسبة لنا عندما نقوم بثورة بروليتارية، لكن وبما أن الثورة الوشيكة اآلن ال يمكنها أن تكون
إال ثورة برجوازية صغيرة، فإنه من واجبنا رفض االستيالء على السلطة«. )التشديد من عندنا(
كانت تلك هي حجة المناشفة عام 1191 .كانت الثورة ثورة برجوازية؛ وكانت مهامها برجوازية ديمقراطية؛ وشروط االشتراكية
غائبة في روسيا. ومن تم فإن أي محاولة من جانب العمال لالستيالء على السلطة تمثل مغامرة؛ إن مهمة العمال هي السعي إلى
تشكيل تحالف مع األحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، لمساعدتهم على القيام بالثورة البورجوازية.
ماذا كان رد لينين على بليخانوف؟ إن لينين لم يحاول أن ينكر أن الثورة كانت برجوازية ديمقراطية، وبالتأكيد ليست هناك إمكانية
لبناء االشتراكية في روسيا وحدها. كان جميع الماركسيين الروس، المناشفة ولينين وتروتسكي، على اتفاق حول هذه المسائل. لقد
كان القول بغياب الشروط الالزمة للتحول االشتراكي في روسيا من أبجديات الماركسية، لكن تلك الشروط قد نضجت في الغرب.
وردا على تحذيرات بليخانوف القاتمة من "خطر الردة" أوضح لينين:
»إذا كنا نقصد ضمانة اقتصادية حقيقية، وفعالة تماما، ضد الردة، أي ضمانة من شأنها أن تخلق الظروف االقتصادية للحيلولة
دون الردة، فإنه يجب علينا أن نقول: إن الضمانة الوحيدة ضد الردة هي الثورة االشتراكية في الغرب. ال يمكن أن تكون هناك أي
ضمانة أخرى بالمعنى الكامل للمصطلح. بدون هذا الشرط، فأيما طريقة أخرى تم بها حل المشكلة )وضع األرض تحت رقابة البلدية،
أو التقسيم، الخ( فإن الردة لن تكون ممكنة فحسب، بل حتمية.« )األعمال الكاملة، المجلد 19 ،الصفحة 419[ ،الطبعة االنجليزية*[
التشديد من عندنا(
وهكذا ومنذ البداية تصور لينين الثورة الروسية تمهيدا للثورة االشتراكية في الغرب. لقد ربط مصير الثورة الروسية بصلة ال تنفصم
بالثورة االشتراكية األممية، والتي بدونها ستتعرض حتما لردة داخلية:
13
»أود صياغة هذا االقتراح على النحو التالي: يمكن للثورة الروسية تحقيق النصر بجهودها الخاصة، لكنها ال تستطيع ربما االحتفاظ
بمكاسبها وتعزيزها بقوتها الخاصة. ال يمكنها أن تفعل ذلك ما لم تحدث ثورة اشتراكية في الغرب. بدون هذا الشرط تصير الردة
أمرا ال مفر منه، سواء وضعنا األرض تحت رقابة البلدية، أو قمنا بالتأميم، أو بالتقسيم؛ ألنه في ظل أي شكل، وكل شكل، من
أشكال الملكية والحيازة سيكون المالك الصغير دائما حصنا للردة. بعد االنتصار الكامل للثورة الديمقراطية سيتحول المالك الصغير
حتما ضد البروليتاريا، وكلما تسرع إسقاط األعداء المشتركين للبروليتاريا ولصغار المالك، مثل الرأسماليين، والمالكين العقاريين،
والبرجوازية المالية، الخ سريعا، كلما تسرع حدوث ذلك. ليس لجمهوريتنا الديمقراطية أي احتياطي دعم غير البروليتاريا االشتراكية
في الغرب«. )المرجع نفسه، التشديد من عندنا(
لقد اقتبسنا كالم لينين بشكل كامل، بحيث ال تكون هناك أي شبهة للتحريف، وال أي اتهام من مونتي جونستون لنا بأننا ننقل عن
تروتسكي، وليس عن لينين. ألن قارئ مقال مونتي جونستون لن يستنتج سوى أن لينين يتحدث هنا بلغة "التروتسكية" المحضة. انه
ينفي احتمال، ليس فقط "بناء االشتراكية" في روسيا وحدها، بل حتى الحفاظ على مكاسب الثورة البرجوازية الديمقراطية، دون الثورة
االشتراكية في الغرب. انه "يقلل من دور الفالحين" من خالل قوله إن صغار المالكين يشكلون حصنا منيعا للردة، وسيتحولون حتما
ضد العمال، بمجرد استكمال مهام الثورة الديمقراطية.
لكن كال! لم يأخذ لينين هذه األفكار من كتب تروتسكي حول الثورة الدائمة، التي لم يسبق له أن قرأها، كما أن تروتسكي نفسه كان
في السجن خالل فترة المؤتمر. إن األفكار التي أعرب عنها لينين كانت أبجديات الماركسية، كانت المبادئ األساسية لألممية
البروليتارية والصراع الطبقي، التي دافع عنها ضد التشويهات االنتهازية للماركسي "المثقف" بليخانوف. "هذه ليست الماركسية،
بل اللينينية" هكذا صاح المناشفة ساخرين في عام 1191 .هذه ليست "اللينينية"، بل "التروتسكية"، يكتب مونتي جونستون في عام
1111 .سموها ما شئتم أيها السادة، فبالنسبة للماركسي ال يتغير جوهر الشيء بمجرد تغيير اسمه.
وردا على الحجة القائلة بأنه يجب على االشتراكية الديمقراطية أال تخيف حلفاءها البرجوازيين "التقدميين"، قال لينين:
»يظهر هذا بصورة أكثر وضوحا الخطأ الجوهري للمناشفة، إنهم ال يرون أن البرجوازية معادية للثورة، وأنها تسعى عمدا إلى عقد
مساومة«. )المرجع نفسه، الصفحة 411 ،التشديد من عندنا(
كانت هذه هي النقطة الرئيسية لنضال لينين ضد المناشفة طوال المرحلة الالحقة: ضرورة الحفاظ على الحركة العمالية الثورية
بعيدا عن االنجرار إلى تحالفات مع البرجوازية وأحزابها؛ اإلصرار على أن الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة الثورية حقا في المجتمع،
وأنها الطبقة الوحيدة القادرة على القضاء على النظام القيصري، ضد البرجوازية إذا لزم األمر:
»الضمانة الشرطية والنسبية الوحيدة ضد الردة هي أن يتم القيام بالثورة بالطريقة األكثر جذرية، وأن تنفذ مباشرة من قبل الطبقة
الثورية، مع أقل قدر ممكن من مشاركة أصحاب الحلول الوسطى والمساومين وكل أنواع التوفيقيين: هي أن يتم إنجاز هذه الثورة
حتى النهاية حقا«. )المرجع نفسه، ص 411)
وواصل لينين انتقاد المناشفة بسبب بالهتهم البرلمانية، ومبالغتهم في تقدير إمكانيات استفادة الماركسيين من البرلمان. وجه نقدا
حادا لبليخانوف لتنصله الجبان من الكفاح المسلح. كانت هذه هي القضايا التي فرقت بين الجناح البلشفي والجناح المنشفي في
االشتراكية الديمقراطية، وليس المسألة التنظيمية، وال "المركزية"، بل اإلصالح أم الثورة، التعاون الطبقي أم االعتماد على الجماهير
الثورية. لكن مونتي جونستون يحافظ على الصمت المطبق بخصوص كل هذا. قد يتساءل القارئ لماذا! سنكون كرماء و نعزو ذلك
إلى تلهف الرفيق جونستون للوصول إلى "الفترة األكثر أهمية"، أي ما بين 1119 و1111 .إذ على أية حال تعتبر "ثالث عشرة أو
أربع عشرة سنة" فترة طويلة؛ فمن الذي سيهتم بخمس سنوات أو نحو ذلك؟ - خصوصا عندما تقدم تلك الفترة الكثير من المواد التي
ال تخدم قضية مونتي جونستون ضد تروتسكي.
14
مرحلة الردة الرجعية
خلقت ردة ستوليبين، التي بدأت عام 1191 ،صعوبات جمة للحركة الثورية في روسيا، وأثارت المزيد من الخالفات بين صفوف
الحزب االشتراكي الديمقراطي. تعطلت األنشطة الشرعية للحزب من خالل ما أسماه لينين بـ "قانون االنتخابات األكثر ر جعية في
أوروبا". فأصبحت األساليب الغير شرعية للعمل، أي العمل السري، ذات أهمية متزايدة للتعويض عن القيود المفروضة من قبل
النظام. إال أن قسما من الجناح المنشفي للحزب، كان يميل لمواجهة الوضع من خالل التكيف بشكل متزايد مع مطالب الردة الرجعية،
وتجنب األعمال الغير شرعية لصالح المقاعد البرلمانية المريحة. كان هذا هو أساس ما أطلق عليه اسم الصراع التصفوي الذي أدى
إلى حدوث انشقاق في الحزب.
في مؤتمر لندن عام 1191 ،تمكن تروتسكي ألول مرة من فرصة شرح وجهة نظره بشأن الثورة أمام أنظار الحزب. خطابه في
النقاش حول المو قف من األحزاب البرجوازية، والذي خصصت له خمس عشرة دقيقة فقط، استشهد به لينين مرتين، وأكد على اتفاقه
مع األفكار التي عبر عنها تروتسكي، وخاصة دعوته لتشكيل كتلة لليسار ضد البرجوازية الليبرالية:
وعلق لينين قائال:
»إن هذه الوقائع تكفي بالنسبة لي لكي أعرف بأن ترو تسكي قد صار أقرب إلى وجهات نظرنا. وبصرف النظر عن مسألة "الثورة
الغير منقطعة"، نحن متضامنون حول النقاط األساسية في الموقف من األحزاب البرجوازية«. )األعمال الكاملة، المجلد 14 ،صفحة
219 ،التشديد من عندنا(
أما بخصوص نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة، والتي طرحت للنقاش في الدورة التالية، فإن لينين لم يكن مستعدا إللزام نفسه
بها. لكن كان هناك اتفاق كامل حول المسألة األساسية بخصوص مهام الحركة الثورية. وسوف نتطرق الحقا للخالفات بين مواقف
لينين وتروتسكي. وقد اتضح مجددا في المؤتمر أن لينين كان يعتبر تلك االختالفات ثانوية. عندما طرح تروتسكي تعديال للقرار
بشأن الموقف من األحزاب البرجوازية، تحدث لينين ضد التعديل، ليس ألنه كان خاطئا، بل ألنه لم يضف شيئا أساسيا للقرار
األصلي:
»ال بد من االتفاق على أن تعديل تروتسكي ليس منشفيا، وأنه يعبر عن الفكرة البلشفية "نفسها"«]3( .]المرجع نفسه، ص 211)
لكن على الرغم من تطابق وجهات النظر حول تحليل مهام الثورة، بين تروتسكي والبالشفة، فإن تروتسكي استمر يحاول إيجاد
طريق بين الجناحين المتصارعين في محاولة يائسة لمنع حدوث انقسام جديد.
وقال خالل المؤتمر:
»إذا كنتم تعتقدون أن االنقسام أمر ال مفر منه، فانتظروا، على األقل، حتى تفصلكم األحداث، وليس مجرد القرارات. ال تستبقوا
األحداث.«
فعلى أساس تجربة 1194 ،اعتقد تروتسكي أن موجة ثورية جديدة ستدفع بأفضل العناصر من بين المناشفة، ومارتوف بوجه
خاص، إلى اليسار. كان همه األكبر هو الحفاظ على القوى الماركسية موحدة خالل مرحلة صعبة، والحيلولة دون حدوث انقسام
سيكون له تأثير سلبي على معنويات الحركة. كان هذا هو جوهر "توفيقية" تروتسكي، والتي منعته من االنضمام إلى البالشفة في
هذه الفترة. وتعليقا على ذلك كتب لينين:
»غرق عدد من االشتراكيين الديمقراطيين في تلك الفترة في النزعة التوفيقية، انطالقا من أكثر الدوافع تنوعا. وكانت النزعة التوفيقية
األكثر انسجاما هي التي عبر عنها تروتسكي، الشخص الوحيد الذي حاول توفير أساس نظري لتلك السياسة.«
15
كان هذا هو جوهر الخالف بين لينين وتروتسكي قبل عام 1111؛ ليس "احتقار دور الفالحين" وال "االشتراكية في بلد واحد"، بل
النزعة التوفيقية.
كانت غلطة تروتسكي هي تعليقه أهمية كبيرة على التيارات "الوسطية" )شبه الثورية( بين صفوف المناشفة. كان يتصور أن وحدة
الحركة الماركسية ستتحقق من خالل توحد البالشفة والمناشفة وتطهير الحزب من التطرف "اليميني" والتطرف "اليساري" - أي طرد
التصفويين المناشفة واليسار المتطرف داخل البالشفة: "المقاطعون" )otzovists .)لم يفهم، كما فعل لينين بشكل واضح، أنه ال
يمكن تحقيق هذه الوحدة إال بعد القطيعة بحزم مع جميع التيارات االنتهازية؛ وأن الحفاظ على القوى الماركسية في فترة التراجع الثوري
ال يعني "وحدة" مجردة رسمية، بل وحدة تتحقق من خالل التكوين المنهجي للكوادر بأساليب الحركة ومنظوراتها. إن ترهل تنظيم
المناشفة، وعجزهم السياسي، في مرحلة الردة الرجعية، كان مجرد انعكاس الفتقارهم التام للمنظورات. ومن جهة أخرى، نبع نضال
لينين من أجل "حزب ماركسي مستقر وممركز ومنضبط" من الحاجة الملحة لتثقيف الطليعة وتدريبها، بعيدا عن إحباط وكلبية
االنتهازيين.
في وقت الحق فهم تروتسكي خطأه واعترف دون تحفظ بأن لينين كان على حق بشأن هذه المسألة. لكن الستالينيين ما زالوا
يواصلون طالء ذلك الصراع التكتلي بين لينين وتروتسكي بألوان فاقعة، وينقبون عن كل الكالم الذي قيل في أوج الجدل من أجل دق
إسفين بين أفكار لينين وتروتسكي بشكل عام. تروتسكي كان مخطئا، لكن خطأه كان خطئا نزيها، كان خطأ مناضل ثوري، يحمل
مصالح الثورة في قلبه. وليس من قبيل المصادفة أن أشار لينين إلى أن النزعة "التوفيقية" كانت نابعة "من أكثر الدوافع تنوعا" - أي
الدوافع الثورية فضال عن االنتهازية. لينين نفسه "أخطأ" أحيانا في تقديره إلمكانية وجود حلفاء بين المناشفة. ففي عام 1191 عرض
تحالفا مع كتلة بليخانوف والمناشفة "المؤيدين للحزب". وفقا للوناتشارسكي، استمر لينين حتى عام 1111" يحلم بتحالف مع مارتوف
مدركا للقيمة التي يمكن لذلك التحالف أن يكونها". وقد أثبتت الوقائع خطأ لينين. لكن كم هو الفرق شاسع بين أخطاء ثوري مخلص
وبين خربشات متعجرفة لكلبيين يخوضون، بعد نصف قرن، من فوق أرائكهم المريحة، كل المعارك القديمة مرة أخرى - ودائما إلى
جانب المنتصر.
لينين والبالشفة
»شكلت السنوات ما بين 1191 و1112 في حياته ]تروتسكي[ فصال يخلو بوجه خاص من أي انجاز سياسي... وال يدعي
تروتسكي أي إنجازات ثورية في مصلحته. إال أن لينين كان، في هذه السنوات، وبمساعدة أتباعه، يسلح حزبه، وكانت مكانة رجال
مثل زينوفييف وكامينيف وبوخارين، والحقا ستالين، تتنامى إلى درجة مكنتهم من لعب أدوار رائدة داخل الحزب في عام 1111 ».
)اسحق دويتشر، النبي المسلح، الصفحة 111)
إن هذا المقطع الذي كتبه دويتشر، والذي يستشهد به جونستون، ال ينفع إال لتوضيح العقلية البرجوازية الصغيرة تماما لصاحبه.
سنتطرق للـ "األدوار الرائدة" التي اضطلع بها كامينيف وزينوفييف وستالين سنة 1111 في فصل الحق. يكفي هنا فقط أن نشير إلى
أن كامينيف وزينوفييف صوتا ضد انتفاضة أكتوبر 1111 ،وندد بهما لينين كـ "كاسري إضرابات" يجب طردهما من الحزب! لكن
دعونا أوال نركز على المرحلة قيد النظر.
إن قول دويتشر بعدم "وجود إنجازات سياسية" صحيح تماما، لكن األمر ال يتعلق بتروتسكي وحده بل بالحركة الثورية كلها خالل
مرحلة الردة الرجعية. كيف كانت األمور تسير مع البالشفة في ذلك الوقت؟ شهدت مرحلة الردة الرجعية حدوث انقسام خطير في
القيادة، حيث وجد لينين نفسه أقلية. كان المزاج السائد بين البالشفة هو النزعة اليسارية المتطرفة - رفض االعتر اف بأن الثورة كانت
في تراجع. وقد عبر هذا االتجاه، الذي كان نقيض اتجاه التصفويين داخل المناشفة، عن نفسه في نزعة المقاطعة، أي الرفض التام
للمشاركة في االنتخابات والعمل في البرلمان. فاتجه زمالء لينين المقربين: كراسين وبوغدانوف ولوناتشارسكي، بعيدا إلى "اليسار"،
وقد سقط هذان األخيران تحت تأثير التصوف الفلسفي، الذي كان انعكاسا آخر لمزاج اليأس الذي عززته الردة الرجعية.
16
وقد أثارت المعارك التكتلية المتواصلة، التي أنهكت الحزب االشتراكي الديمقراطي في ذلك الوقت، ردة فعل على شكل نزعة توفيقية،
أصبح تروتسكي المتحدث الرئيسي باسمها. وقد كان لهذه النزعة أنصار في كل المجموعات، بمن فيهم البالشفة. في عام 1119 ،
نجح تروتسكي في تأمين انعقاد اجتماع لقادة جميع الكتل في محاولة لطرد كل من التصفويين و"المقاطعين" للحفاظ على وحدة
الحزب:
»إن النتيجة الوحيدة التي تمكن ]تروتسكي[ من تحقيقها هي انعقاد الجلسة العامة التي طرد خاللها "التصفويين" خارج الحزب، وكاد
يطرد "األماميين" ]أي"المقاطعين"[ واستطاع ولو مؤقتا رتق الفجوة - بخيوط ضعيفة جدا- بين اللينينيين والمارتوفيين.« )لوناتشارسكي،
ظالل ثورية، الصفحة 11)
لم يكن تروتسكي وحده من يتبنى وجهة النظر هذه عن وحدة الحزب. ففي صيف عام 1111 ،كتبت روزا لوكسمبورغ:
»الطريقة الوحيدة إلنقاذ الوحدة هي عقد كونفرانس عام ألناس مبعوثين من روسيا، ألن الناس في روسيا جميعهم يريدون السالم
والوحدة، ويمثلون القوة الوحيدة التي يمكن أن توقف صراع الديكة في الخارج«. )التشديد من عندنا(
لم تكن هذه اإلشارة إلى المزاج السائد داخل حزب العمال في روسيا من قبيل الصدفة. ألنه طوال تلك الفترة كلها – تلك "الثالث
عشرة أو أربع عشرة سنة" الشهيرة - كان الرأي السائد بين مناضلي الحزب داخل روسيا أن االنشقاق إلى بالشفة ومناشفة مصدر
إزعاج ال لزوم له، وأنه نتاج لألجواء المسمومة لصراع المنفيين. إن االنطباع الذي يحاول خلقه أناس مثل جونستون ودويتشر حول
حزب بلشفي موحد بقوة وراء أفكار لينين، ويسير بثبات في اتجاه صاعد نحو ثورة أكتوبر، هو سخرية من التاريخ.
لينين نفسه، ومنذ وقت مبكر، اشتكى في رسائله من النظرة الضيقة لما يسمى بـ "رجال اللجان"، أو العناصر البلشفية في روسيا.
وقد صارت شكواه سيال مستمرا من االحتجاجات الغاضبة في فترة 1119-1112 ضد سلوك "أنصاره" في روسيا. تحسر مكسيم
غوركي، الذي أمضى هذه الفترة يحوم في محيط البالشفة، في مراسالته مع لينين على "الخالفات بين الجنراالت" التي كانت "تنفر
العمال" في روسيا. إن موقف "رجال اللجان" البالشفة من الخالفات بين المهاجرين تعبر عنه بوضوح الرسالة التي بعثت من قبل
أنصار للبالشفة في القوقاز إلى الرفاق في موسكو:
»لقد سمعنا بالطبع عن "الزوبعة في الفنجان" التي حدثت في الخارج: كتلة لينين- بليخانوف، من جهة، وتروتسكي- مارتوف-
بوغدانوف من جهة أخرى. إن موقف العمال من الكتلة األولى، موقف إيجابي، على حد علمي. لكن العمال بشكل عام بدأوا ينظرون
بازدراء إلى المهجر: دعوهم يزحفون على الجدار قدر ما يشاؤون، أما بالنسبة لنا، المهتمون بمصالح الحركة/ العمل، فسوف نعتني
بأنفسنا! وهذا ما أعتقد أنه األفضل«.
تم اعتراض هذه الرسالة من قبل الشرطة القيصرية، التي أشارت إلى كاتبها بأنه "سوسو القوقازي"، االسم المستعار لجوغاشفيلي،
الملقب بستالين!
كان هذا الموقف المحتقر للنظرية، و"لمشاحنات المهاجرين"، و"الزوبعة في الفنجان" منتشرا بشكل واسع بين البالشفة، وأثار
احتجاجات حادة من قبل لينين، كما نرى في الرسالة المؤرخة بشهر أبريل 1114 ،التي وجهها إلى أورجونيكيدزه وسبانداريان
وستاسوفا:
»ال تتعاملوا بتساهل مع حملة التصفويين في الخارج. إنه خطأ كبير عندما يرفض الناس ببساطة ما يدور في الخارج و"يرمون به
إلى الجحيم".« )األعمال الكاملة، المجلد 34 ،الصفحة 33)
النزعة التوفيقية المبتذلة لستالين وأورجونيكيدزه وغيرهما من البالشفة "العمليين" اآلخرين تبرز في أكثر أشكالها فظاظة، حيث لم
تكن مدفوعة، ال باالنتهازية وال بالرغبة في تحقيق وحدة ثورية، بل فقط بالجهل والالمباالة اتجاه القضايا العميقة المعنية بالنقاش.
17
أعطى تصاعد الحركة العمالية في روسيا، عام 1114،انتعاشا جديدا للماركسيين - وللنزعات التوفيقية داخل الحزب. وقد عكست
الجريدة البلشفية "برافدا" الصادرة حديثا هذا المزاج.
لى األبد، الجناح الثوري للحزب عن الجناح االنتهازي،
في نفس الوقت الذي كان فيه لينين يشن معركة شاملة لكي يفصل، مرة وا
اختفت كلمة "التصفوية" نفسها من صفحات "برافدا". وطبعت مقاالت لينين نفسه في شكل مشوه، حيث يحذف كل الجدال ضد
التصفويين، بل وأحيانا كانت مقاالته تختفي تماما. مراسالت لينين مع "برافدا" تبين بشكل واضح الوضع السائد في روسيا آنذاك:
فبمجرد ما وجد "رجال اللجان" أنفسهم دون توجيه من لينين سقطوا في التخبط اليائس وانحرفوا عن المسار. في رسالة مؤرخة بشهر
أكتوبر 1114 ،تطفح سخطا من فشل "برافدا" في فضح التصفويين، كتب لينين يقول:
»ما لم تقم "برافدا" بتفسير كل هذا في الوقت المناسب فإنها ستكون مسؤولة عن اللبس واالضطراب ] داخل الحركة العمالية[...
وفي هذا الوقت الحرج، يتم إغالق "نيفسكايا زفيزدا" ]جريدة بلشفية[، دون ولو كلمة أو تفسير... وترك المتعاونون السياسيون في
الظالم... أجد نفسي مضطرا لالحتجاج الشديد على هذا، ولرفض تحمل أي مسؤولية عن هذا الوضع الشاذ، الذي يحبل بحدوث
نزاعات حادة«. )األعمال الكاملة، المجلد 31 ،صفحة 111)
خالل انتخابات 1114 ،كتب لينين إلى هيئة تحرير "برافدا" )التي كان ستالين عضوا فيها(:
»... "برافدا" تتصرف اآلن، في وقت االنتخابات، مثل خادمة عجوز كسولة. "برافدا" ال تعرف كيف تحارب. إنها ال تهاجم، إنها
ال تنتقد حتى الكاديت أو التصفويين«. )المرجع نفسه، ص 111)
ولم يكن مرض التوفيقية يقتصر على "برافدا" وحدها. ففي انتخابات عام 1114 ،تم انتخاب ستة نواب بالشفة في المناطق العمالية
)curiae s worker the .)وقد حذر لينين، من بولندا، المنتخبين الستة من السقوط تحت تأثير النواب المناشفة:
»إذا كان جميع منتخبينا الستة من المناطق العمالية، فإنه يجب عليهم أال يخضعوا بصمت للسيبيريين ]أي المثقفين، المناشفة[.
يجب على الستة أن يخرجوا باحتجاج واضح جدا، إذا ما تم التحكم فيهم...«
وبدل ذلك شكل النواب البالشفة "كتلة موحدة" مع "السيبيريين"، والتي أصدرت بيانا مشتركا - نشر في "برافدا"- يدعو إلى وحدة
جميع االشتراكيين الديمقراطيين ودمج "برافدا" مع جريدة التصفويين "لوش". وقد وضع أربعة من النواب البالشفة أسمائهم، إلى جانب
غوركي، كمساهمين في "لوش".
كان لينين غاضبا؛ لكن احتجاجاته ذهبت أدراج الرياح. وفي تعبير نهائي عن السخط كتب لينين:
»تلقينا رسالة غبية ووقحة من هيئة التحرير ]أي "برافدا"[. سوف لن نرد عليها. كما يجب عليهم التخلص من... إننا نشعر بالقلق
الشديد بسبب انعدام األنباء عن خطة إعادة تنظيم هيئة التحرير... إعادة التنظيم، لكن هناك ما هو أفضل، إن الطرد النهائي لكل
األعضاء القدماء، أمر ضروري للغاية«. )التشديد من عندنا(
مرة أخرى قال:
»... يجب علينا أن نزرع هيئة تحرير خاصة بنا في "برافدا" ونطرد هيئة التحرير الحالية. إن األمور اآلن في حالة سيئة جدا. إن
عدم وجود حملة من أجل الوحدة من تحت أمر غبي وحقير... هل يمكنكم أن تسموا مثل هؤالء الناس محررين؟ إنهم ليسو رجاال بل
رقاعا رثة، وهم يضرون بالقضية«.
كانت هذه هي اللغة التي استخدمها لينين عند مهاجمة، ليس تروتسكي، وليس المناشفة، بل التوفيقيين وأتباع المناشفة داخل
منظمته، وهيئة تحرير صحيفته الخاصة! نعم لقد حمل لينين على كاهله، في تلك المرحلة، مهمة تأسيس "حزب ماركسي مستقر
وممركز ومنضبط". ومن أجل بناءه، اضطر في أكثر من مناسبة إلى محاربة نفس ذلك الجهاز الذي كافح من أجل بناءه.
18
"البالشفة القدماء" عام 9191
لقد حاول لينين طيلة فترة تاريخية بأكملها - أكثر حتى من "ثالث عشرة أو أربع عشرة سنة" - تكوين قيادة وتعليم الكوادر البلشفية
األفكار األساسية للماركسية وأساليبها وبرنامجها. وقبل كل شيء حاول جاهدا الحفاظ على الحركة العمالية بمنأى عن التلوث
اإليديولوجي بالديمقراطية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. وأكد مرارا وتكرارا على الضرورة المطلقة لحفاظ الحركة العمالية على
استقالليتها التنظيمية الكاملة عن أحزاب الديمقراطية البرجوازية واالنتهازيين الذين حاولوا جعل الحركة تحت جناح البرجوازية. و قد
اتضحت الصحة المطلقة لموقف لينين عام 1111 ،عندما انتقل المناشفة إلى معسكر الديمقراطية البرجوازية.
ماذا كان موقف "البالشفة القدماء" - من أمثال كامينيف وزينوفييف وستالين وغيرهم من أتباع لينين "المخلصين" عام 1111؟
جميعهم دافعوا عن تقديم الدعم لحكومة كيرينسكي، والوحدة مع المناشفة، أي التخلي عن معسكر الماركسية من أجل االنتقال
إلى معسكر الديمقراطية البرجوازية المبتذلة. هؤالء "البالشفة القدماء"، الذين ناضل لينين من أجل تثقيفهم في الفترة السابقة، ال أحد
منهم نجح أمام اختبار األحداث الحاسم.
كيف كان من الممكن لقادة الحزب البلشفي، حزب لينين، الذين صقلوا في نار الصراع، والممتلكين للخط الصحيح منذ البداية: عام
1193 ،أن ينكسروا في اللحظة الحاسمة وينتقلوا إلى معسكر االنتهازية؟ ال يمكن للقارئ الحائر أن يتوقع أي جواب من مونتي
جونستون. فمؤرخنا "المحايد" و"العلمي" ال يعرف شيئا عن هذه األحداث! فالتحول من فبراير إلى أكتوبر تم على ما يبدو دون ألم
تماما، على يد البالشفة "المتطورين" من الثورة الديمقراطية إلى االشتراكية. يقول جونستون:
»واآلن بعد أن تمت اإلطاحة بالنظام الملكي و انتهت الثورة البرجوازية الديمقراطية، وصارت روسيا اآلن جمهورية ديمقراطية، عبأ
، والتي كان عليها نقل السلطة إلى أيدي البروليتاريا والفالحين الفق ارء وا راج لينين قوى الحزب البلشفي للمرحلة الثانية من الثورة خ
روسيا من الحرب االمبريالية« )Cogito ،الصفحة 11)
ماذا كان موقف القادة البالشفة في روسيا قبل وصول لينين في أبريل 1111؟ في تناقض صارخ مع كل شيء علمه لهم لينين
طوال فترة الحرب، دعت "برافدا"، التي كانت تحت رئاسة كامينيف وستالين، إلى الدفاع عن الجمهورية الديمقراطية البرجوازية:
كتب كامينيف قائال: »عندما يواجه الجيش الجيش، يكون من أكثر السياسات تفاهة مطالبة أحد تلك الجيوش بإلقاء سالحه والعودة
إلى المنزل. لن تكون هذه سياسة للسالم، بل سياسة للعبودية، سيتم رفضها باشمئزاز من قبل الشعب الحر«.
سياسة لينين بخصوص االنهزامية الثورية أعلنت اآلن، من قبل الهيئة المركزية للحزب عشية الثورة، بكونها "أكثر السياسات تفاهة"
وبكونها "سياسة للعبودية"! كما أعلنت أحد افتتاحيات "برافدا" في مكان آخر:
»إن شعارنا ليس هو شعار "فلتسقط الحرب" الذي ال معنى له. بل شعارنا هو الضغط على الحكومة المؤقتة بهدف إجبارها]![ على
حث]![ كل الدول المتحاربة إلجراء مفاوضات فورية... وحتى ذلك الحين ليبقى الجميع في موقعه«.
كانت سياسة ستالين وكامينيف اتخاذ موقف المقاومة األقل، لدعم الحكومة المؤقتة "طالما تصارع ضد الردة الرجعية والثورة
المضادة"، مع التشدق اللفظي بـ "الهدف النهائي لالشتراكية". إن تأجيل الثورة االشتراكية إلى مستقبل بعيد، واعتبار أن "المهمة الفورية"
هي االستسالم لليبرالية البرجوازية واإلصالحية، ليس، بالطبع، شيئا جديدا بالنسبة لقادة الحزب الشيوعي اليوم، والتي تمثل بالنسبة
لهم جوهر " اللينينية "، على النحو المنصوص عليه في وثيقة "الطريق البريطاني إلى االشتراكية" وسياسة الجبهة الشعبية. كانت تلك
من حيث الجوهر نفس سياسة المناشفة، الذين وجد "البالشفة القدماء" أنفسهم في تحالف حتمي معهم.
كيف عمل لينين، بعد عودته، على "تعبئة البالشفة للمرحلة الثانية من الثورة"، عندما كان جميع األعضاء القياديين يؤيدون الحكومة
المؤقتة؟ من الواضح أن الرفيق جونستون، الذي يمر عبر هذه األحداث في صمت، يشمئز من الخوض في آليات هذه "التعبئة"
الرائعة. لكنه سيكون من "غير التاريخي" تماما من جانبنا أال نتقدم لملئ الفراغات له.
19
من منفاه بالخارج، راقب لينين التطورات التي تحدث داخل الحزب بقلق. كتب مرارا وتكرارا إلى بتروغراد يطالب بالقطع مع البرجوازية
وسياسة الدفاع عن الوطن. ويوم 91 مارس ابرق من ستوكهولم:
»تكتيكنا هو عدم الثقة مطلقا؛ عدم تقديم أي دعم للحكومة الجديدة، واالرتياب في كيرينسكي على وجه الخصوص؛ تسليح
البروليتاريا هو الضمانة الوحيدة؛ إجراء انتخابات فورية لمجلس الدوما في بتروغراد؛ ال للتقارب مع األحزاب األخرى.« )التشديد
من عندنا(
ويوم 11 مارس، كتب لينين:
»سيجلب حزبنا العار لنفسه إلى األبد، وسيقتل نفسه سياسيا، إذا ما شارك في مثل هذا الخداع... سأختار االنشقاق الفوري عن
أي شخص داخل حزبنا بدال من االستسالم لنزعة االشتراكية الوطنية«.
كانت كلمات لينين هذه تحذيرا واضحا إلى كامينيف وستالين، الذين استمرا مع ذلك في موقفهما، على الرغم من رفض قواعد العمال
المناضلين، الذين استقال العديد منهم من الحزب اشمئزازا من استسالم القادة. ومباشرة بعد عودته من المنفى، فتح لينين معركة تكتلية
حادة ضد "البالشفة القدماء". وفي اجتماع لمندوبي البالشفة إلى السوفييت، في أبريل 1111 ،تحدث لينين بمرارة عن مزاج االستسالم
الذي أصاب القيادة:
»المسألة األساسية هي الموقف من الحرب. والشيء الرئيسي الذي يواجهك عندما تقرأ عن روسيا وترى ماذا يحدث هنا هو: انتصار
نزعة الدفاع عن الوطن، انتصار خونة االشتراكية، وخداع الجماهير من طرف البرجوازية...
»ال يمكننا السماح بأدنى تنازل لنزعة الدفاع عن الوطن في موقفنا من الحرب، حتى في ظل الحكومة الجديدة التي ما تزال
إمبريالية...
»حتى بالشفتنا يظهرون بعض الثقة في الحكومة. وال يمكن تفسير ذلك إال بتسمم الثورة. إنها موت االشتراكية. إنكم أيها الرفاق
ذا كان األمر كذلك فإن طرقنا تفترق. إنني أفضل البقاء أقلية...
تتبنون موقف الثقة في الحكومة. وا
»تطلب "برافدا" من الحكومة أن تتخلى عن سياسة االلحاقات. إن مطالبة حكومة الرأسماليين بالتخلي عن سياسة االلحاقات هراء،
إنه مهزلة مبكية... ]صمت لبضعة دقائق[
»من وجهة النظر العلمية يشكل هذا خداعا فادحا، كل البروليتاريا األممية، كل... ]صمت لبضعة دقائق[ لقد حان الوقت لنعترف
بأخطائنا. لقد دبجنا ما يكفي من التحايا والقرارات، إنه وقت العمل«. )األعمال الكاملة، المجلد 31 ،صفحات 232 -231)
وعندما تطرق إلى بيان المناشفة للسوفييت المعنون بـ "إلى شعوب العالم بأسره"، والذي نوهت به "برافدا" باعتباره "حل وسط واع بين
االتجاهات المختلفة الممثلة في السوفييت"، والذي صوت لصالحه مندوبو البالشفة تحت تأثير من ستالين وكامينيف، أشار لينين:
»إن بيان سوفييت نواب العمال ال يتضمن ولو كلمة و احدة مشبعة بالوعي الطبقي. إنه مجرد كالم فارغ! إن الكالم ونفاق الشعب
الثوري، هي الشيء الوحيد الذي دمر كل الثورات. الماركسية تعلمنا عدم االستسالم للجمل الثورية، ال سيما في الوقت الذي تكون
فيه العملة األكثر رواجا«. )المرجع نفسه، ص 231)
من الذي انتقدهم لينين باالستسالم "للجملة الثورية" أيها الرفيق جونستون؟ هل كان تروتسكي، الذي لم يكن حتى داخل البالد في
ذلك الوقت؟ كال، أيها الرفيق جونستون، لقد كان ستالين وكامينيف، أولئك "البالشفة المصقولين"، أولئك "اللينينيين" المخلصين الذين
لعبوا "دورا هاما جدا داخل الحزب" في عام 1111 !قبل ثالثة أيام من هذا االجتماع، كان ستالين قد أعلن دعمه لقبول اقتراح
المنشفي تسيرتيلي لتوحيد البالشفة والمناشفة. وقد كان مبرره لذلك هو أنه بما أن كال الحزبين قد اتفقا على موقف بيان السوفييت،
21
فإنه لم تعد هناك أي اختالفات جوهرية من حيث المبدأ بين الحزبين. وفي إشارة غير مباشرة من لينين إلى ذلك، أصدر تحذيرا
شديدا:
»سمعت أن هناك اتجاه داخل روسيا نحو التوحيد، نحو الوحدة مع المدافعين عن الوطن. إن هذه خيانة لالشتراكية. وأعتقد أنه من
األفضل أن أبقى وحدي، مثل ليبكنخت: وحدي ضد 119( »المرجع نفسه، ص 223)
هذا ما لدينا هنا: "خيانة االشتراكية"، "خداع الجماهير"، "هراء"، "مهزلة مبكية"، "الخداع فادح". هذه هي اللغة التي اضطر لينين
إلى اللجوء إليها من أجل "تعبئة الحزب البلشفي" للثورة االشتراكية! بعد نقد لينين الحاد انسحب ستالين من ساحة النقاش العام الذي
انطبع بموقفه االشتراكي الوطني، والتحق بهدوء بموقف لينين؛ بينما استمر كامينيف وزينوفييف في معارضتهما حتى أكتوبر، عندما
صوتا ضد االنتفاضة وشنا حملة داخل وخارج الحزب ضدها. هذا هو "الدور المهم" الذي اضطلع به هؤالء "البالشفة القدماء" الذين
عشية ثورة أكتوبر، طالب لينين بغضب بطر دهم من الحزب.
يهاجم مونتي جونستون تروتسكي بسبب موقفه التوفيقي قبل عام 1111 ،لكنه نسي أن يذكر أن ستالين وشركائه كانوا واضحين
جدا بشأن مسألة التوفيقية إلى درجة الدعوة إلى الوحدة مع المناشفة قبل بضعة أشهر من ثورة أكتوبر، في نفس ذلك الوقت الذي
كان من الضروري طرح تلك الخالفات بين البالشفة والمناشفة )أي بين الثورة والثورة المضادة( بأكثر الطرق حزما ووضوحا.
بعد أن أشرنا إلى هذا، من الضروري أن نضيف رغم كل شيء أن "البالشفة القدماء" بكل إخفاقاتهم كانوا ثوريين أقحاح. لقد ارتكبوا
خطأ، خطأ جوهريا، كان سيؤدي، لوال تدخل لينين وتروتسكي، إلى كارثة. بدون قيادة لينين وتروتسكي لم يكن للثورة الروسية أن
تنجح سنة 9191 .إما ديكتاتورية العمال أو ردة كورنيلوفية**: هكذا حدد لينين البدائل المطروحة في عام 1111 .من دون الكفاح
الذي خاضه لينين خصوصا، بكل سلطته الشخصية الهائلة، ال شك في أن الحركة كانت ستسقط تحت قبضة الردة الرجعية.
ومع ذلك وبالرغم من نقاط ضعفهما وتذبذبهما، لم يتعرض كامينيف وزينوفييف للمحاكمة، ولم يتهما بكونهما "عمالء لإلمبريالية
األلمانية"، ولم يتعرضا للتعذيب النتزاع اعترافات كاذبة. في ظل التقاليد البلشفية، تقاليد التسامح والنسبية، ليس فقط لم يتعرض
كامينيف وزينوفييف للطرد، بل لقد انتخبا عضوين في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، أعلى مناصب المسؤولية. وحتى بعد ذلك،
لم يتصرفا بشكل صحيح دائما، وارتكبا أحيانا أخطاء كارثية: لكن ال يمكن تشبيه حتى أسوء أخطاء "البالشفة القدماء" بسياسة الغدر
والخيانة الصريحة للثورة من جانب البيروقراطية الستالينية وأتباعها الدوليين. إن تقاليد الستالينية التوتاليتارية وتقاليد البلشفية اللينينية
يفصل بينهما نهر من الدماء.
تروتسكي والبالشفة عام 9191
لقد رأينا كيف لجأ مونتي جونستون إلى خدمات "مؤلف سيرة ترو تسكي المتعاطف للغاية، لكن الموضوعي للغاية أيضا" اسحق
دويتشر. كثيرا ما التجأ جونستون إلى دويتشر، الذي يعفيه تماما من ضرورة النقل المؤلم من أعمال تروتسكي نفسه، ويقدم له بلطف
ذلك النوع من األحكام المسبقة المبتذلة عن سمات تروتسكي النفسية والمعنوية التي يستعملها كمسمار، حتى وان كان صدئ، يعلق
عليه "أطروحته" عن تروتسكي، الذي يظهر اآلن منتصرا:
»الحقيقة هي... أنه بالرغم من انضمام تروتسكي إلى الحزب البلشفي في يوليوز1111 ،بفعل زخم]؟[ ثورة أكتوبر القادمة]؟[ التي
سيلعب فيها ذلك الدور البارز]؟؟[، نجد خالل السنوات األربع عشرة من حياة تروتسكي... عجزا تاما من جانبه عن تكريس نفسه في
الفترة الغير الثورية لمهمة بناء منظمة قوية يدرب نفسه في صفوفها، وبالتالي يكون على استعداد المتالك االنضباط الجماعي الذي
ظهر من جديد بعد هدوء عواصف الثورة.« )Cogito ،الصفحة 91)
21
يريد جونستون أن يرسم صور ة لتروتسكي باعتباره زعيما ثوريا، و"خطيبا رائعا"، يستمد اإللهام من "عواصف الثورة"، ومحرضا
جماهيريا جيدا، لكنه يبقى أساسا فردانيا برجوازيا صغيرا، تنهار معنوياته بمجرد مرور الوضع الثوري. كل مؤلفه قطعة عجيبة من
الكلمات االنطباعية: وهو مثل كل أعمال االنطباعيين، تبدو جيدة، عن بعد، إن أبقيت عينيك نصف مغلقتين...
إننا نسأل الرفيق جونستون أوال: كيف كان من الممكن لهذا "الخطيب الرائع" االنضمام إلى الحزب البلشفي "بفعل زخم" شيء لم
يكن قد حدث بعد؟ يحاول مونتي جونستون بوضوح تبديل تاريخ انضمام تروتسكي إلى البالشفة إلى ما بعد ثورة أكتوبر، )"بجرة قلم"(
كما يقال. لكن ال، ألن مثل هذا التشويه سيكون كبيرا جدا حتى بالنسبة لصديقنا جونستون؛ مما دفعه على مضض إلى جعل
تروتسكي ينضم إلى الحزب "بفعل زخم ثورة أكتوبر القادمة!"
رغم ذلك هناك صعوبة أخرى صغيرة، وهي أن تروتسكي نفسه، وبعبارة مونتي جونستون، لعب "دورا بارزا" في تحقيق هذه الثورة
"القادمة". في الواقع لقد انضم تروتسكي رسميا إلى الحزب البلشفي ليس عندما كان الحزب في قمة موجة ثورية، على وشك االستيالء
على السلطة، كما يزعم جونستون، بل على العكس من ذلك تماما، عندما كانت حظوظه تبدو في أدنى مستوياتها خالل فترة الردة
الرجعية التي تلت "أيام يوليوز"، عندما كان لينين مختفيا وكان الكثير من البالشفة في السجن.
لماذا انضم تروتسكي إلى البالشفة سنة 1111؟ أوال وقبل كل شيء ألنه لم تعد هناك أي خالفات سياسية بينهما. فقد التقى
المقال الذي كتبه تروتسكي في أمريكا في شهر مارس 1111 مع خط تفكير "رسائل من بعيد" التي كتبها لينين، من سويسرا في
نفس الوقت. هل كان ذلك االتفاق صدفة أيها الرفيق جونستون؟ إذا حكمنا على المسألة من وجهة نظرك الخاصة لجداالت الماضي
بين لينين وتروتسكي، يصير أي استنتاج آخر غير ممكن. لكن ماذا إذن عن الدور المخزي الذي لعبه "البالشفة القدماء" في هذه
الفترة؟ لقد كانوا هم بالضبط هؤالء الرجال الذين، وفق تعبيرك، "جهزوا أنفسهم داخل الحزب" و"تربوا على االنضباط الجماعي" في
الفترة السابقة؛ هل كان ذلك أيضا "صدفة"؟ لقد أكد لينين، في رسالته األخيرة إلى مؤتمر الحز ب )1143 ،)على أنه لم يكن صدفة.
كما لم يكن صدفة، أيها الرفيق جونستون، أن أكثر مؤيدي لينين ثباتا في معركته ضد تذبذب "البالشفة القدماء" في عام 1111 ،
كان هو تروتسكي وليس أي أحد سواه.
إن كل الغاية من النظرية الثورية، وبناء الحزب الثوري، هي القيام بالثورة. خالل "عواصف الثورة" على وجه التحديد، عندما تقع
الحركة الثورية تحت ضغوط حادة من قوى طبقية أخرى، حيث توضع جميع النظريات والرجال واألحزاب على محك االختبار الحاسم.
إن السبب في أن "البالشفة القدماء" فشلوا في هذا االختبار، والسبب في أنهم وجدوا أنفسهم تائهين بشكل يرثى له في عاصفة
الثورة، هو على وجه التحديد، ألنهم في كل الفترة السابقة فشلوا في استيعاب وفهم طرق وأفكار لينين التي كانت طرق وأفكار
الماركسية الثورية.
كان "البالشفة القدماء" مكتفين، في الفترة السابقة، بـ "تجهيز أنفسهم داخل الحزب"، عبر إتباع خطى لينين بخطوات عر جاء، وبتكرار
ميكانيكي ألفكاره، التي كانت تتحول بين أيديهم إلى تمائم ال معنى لها. وكانت النتيجة هي أنهم في اللحظة الحاسمة، عندما صار
من الضروري القيام بانعطاف جذري، ترددوا و"فقدوا رؤوسهم" وعارضون لينين... وسقطوا في معسكر المنشفية. بينما تروتسكي، من
ناحية أخرى، الذي سار في طريق مختلف، وصل إلى نفس االستنتاجات التي توصل إليها لينين عبر طريق آخر. منذ تلك اللحظة،
صارت جميع الخالفات القديمة إلى مزبلة التاريخ... لينبش عنها مرة أخرى الستالينيون بعد وفاة لينين، في محاولة إلطاحة تروتسكي
من القيادة.
منذ اللحظة األولى لوصول تروتسكي إلى بتروغراد في شهر ماي 1111 ،تحدث وتصرف بتضامن مع البالشفة. وفي تعليقه على
ذلك، قال المناضل البلشفي راسكولينكوف ما يلي:
22
»ليون دافيدوفيتش ]تروتسكي[ لم يكن رسميا في ذلك الوقت عضوا في حزبنا، لكنه في واقع األمر كان يعمل داخله باستمرار منذ
يوم وصو له من الواليات المتحدة. وعلى أية حال، فمباشرة بعد أول خطاب له في مجلس السوفييت، نظرنا إليه جميعا كواحد من قادة
)11 الصفحة، 1143 ،Proletarskaya Revolutsia( .»حزبنا
وعن خالفات الماضي يقول نفس الكاتب:
»أصداء خالفات الماضي خالل فترة ما قبل الحرب اختفت تماما. لم تعد هناك أي اختالفات موجودة بين خط لينين التكتيكي وخط
تروتسكي. صار ذلك االنصهار، الذي كان في اإلمكان مالحظته بالفعل خالل مرحلة الحرب، تاما ونهائيا منذ لحظة عودة تروتسكي
إلى روسيا. منذ أول خطاب علني له شعرنا جميعا نحن اللينينيين القدماء بأنه واحد منا.« )المرجع نفسه، ص 149)
ذا كان تروتسكي لم ينضم رسميا على الفور إلى الحزب البلشفي، فإن ذلك لم يكن بسبب أي خالفات سياسية )كان قد أعلن
وا
استعداده لالنضمام فورا خالل مناقشة مع لينين ورفاقه(، بل ألن تروتسكي كان يرغب في كسب تنظيم ميزرايونتسي )مجموعة ما
بين الجهات( التي كانت تضم حوالي 2999 عامل من بتروغراد والعديد من الشخصيات البارزة مثل أوريتسكي وجوفي ولوناتشارسكي
وريازانوف وفولودارسكي، وغيرهم من المناضلين الذين لعبوا الحقا أدوارا بارزة في قيادة الحزب البلشفي. وعن هذه المجموعة تؤكد
مذكرة للينين نشرت في روسيا بعد الثو رة ما يلي:
»فيما يتعلق بمسألة الحرب تبنت مجموعة ميزرايونتسي موقفا أمميا، وقد كانوا قريبين في تكتيكاتهم من البالشفة«. )األعمال
الكاملة، المجلد 12 ،الصفحة 221)
وعن مؤتمر سوفييتات عموم روسيا الذي عقد في مطلع شهر يونيو، والذي كان ما يزال تحت سيطرت المناشفة واالشتراكيين
الثوريين، الحظ أ، هـ، كار ما يلي:
»كان تروتسكي ولوناتشارسكي بين المندوبين العشرة "لالشتراكيين الديمقراطيين المتحدين" الذين دعموا بقوة البالشفة طوال األسابيع
الثالثة للمؤتمر.« )الثورة البلشفية، المجلد 1 ،الصفحة 11)
من أجل تسريع انضمام مجموعة ميزرايونتسي إلى البالشفة، وهو الشيء الذي جرت معارضته من قبل بعض القيادات، كتب
تروتسكي في "برافدا" البيان التالي:
»ليست هناك من وجهة نظري في الوقت الحاضر ]أي يوليوز[ أي خالفات سواء من حيث المبدأ أو في التكتيكات بين "مجموعة
ما بين الجهات" وبين المنظمات البلشفية. وبالتالي ال توجد أسباب تبرر الوجود المستقل لهذه المنظمات«. )التشديد من عندنا(
في هذا الوقت الصعب والخطير، كتب تروتسكي رسالة إلى الحكومة المؤقتة، تستحق أن تنشر بنصها الكامل، بالنظر إلى الضوء
الذي تسلطه على العالقات بين تروتسكي والبالشفة في 1111 .الرسالة مؤرخة في 43 يوليوز 1111:
»الوزراء المواطنون:
»لقد علمت أنه في عالقة مع أحداث 11-11 يوليوز]2 ،]صدر أمر قضائي بالقبض على لينين وزينوفييف وكامينيف، لكن ليس
علي. وأود، بالتالي، أن ألفت انتباهكم إلى ما يلي:
1 -أنا أتفق مع األطروحات الرئيسية للينين وزينوفييف و كامينيف، ودعوت لها في جريدة "فبريود" وفي خطاباتي العامة.
4 -كان موقفي تجاه أحداث 11-11 يوليوز نفس موقفهم.
أ( علمنا: كامينيف وزينوفييف وأنا ألول مرة بالخطط المقترحة لفرقة سالح المدفعية وغيرها من الفرق خالل االجتماع المشترك
للمكاتب ]اللجان التنفيذية[ في 11 يوليوز. وقد اتخذنا خطوات فورية لمنع الجنود من الخروج. أبلغ زينوفييف وكامينيف البالشفة،
وأبلغت أنا تنظيم ما بين الجهات ]أي مجموعة ميزرايونتسي ] الذي أنتمي إليه.
23
ب( لكن عندما خرجت المظاهرات، على الرغم من الجهود التي بذلناها ألقينا، رفاقي البالشفة وأنا، العديد من الخطب أمام
قصر توريد، والتي دافعنا خاللها عن الشعار الرئيسي للجماهير: "كل السلطة للسوفييتات"، لكننا، في الوقت نفسه، دعونا هؤالء
المتظاهرين، سواء منهم الجنود أو المدنيين، إلى العودة إلى ديارهم وثكناتهم بطريقة سلمية ومنظمة.
ج( وفي كونفرانس انعقد في قصر توريد في وقت متأخر من ليلة 11-11 يوليوز، بين بعض البالشفة ومنظمات األحياء،
دعمت فكرة كامينيف بأنه ينبغي القيام بكل شيء لمنع تكرار التظاهر يوم 11 يوليوز. عندما، مع ذلك، علم من طرف
المحرضين، الذين وصلوا من مختلف األحياء، أن الفيالق وعمال المصانع قد قرروا بالفعل أن يخرجوا، وأنه كان من المستحيل
منع الحشود من الخروج حتى انتهاء األزمة الحكومية، وقد اتفق جميع الحاضرين على أن أفضل شيء يفعلونه هو توجيه
المظاهرة في مسارات سلمية، ويطلبون من الجماهير ترك أسلحتهم في المنزل.
د( خالل يوم 11 يوليوز، والذي قضيته في قصر توريد، قمنا أنا والرفاق البالشفة أكثر من مرة بحث الجماهير في هذا
االتجاه.
3 -إن واقع أنني ال عالقة لي مع "برافدا" ولست عضوا في الحزب البلشفي ال يعود إلى وجود خالفات سياسية، ولكن لظروف
معينة في تاريخ حزبنا فقدت اآلن كل معنى.
2 -ومحاولة الصحف خلق االنطباع بأنني "ال عالقة لي" مع البالشفة تملك من الحقيقة بقدر ما يملك ذلك التقرير الذي يزعم أنني
طلبت من السلطات حمايتي من "عنف الغوغاء"، ومئات الشائعات الكاذبة األخرى التي تنشرها تلك الصحافة نفسها.
»بناء على كل ما قلته، من الواضح أنه ال يمكنكم استبعادي منطقيا من أمر القبض الذي أصدرتموه على لينين وكامينيف
وزينوفييف]4 .]وال يمكن أيضا أن يكون هناك أي شك في أذهانكم حول أني معارض سياسي عنيد مثل هؤالء الرفاق المذكورين
أعاله. إن تركي في الخارج يؤكد فقط على الغطرسة المضادة للثورة التي تكمن وراء الهجوم على لينين وزينوفييف وكامينيف.«
)من: عصر الثورة الدائمة، صفحات 11 -11 ،التشديد من عندنا(
طوال هذه الفترة كلها، أعرب تروتسكي، في عشرات المناسبات، عن اتفاقه مع موقف البالشفة. في األيام األكثر صعوبة، عندما
اضطر الحزب إلى العمل السري، وعندما اضطر لينين وزينوفييف إلى مغادرة البلد إلى فنلندا، وكان كامينيف في السجن، و تعرض
البالشفة لالفتراءات المخزية بكونهم "عمالء أللمانيا"، تحدث تروتسكي علنا للدفاع عنهم، وربط موقفه بموقفهم. مونتي جونستون
يعرف كل هذا. إنه يعرف ذلك ويمر عليه في صمت. كل ما لديه ليقوله حول هذا هو:
»بسبب "عجرفته الهائلة" يبدو أن تروتسكي اعتقد حقا أن الحزب البلشفي قد تخلص من النزعة البلشفية )"bolshevised-de ،)"
وعلى هذا األساس، قرر االنضمام إليه.« )Cogito ،صفحة 12)
لم تكن عبارة "تخلص من النزعة البلشفية" من إنتاج تروتسكي، بل من إنتاج "المحايد" إسحاق دويتشر، أما "العجرفة الهائلة" فنجدها
في كتاب لوناتشارسكي "ظالل ثورية" حيث نقرأ ما يلي:
»تروتسكي شخصيا سريع الغضب وذو طبع استبدادي. لكن وبعد انضمامه إلى البالشفة، كان لينين هو الشخص الوحيد، الذي
اتخذ تروتسكي إزاءه موقفا يتسم بمرونة لبقة مؤثرة. وبذاك النوع من التواضع الذي يتسم به جميع الرجال العظام حقا يعترف ]تروتسكي[
بأسبقية لينين.«
24
وفي الصفحة 23 من نفس المؤلف نجد:
»وعندما مرض لينين، مرض موته، أصبنا بالرعب، وال احد أعرب عن مشاعرنا أفضل من تروتسكي. ووسط االضطرابات المروعة
لألحداث العالمية كان تروتسكي، الزعيم اآلخر للثورة الروسية، الرجل الذي ال يميل أبدا إلى العاطفة، هو من قال: "عندما تدرك أن
لينين قد يموت، يبدو أن حياتنا جميعا عديمة الجدوى، وتفقد الرغبة في الحياة."«
نترك لقارئ هذه السطور حرية اتخاذ القرار بشأن الجزء الذي تظهر فيه "العجرفة الهائلة" في تصوير العالقة بين اثنين من أعظم
الثوار في عصرنا.
بعد ذلك بعامين، أشار لينين إلى أن البلشفية في عام 1111" استقطبت جميع أفضل العناصر في تيارات الفكر االشتراكي التي
كانت قريبة إليها." لمن تشير هذه األسطر أيها الرفيق جونستون؟ إلى المناشفة اليساريين واالشتراكيين الثوريين اليساريين؟ لكن معظم
تلك العناصر كانت قد قطعت بالفعل مع البلشفية بحلول عام 1111 .إن هذه السطور تشير بوضوح إلى تروتسكي ومجموعة
ميزرايونتسي. إن موقف لينين المتميز تجاه مجموعة ميزرايونتسي يظهر من حقيقة أنه في الوقت الذي كان يحث على تشديد شروط
العضوية لحماية الحزب من تدفق عناصر غير موثوق بها، ألغيت فترة االختبار بالنسبة لمجموعة ميزرايونتسي، التي سمح
ألعضائها بحساب مدة عضويتهم داخل الحزب البلشفي ابتداء من الوقت الذي انضموا فيه إلى مجموعتهم.
كان هذا اإلجراء دليال على اتفاق البالشفة مع تأكيد تروتسكي على أنه ال توجد أي اختالفات تكتيكية أو سياسية بين المجموعتين.
وخالل المؤتمر نفسه الذي أنظمت فيه مجموعة ميزرايونتسي إلى الحزب البلشفي، انتخب صاحب "العجرفة الهائلة" تروتسكي إلى
اللجنة المركزية، وكان واحدا من األسماء األربعة )مع لينين وزينوفييف وكامينيف( الذين أعلن أنهم حصلوا على أعلى عدد من
األصوات )131 صوت من أصل 132.)
مدرسة ستالين للتزوير
»سيكون من غير التاريخي في الواقع، إذا ما قمنا، عند تقييمنا لتروتسكي، بتجاهل نضاله ضد البلشفية خالل السنوات األربع عشرة
األولى من وجودها - أو النظر إلى أن هذه المسألة منتهية عبر االستشهاد بمالحظة يزعم أن لينين قالها عن سلطة تروتسكي في
1111( في خضم الثورة وبعد أن لم يقض هذا األخير في الحزب سوى أقل من أربعة أشهر( بأنه منذ أن فهم تروتسكي استحالة
الوحدة مع المنشفيك، "لم يعد هناك بلشفي أفضل منه".« )Cogito ،صفحة:1)
هكذا ينهي مونتي جونستون الجزء األول من كتابه "البعيد المدى والمعقد، لكن المفيد للغاية" عن تاريخ البلشفية. وبما أن لديه
طريقته الخاصة في استخدام المصادر، فإنه يرفض االعتراف بمالحظة "يزعم" أن لينين أدلى بها "عن سلطة تروتسكي". ما هي تلك
المالحظة، ولماذا قالها لينين؟
خالل اجتماع للجنة بتروغراد في 12 نوفمبر 1111 ،تحدث لينين عن خطر النزعات التوفيقية داخل قيادة الحزب، والتي ما زالت
تشكل تهديدا حتى بعد ثورة أكتوبر. يوم 12 نوفمبر، وبعد أحد عشر يوما على نجاح االنتفاضة، استقال ثالثة من أعضاء اللجنة
المركزية )كامينيف وزينوفييف ونوغين( احتجاجا على سياسات الحزب، وأصدروا إنذارا نهائيا )ultimatum )للمطالبة بتشكيل حكومة
ائتالفية تضم المناشفة واالشت اركيين الثوريين، "وا على حكومة بلشفية بحتة عن طريق ال فإن الطريق الوحيد الذي سيبقى هو الحفاظ
اإلرهاب السياسي". وأنهوا بيانهم بتوجيه نداء إلى العمال من أجل "المصالحة الفورية" على أساس شعارهم "تحيا حكومة مشكلة من
كل األحزاب السوفييتية"!. بدا أن هذه األزمة ستدمر كل المكاسب التي حققتها ثورة أكتوبر. وردا على خطورة الوضع، دعا لينين إلى
طرد هؤالء القادة. في ظل هذا الوضع حيث ألقى لينين خطابه الذي ينتهي بعبارة: "ال تصالح! من أجل حكومة بلشفية متجانسة".
وفي النص األصلي لخطاب لينين نجد الكلمات التالية:
25
»أما بالنسبة لالئتالف فإنني ال أستطيع أن أتحدث عنه بجدية. لقد قال تروتسكي منذ فترة طويلة إن االتحاد مستحيل. لقد فهم
تروتسكي هذا األمر، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا لم يعد هناك بلشفي أفضل منه«.
بعد وفاة لينين، شنت الزمرة الحاكمة: ستالين وكامينيف وزينوفييف، حملة منهجية لتزوير التاريخ، تهدف إلى التقليل من شأن دور
تروتسكي في الثورة وتعزيز أدوارهم. وللقيام بذلك، كان عليهم أن يخترعوا أسطورة "التروتسكية"، لحفر هوة بين موقف تروتسكي
وموقف لينين و"اللينينيين" )أي هم أنفسهم(. وبدأ المؤرخون المبتذلون في النبش في ركام قمامة الجداالت القديمة التي كانت قد نسيت
منذ فترة طويلة من قبل أولئك الذين شاركوا فيها: نسيت ألن جميع المسائل التي أثيرت خاللها كانت قد حلت بفضل تجربة أكتوبر
وبالتالي لم يعد لها سوى أهمية تاريخية مجردة. لكن العقبة الخطيرة في طريق المزيفين كانت هي ثورة أكتوبر نفسها. وقد تمت
إزالة هذه العقبة عن الطريق حذف اسم تروتسكي تدريجيا من كتب التاريخ، من خالل إعادة كتابة التاريخ، وأخيرا من خال ل المنع
الصريح لكل إشارة تظهر ولو بشكل بسيط دور تروتسكي.
مونتي جونستون نفسه يسوق مثاال جيدا على ذلك: في طبعة 1132 لكتاب ستالين "ثورة أكتوبر" نجد العبارة التالية:
»كل المهام العملية في العالقة مع تنظيم االنتفاضة أنجز ت في ظل القيادة المباشرة للرفيق تروتسكي، رئيس مجلس سوفييت
بتروغراد. ويمكن القول بالتأكيد أن الحزب مدين في المقام األول وبشكل أساسي إلى الرفيق تروتسكي في االنتقال السريع للحامية
العسكرية إلى جانب السوفييت والطريقة الفعالة التي نظم بها عمل اللجنة الثورية العسكرية«.
يقول مونتي جونستون: »لقد تم شطب هذا المقطع بشكل غير مبرر من نص المقال المنشور في أعمال ستالين، موسكو، 1143 ،
الجزء الرابع، ص 141( »التشديد من عندنا(
"شطب بشكل غير مبرر" هي لغة رجل تفاجئ وغضب بسبب بعض التفاصيل البسيطة وغير المتوقعة. لكن ال يوجد شيء يثير
الدهشة حيال ذلك، ودهشة الرفيق جونستون كاذبة تماما. فهو يدرك جيدا أن كل كتب التاريخ السوفياتية حتى وقتنا الحاضر ال تتألف
إال من الروايات الخاطئة والكاذبة تماما حول الثورة الروسية، وخاصة حول دور تروتسكي. كانت تشويهات 1142 شديدة الوقاحة
على الرغم من أنها لم تكن سوى ممهد للحظة التي سيستبدل فيها ستالين ما كتب أعاله ويكتب ما يلي:
»لم يلعب الرفيق تروتسكي أي دور خاص، سواء داخل الحزب أو في انتفاضة أكتوبر، ولم يكن في مقدوره أن يلعب أي دور
باعتباره كان عضوا جديد نسبيا في حزبنا في فترة أكتوبر«. )ستالين: األعمال الكاملة، موسكو، طبعة 1143)
ولم يكن هذا بدوره سوى خطوة أخرى نحو االنحطاط الشامل للبيروقراطية الستالينية التي اتهمت ليس فقط تروتسكي، بل كل القيادة
"البلشفية القديمة" بكونها متعاونة مع الفاشية األلمانية من أجل إسقاط االتحاد السوفياتي. ومن بين التهم التي تم توجيهها خالل
محاكمات الثالثينات السيئة الذكر، اتهام بوخارين، الذي وصفه لينين في وصيته المحضورة "المفضل لدى الحزب كله"، بالتخطيط
الغتيال لينين في عام 1111!
وقد نشرت هذه المالحظة التي "يزعم أن لينين قالها عن سلطة تروتسكي" في الطبعة األصلية من محضر لجنة بتروغراد، لكنها
اختفت في وقت الحق على أساس أنه قد تم نسخ خطاب لينين بشكل غير صحيح من قبل مقرر اللجنة. مما ال شك فيه إن النص
كله، كما هو الحال مع العديد من خطب لينين، قد تم تحريره بشكل سيء، مليء بالثغرات والجمل الغير مكتملة. لكن لم يتم حذف
سوى صفحة واحدة: الصفحة التي تحتوي على تصريحات لينين حول تروتسكي. في كتابه: "مدرسة ستالين في التزوير"، استنسخ
تروتسكي صورة للصفحة المذكورة. ويوجد األصل في محفوظات تروتسكي، إلى جانب قدر كبير من المواد األخرى التي تم حضرها
في االتحاد السوفياتي. مونتي جونستون ال يشكك في صحة الوثيقة. إنه ال يجرؤ على ذلك: فلقد أكد صحتها ليس فقط كل المؤرخين
الجديين للثورة الروسية، بل أيضا تلك الوثائق المنشورة من قبل البيروقراطية السوفياتية بعد المؤتمر العشرين، بما في ذلك "وصية"
لينين المحضورة، والتي نشرت من قبل المعارضة اليسارية في روسيا، والتروتسكيين في الخارج قبل ثالثين عاما من قيام الزمرة
26
السوفياتية الحاكمة بنشرها للعموم. بطبيعة الحال، لم يعملوا على نشر سوى جزء صغير من الوثائق التي تظهر معارضة لينين
لستالين. لكن ما زالت الكمية األكبر من الوثائق وراء األبواب الموصدة بإحكام، في القسم "المغلق" من مكتبة لينين، المتاح فقط لـ
"مؤرخي" الحزب المأجورين.
يمكن التأكد من صحة ما قاله لينين من خالل السياق الذي كان يتحدث فيه. كان يتحدث بشأن مسألة النزعة التوفيقية، لم يكن
هناك قبل الحرب مدافع مفوه عنها أكثر من تروتسكي. كان تروتسكي يعتقد، على أساس تجربة ثورة 1194 ،أن نهوضا ثوريا جديدا
سيدفع أفضل العناصر من بين المناشفة إلى اليسار، ويمكن من تحقيق الوحدة مع البالشفة. ولقد أثبتت األحداث نفسها عدم صحة
هذا الموقف. تروتسكي، في عام 1111 ،اعترف بخطئه دون تردد وألغى من ذهنه بشكل نهائي أي فكرة للتوحيد مع المناشفة. لكن
كتلة "البالشفة القدماء"، من جهة أخرى، تشبثوا بعناد بأوهامهم التوفيقية حتى بعد االستيالء على السلطة. إن ما كانوا يطالبون به
في نوفمبر 1111 كان بمثابة الردة )restoration ،)أو الثورة المضادة بثوب ديمقراطي. سنطرح على مونتي جونستون سؤاال
مباشرا: من الذي تصرف كبلشفي حقيقي في عام 1111 ،هل هو تروتسكي أم من كانوا يسمون أنفسهم "البالشفة القدامى"؟ إنه لن
يجيب. لكن ال مشكلة فقد قدم لينين الجواب عن هذا السؤال في اجتماع لجنة بتروغراد في نوفمبر 1111.
في الصفحة 41 من مؤلفه يستشهد جونستون بفقرات من رسالة لينين األخيرة إلى المؤتمر -الوصية المحضورة الشهير ة- والتي لم
تصبح متاحة لقواعد األحزاب الشيوعية من قبل قادة االتحاد السوفياتي إال بعد المؤتمر العشرين. نقل جونستون ما قاله لينين حول
السمات الشخصية لتروتسكي، ولكنه يغفل جملة واحدة وثيقة الصلة جدا بمؤلفه. لقد أكد لينين، في كلمته األخيرة للحزب الشيوعي
الروسي، على انه ال ينبغي أن يستخدم ماضي تروتسكي الغير بلشفي ضده.
وقد خصص مونتي جونستون أكثر من نصف مؤلفه في النبش عن كل ما يمكن أن يجده من الجدل األكثر غموضا الذي يعود
إلى الفترة السابقة لـ 1111 .لكنه تغافل عن االستشهاد بكلمة لينين األخيرة عن تروتسكي وعالقته بالحزب البلشفي، قبل عام
.9191
بالنسبة للينين، كما هو الشأن بالنسبة لتروتسكي، شكل عام 1111 نقطة تحول حاسمة، مما يجعل كل الجدل القديم مع تروتسكي
بدون معنى. وهذا هو السبب الذي جعل لينين لم يشر إليها مطلقا بعد عام 1111 .وهذا هو السبب أيضا الذي جعل تروتسكي، في
1141 ،يخبر أولمينسكي أنه ال معنى لنشر رسالته إلى شخيدزه. مونتي جونستون يلمح، على هذه األسس، إلى أن تروتسكي كان
مذنبا باستعمال نفس أساليب التزوير التي كان يستعملها ستالين!
يقول جونستون: »عندما سأله أولمينسكي، رئيس لجنة تاريخ الحزب، عما إذا كان ينبغي نشر ]الرسالة إلى شخيدزه[، أجابه أن ذلك
"غير مناسب"، مضيفا بطريقة أبوية أن: "القارئ اليوم لن يفهم، ولن يجري التعديالت التاريخية الالزمة، وسوف يشعر فقط باللبس". كان
هذا بالضبط هو السبب الذي دفع ستالين إلى حضر وتزييف الوثائق التاريخية، وهو ما ندد به تروتسكي في السنو ات الالحقة
بشكل صحيح« )Cogito صفحة 1 ،التشديد من عندنا(
بما أن مونتي جونستون لم يقم أيضا بأدنى محاولة لشرح السياق التاريخي لهذه الرسالة - أو أي وثيقة أخرى- فإن دوافعه
الستخدامها واضحة تماما. نأمل أن نكون قد قدمنا بعض األفكار حول "الدافع" الحقيقي لتروتسكي في هذه الفترة )1113 ،)أي رغبته
في توحيد الحركة الماركسية. وفي كتابه "دفاعا عن الماركسية"، يفسر تروتسكي بشكل واضح أسباب موقفه. جونستون يقتبس من
هذا العمل، لكن بنفس الطريقة االنتقائية المعتادة، حيث لم يستشهد سوى بجملة واحدة وهي: "لم أكن قد تخلصت في تلك الفترة
وخصوصا في المجال التنظيمي من سمات ثوري برجوازي صغير". دعونا نستشهد بكلمات تروتسكي دون االختصارات "المناسبة":
»لدي في ذهني ما كان يسمى بكتلة غشت لسنة 1114 .لقد شاركت بنشاط في هذا التكتل. وبمعنى ما كنت أنا من خلقها. من
الناحية السياسية كنت اختلف مع المناشفة حول جميع المسائل األساسية. وكنت اختلف أيضا مع البالشفة اليساريين المتطرفين،
الفبريوديين. في االتجاه السياسي العام كنت أقرب كثيرا إلى البالشفة. لكنني كنت ضد "النظام" اللينيني ألنني لم أكن قد تعلمت بعد
27
أنه من أجل تحقيق الهدف الثوري ال بد من حزب ملتحم وممركز بحزم. لذلك شكلت تلك الكتلة المؤقتة التي كانت مكونة من عناصر
غير منسجمة والتي كانت موجهة ضد الجناح البروليتاري للحزب.
» كان للتصفويين فرقتهم داخل كتلة غشت، كما كان للفبريوديين أيضا ما يشبه الفرقة. كنت أنا من كتب معظم الوثائق وقد كان
الهدف من خالل تجنب الخالفات المبدئية خلق ما يشبه اإلجماع حول "المسائل السياسية الملموسة ". لم تتضمن كلمة واحدة عن
الماضي! وقد عرض لينين كتلة غشت النتقادات ال ترحم ووجهت أقسى الضربات إلي. لقد أثبت لينين أنه ما دمت ال أتفق سياسيا
ال مع المناشفة وال مع الفبريوديين فإن السياسة التي كنت أتبعها كانت مغامرة. كان هذا قاسيا لكنه كان صحيحا.
»ألبدي "ظرف التخفيف" اسمحوا لي أن أشير إلى واقع أن المهمة التي وضعتها على كاهلي لم تكن دعم الفرقة اليمينية أو اليسارية
المتطرفة ضد البالشفة، بل توحيد الحزب ككل. لقد استدعي البالشفة أيضا إلى كونفرانس غشت. لكن بما أن لينين رفض رفضا
قاطعا الوحدة مع المناشفة )وهو الموقف الذي كان محقا فيه بشكل كامل( وجدت نفسي في كتلة غير طبيعية مع المناشفة والفبريوديين.
وظرف التخفيف الثاني هو هذا: إن ظاهرة البلشفية باعتبارها الحزب الثوري الحقيقي كانت تنمو ألول مرة - حيث لم يكن لها في
ممارسة األممية الثانية أي نظير. لكنني ال أسعى بذلك لتبرئة نفسي من الذنب. فعلى الرغم من مفهوم الثورة الدائمة الذي ظهر بال
شك باعتباره وجهة النظر الصحيحة، لم أكن قد تخلصت في تلك الفترة وخصوصا في المجال التنظيمي من سمات ثوري برجوازي
صغير. كنت مصابا بمرض التوفيقية تجاه المناشفة وبعدم الثقة في المركزية اللينينية. مباشرة بعد كونفرانس غشت بدأت الكتلة تتفكك
إلى األجزاء المكونة لها. وفي غضون أشهر قليلة لم أصبح خارج الكتلة من حيث المبدأ فقط، بل وتنظيميا أيضا« )دفاعا عن
الماركسية، الصفحة 121)
هكذا يكشف تروتسكي بشكل مباشر وبنزاهة، أخطائه ويشرحها. ليست لجونستون، بطبيعة الحال، أي مصلحة في ترك تروتسكي
يتحدث عن نفسه، بل فقط اقتطاع عبارات معزولة )"مرض التوفيقية"، "ثوري برجوازي صغير"( والتي يستخدمها بطريقة غير نزيهة
تماما، وستالينية تماما. إنه يحاول الخلط )الوسيلة المفضلة لمدرسة التزوير الستالينية( بين ستالين وتروتسكي، الشيء الذي يعتبر
إهانة. إن "هدفه" مزدوج: تشويه اسم تروتسكي بتصويره ككاذب ومزيف يخفي عمدا خالفاته السابقة مع لينين]![؛ ومن جهة أخرى،
محاولة أكثر بشاعة لتجميل الجرائم الستالينية الدموية، المبنية على عظام وأعصاب كائنات بشرية، من خالل وضع تلك الجرائم على
نفس مستوى رسالة تروتسكي إلى أولمينسكي!
يستخدم مونتي جونستون هذه الرسالة من أجل تأكيد حججه حول "معارضة تروتسكي العنيفة" للينين. ويبدو أن بعض التعبيرات
التي يستخدمها تروتسكي تؤكد ما يدعيه جونستون. لكن االستشهاد بالرسالة كاملة تؤكد ما كتبه تروتسكي ألولمينسكي، حول أن
القارئ لن يفهم الظروف التي تمت كتابة هذه الرسالة فيها، وأنه سوف يخرج باستنتاجات خاطئة، أي بالضبط نفس االستنتاجات
الخاطئة التي يحاول مونتي جونستون أن يقنع قرائه بها اليوم.
متى كتب تروتسكي هذه الرسالة ولماذا؟ يشرح تروتسكي بنفسه هذا في كتابه "حياتي":
»لقد نشرت رسالتي ضد لينين إلى شخيدزه خالل هذه الفترة. يعود تاريخ تلك الرسالة إلى ابريل 1113 ،وسببها هو أن الجريدة
الرسمية للبالشفة التي كانت تصدر في سان بطرسبرغ أخذت عنوان جريدتي التي كنت أصدرها من فيينا، "برافدا- جريدة عمالية".
وقد أدى ذلك إلى واحدة من تلك الصراعات الحادة الكثيرة الحدوث في حياة المنفيين. وفي رسالة خطية إلى شخيدزه، الذي وقف مرة
بين البالشفة والمناشفة، نفست عن غضبي على القيادة البلشفية وعلى لينين. بعد مرور أسبوعين أو ثالثة كنت بدون شك سأخضع
رسالتي لتنقيح كامل، أما بعد مرور سنة أو سنتين فقد صارت تبدو لي غريبة. لكن كان لتلك الرسالة مصير غريب. فقد تم اعتراضها
من قبل الشرطة وبقيت في محفوظات الشرطة حتى اندالع ثورة أكتوبر، حيث ذهبت إلى معهد تاريخ الحزب الشيوعي. كان لينين
يعرف جيدا هذه الرسالة؛ وقد كانت تبدو له كما هو الحال بالنسبة إلي، من "بقايا ثلوج األمس" ال أكثر. لقد كتبت الكثير من الخطابات
من مختلف األنواع خالل سنوات المنفى! وفي عام 1142 ،أخرج رجال الصف الثاني تلك الرسالة من األرشيف ورموا بها في وجه
28
الحزب، الذي كان ثالثة أرباع أعضائه آنذاك منخرطين جدد. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الوقت الذي تم اختياره لهذا هو األشهر
القليلة مباشرة بعد وفاة لينين. كان هذا شرطا ضرو ريا لسببين: ففي المقام األول، لم يعد في إمكان لينين أن ينهض ويسمي هؤالء
السادة بأسمائهم الحقيقية، وفي المقام الثاني، كانت جماهير الشعب غارقة في الحزن على وفاة زعيمها. وال تملك أي علم عن ماضي
الحزب. قرأ الناس تصريحات تروتسكي المعادية للينين وتفاجئوا. صحيح أن تلك المالحظات كتبت قبل اثني عشر عاما، لكن ال
معنى للتسلسل الزمني أمام االقتباسات العارية. إن االستغالل الذي قام به رجال الصف الثاني لرسالتي إلى شخيدزه هو واحد من
أكبر عمليات االحتيال في تاريخ العالم. إن الوثائق المزورة التي استعملها الرجعيون الفرنسيون في قضية دريفوس ليست شيئا بالمقارنة
مع سياسة التزوير التي ارتكبها ستالين ورفاقه.« )"حياتي"، صفحات 414 -411)
إن استخدام الستالينيين لهذه الرسالة هو مجرد واحد من أمثلة ال تحصى عن األسلوب الخسيس الذي طوروه إلى درجة عالية من
اإلتقان. يمكننا القول إن الكثير من التعابير المستخدمة في تلك الرسالة، والتي يستغلها مونتي جونستون بشكل كبير، حادة وخاطئة.
لكن هناك فرق كبير جدا بين كلمات قيلت في لحظة غضب مفاجئ أو في حرارة الجدل، وبين االفتراءات المدروسة والخبيثة التي
يلجأ إليها الستالينيون بدم بارد. يرفع مونتي جونستون يديه بسخط ورع ضد عمليات التطهير الستالينية. لكنه ال يتردد في الرجوع إلى
التزوير الذي طبخ من قبل زمرة ستالين وزينوفييف وكامينيف، بعد وفاة لينين. إن مونتي جونستون بترديده لهذه األكاذيب والتزوير
الخبيث، يكون بعيدا عن القطيعة مع أساليب ستالين، بل يعيد بعثها في ثوب جديد وبشكل أكثر "احتراما". لكنها ليست مختلفة مطلقا.
ليست "قضية" مونتي جونستون ضد تروتسكي جديدة وال هي أصيلة. إنه فقط يغير افتراءات الثالثينات القذرة التي انفضحت حول
"تروتسكي الفاشي"، باالفتراءات "الخفية" السياسية المزعومة التي تعود إلى الفترة األولى من صعود البيروقراطية في االتحاد السوفياتي،
في 1142-1141 .في ذلك الوقت كانت أحداث أكتوبر 1111 ما تزال ماثلة في أذهان الناس مما يجعل من المستحيل توجيه
االتهام فو ار إلى تروتسكي بأنه عميل لإلمبريالية األلمانية، وا 1111 .بدال من ذلك، تم لى بوخارين بمحاولة اغتيال لينين في عام
تشجيع المؤرخين المأجورين السوفييت على التنقيب في األرشيفات، إليجاد نفس الحجج بالضبط حول "معارضة تروتسكي العنيفة"
للحزب البلشفي التي يستعملها مونتي جونستون اآلن باعتبارها مساهمته الفريدة في العلوم التاريخية. وبما أن مونتي جونستون لم
يضف شيئا إلى تلك االفتراءات المنافقة التي قيلت قبل أربعين عاما، فمن المناسب السماح لتروتسكي بالدفاع عن نفسه، تماما كما
فعل في رسالته إلى مكتب تاريخ الحزب في عام 1142:
»كما سبق لي أن ذكرت عدة مرات، خالل خالفاتي مع البلشفية حول سلسلة من المسائل األساسية، كان الخطأ في جانبي.
لإلشارة، بشكل تقريبي ومختصر، إلى طبيعة ومدى خالفاتي السابقة تلك مع البلشفية، سوف أقول ما يلي: خالل ذلك الوقت الذي
وقفت فيه خارج الحزب البلشفي، وخالل تلك الفترة التي وصلت فيها خالفاتي مع البلشفية إلى أعلى مستوى لها، لم تكن أبدا المسافة
التي تفصل بين وجهة نظر ي وبين وجهة نظر لينين أكبر من المسافة التي تفصل بين الموقف الحالي لستالين وبوخارين وبين أسس
الماركسية واللينينية.«
هوامش:
]1 ]مالحظة الطبعة الروسية عن وقائع هذا المؤتمر، التي نشرت عام 1141 ،تنص على أن: "تروتسكي أيد، في الواقع، المناشفة
في كل المسائل األساسية" )Protokoly yezdRSDRP S Pyatji ،صفحة 114)
]4" ]أحداث 11-11 يوليوز": اإلشارة هنا إلى المظاهرة المسلحة التي نظمتها وحدات الجيش المناهضة لكيرينسكي، وال سيما فوج
المدفعية. حاول البالشفة إقناع الجنود بأن تحركهم سابق ألوانه، لكنهم فشلوا في منع المظاهرة من الحدوث. وقد تم استغالل الحدث
من طرف كيرينسكي وشركائه للتحضير لقمع البالشفة، في ردة أيام شهر يوليوز.
]3 ]وصلت السلطات إلى الخالصات الالزمة وألقت القبض على تروتسكي بعد ذلك بوقت قصير
29
*: جميع اإلحاالت ستكون إلى الطبعة االنجليزية، إال في حالة اإلشارة إلى العكس -المترجم-
ّن قائدا أعلى للقوات المسلحة التابعة للحكومة المؤقتة في يوليوز
**: نسبة إلى كورنيلوف وهو جن ارل روسي عي 1111 ،وانضم إلى
الجيش األبيض بعد الثورة البلشفية، وقتل على يد الجيش األحمر في ابريل 1111 - المترجم -
31
الفصل الرابع: نظرية الثورة الدائمة
خصص مونتي جونستون ما ال يقل عن ثمانية صفحات من مؤلفه )حوالي الربع( من أجل "فضح" نظرية تروتسكي عن الثورة
الدائمة، والتي يعارضها بشعار لينين "الديكتاتورية الديموقراطية للبروليتاريا والفالحين". لقد طرحت هذه النظريات أول األمر سنوات
1192 -1194 ،وتأكدت صحتها بشكل كامل على أساس التجارب الثورية لعام 1194 .سبق لنا أن رأينا أهمية األفكار التي عرفتها
النقاشات التي جرت بين صفوف الحركة الماركسية الروسية قبل عام 1112 .لكن مونتي جونستون ال يخصص ولو جملة لكل ذلك.
من الواضح أنه يرى أن أعضاء رابطة الشباب الشيوعي العاديين "غ
ّ
ير مهتمين" بالص ارعات اإليديولوجية التي شهدتها سنوات تكون
البلشفية. نحن نختلف عن الرفيق جونستون بهذا الخصوص. نحن ال نقتصر في تحليلنا على االقتباسات "االنتقائية للغاية" والمعزولة
من سياقاتها، ألننا متأكدون أن جميع األعضاء الجديين لرابطة الشباب الشيوعي والحز ب الشيوعي، وجميع األعضاء الواعين داخل
الحركة العمالية عموما، يريدون أن يعرفوا الحقيقةبخصوص هذه المسائل. وما هي بالضبط الخالفات حولها؟
يصور مونتي جونستون المسألة كما لو أن الخالف الرئيسي كان بين موقف لينين وموقف تروتسكي. إنه يقفز بسرعة على موقف
المناشفة، وبالتالي يطرح النقاشبطريقة خاطئة تماما. دعونا نفحص المواقف الثالثة ونرى العالقة بين بعضها البعض.
اتفقت جميع تلك المواقف الثالثة حول أن الثورة القادمة ستكون ثورة ديمقراطية برجوازية، أي ثورة ناتجة عن التناقض بين االقتصاد
الرأسمالي المتنامي وبين الدولة القيصر ية االستبدادية الشبه إقطاعية. لكن مجرد القبول العام بالطبيعة البرجوازية للثورة ال يجيب
عن السؤال الملموس حول من هي الطبقة التي ستقود النضال الثوري ضد االستبداد. افترض المناشفة، من خالل إجراء قياس على
الثورات البرجوازية الكبرى في الماضي، أن الثورة الروسية ستكون بقيادة الديمقراطيين البرجوازيين والبرجوازيين الصغار، الذين على
الحركة العمالية دعمهم.
لينين، من جهة أخرى، انتقد بقسوة المناشفة لكبحهم الحركة المستقلة للعمال وصب جام غضبه على محاوالتهم تملق البرجوازية
"التقدمية". منذ عام 1121 ،الحظ ماركس أن البرجوازية األلمانية "الديمقراطية الثورية" لم تكن قادرة على لعب دور ثوري في النضال
ضد اإلقطاع، والذي فضلت القيام بصفقة معه خوفا من الحركة الثورية للعمال. كانت هذه هي المرة األولى التي استعمل فيها ماركس
نفسه شعار "الثورة الدائمة".
وسيرا على خطى ماركس، الذي كان قد وصف "الحزب الديمقراطي" البرجوازي بأنه "أكثر خطورة على العمال من الليبراليين
السابقين"، أوضح لينين أن البرجوازية الروسية ليست حليفا للعمال، بل ستكون ال محالةإلى جانب الثورة المضادة.
كتب عام 1194« :إن البرجوازية في مجموعها، ستنتقل حتما إلى معسكر الثورة المضادة، إلى معسكر االستبداد، ضد الثورة وضد
الشعب، وبمجرد ما سيتم تحقيق مصالحها الضيقة واألنانية، سوف "تنكص" عن الديمقراطية المتناسقة )وقد بدأت بالفعل تنكص
عنها!(« )األعمال الكاملة، المجلد 1 ،الصفحة 11)
ما هي الطبقة التي ستقود الثورة الديمقراطية البرجوازية من وجهة نظر لينين؟
»يبقى "الشعب"، أي البروليتاريا والفالحون. وحدها البروليتاريا من يمكن االعتماد عليها للسير حتى النهاية، ألن أفقها يتجاوز
بكثير الثورة الديمقراطية. وهذا هو السبب الذي يجعل البروليتاريا تناضل في الطليعة من أجل الجمهورية وترفض بازدراء النصيحة
الغبية والتافهة حول ضرورة أن تأخذ في االعتبار احتمال نكوص البرجوازية«. )المرجع نفسه(
ضد من وجهت هذه الكلمات؟ هل ضد تروتسكي والثورة الدائمة؟ دعونا نرى ما كان تروتسكي يكتبه في نفس الوقت الذي كتب
فيه لينين ذلك:
31
»يؤدي هذا إلى واقع أن الصراع من أجل مصالح كل روسيا وقع على كاهل الطبقة الثورية الوحيدة الموجودة اآلن في البلد، أي
البروليتاريا الصناعية. لهذا السبب تكتسب البروليتاريا الصناعية أهمية سياسية بالغة، ولهذا السبب أيضا تحول الصراع من أجل
تحرير روسيا من نير الحكم المطلق الذي يخنقها إلى معركة واحدة بين الحكم المطلق وبين البروليتاريا الصناعية، معركة واحدة
يمكن للفالحين أن يقدموا فيها مساعدة هامة، لكنهم ال يستطيعون أن يلعبوا دورا قياديا«. )نتائج وتوقعات، الصفحة 111)
ويضيف أيضا:
»إن تسليح الثورة في روسيا يعني أوال وقبل كل شيء تسليح العمال. والليبراليون الذين يعلمون هذا ويخافونه يتفادون مسألة إنشاء
الميليشيا من أساسها. بل إنهم يتخلون عن مواقعهم للحكم المطلق بدون قتال مثلما تخلى البرجوازي تيير عن باريس وفرنسا لصالح
بسمارك فقط للحيلولة دون تسليح العمال.« )المرجع نفسه، الصفحة 113)
في مسألة الموقف من األحزاب البرجوازية )كما ر أينا بالفعل( كانت أفكار لينين وتروتسكي تتالقيان في تضامن كامل ضد المناشفة
الذين اختبأوا وراء الطبيعة البرجوازية للثورة كستار إلخضاع حزب العمال للبرجوازية. وفي صراعهما ضد التعاون الطبقي أوضح كل
من لينين وتروتسكي أنه وحدها الطبقة العاملة، بتحالف مع جماهير الفالحين، من يمكنها أن تنجز مهام الثورة البرجوازية
الديمقراطية.
وسيرا وراء الروايات الكاذبة تماما لدويتشر في "النبي المسلح"، يستنسخ مونتي جونستون كل الهراء القديم حول أن نظرية تروتسكي
عن الثورة الدائمة مستمدة من بارفوس، االشتراكي الديمقراطي األلماني الشهير، الذي انتقد لينين شعاره "ال قيصر بل حكومة العمال"،
في عدة مناسبات. لم يطرح تروتسكي في أي وقت من األوقات شعارا من هذا القبيل، وهو الذي أشار مرارا وتكرارا، سواء قبل أو بعد
عام 1194 ،إلى الطبيعة الديمقراطية البرجوازية للثورة.
لم تكن المسألة التي تناقش بين صفوف الحركة االشتراكية الديمقراطية الروسية هي طبيعة الثورة )فال أحد كان ينازع فيها(، بل من
هي الطبقة التي ستقودها. وحول هذا السؤال تبلور اتجاهان اثنان واضحا المعالم داخل صفوف الحركة االشتراكية الديمقراطية
الروسية: من جهة رأى المناشفة، الذين كانوا يقولون إن الثورة "برجوازية"، وكأنهم يرددون ابتهاال دينيا، أنه على الحركة الماركسية
تقديم التنازالت من أجل االتفاق مع "الليبراليين"؛ ومن جهة أخرى كان هناك الذين أشاروا إلى جبن وضعف وخيانة البرجوازية، وطالبوا
بالعمل المستقل للجماهير، تحت قيادة الطبقة الوحيدة الثورية المنسجمة: البروليتاريا، ضد البرجوازية إذا لزم األمر. كانت هذه
هي خطتا االشتراكية الديمقراطية الشهيرة اللتان ناقشهما لينين في كتابه الذي ينقل منه مونتي جونستون، والذي يشوهه إلى درجة ال
تصدق.
ويصل جونستون إلى قاع المستنقع حقا عندما يكرر االفتراءات القديمة حول أن نظرية تروتسكي تجاهلت دور الفالحين في الثورة.
يكرر جونستون افتراءات ستالين بأن تروتسكي في عام 1194« نسي ببساطة كل شيء عن الفالحين كقوة ثورية، وطرح شعار "ال
قيصر بل حكومة العمال"، والذي هو شعار لثورة دون طبقة الفالحين.« )ستالين: األعمال الكاملة، المجلد 2 ،صفحة 314)
إن ستالين، واآلن مونتي جونستون، "نسي ببساطة" الشعار الذي طرحه تروتسكي فعال في عام 1194 .ال قيصر وال زيمتسي )أي
الليبراليين(، بل الشعب! أي شعار يضم العمال والفالحين. ويمكن إيجاد المنشور الذي يتحدث عن هذا، إضافة إلى العديد من
النداءات إلى الفالحين الذين "نسيهم" تروتسكي في األعمال الكاملة لتروتسكي )المجلد 4 ،الصفحة 4411 )والتي طبعت في روسيا
بعد ثورة أكتوبر.
أممية لينين
ماذا كان موقف لينين تجاه الفالحين في الثورة؟ لقد أكد انه ينبغي تعبئة الفالحين من طرف العمال من أجل إنجاز المهام الديمقراطية
المناهضة لإلقطاعية. لكن في اللحظة التي سيبدأ العمال فيها بالمضي قدما نحو االشتراكية، ستبدأ التناقضات الطبقية في الظهور
32
على السطح، وستبدأ الميوالت البونابارتية الرجعية بين الفالحين، والتي حذر لينين منها مرار، في التحول ضد البروليتاريا. وفي بلد
حيث الغالبية العظمى من السكان تتألف من الفالحين سوف يواجه النضال من أجل االشتراكية أكثر أشكال المعارضة قوة وعنادا
من جانب الفئات الغنية بين الفالحين. إال أن مونتي جونستون يقول إن لينين قد تصور بالفعل، في عام 1194" ،تنامي" الثورة
الديمقراطية إلى االشتراكية في روسيا حيث يقول:
»بينما تحدث لينين في هذه الفترة عن بداية النضال من أجل الثورة االشتراكية بعد "النصر الكامل" للثورة الديمقراطية، مع "تحقيق
المطالب اآلنية للفالحين"، وبالتأكيد ]![ لم يتوقع أن تأتي الثورة االشتراكية في غضون ثمانية أشهر الالحقة، لكنه كان يعتبر أن
العامل الرئيسي في تحديد نقطة االنتقال من الواحدة إلى األخرى هي "درجة قوتنا، قوة البروليتاريا المنظمة والواعية طبقيا". لقد أثبت
التاريخ أنه كان على حق في رفضه استراتيجية تروتسكي التي تتوخى أساسا ]؟[ القيام بقفزة ]؟[ من القيصرية إلى أكتوبر، وتخطي
فبراير]![«.)Cogito الصفحة 13)
يتلوى مونتي جونستون بشكل غير مريح فوق فخ نصبه لإليقاع بتروتسكي! إن التأكيد على أن نظرية الثورة الدائمة تتألف "أساسا"
من "قفزة" من القيصرية إلى الثورة االشتراكية، من دون أي مرحلة وسيطة، هو هراء بكل ما في الكلمة من معنى، وهو يثبت فقط أن
مونتي جونستون إما لم يكلف نفسه عناء قراءة تروتسكي، أو أنه عاد إلى أساليبه "الموضوعية العلمية" القديمة. نود أن نسأل مونتي
جونستون، وبصرف النظر عن أي شيء آخر، أين تكمن الطبيعة "الدائمة"، "والغير منقطعة" للثورة إذا كان األمر يتعلق بـ... "قفزة"
من القيصرية إلى االشتراكية؟
وألن تشويهه لموقف تروتسكي في عام 1194 ،لم يكفه حاول مونتي جونستون أن ينتقل إلى لينين أيضا! حيث جعله يقول أشياء
تتناقض بشكل صارخ مع مواقفه، محوال زعيم ثورة أكتوبر إلى مهرج. فمن جهة يكرر جونستون إلى درجة تثير الغثيان أن لينين
اعتبر الثورة برجوازية )بدون جدوى ألن الجميع، ما عدا رجال الصف الثاني الستالينيين، يتفقون على هذا(، ومن جهة أخرى، ينسب
إلى لينين أنه قال في عام 1194 بأن "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين" سوف "تنمو" في اتجاه دكتاتورية البروليتاريا!
دعونا نرى ماذا قال لينين حقا بشأن مسألة الطبيعة الطبقية للـ"الديكتاتورية الديمقراطية":
»لكن بالطبع ستكون دكتاتورية ديمقراطية وليس اشتراكية. وستكون غير قادرة )دون سلسلة من مراحل وسيطة من التطورات الثورية(
على التأثير على أسس الرأسمالية. يمكنها في أحسن األحوال أن تحقق إعادة توزيع جذرية لملكية األرض لصالح الفالحين، وتقيم
رساء األسس
ديمق ارطية ثابتة وكاملة، بما في ذلك تشكيل جمهورية، والقضاء على كافة المظاهر القمعية للعبودية اآلسيوية... وا
لتحسين شامل في أوضاع العمال وارتفاع في مستوى معيشتهم، وأخيرا وليس آخرا ستحمل الحريق الثوري إلى أوروبا«. )األعمال
الكاملة، المجلد 1 ،الصفحة 41)
موقف لينين واضح ال لبس فيه على اإلطالق: إن الثورة القادمة ستكون ثورة برجوازية، بقيادة البروليتاريا بالتحالف مع جماهير
الفالحين. وأفضل ما يمكن توقعه منها هو إنجاز المهام الديمقراطية البرجوازية األساسية: توزيع األراضي على الفالحين، و جمهورية
ديمقراطية، وما إلى ذلك. هذا، بالضرورة، ألن أي محاولة "للتأثير على أسس الرأسمالية" سيؤدي بالضرورة إلى دخول البروليتاريا في
صراع مع جماهير صغار الفالحين. ويحسم لينين المسألة قائال: »إن الثورة الديمقراطية ثورة برجوازية في طبيعتها. وشعار التوز يع
العام، أو "األرض والحرية" هو شعار برجوازي.« )المرجع نفسه، ص 114)
وبالنسبة للينين لم يكن هناك من مخرج آخر ممكن على أساس بلد متخلف شبه إقطاعي مثل روسيا. إن الحديث عن "نمو"
الديكتاتورية الديمقراطية إلى الثورة االشتراكية هو تحويل لكل تحليل لينين لعالقة القوى بين الطبقات في الثور ة إلى هراء.
بأي معنى كان لينين يشير إلى إمكانية الثورة االشتراكية في روسيا؟ في االقتباس الوارد أعاله من "خطتا االشتراكية"، يؤكد لينين
أن الثورة الروسية لن تكون قادرة على التأثير على أسس الرأسمالية "دون سلسلة من مراحل وسيطة من التطورات الثورية". يسارع
مونتي جونستون إلى ملء الحلقة المفقودة للينين: إن الشرط المسبق لعملية االنتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة االشتراكية هو:
33
"درجة قوتنا، قوة البروليتاريا المنظمة والواعية طبقيا"، ويضيف أن التاريخ أثبت أن لينين كان على حق. إن التاريخ قد اثبت بالفعل
أن لينين كان على حق، أيها الرفيق جونستون، لكن ليس لشيء لم يقله. دعونا نستغني عن خدمات الترجمة التي يقوم بها مونتي
جونستون، ونسمح للينين بأن يتكلم بلسانه.
يواصل لينين االقتباس أعاله على النحو التالي؛ إن الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا:
»ستحمل، أخيرا وليس آخرا، الحريق الثوري إلى أوروبا. إن مثل هذا النصر لن يحول بعد، بأي شكل من األشكال، ثورتنا البرجوازية
إلى ثورة اشتراكية؛ إن الثورة الديمقراطية لن تتجاوز على الفور حدود العالقات االجتماعية واالقتصادية البرجوازية، غير أن أهمية
مثل هذا النصر على التطور المستقبلي لروسيا والعالم كله سوف تكون هائلة. ال شيء سيرفع الطاقة الثورية للبروليتاريا العالمية
كثيرا، وال شيء سيقصر الطريق المؤدي إلى انتصارها الكامل إلى ذلك الحد، مثل االنتصار الحاسم للثورة التي بدأت اآلن في
روسيا«. )المرجع نفسه، الصفحة 41)
تبرز هنا أممية لينين بجرأة في كل سطر. إنها أممية باألفعال وليست بالكلمات فقط. أممية بعيدة كل البعد عن خطابات العطل
التي يلقيها القادة الحاليون لحزب العمال والستالينيون. لم تكن الثورة الروسية بالنسبة للينين عمال مكتفيا ذاتيا، لم تكن "الطريق الروسي
إلى االشتراكية"! لقد كانت بداية الثورة البروليتارية العالمية. في هذا الواقع بالضبط تكمن اإلمكانية المستقبلية للتحول من الثورة
الديمقراطية البرجوازية إلى الثورة االشتراكية في روسيا.
أبدا لم يحمل ال لينين وال أي ماركسي آخر على محمل الجد الفكرة القائلة بأنه من الممكن بناء "االشتراكية في بلد واحد"، وخاصة
في بلد آسيوي فالحي متخلف مثل روسيا. في مكان آخر يفسر لينين، الموقف الذي يعتبر ألف باء الماركسية، بأن الشروط الالزمة
للتحول االشتراكي للمجتمع كانت غائبة في روسيا، على الرغم من أنها نضجت تماما في أوروبا الغربية. وفي جداله ضد المناشفة
في "خطتا االشتراكية" كرر لينين موقف الماركسية الكالسيكي بخصوص األهمية األممية للثورة الروسية:
»إن الفكرة األساسية هنا هي فكرة تكررت مرارا من قبل فبريود ]جريدة لينين[ والتي أكدت أنه يجب علينا أن ال نخاف... من
االنتصار الكامل لالشتراكية الديمقراطية في الثو رة الديمقراطية، أي من الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للبروليتاريا والفالحين، ألن
مثل هذا االنتصار سوف يتيح لنا إيقاظ أوروبا؛ وبعد تخلصها من نير البرجوازية سوف تساعدنا البروليتاريا االشتراكية في أوروبا
بدورها على تحقيق الثورة االشتراكية »)المرجع نفسه، صفحة 14 ،التشديد من عندنا(
هذا هو جوهر تشخيص لينين للثورة المقبلة في روسيا: ال يمكن للثورة أن تكون إال برجوازية ديمقراطية )وليس اشتراكية(، لكن وفي
نجز إال من طرف الطبقة العاملة، بقي
ُ
نفس الوقت، وبسبب أن البرجوازية عاجزة عن لعب دور ثوري، فإن الثورة ال يمكن أن ت ادة
نشاء
ّض جماهير الفالحين على دعمها. اإلطاحة بالقيصرية، واقتالع كل آثار اإلقطاع، وا
االشت اركية الديمق ارطية، التي سوف تحر
جمهورية سيكون له تأثير ثوري هائل على البروليتاريا في بلدان أوروبا الغربية المتقدمة. لكن الثورة في الغرب ال يمكنها أن تكون إال
ثورة اشتر اكية، بسبب التطور الهائل للقوى المنتجة التي تراكمت في ظل الرأسمالية نفسها، والقوة الهائلة للطبقة العاملة والحركة
العمالية في هذه البلدان. وأخيرا سوف تثير الثورة االشتراكية في الغرب المزيد من االنتفاضات في روسيا، وبمساعدة البروليتاريا
االشتراكية في أوروبا، سيقوم العمال الروس بتحويل الثورة الديمقراطية، بالرغم من معارضة البرجوازية والفالحين المعادين للثورة، إلى
ثورة اشتراكية.
سيهز الرفيق جونستون رأسه بغضب قائال "هذه ليس اللينينية، بل التروتسكية! لقد شوهتم أفكار لينين!" كال على اإلطالق أيها
الرفيق جونستون. إن المعنى واضح تماما. فلندع لينين يتحدث بلسانه:
34
ُ » نظّم البورجوازية الليب ارلية، وكذلك الفالحون
وهكذا، في هذه المرحلة، ]بعد االنتصار النهائي للـ"الديكتاتورية الديمق ارطية"[ سوف ت
نظّم البروليتاريا ا
ُ
الميسورون إضافة جزئيا إلى الفالحين المتوسطين، الثورة المضادة. وست لروسية إضافة إلى البروليتاريا األوروبية
الثورة.
»في مثل هذه الظروف يمكن للبروليتاريا الروسية أن تحقق نصرا ثانيا. إن القضية لم تعد ميئوسا منها. إن النصر الثاني سيكون
هو الثورة االشتراكية في أوروبا.
»عمال أوروبا سيبينون لنا بعد ذلك "كيفية القيام بذلك"، عندها وبالتعاون معهم سنقوم بإنجاز الثورة االشتراكية« )األعمال الكاملة،
المجلد 19 ،الصفحة 14)
هنا وفي عشرات المناسبات األخرى أعرب لينين عن فكرته بأوضح العبارات أن انتصار »ثورتنا البرجوازية العظيمة... سوف يعلن
عصر الثورة االشتراكية في الغرب.« )األعمال الكاملة، المجلد 19 ،صفحة 411 ،التشديد من عندنا( ومهما لف مونتي جونستون
ودار وحاول أن يضع الكلمات في فم لينين، فإنه ال يمكنه أن يغير حقيقة أن لينين، في عام 1194 ،لم يرفض فقط فكرة "بناء
االشتراكية في روسيا وحدها" )حيث لم تتبادر إلى ذهنه هذه الفكرة قط(، بل رفض حتى إمكانية إقامة العمال الروس لدكتاتورية
البروليتاريا قبل الثورة االشتراكية في الغرب.
لينين وتروتسكي
ما هي االختالفات بين أفكار لينين وتروتسكي؟ كما سبق لنا أن رأينا، كالهما اتفقا حول المسائل الجوهرية للثو رة: دور البرجوازية
المعادي للثورة؛ الحاجة إلى العمال والفالحين إلنجاز الثورة الديمقراطية؛ األهمية األممية للثورة، الخ. نشأت الخالفات من توصيف
لينين للحكومة الديمقراطية الثورية التي ستنفذ مهام الثورة باعتبارها "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين".
لقد انتقد تروتسكي هذه الصيغة بسبب غموضها؛ ألنها لم توضح من هي الطبقة التي ستمارس الديكتاتورية. كان غموض لينين
متعمدا. لم يكن مستعدا ليقول مسبقا ما هو الشكل الذي ستتخذه الديكتاتورية الثورية. إنه لم يستبعد حتى إمكانية أن يسود الفالحون
في االئتالف. وهكذا فإن صيغة "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين" حملت، منذ البداية، طابعا رياضيا متعمدا - مع عدد
غير معروف من المجاهيل التي على التاريخ أن يحلها. وقد أوضح لينين هذا في كتابه خطتا االشتراكية:
»سيأتي الوقت عندما سينتهي النضال ضد االستبداد الروسي، وتمر مرحلة الثورة الديمقراطية في روسيا، سيكون من السخافة آنذاك
الحديث عن "وحدة اإلرادة" بين البروليتاريا والفالحين، حول الدكتاتورية الديمقراطية، إلخ. عندما سيحين ذلك الوقت سنتطرق لمسألة
ديكتاتورية البروليتاريا االشتراكية، وسنتحدث عنها بمزيد من التفصيل« )األعمال الكاملة، المجلد 1 ،الصفحة 11)
وقد رد تروتسكي على فكرة لينين هذه قائال إن الفالحين لم يكونوا في أي وقت في التاريخ قادرين على لعب دور مستقل. وسوف
يتقرر مصير الثورة الروسية من خالل نتيجة الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا حول قيادة جماهير الفالحين. إن الفالحين إما أن
ُستخدموا كأداة للثورة أو أداة للثورة
ي المضادة. وفي جميع الحاالت إن األفق الوحيد الممكن للثورة هو إما ديكتاتورية البرجوازية، التي
من شأنها أن تسقط في أحضان الرجعية القيصرية، أو ديكتاتورية البروليتاريا بالتحالف مع الفالحين الفقراء.
وال يمكن للحكومة الثورية، التي يسود فيها العمال تحت راية الماركسية، أن تتوقف في منتصف الطريق، وتقتصر على المهام
البرجوازية، بل سوف تمر بالضرورة من مهام الثورة الديمقراطية إلى االشتراكية. من أجل البقاء على قيد الحياة، سيكون على
الديكتاتورية الثورية أن تشن الحرب ضد الرجعية داخل البالد وخارجها. بعد ذلك يتفق تروتسكي مع لينين حول أن انتصار الثورة
الروسية سيعطي زخما هائال للثورة االشتراكية في الغرب، التي ستأتي لمساعدة الدولة العمالية الروسية وتنجز مهام التحول االشتراكي.
35
هذه، إذن، هي الجريمة البشعة التي ارتكبها تروتسكي ونظريته حول الثورة الدائمة في عام 1194 !كان هذا، وفقا لمونتي جونستون،
هو ما وضعه "خارج الحزب"... أي التكهن مسبقا بما حدث بالفعل في عام 1111 :شرح أن منطق األحداث سيضع حتما الطبقة
العاملة في السلطة! حتى لينين نفسه لم يكن مستعدا ليلزم نفسه بهذه المسألة في عام 1194 ،كما سبق لنا أن رأينا.
من بين جميع الماركسيين كان تر وتسكي وحده هو من توقع قيام ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل الثورة االشتراكية في الغرب:
كتب تروتسكي سنة 1194 قائال: »من الممكن للعمال أن يصلوا إلى الحكم في بلد متخلف اقتصاديا قبل وصولهم إليه في بلد
متقدم... إن الثورة الروسية سوف تخلق، من وجهة نظرنا، الظروف التي يمكن خاللها انتقال السلطة إلى أيدي العمال... وفي حال
انتصار الثورة عليها أن تقوم بذلك... قبل أن يتمكن السياسيون البرجوازيون الليبراليون من فرصة استعراض كل مواهبهم في الحكم«.
)نتائج وتوقعات، الصفحة 114)
هل يعني هذا، أن تروتسكي كان ينفي الطبيعة البرجوازية للثورة، كما يزعم مونتي جونستون؟ يقول تروتسكي نفسه:
»أما بالنسبة للثورة في بداية القرن العشرين، والتي مهامها المباشرة برجوازية هي أيضا ]التشديد من عندنا[، يظهر التوقع األقرب
هو حتمية، أو على األقل احتمال، السيطرة السياسية للبروليتاريا. وسوف تعمل البروليتاريا على أال تصير هذه السيطرة مجرد "مرحلة"
عابرة، كما يأمل بعض األدعياء الواقعيين. لكن يمكننا منذ اآلن أن نتسائل: هل من الحتمي تحطم الديكتاتورية البروليتارية نتيجة
اصطدامها بحدود الثورة البرجوازية؟ أم أنه من الممكن، في ظل الظروف التاريخية العالمية الحالية، أن تجد أمامها إمكانية اختراق
هذه الحدود؟ ها نحن ذا أمام مسائل تكتيكية: هل علينا العمل الواعي من أجل إقامة حكومة عمالية بقدر ما يؤدي تطور الثورة
إلى جعل هذه المرحلة قريبة، أم علينا في هذه الفترة أن ننظر إلى السلطة السياسية على أنها بلية تلقي بها الثور ة البرجوازية
على كاهل العمال وسيكون من األفضل لهم أن يتفادوها؟« )نتائج وتوقعات، الصفحات 111 -499 ،التشديد من عندنا(
هل أفكار تروتسكي موجهة حقا ضد لينين أيها الرفيق جونستون؟ أم هي موجهة ضد "األدعياء الواقعيين"، مثل بليخانوف، الذين
كانوا يخشون العواقب المترتبة عن الحركة المستقلة للعمال؟ وأين هي هنا "القفزة" من القيصرية إلى الثورة االشتراكية، التي يؤكد لنا
الرفيق جونستون أنها تشكل جوهر نظرية الثورة الدائمة؟
تتلخص توقعات تروتسكي لعام 1194 في ما يلي: إن البرجوازية في روسيا عاجزة عن لعب أي دور ثوري. وحتما، سيؤدي تطور
الثورة، في مرحلة معينة، إلى استيالء العمال على السلطة، وبدعم من قسم من الفالحين. وحدها حكومة العمال والفالحين من يمكنها
إنجاز المهام التاريخية للثورة البرجوازية الديمقراطية. لكن وبمجرد وصولها إلى السلطة فإن البروليتاريا لن تتنازل عنها لصالح
البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة. يجب عليها أن تحكم قبضتها على السلطة عن طريق االنتقال من المهام البرجوازية الديمقراطية
إلى التدابير االشتراكية. أو بعبارة أخرى ال يمكن للحكومة الثورية، من وجهة نظر تروتسكي، أن تتخذ أي شكل آخر ما عداديكتاتورية
البروليتاريا. عليها أن تشن حربا ال هوادة فيها ضد الثورة المضادة الداخلية، وللقيام بذلك ال بد لها أن تدفع بالعمال االشتراكيين في
الغرب إلى دعمها. لقد دافع تروتسكي، مثله مثل لينين، عن أفكار الماركسية األممية ضد ضيق األفق المنشفي. وفي مواجهة
األطروحة االنتهازية القائلة بأن الشروط "من أجل االشتراكية غير موجودة في روسيا، ولذلك ينبغي على الثورة أن تبقى ضمن الحدود
البرجوازية، أكد كل من تروتسكي ولينين على أن شروط االشتراكية ناضجة تماما على الصعيد العالمي. لقد اعتبر كال هذان
الماركسيان العظيمان الثورة الروسية مجرد حلقة أولى في سلسلة الثورة االشتراكية العالمية.
الثورة الدائمة في الممارسة: الجزء األول
كل النظريات حول طبيعة الثورة الروسية التي طرحت قبل عام 1111 من قبل الماركسيين كانت بالضرورة ذات طابع عام
ونسبي إلى هذا الحد أو ذاك. لم تكن مخططات معدة مسبقا أو توقعات فلكية، بل كانت توقعاتتهدف إلى تمكين الحركة من دليل
للعمل، من منظور، وهو ما يعتبر المهمة األساسية للنظرية الماركسية.
36
ويمكن قياس صحة، أو خطأ، هذه النظريات ليس من خالل االطالع على جداالت عام 9195 ،بل فقط في ضوء ما حدث
بالفعل. كان انجلز مولعا جدا بالمثل القائل: "إن الدليل على وجود الكعكة أكلها"، في حين كان لينين كثيرا ما يستشهد بمقولة غو ته:
"إن النظرية رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء". وبالتالي فإنه بالنسبة للماركسي ال يمكن إثبات صحة أي نظرية
ثورية إال من خالل تجربة الثورة نفسها.
لقد أثبتت تجربة عام 1111 بشكل الفت للنظر توقع لينين وتروتسكي حول الدور الجبان والمعادي للثورة المضادة للبرجوازية، كما
ظهر في ممارسات الحكومة المؤقتة التي جاءت إلى السلطة بعد ثورة فبراير. إن االستيعاب العميق ألسلوب الماركسية هو ما جعل
كال من لينين وتروتسكي يفهمان على الفور، وباستقالل عن بعضهما البعض، طبيعة نظام كيرينسكي والموقف الذي ينبغي على
العمال أن يتخذوه تجاهه. لقد وصل لينين في سويسرا، وتروتسكي في نيويورك، في وقت واحد إلى الخالصة نفسها، أي إلى ضرورة
المعارضة الحازمة للحكومة المؤقتة البرجوازية، واإلطاحة بها من قبل الطبقة العاملة.
ماذا كان موقف "البالشفة القدماء" الذين لعبوا "دور مهما" سنة 1111؟ جميعهم دعوا إلى دعم الحكومة المؤقتة. من بين كل
الكوادر البلشفية الذين، على حد قول مونتي جونستون، "دربوا أنفسهم في صفوف الحزب" و"تربوا على االنضباط الجماعي" طيلة
مرحلة كاملة، ال أحد صمد أمام المحك الحاسم لألحداث. نود أن نطرح على مونتي جونستون السؤال التالي: ماذا كانت فائدة كل
اإلعداد خالل الفترة الماضية: ماذا كان الهدف من نضال لينين طيلة "الثالث عشر أو أربع عشر سنة" لبناء "حزب ماركسي مستقر
ومنضبط"، عندما فشل جميع "البالشفة القدماء "في اللحظة الحاسمة في أن يكونوا في مستوى الحدث؟
في عام 1191 ،كتب تروتسكي:
»إذا كان المناشفة، الذين ينطلقون من الفكرة المجردة القائلة بأن "ثورتنا برجوازية"، قد وصلوا إلى تكييف كل تكتيكات البروليتاريا
تبعا لسلوك البرجوازية الليبرالية قبل االستيالء على سلطة الدولة، فإن البالشفة، وانطالقا من فكرة مجردة مشابهة، "دكتاتورية ديمقراطية
وليست اشتراكية"، وصلوا إلى فكرة تقييد البروليتاريا لذاتها، بعد استيالئها على سلطة الدولة، بحدود الديمقراطية البرجوازية. صحيح
إن هناك فرقا كبيرا جدا بينهما في هذا الصدد: فبينما الجوانب المعادية للثورة في الفكرة المنشفية تبرز بقوة كاملة حاليا، فإن الصفات
المعادية للثورة في الفكرة البلشفية ستشكل خطرا هائال فقط في حال انتصار الثورة« )تروتسكي، 1194 ،صفحة 414)
مونتي جونستون الذي بتر السطرين األخيرين في هذا المقطع من سياقهما، يحاول استخدامها كدليل آخر على عداء تروتسكي
لموقف لينين. في الواقع تمكن تروتسكي، في هذه الكلمات، من أن يتوقع في عام 9191 بشكل صحيح األزمة التي شهدتها
صفوف الحزب البلشفي في عام 9191 والتي نتجت بالضبط عن التفسير الرجعي الذي قدمه "البالشفة القدماء" لشعار لينين
"الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين".
عندما قدم لينين موضوعات أبريل الشهيرة للحزب، والتي دعا فيها إلى اإلطاحة بالحكومة المؤقتة، نشرت باسمه وحده: لم يكن أحد
من "قادة" الحزب مستعدا لربط اسمه مع موقف يتعارض بصورة مباشرة مع جميع النداءات والبيانات والمقاالت والخطب التي أصدرو ها
منذ ثورة فبراير. وبالضبط في اليوم التالي بعد نشر موضوعات لينين كتب كامينيف افتتاحية لجريدة برافدا تحت عنوان "خالفاتنا"،
شدد فيها على أن الموضوعات ال تمثل سوى "الرأي الشخصي" للينين وحده. وانتهى المقال بالعبارات التالية:
»إن مخطط لينين العام يبدو أمرا غير مقبول، ألنه ينطلق من االفتراض بأن الثورة البرجوازية قد انتهت ويعول على التحول الفوري
للثورة إلى ثورة اشتراكية«.
الحظ هذه الكلمات جيدا أيها القارئ: إنها ليست كلمات لينين وهو يجادل تروتسكي عن الثورة الدائمة، بل كلمات "البلشفي القديم"
كامينيف وهو يوجه االتهام إلى لينين بجريمة التروتسكية البشعة! تمثل حجج كامينيف وشركاه في عام 1111 محاكاة ساخرة لكالم
بليخانوف في مؤتمر ستوكهولم لعام 1191 :ال بد للبروليتاريا من االستيالء على السلطة في الثورة البروليتارية، لكن الثورة برجوازية،
37
وبالتالي فعلينا أال نأخذ السلطة! لقد دارت العجلة دورة كاملة، وظهر "ارتباك" "البالشفة القدماء" بجالء سنة 1111 في العودة إلى
أفكار المناشفة اإلصالحية البالية. بقيت معادلة لينين "الجبرية" مفتوحة لسوء الفهم من هذا القبيل، في حين أن معادلة تروتسكي
"الحسابية" كانت دقيقة للغاية.
سبق لماركس أن أشار منذ زمن بعيد إلى أن االنتهازية تحاول في الكثير من األحيان أن تخبئ نفسها في زي الشعارات الثورية
البالية، الشعارات التي استنفذت صالحيتها الثورية. لذلك حاول "البالشفة القدماء" سنة 1111 ،استخدام شعار "الديكتاتورية الديمقراطية
للبروليتاريا والفالحين" كقناع إلخفاء انتهازيتهم. في هذا السياق حيث كتب لينين ما يلي:
»لقد اثبت التاريخ بشكل تام صحة أفكار البالشفة وشعاراتهم، بوجه عام؛ بيد أن األمور قد جرت، في الواقع الملموس،
بصورة تختلف عما كان بوسع المرء )أيا كان( توقعه: لقد جرت بصورة أكثر أصالة وأكثر تحديدا وأكثر تنوعا... إن "ديكتاتورية
واقعا، في شكل معين وا « )مقتبسة من قبل مونتي البروليتارية والفالحين الثورية" قد صارت بالفعل لى حد ما، في الثورة الروسية.
جونستون، الصفحة 11 ،لينين، المؤلفات المختارة، المجلد 1 ،صفحة 33)
يستنسخ مونتي جونستون هذا النص، من دون شرح السياق، من أجل إثبات أن لينين واصل الدفاع عن فكرة "الدكتاتورية الديمقراطية"
في عام 1111 .لكن كل المؤلف الذي اقتبس منه هذا الكالم - رسائل حول التكتيك- هو جدال ضد كامينيف وشركائه هدفه إثبات
العكس تماما! إن اقتباس مونتي جونستون غير دقيق. إنه يدمج فكرتين معا، بينما هما في األصل مفصولتان بفقرة كاملة، على
النحو التالي:
»فإذا نسينا هذه الحقيقة، سنصير شبيهين بهؤالء "البالشفة القدماء" الذين لعبوا، أكثر من مرة، دورا مشؤوما في تاريخ حزبنا بترديدهم
صيغة محفوظة عن ظهر قلب بغباء، بدال من دراسة الصيغة المحددة والمميزات الجديدة للواقع الحي.« )المرجع نفسه. التشديد من
عند لينين(
إن هذه الفقرة الصغيرة التي استبعدها جونستون "بطريق الخطأ" من منتصف االقتباس توضح كل المسألة باختصار. يحاول لينين
أن يشرح للـ "البالشفة القدماء" أن شعار "الديكتاتورية الديمقراطية" ليس "صيغة فوق تاريخية" لكي يردد عند كل منعطف، بغض النظر
عن التطور الفعلي للصراع الطبقي.
أكد لينين مرارا وتكرارا أنه ليست هناك حقيقة مجردة، فالحقيقة دائما ملموسة. إن محاولة البحث عن الخالص في تكرار شعار
استنفذ ضرورته شكلت قطيعة تامة مع الماركسية، وتراجعا عن المهام الملحة للثورة نحو السكوالستيكية. كان التجسيد التاريخي
الملموس للـ "الديكتاتورية الديمقراطية" هو حكومة رأسمالية، تشن حربا إلحاقات امبريالية، حكومة عاجزة عن حل، أو حتى التعامل
بجدية مع أي من المهام األساسية للثورة الديمقراطية. لقد مأل التاريخ الصيغة الجبرية "الديكتاتورية الديمقراطية" بمضمون سلبي.
يحاول مونتي جونستون، بسلسلة من اللف والدوران، أن يفسر أن حكومة كيرينسكي مثلت تحقيق الدكتاتورية الديمقراطية البرجوازية،
كما هي منصوص عليها من قبل لينين في عام 1194 .لكن مهال أيها الرفيق جونستون! ما هي مهام الديكتاتورية الديمقراطية التي
حددها لينين في خطتا االشتراكية؟ أوال وقبل كل شيء إيجاد حل جذري للمسألة الزراعية، على أساس تأميم األرض؛ ثانيا، إقامة
لى هذه النقاط يجب
جمهورية ديمق ارطية على أساس االقت ارع العام والجمعية التأسيسية؛ واستبدال الجيش الحالي بالشعب المسلح. وا
أن نضيف، في الظروف السائدة في عام 1111 ،التحقيق الفوري لسالم ديمقراطي. أليس األمر كذلك أيها الرفيق جونستون؟ لكن
إذا كانت حكومة كيرينسكي هي "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين" )أي حكومة الثورة البرجوازية الديمقراطية(، فلماذا لم
تحل أيا من هذه المهام األساسية للثورة البرجوازية الديمقراطية، ولم تكن قادرة على حل أي منها؟
ن "تروتسكي ال يحاول إنكار هذا"(، لكنه في نفس
يقول مونتي جونستون إن ثورة فب ارير كانت هي الثورة البرجوازية الديمق ارطية )وا
الوقت يقول إنها لم تتمكن من حل أي من مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية. حقا أيها الرفيق جونستون، إن تروتسكي لم يحاول نفي
38
ذلك. لقد فهم كل من لينين وتروتسكي أن حكومة كيرينسكي عاجزة عن معالجة هذه المشاكل بجدية؛ لكن هذا يعود بالضبط إلى
أنها كانت حكومة برجوازية، وليست حكومة للعمال والفالحين. وحدها ديكتاتورية البروليتاريا، بالتحالف مع الفالحين الفقراء، من
يمكنها البدء في حل مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية في روسيا.
يقول مونتي جونستون بطريقة تفكير غريبة )إن أردنا وصفها بأدب(:
»لم تكن ثورة فبراير 1111 نضاال للبروليتاريا ضد الوطن البرجوازي كما توقع تروتسكي، بل كانت إسقاطا للقيصرية بثورة برجوازية
أنجزت من طرف العمال والفالحين، كما توقع لينين. لم تنتقل السلطة إلى أيدي حكومة عمالية. بل تم تقاسمها بين سوفييتات
)مجالس( نواب العمال والجنود، الذين يمثلون الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين ]![ )كان الجزء األكبر من الجنود فالحين(
وبين الحكومة المؤقتة الرأسمالية التي كانت تسلم لها طوعا ]![ سلطتها« Cogito ،)الصفحة11)
هذا رائع حقا! كانت ثورة فبراير ثورة برجوازية أنجزت من قبل العمال والفالحين الذين شرعوا "طوعا" يسلمون سلطتهم إلى
الرأسماليين. لكن السؤال هو: كيف وصل العمال والفالحون إلى تسليم السلطة "طوعا"، إلى البرجوازية التي، "كما توقع لينين"، كان
من المحتم أن تلعب، وقد لعبت فعال، دورا معاديا للثورة؟ إن الجواب على هذا السؤال يقدمه لينين نفسه. لقد تعامل لينين بازدراء مع
هؤالء الذين كانوا يأكدون على أنه يجب على البروليتاريا أن تطيع "القانون الحديدي للمراحل التاريخية"، وأنه ال يمكنها "تخطي
فبراير"، وعليها أن "تمر من مرحلة الثورة البرجوازية"، والذين حاولوا بذلك إخفاء جبنهم وارتباكهم وعجزهم، من خالل االختباء وراء
"العوامل الموضوعية".
»لماذا ال يأخذون السلطة؟ يقول ستيكلوف: لهذا السبب وذاك. إن هذا هراء. الحقيقة هي أن البروليتاريا ليست منظمة وواعية
طبقيا بما فيه الكفاية. يجب أن نعترف بهذا: إن القوة المادية في يد البروليتاريا لكن اتضح أن البرجوازية مستعدة وواعية طبقيا.
هذه حقيقة بشعة، وينبغي أن نعترف بها بصراحة ووضوح، وينبغي أن نقول للشعب بأنهم لم يأخذوا السلطة ألنهم كانو ا غير منظمين
وغير واعين بما فيه الكفاية«. )لينين، األعمال الكاملة، المجلد 31 ،الصفحة 231 ،التشديد من عندنا(
لم يكن هناك أي سبب موضوعي لعدم قيام العمال - الذين امسكوا بزمام السلطة في أيديهم- بإسقاط البرجوازية في فبراير 1111 ،
ال سبب سوى عدم االستعداد، واالفتقار إلى التنظيم وقلة الوعي. لكن هذا، كما أوضح لينين، كان مجرد الوجه اآلخر للخيانة البشعة
لثورة العمال من طرف كل تلك األحزاب التي كانت تسمى أحزاب العمال والفالحين. لوال تواطؤ المناشفة واالشتراكيين الثوريين داخل
السوفييتات، لم يكن يمكن للحكومة المؤقتة أن تستمر ولو ساعة واحدة. هذا هو السبب الذي جعل لينين يوجه أشد االنتقادات الالذعة
لتلك العناصر داخل القيادة البلشفية الذين ربطوا الحزب البلشفي نفسه بعربة المناشفة واالشتراكيين الثوريين، مما أدى إلى نشر البلبلة
واللبس بين صفوف الجماهير، وانحرف بهم عن الطريق إلى السلطة.
في محاولة للتشكيك في موقف تروتسكي، الذي صار اآلن متطابقا مع موقف لينين، ال يعمل مونتي جونستون سوى على تكرار
كل الهراء القديم الذي استخدمه كامينيف وشركائه ضد لينين في عام 1111 .إن محاوالته الحفاظ على شعار "الديكتاتورية
الديمقراطية" في وجه الثورة الدائمة غير نزيهة على اإلطالق. وبالتالي، فإن نفس المؤلف الذي يحاول أن يستخلص منه االقتباسات
للدفاع عن هذا الشعار - رسائل حول التكتيك- هو على وجه التحديد المؤلف الذي دفن فيه لينين نهائيا ذلك الشعار:
»كل من يتحدث اليوم عن "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين" يتأخر عن موكب الحياة، وينتقل، بالتالي عمليا، إلى
معسكر البرجوازية الصغيرة ضد الصراع الطبقي البروليتاري. إنه يستحق أن يرسل إلى أرشيف التحف "البلشفية" ما قبل الثورة )الذي
يمكن أن يسمى أرشيف "البالشفة القدماء"(«. )لينين: رسائل حول التكتيك، المؤلفات المختارة، المجلد 1 ،الصفحة 32)
وفي إشارة منه إلى قوة الطبقة العاملة وعجز الحكومة المؤقتة، قال لينين:
39
»هذا الواقع ال ينطبق على المخططات القديمة. ينبغي على المرء أن يعرف كيف يكيف المخططات وفقا للوقائع، ال أن يردد
كلمات حول "ديكتاتورية البروليتاريا والفالحين"... كلمات صارت عموما بدون معنى« )لينين، المؤلفات المختارة، المجلد 1 ،الصفحة
)34
وأضاف:
»هل تعكس صيغة الرفيق كامينيف البلشفية القديمة التي تعلن أن "الثورة البرجوازية الديمقراطية لم تنته بعد" هذا الواقع؟ كال إن
واحياءها ستكون بدون جدوى.« )المرجع نفسه،
هذه الصيغة قد شاخت. ولم تعد تصلح لشيء. إنها صيغة ميتة. وكل محاولة لبعثها
الصفحة 29)
جميع جهود مونتي جونستون هي من دون جدوى. لينين نفسه تجاهل تماما شعار "الديكتاتورية الديمقراطية" في أبريل 1111 .
وأولئك الذين تعلقوا به لم يفعلوا ذلك بنية الدفاع عن "اللينينية" ضد "التروتسكية"، بل من أجل تغطية استسالمهم المذل إلصالحية
المناشفة. وا 1111 ،أن يزدري كثيرا أولئك الذين حاولوا إحياء صيغة "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا ذا كان بإمكان لينين، في عام
والفالحين" "الميتة... بدون معنى...بالية"، ماذا يمكننا أن نقول عن مونتي جونستون وقادة ما يسمى باألحزاب الشيوعية، الذين
يواصلون بعد مرور خمسين عاما على ذلك استخدام الشعار ألغراضهم الكلبية الخاصة والمعادية للثورة؟
الثورة الدائمة في الممارسة )2)
إذا كانت اإلشارات إلى نظرية الثورة الدائمة في أعمال لينين قبل 1111 شحيحة، فإن اإلشارات إليها بعد الثورة منعدمة. وقد نشر
كتاب تروتسكي عن الثورة الدائمة في روسيا وترجم إلى العديد من اللغات )بما في ذلك اإلنجليزية( من قبل األممية الشيوعية أثناء
حياة لينين، من دون كلمة احتجاج أو انتقاد من طرف لينين أو "أغلبية أعضاء اللجنة المركزية" األسطورية. ومع ذلك، فإنه في
األعمال الكاملة للينين، التي نشرتها الحكومة السوفياتية بعد الثورة، تظهر مالحظة عن تروتسكي تحتوي على المقطع التالي:
»قبل ثورة 1194 قدم نظريته الفريدة والتي تستقبل اآلن بحفاوة حول الثورة الدائمة، مؤكدا أن الثورة البرجوازية عام 1194 ستنتقل
مباشرة إلى ثورة اشتراكية والتي ستكون الحلقة األولى في سلسلة من الثورات الوطنية«.
نجد هنا وصفا دقيقا لنظرية الثورة الدائمة بعيدا عن لف جونستون ودورانه. "استقبلت بحفاوة" بعد ثورة أكتوبر ألنها توقعت بدقة
أحداث عام 1111.
في الصفحات 12-14 من مقالته، يحاول مونتي جونستون ضرب مصداقية نظرية الثورة الدائمة بطريقته المعتادة القائمة على بتر
"متوازن" لالقتباسات:
»من الغريب أال نجد في أي مكان من الكتابات التي ألفها لينين والخطب التي ألقاها في الفترة ما بين أبريل 1111 وحتى وفاته
)والتي تستغرق 43 مجلدا من المجلدات الـ 44 في الطبعة الروسية الجديدة( ولو تلميحا على أن لينين كان على علم "بتحوله" إلى
تبني نظرية تروتسكي "الثورة الدائمة" – مع العلم أن لينين لم يتردد أبدا في االعتراف بأخطاء الماضي. ومن جهة أخرى نجد أن
تروتسكي يعترف في أكثر من مناسبة بالعكس. وهكذا أعادت أرضية المعارضة اليسارية سنة 1141 نشر إعالن تروتسكي ورفاقه
إلى األممية الشيوعية في 14 دجنبر 1141" :أكد تروتسكي لألممية أنه بخصوص تلك المسائل المبدئية التي تنازع على أساسها
مع لينين، كان لينين على حق، وخصوصا حول مسألة الثورة الدائمة والفالحين". وفي رسالة إلى العضو السابق في "المعارضة
اليسارية" بريوبراجينسكي، الذي لم يتقبل نظريته، اعترف تروتسكي قائال: "لقد بقي شعار الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين
تقدميا من الناحية التاريخية حتى فبراير 1111 ."وحتى في كتابه "دروس أكتوبر" كتب قائال إن لينين كان يهاجم من خالل شعار
الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين مسألة التقدم نحو ديكتاتورية البروليتاريا االشتراكية، بدعم من الفالحين بطريقة قوية
41
وثورية شاملة - في تناقض تام مع بيان له عام 1191 حول أن: "سمات البلشفية المعادية للثورة تهدد بأن تصبح خطرا كبيرا... في
حال انتصار الثورة".«)Cogito ،الصفحات 12-14)
إن حجة جونستون في ما يتعلق بغياب تعليق في مؤلفات لينين بعد عام 1111 بخصوص مسألة الثورة الدائمة تدين نفسها. لقد
كان لينين دائما دقيقا بشأن المسائل النظرية. ولم يكن ليسمح لمسألة نظرية حول أي قضية هامة أن تبقى دون حل. فبما أنه لم
يكتب أي جدال سياسي ضد نظرية الثورة الدائمة بعد عام 1111 ،وسمح بنشر أعمال تروتسكي حول هذه المسألة من دون تعليق،
ووافق على إشارة في الطبعة الرسمية ألعماله المختارة معربا عن االتفاق مع هذه النظرية، فقد كان هذا ممكنا فقط ألنه بعد أن تم
حل تلك المسائل من خالل ثورة أكتوبر، كان متفقا تماما مع تروتسكي حول هذه المسألة. لم تكن المسألة متعلقة "بتبني" لينين ألفكار
تروتسكي، كما سبق لنا أن أوضحنا. فبعد عام 1111 ،لم يعد لكل الخالفات السابقة بينهما حول تقييم الثورة الروسية )وهي الخالفات
التي، على أية حال، كانت ذات طابع ثانوي( سوى مغزى تاريخي بحت. أما بالنسبة إلى "أخطاء" تروتسكي المزعومة، فإن تروتسكي
كان دائما على استعداد، ليس فقط لالعتراف باألخطاء التي ارتكبها، بل بشرحها )وهو الشيء الذي ال يمكن بالتأكيد أن يقال عن
قادة الحزب الشيوعي اليوم!( لقد شرحنا سابقا كيف أوضح تروتسكي خطأه بخصوص مسألة الحزب البلشفي. لكن فيما يتعلق بنظرية
الثورة الدائمة، فإن "جريمة" تروتسكي الوحيدة التي ال يمكن للستالينيين أن يغفروها له أبدا - كانت هي أن نظريته تأكدت بشكل باهر
من خالل األحداث.
في الواقع، إن ما يهاجمه مونتي جونستون وغيره من "منظري" الحزب الشيوعي، تحت ستار انتقاد نظرية الثورة الدائمة، هو جوهر
البلشفية الثوري وأسلوبها. في عام 1142 اخترع كامينيف وزينوفييف وستالين بكلبية أسطورة "التروتسكية" لخدمة مصالح صراعهم
التكتلي ضد تروتسكي. وقد كسبوا في هذا الصراع تأييد قويا من قبل بير وقراطية الدولة والحزب، التي رأت فيه نهاية لالضطراب
الثوري وبداية مرحلة من السالم و"النظام" يمكنهم خاللها التمتع باالمتيازات التي كانوا قد اكتسبوها خلسة. وكان تبني ستالين لـ
"نظرية" االشتراكية في بلد واحد أمرا لم يتمكن كامينيف وزينوفييف، الذين تربيا بروح األممية عند لينين، من هضمه. قطعا مع ستالين
-- لكن الضرر كان قد حدث بالفعل. التزمت البيروقراطية بقوة أكبر بكتلة ستالين و"نظرية" االشتراكية في بلد واحد. وقد كانت
هجماتها الخبيثة والساخطة على "التروتسكية" و"الثورة الدائمة" مجرد تعبير عن رفضها للتقاليد الثورية البلشفية التي تتعارض مع
مصالحها المادية.
أما ما يخص االقتباس من أرضية المعارضة اليسارية فإن جونستون يعرف أن هذه الوثيقة لم تكن تعبيرا عن آراء تروتسكي
الشخصية، بل عن أفكار كل المعارضة اليسارية - بما في ذلك زينوفييف وكامينيف. وفي حين كان هناك اتفاق على المسائل
الجوهرية في الصراع ضد الستالينية -- التصنيع والتجميع والديمقراطية العمالية واألممية، وغيرها- فإن كامينيف و زينوفييف استمروا
يتبنون موقفا مختلفا بخصوص المسائل األخرى. وقد كان المقتطف بخصوص الثورة الدائمة الذي نقله مونتي جونستون واحدا من
المواقف العديدة التي عارضها تروتسكي لكن نتيجة التصويت كانت ضده لصالح كامينيف وزينوفييف. ومن أجل الوحدة حول المسائل
األساسية ضد ستالين، وافق تروتسكي على هذا. تتضمن كتاباته دفاعا ثابتا عن هذه النظرية، التي كان كامينيف وزينوفييف غير
مستعدين لقبولها جزئيا بسبب الدور الذي اضطلعا به في أكتوبر بخصوص مسألة "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين".
أما فيما يتعلق باالقتباس من الرسالة إلى بريوبراجنسكي، فسيجد القارئ أنه ليس هناك أي تناقض على اإلطالق بين الموقف
المتضمن في هذه الرسالة وبين نظرية الثورة الدائمة. لقد اعتبر تروتسكي دائما موقف لينين موقفا تقدميا، وقريبا من موقفه، في مقابل
موقف المناشفة. ويظهر هذا بشكل واضح جدا في كتاب "دروس أكتوبر". مونتي جونستون يقتبس )مع "اإليجاز" المعهود( من هذا
الكتيب، لكنه ال يفسر لماذا كتب، ومتى كتب، أو ماذا جاء فيه. لقد كتب المؤلف عام 1143 ،بعد هزيمة الحركة الثورية في ألمانيا،
والتي تعود إلى حد كبير إلى تخبط ستالين وزينوفييف.
41
يشرح تروتسكي في هذا الكتيب حتمية وقوع أزمة القيادة في وضع ثوري بسبب الضغط الهائل من قبل "الرأي العام" البرجوازي حتى
على القيادة الثورية األكثر صالبة. سبق إلنجلز أن أوضح أنه قد تمر أحيانا عقود قبل اندالع وضع ثوري، ثم يمكن أن يتكثف
عقدان أو ثالثة عقود في أيام قليلة؛ فإذا ما فشلت القيادة الثورية في االستفادة من الوضع فقد تضطر إلى االنتظار عشرة أعوام أو
عشرين عاما لكي يعود مثل ذلك الوضع إلى الظهور. إن التاريخ الحديث مليء باألمثلة عن هذا، رغم أن هذا ال يظهر في عمل
مونتي جونستون أو تقاليد األحزاب الشيوعية التي اكتشفت وحتى تبنت "الطريق المنشفي إلى االشتراكية".
يفسر تروتسكي سلوك قادة الحزب الشيوعي األلماني وقيادة ستالين زينوفييف بكونه استبداال للبلشفية بالمنشفية، على طريقة فبراير
عام 1111 .وكما كان الحال في عام 1111 ،برر االنتهازيون موقفهم من خالل نظريات بالية - بما في ذلك "الديكتاتورية الديمقر اطية
للبروليتاريا والفالحين". ال يعدم االنتهازيون أبدا بعض "النظريات" المالئمة لتبرير جبنهم: وهكذا فإن "منظري" الحزب الشيوعي، برروا
خيانتهم لثو رة ماي عام 1111 بفرنسا، من خالل تشويه مقدمة إنجلز لكتاب الحرب األهلية في فرنسا، والتي استخدمت لتشويه سمعة
الثوريين من قبل التحريفيين االشتراكيين الديمقراطيين طيلة ثمانين سنة!
ولكي نوضح بشكل جلي مالمح "موضوعية" الرفيق جونستون، دعونا نقتبس بالكامل ما قاله تر وتسكي في كتابه دروس أكتوبر عن
"الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين":
»لقد عبر لينين، حتى قبل 1194 ،عن الطبيعة الخاصة للثورة الروسية في صيغة: "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين"،
إن هذه الصيغة في حد ذاتها ال تستمد معناها، كما أبان عن ذلك التطور التاريخي المستقبلي، إالّ باعتبارها مرحلة نحو الديكتاتورية
االشتراكية للبروليتاريا التي يسندها الفالحون. لقد كان تحديد لينين للمسألة، ثوريا وديناميكيا جدا، يتعارض جذريا مع الصيغة المنشفية
القائلة بأن روسيا ال يمكن لها أن تطمح سوى إلى تكرار تار يخ البلدان المتقدمة، أي بأن تكون البرجوازية في الحكم، واالشتراكيون
الديمقراطيون في المعارضة. إال أن هناك في حزبنا من يشدد ليس على كلمة ديكتاتورية البروليتاريا والفالحين في صيغة لينين، بل
على طبيعتها الديمقراطية كنقيض لطبيعتها االشتراكية. ومرة أخرى ال يمكن لهذا أن يعني سوى أن الشيء الوحيد المعقول في روسيا،
البلد المتأخر، هو الثورة الديمقراطية. الثورة االشتراكية يجب أن تبدأ في الغرب أوال، أما نحن فال نستطيع أن نسير في الطريق
االشتراكي إال بعد إنجلترا وفرنسا وألمانيا. ولكن وجهة النظر هذه تلقي بصاحبها بصورة حتمية بين أحضان المنشفية، وهذا ما تجلى
تماما سنة 1111 عندما طرحت مهام الثورة أمامنا، ليس للتشخيص بل التخاذ إجراءات حاسمة.
»أن يتبنى المرء، في ظل األوضاع الحالية للثورة، موقف دعم الديمقراطية مدفوعا إلى خالصته المنطقية التي هي معارضة
االشتراكية، على أساس أنه لم يحن أوانها بعد، معناه في السياسة االنتقال من موقف بروليتاري إلى موقف برجوازي صغير. معناه
االنتقال إلى الجناح اليساري في الثورة الوطنية.« )Trotsky Essential The الصفحة 144)
ماذا حدث في روسيا عام 1111؟ وفقا لمونتي جونستون شهدت ثورة فبراير انجاز المرحلة البر جوازية الديمقراطية للثورة. و مثلت
ثورة أكتوبر المرحلة االشتراكية. لكن ثورة فبراير، من جهة، لم تحل أيا من مهام المرحلة البرجوازية الديمقراطية. ومن جهة أخرى
بدأت الثورة االشتراكية بإنجاز التدابير الديمقراطية البرجوازية، وبخاصة الثورة الزراعية. يخفي مونتي جونستو ن حيرته )ويعمق حيرة
قراءه!( من خالل االستيالء على اقتباسات مبتورة من لينين – من خالل خلط تعسفي وغير صحيح مطلقا ألجزاء مبتورة من كتابات
لينين لعام 1194 بجداالته ضد "البالشفة القدماء" عام 1111 !إننا نسأل الرفيق جونستون: كيف يمكن للثورة الديمقراطية البرجواز ية
أن تكتمل، بينما هي لم تعالج أيا من المسائل األساسية المطروحة أمامها؟
كيف تمكن البالشفة من حشد الدعم للثورة االشتراكية على أساس شعارات ديمقراطية برجوازية: )"السالم، الخبز، واألرض"(؟
في ذروة اليأس قال مونتي جونستون بدون تفكير:
42
»لقد تطلب األمر ثورة أكتوبر واقامة دكتاتورية البروليتاريا، لتنفيذ تلك المهام الديمق ارطية البرجوازية التي لم يتم إنجازها أو إكمالها
ما بين فبراير وأكتوبر« )Cogito الصفحة 14)
صحيح أيها الرفيق جونستون! لكن هذا هو بالضبط جوهر نظرية الثورة الدائمة. ففي ثورة أكتوبر قامت البروليتاريا، بالتحالف مع
الفالحين الفقراء، أوال بحل المشاكل األساسية للثورة البرجوازية الديمقراطية، ثم انتقلت، دون انقطاع، إلى تنفيذ التدابير االشتراكية.
هنا تكمن الطبيعة "الدائمة" والغير منقطعة للثورة الروسية.
يمكننا أيضا أن نسأل مونتي جونستون عن المهام التي تمت "معالجتها أو تم إنجازها بين فبراير وأكتوبر"؟ لم تنجز مهمة توزيع
األراضي على الفالحين. وال إقامة السالم الديمقراطي. وال حتى إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي! هل قامت بإلغاء النظام الملكي؟
ولكن حتى هذا بقي معلقا: فالهدف األصلي ألبطال "الديمقراطية" الروسية كان هو إنشاء نظام ملكي دستوري.
كان "حلفاء" الطبقة العاملة البرجوازيون الديمقراطيون، الذين يقف مونتي جونستون أمام "انجازاتهم" بخشوع ديني، هدفا دائما للنقد
الالذع من قبل لينين، الذي سخر صراحة من عجزهم:
»هؤالء الجبناء، والنرجسيون المختالون وأشباه هاملت التافهون يلوحون بسيوفهم الخشبية، لكنهم لم يحطموا حتى النظام الملكي!
لقد قمنا بتطهير كل الوحل الملكي كما لم يفعله أحد في أي وقت مضى. إننا لم نبق ولو حجرا واحدا ولو طوبة من ذلك الصرح
القديم ومن النظام العقاري االجتماعي القائم )حتى في البلدان األكثر تقدما، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لم يتم القضاء تماما على
بقايا هذا النظام حتى يومنا هذا!(. لقد اجتثتنا النظام العقاري االجتماعي، الذي هو بقايا اإلقطاع والقنانة في نظام ملكية األرض من
أعمق جذوره. "قد يقول قائل": )وهناك الكثير من الكتاب الصاخبين والكاديت والمناشفة واالشتراكيين الثوريين في الخارج من يطرحون
مثل هذه الحجج( ما هي "على المدى الطويل" نتائج اإلصالح الزراعي الذي ستنفذه ثورة أكتوبر العظمى. ليست لدينا الرغبة حاليا
في إضاعة الوقت في مثل هذه الجداالت، ألننا نقرر في ذلك، وكذلك في جملة من الجداالت المصاحبة لها، عن طريق النضال.
لكن ال يمكن إنكار حقيقة أن الديمقراطيين البرجوازيين الصغار "تصالحوا" مع مالك األراضي، مع األوصياء على تقاليد القنانة، طيلة
ثمانية أشهر، في حين أننا كنسنا تماما كبار مالك األراضي وجميع تقاليدهم من األرض الروسية في غضون أسابيع قليلة.« )لينين،
األعمال المختارة، المجلد 33 ،الصفحات 44-43)
كانت الحقوق الديمقراطية التي تمكن العمال من تحقيقها في عام 1111 ثمرة لنضاالتهم، وليس "هدية" من "أشباه هامليت التافهين"
والبرلمانية البرجوازية! في واقع األمر، تحت غطاء الحكومة المؤقتة "الديمقراطية" كانت الردة الرجعية تحضر )تماما مثلما حصل
الحقا في ظل حكومات الجبهة الشعبية في فرنسا واسبانيا( لهجوم مضاد دموي ضد حركة الجماهير الذين ذهبوا "أبعد مما يجب".
وقد أشارت محاولة انقالب كورنيلوف المعادي للثورة في غشت- شتنبر 1111 ،بدعم وتشجيع من قبل البرجوازية، إلى إفالس كل
نظام الديمقراطية البرجو ازية الفاسد في روسيا. ومن أجل إلحاق هزيمة ساحقة بالقوى الرجعية وانجاز مهام الثورة الديمق ارطية البرجوازية،
كان من الضروري على العمال والفالحين انتزاع زمام السلطة من األيدي المرتجفة "للديمقراطيين" الخونة المتذبذبين. هذا هو الدرس
الذي ما يزال القادة "الشيوعيو سبانيا وفرنسا وغيرها ستمهد الطريق
ن" اليوم يرفضون بعناد تعلمه ؛ إن "جبهاتهم الشعبية" في اليونان، وا
لهزائم دموية جديدة للطبقة العاملة ما لم يتم القطع بشكل حاسم مع سياسات التعاون الطبقي المنشفية الفاسدة.
خالل ثورة فبراير، أطيح بالقيصرية بالضبط بفضل حركة العمال في المدن، الذين انضم إليهم بعد ذلك الفالحون بالزي العسكري.
أما بالنسبة للبرجوازية وأحزابها "الديمقراطية الليبرالية" فلم تلعب أي دور على اإلطالق. كانت السلطة الحقيقية في أيدي سوفييتات
العمال والجنود. بينما كانت الحكومة المؤقتة معلقة في الهواء، محرومة من أي قاعدة دعم، لكن المناشفة واالشتراكيون الثوريون
الجبناء كانوا مستعدين لتسليمها السلطة طوعا! الشيء الذي كان ضروريا بالنسبة للعمال والفالحين، كما فهم لينين وتروتسكي بشكل
واضح، هو االنتظام من اجل تحويل "ازدواجية السلطة" هذه )التي نتجت عن خيانة المناشفة واالشتراكيين الثوريين( إلى سلطة
عمال حقيقية.
43
كان ماركس وانجلز قد أوضحا طبيعة الدور الجبان والمعادي للثورة للبرجوازية األلمانية في عام 1121 بسبب خوفها من حركة
الطبقة العاملة التي وقفت بتهديد وراءها في صراعها ضد اإلقطاع واالستبداد. وقد كانت البرجوازية الروسية، بعد ستين عاما، أكثر
عجزا عن التشبه ببطولة إخوتها الطبقيين عام 1111 .في كتابه "تاريخ الثورة الروسية" شرح تروتسكي أن تأخر التطور الرأسمالي
في روسيا استبعد إمكانية لعب البرجوازية الروسية أي دور ثوري. فمن جهة تميزت الصناعة الروسية، التي استفادت من التقنيات
المكتسبة من الرأسمالية الغربية، بتمركز عال للغاية مع عدد كبير من العمال مكدسين معا، في ظل ظروف سيئة، في مدن قليلة،
يهددون البرجوازية بشبح كومونة باريس جديدة في حالة اندالع انتفاضة ثورية جماهيرية.
ومن جهة أخرى، كانت البرجوازية الروسية تعتمد اعتمادا كبيرا على االستثمار والقروض من خزائن الرأسمال الدولي:
»لقد تحددت الطبيعة االجتماعية للبرجوازية الروسية وشكلها السياسي من قبل ظروف نشأة الصناعة الروسية وبنيتها. والتركيز
الشديد لهذه الصناعة وحده يعني انعدام أي تدرج لفئات انتقالية بين القادة الرأسماليين وبين الجماهير الشعبية. ونضيف إلى هذا أن
ملكية القطاعات الصناعية الرئيسية والبنوك ومؤسسات النقل كانت في أيدي األجانب، الذين لم يكونوا يكتفون بالحصول على األرباح
من وراء استثماراتهم في روسيا، بل كانوا يسعون أيضا إلى النفوذ السياسي في برلمانات البلدان األجنبية، ولذلك فإنهم لم يستنكفوا
فقط عن دعم النضال من أجل نظام برلماني في روسيا، بل إنهم عارضوه في كثير من األحيان: ويكفي أن نشير إلى الدور المخجل
الذي لعبته الحكومة الفرنسية. كانت تلك هي األسباب األساسية المتأصلة للعزلة السياسية للبرجوازية الروسية وطبيعتها المعادية
لمصالح الشعب. بينما كانت في فجر تاريخها غير ناضجة بما يكفي النجاز اإلصالح، فإنها عندما حان الوقت لكي تقوم بقيادة
الثورة كانت قد تعفنت«. )تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، المجلد 1 ،الصفحة 34)
وهذه الميزات ليست شيئا خاصا بالبرجوازية الروسية، إنها، مع اختالفات طفيفة وصف دقيق لطبيعة البرجوازيات "الوطنية" في
كل البلدان المتخلفة، والشبه مستعمرة. لقد صب لينين جام غضبه على المناشفة بسبب تبنيهم لسياسة التعاون الطبقي، وتبنيهم
لسياسة "الجبهة الشعبية" )التي كانت كذلك على الرغم من أن المناشفة لم يستخدموا هذه الكلمة لوصفها(، وانبطاحهم لما يسمى
باألحزاب "اللبرالية البرجوازية الديمقراطية"، بحجة أن البرجوازية قوة "تقدمية" في النضال ضد االستبداد. لكن ماذا كان ليقول لو شهد
ندوني
سياسة التعاون الطبقي األكثر وقاحة التي تتبناها األح ازب الشيوعية في كل مكان في العالم اليوم: في اليونان وا سيا سبانيا وا
والهند؟لم تلعب البرجوازية "الديمقراطية" في أي مكان أي دور سوى أسوء أدوار الفساد ومعاداة الثورة. وحتى اآلن لم تتبن قيادات
األحزاب الشيوعية، سياسة طبقية لينينية مستقلة تجاه السياسيين الديمقراطيين البرجوازيين.
إن "نظرية" "المراحل" الستالينية، والتي تغنى بها بشكل ممل "منظرو" الحزب الشيوعي بمن فيهم مونتي جونستون، هي تشويه
كاريكاتوري فظ وميكانيكي ألفكار لينين. ما الذي يمكن لمونتي جونستون أن يقوله عن الثورة األلمانية عام 1111 أو اإلضرابات
االيطالية المصاحبة باالعتصامات عام 1149؟ في الحالة األولى، استولى العمال األلمان على السلطة بثورة غير دموية، لكنهم
تعرضوا للخيانة من طرف "الزعماء" االشتراكيين الديمقراطيين، الذين وباختبائهم وراء الطبيعة "البرجوازية الديمقراطية" للثورة "سلمو ا
طوعا" )!( السلطة للبرجوازية! هل كانت تلك، كما ادعى القادة االشتراكيون الديمقراطيون، "المرحلة الديمقراطية" للثورة األلمانية، أيها
الرفيق جونستون؟ إذا كان األمر كذلك، لماذا إذن ندد لينين بالقادة االشتراكيين الديمقراطيين لخيانتهم للثورة االشتراكية؟
وقد جرت سيرورة مماثلة في ايطاليا عام 1149 ،حيث خلقت موجة هائلة من اإلضرابات المصاحبة باالعتصامات وضعا ثوريا:
وقد أدى فشل القادة االشتراكيين في تقديم مخرج ثوري واضح إلى هزيمة العمال اإليطاليين وتسبب بشكل مباشر في صعود موسوليني
إلى السلطة. وكما كان الحال بالنسبة للقادة االشتراكيين الديمقراطيين األلمان، برر القادة اإليطاليون عجزهم بحجة أن الجماهير
"ليست مستعدة" للثورة االشتراكية. لكن إذا كان لينين قد هاجم بشدة قادة الحزب االشتراكي اإليطالي لعجزهم عن تقديم برنامج ثوري،
ما الذي كان ليقوله بخصوص "قادة" الحزب الشيوعي الفرنسي في اإلضراب العام في مايو 1111 والذي كان أكثر عمقا وأوسع
نطاقا من الحركة في ايطاليا عام 1149؟
44
لقد وضع االنتهازيون من مختلف المشارب مسؤولية الهزائم دائما على كاهل الجماهير الذين يزعمون أنها "غير مستعدة" لالشتراكية.
لكن كل تاريخ السنوات الخمسين الماضية يظهر مرارا وتكرارا استعداد الطبقة العاملة للنضال وتقديم التضحيات البطولية من أجل
تحقيق التحول االجتماعي. "لماذا نلقي باللوم دائما على القادة؟" يتسائل "منظرو" الحزب الشيوعي لعام 1111 ،مرددين صدى
العبارات الساخطة ألمثال كاوتسكي وشيدمان وسيراتيس سنوات 1111 -1149 .فبعد أن فقدوا كل ذرة ثقة في قدرة الشعب العامل
على تغيير المجتمع، يقف البيروقراطيون المتعجرفون عاجزين عن تصور أي عالقة بين غبائهم البرلماني وبين عجز الجماهير،
بدون قيادة ثورية واعية، عن تطوير حركتها إلى نهاية ظافرة.
ما هي الدروس التي استخالصها قادة الحزب الشيوعي من كل هذا؟ يستخدم مونتي جونستون اقتباسات من بعض جداالت لينين.
لكنه لم يختر االقتباس من بعض جداالت لينين العديدة ضد المناشفة، الذين حاولوا تقييد البروليتاريا الروسية بعربة البرجوازية
"التقدمية"، "الليبرالية". لماذا ال يقتبس من هجمات لينين العديدة ضد التعاون الطبقي وتأكيده على أن العمال والفالحين الثوريين هما
الطبقتان الوحيدتان القادرتان على إنجاز مهام الثورة الديمقراطية؟
مونتي جونستون ال يرى، في كل كتابات لينين، على ما يبدو، سوى إدانة طويلة لبدعة الثورة الدائمة. انه ال يرى شيئا ذا صلة
بالسياسات المنشفية الوقحة لستالين في الصين خالل 1144-1141 .انه ال يرى شيئا متصال بالحزب الشيوعي الكوبي الذي دعم
نظام باتيستا باعتباره "قوة تقدمية معادية للواليات المتحدة" في الثالثينات، والذي ندد بكاسترو باعتباره "مغامرا برجوازيا صغيرا"، و ال
بالحزب الشيوعي الع ارقي الذي أشاد بقاسم، باعتباره المحرر العظيم، حتى اللحظة التي بدأ في إطالق النار عليهم، وا لى جبارهم ع
السرية! وقد تبنى الرفاق السوفيات سياسة حسن الجوار تجاه شاه بالد فارس "التقدمي"، والتي تضمنت تسليم الالجئين السياسيين من
اجل إعدامهم رميا بالرصاص. والرفاق اإلندونيسيون، بسياستهم "اللينينية" المتمثلة في كتلة "الفالحين والعمال والمثقفين والبرجوازية
الوطنية واألرستقراطيين التقدميين وجميع العناصر الوطنية" انبطحوا أمام الديكتاتور "التقدمي" سوكارنو، وهو الشيء الذي نتج عنه
ذبح نصف مليون شيوعي دون مقاومة. وقد تنافست الصين وروسيا مع بعضهما البعض في مدح أيوب خان "المناضل الباسل
المعادي لالمبريالية"، حتى أطيح به من قبل العمال والفالحين الباكستانيين.
ليست هذه سوى عينات قليلة من التوجه "اللينيني" لقيادات األحزاب "الشيوعية" اليوم. وتحت ذريعة الوالء لشعار "الديكتاتورية
الديمقراطية للبروليتاريا والفالحين"، يسعون في كل مكان لتطبيق سياسة التعاون الطبقي التي هي نفس ما أطلق عليه تروتسكي،
"صورة كاريكاتورية خبيثة للمنشفية".
سيصاب العديد من الرفاق في الحزب الشيوعي ورابطة الشيوعيين الشباب باالرتباك بسبب ترهات مونتي جونستون حول الثورة
الدائمة. ونأمل أن نكون قد وضحنا بعض النقاط هنا. إن نظرية الثورة الدائمة ليست تلك المسألة النظرية المعقدة والقاحلة كما يظهرها
جونستون، بل هي خالصة كامل تجربة الحركة الثورية في روسيا خالل ثورة أكتوبر. ومن دون فهم واضح لهذه المسائل، لن يكون
في مقدور أي ماركسي أن يفهم الوضع العالمي الحالي. وسوف تتكرر مآسي اندونيسيا واليونان وباكستان. على جميع االشتراكيين
الجادين تعلم الدروس المستفادة من هذه األحداث إلعداد أنفسهم من الناحية النظرية للدور المستقبلي الذي يجب عليهم أن يضطلعوا
به في بريطانيا وعالميا.
45
الفصل الخامس: تروتسكي وصلح بريست ليتوفسك
»على الرغم من أن تروتسكي أيد لينين ضد معارضة كامينيف وزينوفييف بخصوص ضرورة تنظيم االنتفاضة في أكتو بر 1111 ،
فإنه سرعان ما وجد نفسه على خالف معه في بداية عام 1111 بخصوص توقيع معاهدة السالم مع ألمانيا. إن الطريقة التي تصرف
بها في هذه المسألة تبرز في نفس اآلن نقاط قوته ونقاط ضعفه« )Cogito ،الصفحة 11)
هذه هي اإلشارة األولى واألخيرة في مقال جونستون لنضال لينين ضد "البالشفة القدماء" في عام 1111 .إن كونها جاءت على
الهامش داللة على المكان الذي تحتله في نظرة مونتي جونستون لألشياء. لقد كان لتروتسكي، "عرضا" بطبيعة الحال، نفس موقف
لينين بشأن مسألة ثورة أكتوبر التافهة، في مواجهة معارضة كامينيف وستالين وزينوفييف، لكنه وجد نفسه مرة أخرى في معار ضة "الخط
الصحيح" بخصوص "المسائل الجوهرية" األخرى.
يحاول مونتي جونستون هنا تطبيق نفس الخدعة التي استخدمها في الجزء المتعلق بـ "الثورة الدائمة". في هذا المقطع، ومن خالل
"نسيانه" لموقف المناشفة، يبالغ في تضخيم جميع االختالفات بين لينين وتروتسكي. ومرة أخرى ال يعرف جونستون في مسألة بريست
ليتوفسك سوى موقفين فقط: موقف لينين )أي القبول فورا بالشروط األلمانية( وموقف تروتسكي )الذي وصفه بكونه موقف "ال سالم
وال حرب"(. لكن مونتي جونستون يعرف جيدا أنه بخصوص هذه المسألة لم يكن هناك موقفان فقط، بل ثالثة: مواقف لينين وموقف
تروتسكي، وموقف بوخارين الذي دافع ليس فقط عن رفض الشروط األلمانية، بل أيضا عن شن حرب ثورية ضد ألمانيا. وقد نسي
]جونستون[ أيضا أن يشير إلى نقطة صغيرة وهي أن موقف بوخارين كان أصال موقف أغلبية الحزب في فترة مفاوضات بريست
ليتوفسك.
ماذا كان موقف البالشفة تجاه الحرب؟ في عام 1114 ،وفي سياق نقاشه إلمكانية وصول البالشفة إلى السلطة في روسيا، كتب
لينين مقاال في جريدته (Democrat-Sotsial" (االشتراكي الديمقراطي" تحت عنوان "بعض الموضوعات":
»وردا على سؤال عما سيفعل حزب البروليتاريا لو أن الثورة وضعته في السلطة خالل الحرب الحالية، نرد: سنقترح السالم
على جميع األطراف المتحاربة بشرط تحرير المستعمرات، وجميع الشعوب التابعة والمضطهدة التي ال تتمتع بالحقوق الكاملة. لن
تقبل ال ألمانيا وال بريطانيا وال فرنسا في ظل حكوماتها الحالية بهذا الشرط. عندها يجب علينا أن نستعد لخوض حرب ثورية، أي أنه
ال يجب علينا فقط أن نطبق بشكل كامل التدابير األكثر حسما لبرنامج الحد األدنى، بل ينبغي علينا أن نحرض على العصيان بشكل
منتظم كافة الشعوب المضطهدة اآلن من قبل روسيا العظمى، وجميع المستعمرات والبلدان التابعة في آسيا )الهند والصين وبالد
فارس، الخ( ونحرض أيضا - وقبل كل شيء- البروليتاريا في أوروبا على التمرد ضد حكوماتها وتحدي اشتراكييها الشوفينيين«.
)األعمال الكاملة، المجلد 41 ،صفحة 293)
كانت تلك هي اإلستراتيجية الثورية الجريئة التي طرحها لينين مسبقا للثورة الروسية. وهي إستراتيجية ال يجمعها أي شيء مع النزعة
المسالمة التي يعظنا بها اليوم كهنة الحزب الشيوعي، والتي يحاولون إلصاقها بزعيم أكتوبر. كان لينين والبالشفة، قبل عام 1111 ،
يتبنون موقف الحرب الثورية، أي حرب الثورة ضد االمبريالية، والتي من شأنها أن تجمع بين الكفاح المسلح للجيش األحمر و بين
تمرد العمال في أوروبا وشعوب الدول المضطهدة.
في فترة التحريض والتحضير التي سبقت أكتوبر، أكد البالشفة مرارا أنهم يتبنون موقف "السالم دون إلحاقات أو تعويضات"، وأنهم
سيطرحون هذا السالم لإلمبرياليين، وفي حال رفضهم له سيشن البالشفة حربا ثورية ضدهم. وهكذا، كتب لينين في أواخر شتنبر
:1111
46
»إذا حدث المنظور األقل احتماال، أي إذا لم تقبل أي من الدول المتحاربة ولو بهدنة، عندها ستصبح الحرب من جانبنا ضرورية
حقا، حربا عادلة ودفاعية حقا. ومجرد وعي البروليتاريا والفالحين األكثر فقرا بهذا سيجعل روسيا أقوى مرات عديدة من الناحية
العسكرية، خصوصا بعد القطيعة التامة مع الرأسماليين الذين ينهبون الشعب، ناهيك عن أن الحرب من جانبنا ستكون آنذاك بالفعل،
وليس بالكلمات، حربا بتحالف مع الشعوب المقهورة في العالم بأسره«. ) األعمال الكاملة، المجلد 41 ،الصفحة 13)
لقد تم قبول فكرة الحرب الثورية دون جدال باعتبارها جزءا من اإلستراتيجية األساسية للحزب. وهكذا عندما كتب كامينيف وزينوفييف
رسالتهما المفتوحة المعارضة لثورة أكتوبر، كانت واحدة من حججهما الرئيسية هي احتمال حرب ثورية، التي حاولوا تخويف العمال
بها:
»إن جماهير الجنود يدعموننا ألننا ال نطرح شعار الحرب، بل شعار السالم... فإذا قمنا باالستيالء على السلطة وحدنا اآلن،
ووجدنا أنفسنا مضطرين بفعل الوضع العالمي بأسره إلى خوض حرب ثورية، فإن جماهير الجنود سيبتعدون عنا«.
كانت هذه حجة جيدة لتوقيع سالم بريست ليتوفسك، قبل أشهر عدة. لكنها لم تكن دليال على قدرة كامينيف وزينوفييف على التوقع
التاريخي، بل فقط على هشاشة أعصابهما وتذبذبهما االنتهازي. وكان دعمهما الحقا لتوقيع المعاهدة مجرد الوجه اآلخر لمعارضتهما
النتفاضة أكتوبر: ال يمكن فصل المسألتين عن بعضهما. إن السؤال الهام بالنسبة للماركسي ليس فقط هو ماذا يقال، بل أيضا من
يقول ذلك وألي سبب.
ماذا كان موقف البالشفة تجاه معاهدة بريست ليتوفسك؟ كان الجيش الذي ورثوه عن القيصرية قد تفكك تماما ؛ قامت وحدات كاملة
بحل نفسها؛ وانهار االنضباط، وانتقل الضباط إلى معسكر الثورة المضادة. كانت هذه المعطيات الملموسة، وليس أي اعتبارات نظرية
جوهرية هي التي حددت مواقف البالشفة. إن تصوير الخالفات في الحزب بكونها أكثر من خالفات تكتيكية هو تشويه فضيع
للحقيقة. في ظل ظروف مختلفة – لو أنه كان لديهم، على سبيل المثال، الوقت لبناء الجيش األحمر- كان السؤال سيطرح بطريقة
مختلفة تماما، كما اتضح خالل الحرب البولندية عام 1149.
كانت أول سياسة انتهجها البالشفة هي تمديد أمد المفاوضات ألطول وقت ممكن، على أمل أن تأتي الحركة الثورية في الغرب
لمساعدة الثورة. إن هذه الفكرة التي يصفها "الواقعيون" األدعياء اليوم بكونها "تر وتسكية"، طرحت في عشرات المناسبات ليس فقط
من قبل تروتسكي بل أيضا من قبل جميع القادة البالشفة، بمن فيهم لينين. كامينيف، على سبيل المثال، الذي ساند في وقت الحق
موقف لينين حول توقيع اتفاق السالم، قال عن الدعاية التي نظمت في بريست ليتوفسك »أن كلماتنا ستصل إلى الشعب األلماني
من فوق رؤوس الجنراالت األلمان، إن كلماتنا ستنزع من أيدي الجنراالت األلمان األسلحة التي يخدعون بها الشعب«. ورغم أن
األحداث سارت بشكل مختلف عما كان يتوقعه كامينيف، فإنه في ذلك الوقت كان يتحدث باسم الحزب البلشفي بأكمله.
وقد كان االعتماد الرئيسي من أجل القيام بدعاية ناجحة في بريست ليتوفسك على تروتسكي. لقد حول الكونفرانس إلى منبر لشرح
أفكار الثورة للعمال الذين أنهكتهم الحرب في أوروبا. وقد جمعت خطب تروتسكي الحقا ونشرت في عدة طبعات وبلغات عديدة من
قبل األممية الشيوعية أثناء حياة لينين. وفقط بعد 1142 حيث اكتشف الستالينيون فيها فجأة "الجملة الثورية"، الشيء الذي برر
إعدامها.
وقد تسبب تأخر اندالع الثورة في الغرب، والضعف العسكري للثورة الروسية، في نشوء اختالف في الرأي داخل صفوف قيادة
الحزب، وهو االختالف الذي وجد لينين نفسه خالله في موقع األقلية. كانت أول مرة ظهرت فيها االختالفات هي يوم 41 يناير
1111 ،عندما كانت المفاوضات تقترب من ذروتها. وخوفا من التعرض لهجوم جديد إذا ما رفض البالشفة اإلنذار األلماني األخير،
اقترح لينين التوقيع الفوري على اتفاقية السالم، ولو بالشروط الكارثية التي فرضها األلمان. اتفق تروتسكي حول مسألة أنه ال توجد
أي إمكانية لالستمرار في الحرب، لكنه اعتقد أنه ينبغي وقف المفاوضات وأنه على البالشفة أال يستسلموا إال في حالة هجوم
جديد. بينما طالب بوخارين بشن حرب ثورية.
47
وبعيدا عن الصورة الخاطئة التي قدمها الستالينيون، ابتداء من 1142 فصاعدا، عن تعر ض لينين والبالشفة لتحد من قبل تروتسكي
الغير المنضبط والمتطرف، فإن الحقيقة هي أن كال من لينين وتروتسكي كانا يمثالن األقلية "المعتدلة" بين صفوف القيادة بشأن هذه
المسألة. وما كان صحيحا بالنسبة للقيادة كان صحيحا بشكل مضاعف بالنسبة للقواعد. لقد عارضت الغالبية الساحقة من العمال
التوقيع على المعاهدة. وعندما دعت القيادة السوفييت إلعطاء وجهة نظره بشأن بريست ليتوفسك، انعقد أكثر من 499 سوفييت،
ومن بينها كلها أيد اثنان فقط من السوفييتات الكبيرة السالم )سوفييتا بتروغراد وسيفاستوبول - وهذا األخير مع إبداء بعض التحفظات(،
بينما جميع المراكز العمالية الكبيرة األخرى: موسكو، ايكاترينبرغ، خاركوف، ايكاترينوسالف، ايفانوفو- فوزويسنك،، كرونشتادت،
الخ، صوتت وبأغلبية ساحقة لصالح قطع المفاوضات.
في اجتماع اللجنة المركزية يوم 42 يناير 1111 تم اتخاذ قرار نهائي بشأن الخط الذي ينبغي على تر وتسكي أن يعتمده في بريست
ليتوفسك. قبل االجتماع أجرى تروتسكي محادثة مع لينين، حيث وافق هذا األخير على خطة تروتسكي بخصوص رفض التوقيع
على المعاهدة وا إذا ما قام األلمان عالن األعمال الحربية في نهايته، شريطة قيام تروتسكي بدعم موقف التوقيع الفوري على المعاهدة
بالهجوم مرة أخرى، وعدم دعم موقف "الحرب الثورية". وقد وافق تروتسكي على هذا]1 .]هنا لم يطرح لينين مطلبه بالتوقيع فورا
على المعاهدة، بل فقط طرح مقترحا، تمت الموافقة عليه، يدعو تروتسكي إلى تمديد أمد المفاوضات ألطول وقت ممكن. ثم أجري
تصويت على اقتراح تروتسكي بوقف الحرب مع رفض التوقيع على المعاهدة، والذي قبل أيضا.
وفقا لمونتي جونستون، »عندما وجد ]تروتسكي[ نفسه أمام الشروط القاسية التي طالب بها األلمان، طغت المبالغة في تقدير
احتماالت اندالع ثورة فورا، على تقديره لحقيقة الوضع وأدى به إلى رفض التوقيع على المعاهدة« (Cogito ،الصفحة 11(
لقد رأينا سابقا ما الذي دفع "تروتسكي إلى رفض التوقيع على المعاهدة"، في سياق الحديث عن الخالفات داخل الحزب. لكن مونتي
جونستون يقوم، هنا كما هو الحال في أماكن أخرى، بتطعيم "تحليله" بشذرات قليلة من االقتباسات التي ال عالقة لها بأي من القضايا
الجوهرية المطروحة للنقاش، بل فقط بالجداالت االنفعالية للمشاركين فيها، والتي تخلق انطباعا بأن موقف تروتسكي كان نزو ة
شخصية وليس وجهة نظر الحزب. يواصل جونستون قائال:
»أما لينين من جهته فقد أكد بأن األلمان أقوياء بينما القوات الروسية التي مزقتها الحرب والسيئة التجهيز والجائعة ال يمكنها
الصمود في مواجهة اآللة العسكرية القوية. ]![ وبالتالي ]![ حث على القبول بالشروط األلمانية، التي اعتبرها مهينة، بمجرد ما وجه
األلمان إنذارهم، محذرا من أن البديل سيكون هو قيام األلمان بالمزيد من التقدم داخل األراضي السوفياتية، وفرض شروط أكثر
سوءا«. )Cogito ،الصفحة 11)
يصور مونتي جونستون القضية كلها بمثابة صراع بين تروتسكي ولينين. إنه عازم على تصوير لينين كـ "واقعي" برجوازي صغير
متعجرف، يعارض "أحالم" تروتسكي الثورية. واقتبس عبارات للينين معزولة عن سياقها حول أن الثورة العالمية مجرد "خر افة جميلة"،
دون أن يوضح األسباب التي أعطاها لينين ليوضح موقفه من بريست ليتوفسك، وهي األسباب التي كانت نابعة من نزعة أممية
اشتراكية ثورية حازمة.
في سياق هذا النقاش وجد لينين نفسه "مدعوما" من قبل زينوفييف وستالين. وقد أكد ستالين أنه »ليست هناك حركة ثورية في
الغرب، ال وقائع تدل عليها، وليست سوى احتمال«. وأعلن زينوفييف أنه بالرغم من أنه »بتوقيعنا لمعاهدة السالم سنعزز الشوفينية
في ألمانيا وسنضعف لفترة من الزمن الحركة في الغرب« فإن ذلك أفضل بكثير من "خراب الجمهورية االشتراكية". وقد اضطر لينين
إلى التبرؤ علنا من الدعم المستند إلى حجج هؤالء "الواقعيين" األدعياء، التي يحاول مونتي جونستون اآلن إلصاقها به.
في رده على زينوفييف أكد لينين بشكل قاطع أنه إذا كانت »الحركة العمالية األلمانية قادرة على التطور خالل مفاوضات السالم...
فعلينا أن نضحي بأنفسنا ألن الثورة األلمانية ستكون أقوى بكثير من ثورتنا«. وبالضبط من أجل حماية ظهره من هذا النوع من
االنتهازية، أكد لينين مرارا وتكرارا أنه:
48
»ليس هناك مجال ألدنى شك في أنه ال أمل في النصر النهائي لثورتنا، في حالة ما إذا بقيت وحيدة، واذا لم تندلع حركات ثورية
في بلدان أخرى... وأكرر: إن خالصنا من كل هذه الصعوبات، هو اندالع ثورة أوروبية شاملة.»
بعد عام 1142 ،اخترعت أسطورة معارضة تروتسكي العنيدة للينين والقيادة من خالل رفضه التوقيع على معاهدة السالم التي كان
الجميع يتوق إليها. في 12 فبراير وبعد أن أبلغ تروتسكي اللجنة التنفيذية المركزية السوفياتية بتقرير عن اإلجراءات التي اتخذها،
طرح سفيردلوف باسم البالشفة التوصية التالية: »بعد االستماع بشكل كامل إلى تقرير وفد السالم، تعلن اللجنة التنفيذية المركزية
موافقتها التامة على عمل ممثليها في بريست ليتوفسك«. وفي وقت الحق، خالل شهر مارس 1111 ،قال زينوفييف في مؤتمر
الحزب إن »تروتسكي على حق عندما يقول إنه تصرف وفقا لقرار أغلبية أعضاء اللجنة المركزية«. ولم يحاول أحد أن ينكر ذلك.
مثله مثل لينين، لم يكن عند تروتسكي أي وهم بأن في إمكان"القوات الروسية التي مزقتها الحرب والسيئة التجهيز والجائعة" أن
تتحمل هجوما جديدا، ناهيك عن شن حرب ثورية. ولكن، من جهة كان المزاج السائد بين العمال وغالبية قيادة الحزب ضد قبول
شروط المعاهدة التي لم تكن "مذلة" فحسب، بل كارثة كبرى للدولة السوفياتية الفتية. ومن جهة أخرى، فإن شن ألمانيا لهجوم جديد
من شأنه إقناع الجماهير في أوروبا الغربية بأن البالشفة لم يوافقوا على عملية سالم تتضمن إلحاقات إال تحت اإلكراه. وقد كان هذا
دافعا سياسيا مهما، بالنظر إلى حملة االفتراءات الخبيثة التي كانت تشنها "الحكومات الحليفة" )بريطانيا وفرنسا(، حول أن البالشفة
عمالء أللمانيا، دفع لهم القيصر من أجل إخراج روسيا من الحرب. كان هناك شعور قوي في روسيا بأن هذا كان تمهيدا لمفاوضات
مع ألمانيا لتسوية سلمية على حساب روسيا. )وقد أثبت التاريخ أن الدوائر الحكومية البريطانية والفرنسية كانت تفكر في تطبيق مثل
هذه السياسة(.
بعد تجديد التهديد األلماني، دافع لينين مرة أخرى عن ضرورة التوقيع الفوري على معاهدة السالم، لكنه هزم أمام أغلبية ضئيلة في
اللجنة المركزية. وقد صوت تروتسكي ضد التوقيع، بالنظر إلى أن الهجوم لم يكن قد بدأ. فقام لينين بإعادة طرح السؤال على النحو
التالي: »إذا بدأ الهجوم األلماني، ولم يحدث أي نهوض ثور ي في ألمانيا، هل سنواصل رفض توقيع معاهدة السالم؟« فامتنع
الشيوعيون "اليساريون" )بوخارين وأنصار الحرب الثورية( عن التصويت على هذا. بينما صوت تروتسكي لصالح المقترح، الذي كان
متماشيا مع االتفاق الذي توصل إليه في وقت سابق مع لينين. وفي اليوم الموالي، عندما تلقى البالشفة دليال على التقدم األلماني،
تحول تروتسكي إلى جانب لينين، مما أتاح له أغلبية داخل اللجنة المركزية.
في 41 فبراير، تم اإلعالن عن شروط جديدة وأكثر قسوة من قبل الجنرال هوفمان، مع نية واضحة في جعل التوقيع على السالم
مستحيال. قامت هيئة أركان الجيش األلماني بعمل استفزازي في فنلندا، حيث سحقت الحركة العمالية الفنلندية. وأكد هذا الحدث
مخاوف البالشفة من أن الحلفاء قد توصلوا إلى اتفاق مع اإلمبريالية األلمانية من اجل سحق الجمهورية السوفياتية. وقد كانت هناك
إمكانية جدية بأنه حتى لو وقع البالشفة على المعاهدة، فإن األلمان سيواصلون تقدمهم. تبنى تروتسكي في البداية وجهة النظر هذه،
لكن عندما كرر لينين موقفه، أمام معارضة "اليساريين"، لم يلتحق تروتسكي بدعاة الحرب الثورية، بل امتنع عن التصويت، لتمكين
لينين من األغلبية.
يبدو غريبا أن يقوم شخص مولع جدا بـ"الجملة الثورية" بالتصويت في مناسبتين حاسمتين في اللجنة المركزية لتمكين لينين من
األغلبية! لكن بما أننا في سياق الحديث عن "الجملة الثورية" دعونا نلقي نظرة على كراسة كتبها لينين تحت نفس االسم، والتي يقتبس
منها جونستون بغزارة.
نشرت "الجملة الثورية" التي كتبها لينين كمقالة في جريدة برافدا في 41 فبراير 1111 ،باعتبارها بداية حملة شاملة لصالح التوقيع
على معاهدة السالم. يستشهد جونستون بهذا المقال عدة مرات كما لو أنه كان موجهاضد تروتسكي. في الواقع لم يظهر اسم
تروتسكي ولو مرة واحدة في هذه المقالة. ضد من كانت تلك المقالة موجهة؟ نجد الجواب عن هذا السؤال منذ السطر األول:
49
»عندما قلت خالل اجتماع للحزب إن الجملة الثورية حول الحرب الثورية قد تدمر ثورتنا، انتقدت بكوني استعملت كلمات قاسية«.
) األعمال الكاملة، المجلد 41 ،الصفحة 11 ،التشديد من عندنا(
يمكن ألي شخص قرأ المقال أن يرى بوضوح شديد أنها موجهة ضد أولئك الذين دعوا إلى الحرب الثورية ضد ألمانيا، على الرغم
من الضعف العسكري للجمهورية السوفياتية: أي مجموعة بوخارين الشيوعيين "اليساريين". هذا هو السبب الذي جعل لينين،
خالل كل جداالته، يوجه 11 ٪من هجماته ضد جماعة بوخارين، بينما لم تتم اإلشارة إلى تروتسكي إال بصورة عابرة وبطريقة خفيفة
نسبيا. وينفضح التزوير بشكل واضح حين نتذكر أن مقالة لينين نشرت في 41 فبراير، أي بعد ثالثة أيام من تصويت
تروتسكي لصالح اقتراح لينين في اللجنة المركزية. إن قيام جونستون باقتباس كلمات لينين الموجهة ضد سياسة بوخارين اليسارية
المتطرفة بطريقة تجعلها تظهر وكأنها كانت موجهة ضد تروتسكي، عمل غير نزيه بالمطلق. وقد صار هذا التزوير ممكنا بسبب
أن جونستون ال يذكر بوخارين مطلقا، مما يخلق انطباعا مبالغا فيه تماما وكاذبا ومضلال عن الخالفات بين لينين وتروتسكي.
ويعلق إ. هـ. كار، المؤرخ البرجوازي الشهير، الذي ال يمكن لمونتي جونستون أن يتهمه بكونه تروتسكيا أو "غير تاريخي"، على
االختالفات بين لينين وتروتسكي في بريست ليتوفسك على النحو التالي:
»كانت خالفات لينين مع تروتسكي حول بريست ليتوفسك أقل عمقا من تلك التي فصلت بينه وبين أتباع بوخارين. إن شخصية
تروتسكي القوية ودوره البارز في قصة بريست ليتوفسك أعطيا لتلك الخالفات أهمية عملية أكبر وأكثر بروزا ال سواء في أعين
المعاصرين أو األجيال الالحقة. لكن الصورة الشعبية عن تروتسكي، باعتباره مدافعا عن الثورة العالمية والمتصارع مع لينين،
بطل األمن القومي أو االشتراكية في بلد واحد، صورة مشوهة تماما إلى درجة أنها تكاد تكون خاطئة بشكل مطلق«. )الثورة البلشفية،
المجلد 3 ،الصفحة 42 ،التشديد من عندنا(
إذا صدقنا تاريخ مونتي جونستون "المنتقى والمنقح بدقة" فإن كل تاريخ البلشفية والسلطة السوفياتية )مع استثناءات قليلة، مثل
"حدث" ثورة أكتوبر الذي تكرم الرفيق جونستون وكرس له فقرة واحدة( يتألف من الصراع بين لينين وتروتسكي! هذا هو العمل
"المتوازن" و"الموضوعي" العظيم الذي وعدنا به الرفيق جونستون في مقدمته.
لن يكون من قبيل اإلطناب توضيح الطبيعة األحادية الجانب "لموضوعية" جونستون من خالل نقل واقعتين تتعلقان بعالقة الجمهورية
السوفياتية بالعالم الرأسمالي، وموقف لينين وتروتسكي منها. مباشرة بعد الجدل حول بريست ليتوفسك، وجد تروتسكي نفسه في مواجهة
قسم مهم من القيادة حول مسألة قبول المساعدات من بريطانيا وفرنسا. طرح تروتسكي اقتراح القبول بها، وعارضه بوخارين
و"اليساريون"، إلى جانب سفيردلوف. بينما لينين لم يكن موجودا في االجتماع، إال أن مقرر االجتماع يحتوي إشارة من طرفه تتضمن
ما يلي:
»أطلب منك إضافة تصويتي لصالح أخذ البطاطا والذخيرة من اللصوص االمبرياليين البريطانيين والفرنسيين«.
وبعد عامين من بريست ليتوفسك، وقع انقسام مماثل بين صفوف القيادة حول مسألة الحرب مع بولندا. عارض تروتسكي أي
محاولة لنقل الحرب إلى بولندا بمجرد ما تم التصدي لهجوم بيلسودسكي، على المستوى العسكري والسياسي. بينما دافع لينين عن
شن الهجوم، على أساس أن العمال في وارسو ومدن أخرى سيتشجعون بالحرب الثورية للنهوض ضد بيلسودسكي والقيام بالثورة. بعد
تقدم باهر في البداية تعرض الجيش األحمر للهزيمة على أبواب وارسو، وأجبر على العودة وراء خط كيرزون إلى موضع يقع وراء الخط
الذي كان قد احتله في بداية القتال. وفي المعاهدة التي تلت ذلك، اضطر البالشفة إلى التنازل عن مساحة واسعة من روسيا البيضاء
لصالح بولندا، مما فصل ألمانيا وليتوانيا عن الجمهورية السوفياتية.
51
هل كان لينين في عام 1149 قد افتتن بـ"الجملة الثورية"؟ هل ارتكب جريمة االنغماس في "خرافة" الثورة العالمية و"المتمنيات"؟ وحده
ضيق األفق البرجوازي الصغير من يجرؤ على قول ذلك. لقد كان لينين مناضال ثوريا وأمميا. وقد كانت تحركاته موجهة، أوال وقبل
كل شيء، بمصالح الثورة البروليتارية العالمية.
لم يدع لينين للسالم في بريست ليتوفسك إال من أجل الحصول على فرصة اللتقاط األنفاس، يمكن خاللها إعادة بناء الجيوش
الروسية المحطمة، وا للدفاع والهجوم، كوسيلة لمساعدة الثورة في الغرب، وفي نفس الوقت الذي دافع فيه عن نشاء الجيش األحمر
توقيع معاهدة السالم، أضاف أنه "ال غنى عن التحضير لحرب ثورية".
إن توصيف لينين لموقفه من بريست ليتوفسك ترياق كاف ضد سموم النزعة المسالمة و"التعايش السلمي"، واالشتراكية الوطنية التي
حاول الستالينيون إلصاقها به:
»خالل مفاوضات بريست ليتوفسك كان علينا أن ندخل في مواجهة مع النزعة الوطنية. قلنا: إذا كنت اشتراكيا فعليك التضحية
بمشاعرك الوطنية باسم الثورة العالمية القادمة، التي لم تأت بعد، لكن التي يجب عليك أن تؤمن بها إذا كنت أمميا«. )األعمال
الكاملة، المجلد 41 ،نوفمبر / دجنبر 1111)
كان لينين أكبر سياسي واقعي. لقد كان دائما يبني تحركاته على فحص دقيق لجميع العناصر التي تشكل التوازن الدو لي للقوى
الطبقية. لكن ليست هناك أي ضمانة للنجاح في الثورة. إن تخيل إمكانية وجود تلك الضمانة هو انضمام إلى صفوف "الموضوعيين"
األدعياء، الذين كل موهبتهم هي أنهم دائما على حق، بعد وقوع الحدث. ومع ذلك، فإنه ال عالقة لألسباب التي جعلت لينين يدافع
عن توقيع معاهدة بريست ليتوفسك بتلك التي يطرحها جونستون وقادة الحزب الشيوعي والتي يقصدون من ورائها ليس تسليط الضوء
على موقف لينين في بريست ليتوفسك، بل تبرير سياساتهم الجبانة والمعادية للينينية اليوم.
هوامش:
1 :وقد أكد لينين صحة هذا التقرير، حيث أشار إليه الحقا في كلمة ألقاها خالل المؤتمر الحادي عشر للحزب. )األعمال الكاملة،
المجلد 41 ،صفحة 113)
51
الفصل السادس: صعود الستالينية
ال يضيع مونتي جونستون وقت قرائه بعرض أي تفاصيل، في "روايته المتوازنة" عن مسار تروتسكي، للحديث عن الدور الرئيسي
الذي يعترف بأن تروتسكي قد لعبه خالل الحرب األهلية، والذي خصص له فقرة واحدة. ربما سيؤذي حس الموضوعية عند القارئ
اكتشافه، مثال، أن لينين كان قد قدم لتروتسكي طيلة الحرب األهلية تصاريح موقعة من طرفه على بياض للسماح للـ "الثرثار الثوري"
بالقيام بأي عمل يراه مناسبا!
وبعد االلتفاف على مسألة الحرب األهلية التافهة، يحيلنا جونستون على صديقه القديم إسحاق دويتشر الذي حكى القصة في نبيه
المسلح »سواء عن أخطاء تروتسكي )الخطيرة في بعض األحيان( أو انجازاته )التي كثيرا ما بالغ في تقديرها( «وهذا طبعا هو السبب
الذي جعل مونتي جونستون ال يبالغ في الحرص على الخوض في مسألة الحرب األهلية. فبعد أن خصص النصف األول من عمله
في محاولة لرسم صورة عن تروتسكي باعتباره فردانيا برجوازيا صغيرا، يفتقر إلى القدرات التنظيمية، وصل، دون أدنى حرج، إلى
اقتباس عبارات غوركي التالية:
»قال )لينين( وهو يضرب الطاولة بيده: "أرني رجال آخر قادرا، في عام واحد، على تنظيم جيش مثالي تقريبا، وعالوة على ذلك
كسب احترام الخبراء العسكريين"«. )Cogito ،الصفحة 11)
وخوفا منه من أن تؤدي هذه الكلمات إلى اإلخالل بـ "التوازن" سارع مونتي جونستون على عجل إلى إضافة اقتباس آخر لغوركي،
حيث من المفترض أن لينين قال عن تروتسكي:
»إنه ليس واحدا منا. إنه معنا، لكن ليس منا. إنه طموح، وهناك شيء من خصال السال فيه، شيء قبيح«.
لقد سبق لنا أن أشرنا إلى مدى دقة مونتي جونستون في استخدام االقتباسات. وهذا مثال جيد آخر. ال يوجد االقتباس الثاني في
أي مكان في الطبعة األصلية من مذكرات غوركي عن لينين، التي كتبت في عام 9121 .إذ لم يكن من الممكن في ذلك التاريخ
المبكر إقحام مثل ذلك الكذب المفضوح. لكن غوركي أجبر على إعادة كتابة مذكراته في عام 1139 .وبناء على أوامر ستالين،
اختفت أجزاء من ذكريات غوركي، في حين ظهرت إلى الوجود "ذكريات" ألول مرة، من بينها هذا المثال عن التزوير الذي ساقه
مونتي جونستون. و بما أن الرفيق جونستون مهتم برواية غوركي عن موقف لينين من تروتسكي، دعونا نسوق قطعة أخرى من مذكراته
األصلية الحقيقية، حيث يهاجم لينين النمامين الذين حاولوا الوقيعة بينه وبين تروتسكي: »نعم، نعم، إني أعلم أنهم يكذبون كثيرا
بخصوص عالقتي معه «.
الخالف حول النقابات
»خالل أول نقاش كبير شهده الحزب بعد الثورة حول مشكلة البيروقراطية، اشتبك تروتسكي وجها لوجه مع غالبية اللجنة المركزية
البلشفية. وقد انتقد لينين بشدة سياسته ]تروتسكي[ حول التضييق البيروقراطي على النقابات بكونها تعبر عن "أسوء ما في الخبرة
العسكرية" وتتضمن "عددا من األخطاء التي ترتبط مع جوهر ديكتاتورية البروليتاريا".« )Cogito ،الصفحة 11)
مرة أخرى يالحظ القارئ طريقة مونتي جونستون في "التحليل" والتي تتألف بكل بساطة من أخذ قصاصات معزولة من االقتباسات،
وبترها عن سياقاتها، وبدون أي إشارة إلى خلفية الحجج نفسها، أو حتى إلى التواريخ! إن الماركسيين، منذ ماركس، يصرون دائما
على بعض األشياء الصغيرة من قبيل تدقيق التواريخ واالقتباسات الدقيقة والكاملة، والتحليل النظري، وما إلى ذلك. وال يمكن تفسير
المسائل التاريخية إال من خالل إتباع مقاربة نزيهة ودقيقة.
كان الخالف النقابي حلقة واحدة في األزمة العامة لنمط التنظيم السياسي واالقتصادي الذي عرف باسم شيوعية الحرب، وال يمكن
فهمه بمعزل عن هذه المسألة. وصف لينين شيوعية الحرب بكونها "الشيوعية في قلعة محاصرة". إن هذا النظام القائم على مركزية
52
صارمة وتطبيق تدابير شبه عسكرية في جميع ميادين الحياة، جاء نتيجة للصعوبات التي واجهتها الثورة المعزولة في بلد متخلف
مزقته الحرب، يعيش في ظل ظروف الحرب األهلية والتدخل األجنبي. لكن مونتي جونستون يطرح المسألة كما لو كان تروتسكي
وحده من تبنى موقف "عسكرة العمل". تميزت السنوات األولى من حياة السلطة السوفياتية بصعوبات اقتصادية حادة، وذلك من جهة
نتيجة للحرب والحرب األهلية، ومن جهة أخرى نتيجة النقص في كل من الثروات واليد العاملة الماهرة، ومن جهة ثالثة نتيجة معارضة
الفالحين أصحاب الممتلكات الصغيرة للتدابير االشتراكية التي تبناها البالشفة.
في عام 1149 ،انخفض إنتاج خام الحديد والحديد الزهر إلى 1,1 ٪و2,4 ٪على التوالي مقارنة مع مستوياتهما عام 1113 .كان
أفضل رقم هو الذي سجله النفط الذي بلغ إنتاجه 21 ٪من مستوى 1113 .وحقق الفحم معدل 11 .٪في 9129 انهار اإلنتاج
العام للسلع المصنعة بشكل كامل إلى 9221 ٪من قيمته عام 9191 .و انخفض اإلنتاج الفالحي خالل سنتين )1111-1111 )
بنسبة 11 ،٪وقد تم تسجيل أفدح الخسائر في المنتجات المصدرة من القرى إلى المدن: تراجع القنب بنسبة 41 ٪والكتان بنسبة
34 ،٪واألعالف بنسبة 29 .٪ودفعت ظروف الحرب األهلية، إلى جانب التضخم المزمن الذي شهدته تلك الفترة، بالتجارة بين
المدينة والريف إلى طريق مسدود.
أدت الظروف المروعة التي كان يعيشها العمال في المدن إلى نزوح جماعي من الصناعة إلى األرض. وبحلول عام 1111
انخفضت نسبة العمال الصناعيين إلى 11 ٪من مستوى عام 1111 ،في حين انخفضت نسبة عمال البناء إلى 11 ،٪وعمال السكك
الحديدية إلى 13 .٪سنة 1149 ،انخفض عدد العمال الصناعيين عموما من ثالثة ماليين في عام 1111 إلى 999.429.1-
أي إلى أقل من النصف. في غضون عامين انخفض سكان بتروغراد من أبناء الطبقة العاملة إلى النصف. لكن حتى هذه األرقام ال
تنقل الحجم الكامل للكارثة نظرا لكونها ال تأخذ في االعتبار االنخفاض في إنتاجية العمالة ألولئك العمال الجائعين البائسين الذين
بقوا في المصانع.
والشيء األكثر خطورة من النتائج االقتصادية، من وجهة نظر البالشفة، كان هو التآكل السريع للقاعدة الطبقية للثورة، وهو ما
وصفه رودزتاك بشكل معبر في مؤتمر النقابات الثاني لعموم روسيا في يناير 1111:
»نالحظ في عدد كبير من المراكز الصناعية أن العمال، وبسبب تقلص اإلنتاج في المصانع، يجري امتصاصهم من قبل جماهير
الفالحين، وبدال من ساكنة مكونة من العمال، بدأنا نحصل على ساكنة من إنصاف الفالحين أو في بعض األحيان ساكنة من
الفالحين«.
وبغية وضع حد لهذا التدهور الكارثي، اتخذت تدابير جذرية لتحريك الصناعة وإلطعام العمال الجائعين ووقف النزوح من المدينة
إلى الريف. كان هذا هو المعنى األساسي لـ "شيوعية الحرب". دعا المؤتمر السابع للحزب، الذي انعقد في شهر مارس سنة 1111 ،
إلى "اتخاذ التدابير األكثر نشاطا وحسما وصرامة وقسوة لرفع درجة االنضباط الذاتي واالنضباط بين العمال والفالحين". وفي رده
على شكاوى المناشفة، أجاب لينين قائال :
»علينا أن نكون طوباويين تافهين إذا كنا نتصور أنه من الممكن االضطالع بهذه المهمة بعد يوم من سقوط البرجوازية، أي في
المرحلة األولى من االنتقال من الرأسمالية إلى االشتراكية، أو من دون إكراه«.
كانت حجج المناشفة و"اليساريين"، التي استندت على أساس حجج برجوازية كاريكاتيرية حول "حرية العمل"، تعكس تصاعد مزاج
االستياء من ديكتاتورية البروليتاريا بين صفوف الفئات المتخلفة من البرجوازية الصغيرة، وخاصة الفالحين الذين تحملو ا وطأة سياسة
شيوعية الحرب.
كان لينين قد توقع منذ 1194 ،أن الفالحين سيدعمون الثورة بقدر ما تعطيهم األرض، إال أن الفئات الغنية بينهم ستنتقل حتما إلى
المعارضة حالما تبدأ الثورة في مهاجمة أسس الملكية الخاصة. وأنه سينشأ وضع خطير إذا ما بقيت الثورة معزولة. كانت البروليتار يا
53
أقلية ضئيلة في بحر من الفالحين الصغار. وبدون استمرار وصول إمدادات منتظمة من المواد الخام والمواد الغذائية من القرى، فإن
الصناعة ستتوقف. لكن ونظرا للحالة المزرية للصناعة، لم تكن هناك أي إمكانية إلقامة ظروف تبادل سليم بين المدينة والريف،
وتمكين الفالحين من السلع المصنعة التي يطالبون بها في مقابل منتجاتهم. في المؤتمر التاسع للحزب طرح لينين المسألة باختصار
قائال :
»إذا تمكنا غدا من توفير 999.199 جرار من الدرجة األولى، وتزويدها بالبنزين وتزويدها بالميكانيكيين )وتعلمون جيدا أن هذا
في الوقت الحاضر مجرد حلم(، فإن الفالح المتوسط سيقول: "أنا مع الشيوعية". لكن من أجل القيام بذلك من الضروري أوال قهر
البرجوازية الدولية، وا «. جبارها على إعطائنا هذه الج ار ارت
أوضح لينين مرارا وتكرارا أن الحل الحقيقي الوحيد للمشاكل التي تواجه الثورة هو انتصار الثورة االشتراكية في واحدة أو أكثر من
البلدان المتقدمة. في غضون ذلك، كان يتعين مواجهة األزمة االقتصادية من خالل تدابير صارمة. وحتى بعد انتهاء الحرب األهلية،
ألقى لينين خطابا في مؤتمر سوفييتات عموم روسيا، عام 1149 ،حيث أوضح أنه »في بلد مشكل من الفالحين الصغار، تكون
مهمتنا الرئيسية واألساسية هي اكتشاف كيفية تطبيق إكراه الدولة من أجل رفع إنتاجية الفالحين«. )التشديد من عندنا(
ومن أجل وقف تدفق العمال من المدينة إلى الريف اتخذت تدابير صارمة ضد "الفرار من أماكن العمل". في عام 1149 ،قال
أحد العاملين في مصانع كولومسكي لوفد لمندوبية العمال البريطانيين إن »حاالت الفرار من أماكن العمل متكررة وأنه يلقى القبض
على الفارين من قبل الجنود وتتم إعادتهم من القرى«. وقد نص مرسوم صدر بعد مؤتمر الحزب التاسع، مارس 1149 ،على إنزال
عقوبات شديدة ضد "الفرار من أماكن العمل" قد تصل إلى األشغال الشاقة. تم تنظيم العمل على أساس النظام العسكري. كانت
"شيوعية الحرب" تعني "عسكرة العمل"، لفترة مؤقتة.
إن الذين يماهون بين لينين وتروتسكي وبين نظام ستالين وورثته، باستخدام حجج كاوتسكي والمناشفة حول "نظام اإلكراه"، يتجاهلون
االختالفات في الزمان والمكان واألساليب والظروف. حتى في أكثر الدول البرجوازية ديمقراطية، مثل بريطانيا، اتخذت في ظروف
الحرب تدابير تحظر الحركة الحرة للعمالة، وتغيير الوظائف، وما إلى ذلك كتدابير "استثنائية". وقد واجه البالشفة الحرب األهلية،
تلتها أربع سنوات صعبة من الحرب االمبريالية المدمرة. دمرت البالد بفعل النهب الذي مارسه الحرس األبيض والجيوش االمبريالية.
وفي ظل هذه الظروف كان من الضروري للغاية اتخاذ تدابير صارمة. لكن وكما كان عليه الحال دائما في ظل لينين وتروتسكي
كانت حرية النقاش والنقد من جانب العمال والفالحين، وخصوصا داخل الحزب البلشفي نفسه، مضمونة. حتى في بريطانيا الرأسمالية،
خالل الحرب، كان العمال مستعدين لقبول تدابير "استثنائية"، اعتقدوا أنها ضرورية للدفاع عن حقوقهم. وفي روسيا، في ظل حكومة
العمال والفالحين، كان العمال مستعدين للقبول مؤقتا بالتدابير القاسية التي كانت ضرورية للحفاظ على الثورة.
تروتسكي "بيروقراطي شرس"؟
مونتي جونستون غير مرتاح لكونه يعرف أن تروتسكي والمعارضة اليسارية هما اللذان قادا النضال، بعد وفاة لينين، ضد االنحطاط
البيروقراطي والستالينية. ولذلك فهو يسارع إلى فبركة تهمة لتروتسكي بكونه كان هو نفسه "بيروقراطيا شرسا"، و عدوا للديمقراطية
العمالية والنقابات الحرة. انه يخلق االنطباع الخاطئ تماما بأن "عسكرة العمل" كانت وجهة نظر تروتسكي وحده، وباستعمال طريقته
المعهودة يلمح إلى أن تروتسكي نفذ "سياساته" ضد أغلبية أعضاء اللجنة المركزية! لكن الرفيق جونستون ال يفسر لنا كيف تم إنجاز
هذا العمل الفذ. وهو ال يستطيع ذلك ألنه كذب صريح.
في 14 يناير، 1149 ،حول مرسوم حكومي جيش منطقة األورال إلى أول "جيش ثوري للعمل". وصدر قرار آخر يلقي على عاتق
المجلس الثوري ألول جيش عمل مهمة "اإلدارة العامة للعمل لتعزيز وتقوية الحياة االقتصادية والعسكرية الطبيعية في منطقة األور ال".
ومنحت سلطات مماثلة لمجلس الجيوش العاملة في القوقاز وأوكرانيا. وتم إرسال الجيش للمساعدة في بناء خط للسكك الحديدية في
54
تركستان، وفرقة أخرى للعمل بمناجم الفحم في دونيتز. وبينما ساعد الجيش األحمر في تسيير الصناعة، تم تجنيد هؤ الء العمال الذين
لم يتم استدعاؤهم للخدمة العسكرية في "جبهة العمل" كما هو مبين أعاله.
هل كان هذا كله من عمل البيروقراطي الشرس تروتسكي؟ في 14 يناير 1149 ،تحدث لينين وتروتسكي من فوق منصة واحدة
خالل اجتماع لقادة النقابات البالشفة. وقد كان الهدف من االجتماع إقناعهم بقبول سياسة "عسكرة العمل". وقد تم رفض المقترح
الذي طرح باسم لينين وتروتسكي، حيث لم يحصل سوى على صوتين اثنين فقط لصالحه: صوتا لينين وتروتسكي. فلنتخيل حدوث
مثل هذا في أيام ستالين أو اليوم!
لم يكن هذا الحادث معزوال. فقد كان لينين وتروتسكي على اتفاق كامل حول كل المسائل االقتصادية والسياسية الرئيسية التي
طرحت آنذاك. وحول مسألة توظيف الخبراء البرجوازيين في الجيش والصناعة، خاض لينين وتروتسكي معركة صعبة إلقناع بقية
قيادة الحزب البلشفي بالقبول بمقترحهما. نفس الشيء بخصوص مسألة اإلدارة األحادية والسياسة الزراعية، فقد كان لينين وتروتسكي
متفقين تماما. ال ينبس مونتي جونستون ببنت شفة حول كل هذا. فمثل هذه المعلومات ستضر بـ "توازن" تحليله.
عن الخالف حول النقابات مرة أخرى
»في عام 1149 وباإلضافة إلى منصبه كمفوض للحرب، استولى ]تروتسكي[ على مفوضية النقل، ذات األهمية االقتصادية
والعسكرية الحيوية. حيث أخضع عمال السكك الحديدية والعمال في ورش إصالح السكك الحديد لطائلة األحكام العرفية، وواجه
االعتراضات من طرف نقابة عمال السكك الحديدية بتسريح قادتها وتعيين آخرين أكثر خنوعا في مكانهم. وفعل الشيء نفسه مع
نقابات عمال النقل األخرى، وقد أثمرت جهوده حيث تم إعادة بناء السكك الحديدية في وقت قصير«. )Cogito ،الصفحة 11)
عن طريق هذه التلميحات الخبيثة، التي من المفترض أال يستعملها في مؤلفه، يحاول جونستون خلق االنطباع عن تروتسكي،
البيروقراطي الشرس، بكونه "استولى" على السكك الحديدية تحت تهديد السالح، وقام، بناء على مبادرته الخاصة، بسحق العاملين
فيها بأسلوب ستاليني محض. ما هي الحقائق؟
لقد كان تدمير شبكات السكك الحديدية في روسيا واحدة من أقسى الضربات التي تسببت فيها الحرب األهلية لالقتصاد. فمن أصل
999.19 فرست ]1 ]من السكك الحديدية لم ينج سوى 999.14 فرست من الدمار. وكانت أكثر من 19 ٪من القاطرات معطلة.
وبلغ تفكك االقتصاد الناجم عن انهيار المواصالت نقطة األزمة في عام 1149 ،مما جعل أنه إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية، فإن
كل الصناعة الروسية ستعاني كارثة ال رجعة منها. وبما أن هذا جاء في ذروة الحرب البولندية، فإنه كان يعني أن مصير الثورة كان
على المحك.
أعلن مؤتمر الحزب التاسع، في قرار خاص، أن المشكلة الرئيسية التي تمنع التغلب على األزمة في قطاع السكك الحديدية هي
نقابة السككيين. كانت تلك النقابة اتحاد حرفيا قديما، ومعقال تقليديا للمناشفة، الذين كانوا قد دخلوا فعال في الصراع مع الحكومة
البلشفية بشأن مسألة السيطرة على السكك الحديدية. إن المؤتمر التاسع للحزب الذي كلف تروتسكي بمسؤولية أعمال ترميم السكك
الحديدية، أعطاه أيضا صالحية تطعيم النقابة بعدد من العمال الفاعلين والمخلصين، إلعادتها إلى العمل. وعندما رفض المسؤولون
في النقابة االنضباط للقرارات الجديدة، قررت اللجنة المركزية للحزب، وليس تروتسكي، تعويض المسؤولين القدماء بلجنة جديدة مؤلفة
من شيوعيين مخلصين: لم يعترض على هذا القرار سوى صوت واحد، هو صوت الشيوعي "اليميني" والزعيم النقابي، تومسكي. بينما
صوت البقية، بمن فيهم لينين وزينوفييف وستالين، لصالحه.
يصور جونستون تروتسكي بكونه "العبقري الشرير" الذي نظم "عسكرة العمل" وشيوعية الحرب. ويفضل أن ينسى أن تروتسكي
كان أول القادة البالشفة الذين دعوا إلى التخلي عن شيوعية الحرب، منذ فبراير 9129 .في ذلك الوقت، قدم تروتسكي إلى اللجنة
المركزية للحزب مجموعة من األطروحات أشارت إلى استمرار اختالل االقتصاد، وضعف البروليتاريا، واتساع الفجوة بين المدينة
55
والريف. ودعا إلى استبدال مصادرة الحبوب بفرض ضريبة الحبوب، وتدابير تهدف إلى استعادة جزء من اقتصاد السوق المنهار. و هي
من حيث الجوهر نفس السياسات التي قامت عليها الحقا السياسة االقتصادية الجديدة.
مقترحات تروتسكي، التي عارضها لينين، رفضت من قبل اللجنة المركزية، التي فضلت االستمرار في تطبيق سياسة شيوعية
الحرب. وانضباطا منه لقرار االستمرار في تطبيق أساليب "الحرب" لفترة أخر ى، ضد وجهة نظره الخاصة، سعى تروتسكي إلى ضمان
عمل المنظومة بأفضل ما يمكن. هذه هي الجريمة التي يتعرض تروتسكي بسببها مرة أخرى للتشهير على يد مونتي جونستون، الذي
يتجاهل معارضة تروتسكي ألساس شيوعية الحرب نفسها.
يرسم جونستون صورة لتروتسكي بكونه الديكتاتور "البير وقراطي الشرس" اعتمادا على مقتطفات قليلة من خطاب له انتقد فيه التعامل
الليبرالي المثالي مع "العمل الحر" بشكل مجرد، وأشار إلى أن العمل الغير الحر يمكنه أيضا أن يكون مثمرا. مالحظته القائلة بأن
العبودية كانت تقدمية في مرحلتها، والتي ال جدال فيها من وجهة النظر الماركسية، بترت من سياقها، وأضيفت إليها لمسة شريرة
على يد مونتي جونستون )سيرا على خطى دويتشر(. إن الخطاب الذي اختطفه الرفيق جونستون بتلهف من بستان دويتشر المزهر،
لم يلق خالل المؤتمر العاشر للحزب، بل في مؤتمر نقابات العمال الثالث لعموم روسيا، حيث كان تروتسكي، المتحدث باسم
البالشفة، يتحدث ليس ضد لينين، بل ضد المناشفة، الذين ذرفوا دموع التماسيح على "حرية العمل" التي يكررها مونتي جونستون
اآلن بشكل مؤثر جدا.
إن المناشفة، ومن أجل تشويه سمعة الحكومة البلشفية، استغلوا التدابير، التي كانت مفروضة على الجمهورية السوفياتية بسبب
ظروف الحرب األهلية والتدخل االمبريالي، بطريقة غير نزيهة بتاتا. وكانت حججهم كاريكاتورية بخصوص "الديمقراطية" و"العمل
الحر". لقد دافع البالشفة عن كل أشكال الحريات األكثر اكتماال - بما في ذلك الحرية لألحزاب البرجوازية- شريطة أال يحاولوا تنظيم
تمرد مسلح ضد السلطة السوفياتية. لكن في ظل الظروف التي شهدت فرار البرجوازية "الليبرالية" إلى معسكر الجيش األبيض، صار
هذا الكالم بمثابة دعوة الثورة إلى التخلي عن الدفاع عن نفسها ضد الردة الرجعية البيضاء. لم يكن البديل عن ديكتاتورية البروليتاريا
هو نوع من ديمقراطية فيمار، كما كان المناشفة يزعمون، بل الحكم الدموي للردة الرجعية. كان النقاد االشتراكيون الديمقراطيون
للبلشفية من ذلك النوع من الناس الذين هم على استعداد تام للتعاون مع اإلمبريالية في الحرب العالمية الدامية، لكن الذين يصابون
بالرعب أمام تدابير لينين وتروتسكي "القاسية". وقد كانت خيانتهم للحركات الثورية في 1111-1141 هي التي مهدت الطريق
لصعود النازية واندالع حرب عالمية جديدة أكثر همجية.
إن الخالفات بين البالشفة حول النقابات، وعلى النقيض مما يمكن للمرء أن يفترض بناء على الصورة الكاذبة التي رسمها مونتي
جونستون، لم تكن بين تروتسكي "البيروقراطي الشرس" وبين لينين المدافع عن "العمل الحر"، بل كانت تعبيرا عن أزمة داخل الحزب
سببها المأزق الذي وصلته شيوعية الحرب. كانت الخالفات األصلية غير ذات أهمية، كما أوضح لينين. لكن الخالفات الصغيرة
بين صفوف القيادة أدت، في ظل ظروف معينة، إلى سلسلة من االنقسامات داخل الحزب، لم تسفر عن طرح أرضيتين فقط بل عن
طرح خمسة على األقل.
كان اهتمام لينين الرئيسي في ذلك الوقت منصبا على منع حدوث انشقاق في القيادة والحفاظ على الرابط الضعيف الذي يصل
البروليتاريا وطليعتها بالجماهير غير البروليتارية وشبه البروليتارية. في ظل ظروف األزمة االقتصادية، واألمية الشاملة، والتراجع
المستمر ألعداد الطبقة العاملة وانحطاط روحها المعنوية، وقبل كل شيء الكثرة الساحقة لجماهير الفالحين البرجوازيين الصغار،
صار الحزب البلشفي واقعا تحت ضغط متزايد من قوى طبقية أخرى. إن اضطرار البالشفة، ضدا على رغبتهم، إلى حضر أحزاب
المعارضة، كان يعني أن هذه الضغوط ستسعى حتما إلى العثور على تعبير لها من خالل الحزب البلشفي نفسه. وأكثر ما خافه
لينين هو انشقاق الحزب على أساس طبقي. كان هذا هو أساس معارضة لينين القتراح تروتسكي األصلي بـ"زعزعة" المسؤولين
النقابيين وجعلهم ينضبطون للتخطيط المركزي، وهو ما تسبب في االحتكاك مع الزعيم النقابي تومسكي.
56
يبدأ مونتي جونستون نقاشه حول الخالف بخصوص النقابات باقتباس من مقالة لينين "أزمة الحزب". حاول لينين احتواء الخالفات
داخل القيادة عن طريق تشكيل لجنة للتحقيق في النقابات العمالية. وفي أثناء مناقشة اللجنة المركزية، قام لينين بعدد من "الهجمات"
المبالغ فيها بشكل واضح وبالتالي الخاطئة، كما قال بلسانه، مما أدى إلى زيادة حدة الصراع. رفض تروتسكي االنضمام إلى اللجنة.
ويقتبس مونتي جونستون كلمات اللوم التي وجهها لينين له:
»هذه الخطوة وحدها هي التي تسببت في خطأ الرفيق تروتسكي األصلي لتصبح فادحة وتتضخم وتؤدي الحقا إلى التكتلية«.
لكن هذه واحدة من استشهادات الرفيق جونستون المبتورة. دعونا نرى ما أضافه لينين في الجملة التالية بالضبط:
»بدون هذه الخطوة، يبقى خطأه )في تقديم أطروحات غير صحيحة( بسيطا جدا، مثل األخطاء التي ارتكبها كل عضو من أعضاء
اللجنة المركزية، من دون استثناء. « )األعمال الكاملة، المجلد 34 ،الصفحة 24)
ال يسمح مونتي جونستون لقرائه بقراءة لينين إال بقدر ما يراه مفيدا لصحتهم. ومن خالل اكتفاءه باقتباس الجداالت االنفعالية،
"يساعد" مونتي جونستون لينين عبر "شحذ" نصله في صراعه ضد تروتسكي. وفي أماكن أخرى من هذا القسم يعرض مرارا وتكرارا
األفكار التي دافع عنها لينين وجميع القادة البالشفة وكأنها وجهة نظر تروتسكي وحده. وفي سياق اقتباسه و"تحسينه" لحجج
تروتسكي، كتب جونستون ما يلي :
»روسيا، كما قال ]تروتسكي[ مرارا وتكرارا، ال تعاني من الفائض بل من انعدام البيروقراطية الكفؤة ]؟[، التي كان يفضل تقديم
تنازالت معينة محدودة لها]؟[. ودويتشر الذي ساق هذا يعلق عليه قائال: "وهكذا فإنه يجعل نفسه المتحدث باسم المجموعات اإلدارية"«.
)49 الصفحة(، Cogito
إن استعمال جونستون لكلمات دويتشر ال يضيف ذرة من القدسية لحججه. ويمكن لكل من قرأ دويتشر أن يعرف أنه لم يهاجم فقط
أفكار تروتسكي "الديكتاتورية"، بل أيضا أفكار لينين، وهو في واقع األمر لم يكن يميز بينهما. إن تقييمه الخاطئ لتروتسكي هو نفس
تقييمه للينين، وللثور يين بصفة عامة.
إن الحجج التي ينسبها مونتي جونستون إلى تروتسكي تتطابق تماما مع وجهات النظر التي دافع عنها لينين مئات المرات حول
لى اإلدارة الفعالة والحاجة إلى االختصاصيين الذين كان لينين "يفضل تقديم تنازالت معينة محدودة لهم"، ليس
الحاجة إلى الكفاءة، وا
" التنازالت" الفاحشة التي تتمتع بها البيروقراطية الستالينية الطفيلية في روسيا وأوروبا الشرقية اليوم، بل فقط تلك الضرورية للتمكن
من إنعاش االقتصاد المنهار، وتمكين الثورة من البقاء إلى حين تمكن البروليتاريا الثورية في أوروبا من أن تأتي لمساعدتها. مرة
أخرى يعرض جونستون تحت يافطة "التروتسكية" أفكار لينين والحزب البلشفي والماركسية ذاتها. لكن هذا يؤكد فقط الهوة العميقة
التي تفصل كل منظري الستالينية عن األفكار والتقاليد البلشفية. بليه لعنق الحجج يضع جونستون كلمات لينين على لسان تروتسكي،
ويضع على لسان لينين حجج المدافعين الحقيقيين عن كاريكاتور العمل الحر، أي المناشفة.
لينين حول النقابات
»قال لينين: إن الدولة السوفياتية في الممارسة العملية "دولة عمالية مع تشويهات بيروقراطية". وقال بأن النقابات تحتاج طيلة فترة
طويلة إلى "النضال ضد التشوهات البيروقراطية في أجهزة الدولة السوفييتية"، ومن أجل "حماية المصالح المادية والمعنوية للجماهير
الكادحة من خالل الطرق والوسائل التي ال يستطيع ذلك الجهاز استخدامها"«. )Cogito ،الصفحة 41)
ما معنى هذا االقتباس؟ ال يعني أن لينين اختلف مع تروتسكي في فهمه لجهاز الدولة وتشوهاته البيروقراطية. كانت النقطة
المطروحة على طاولة النقاش هي السياسة الواجب اعتمادها على الفور في حالة استمر نظام شيوعية الحرب. ومع ذلك فإن الشيء
الهام والمثير لالهتمام حقا هو كون مونتي جونستون، وفي كل هذا القسم من عمله، ال يوضح أيا من حجج لينين حول مسألة
النقابات. وهذا ليس من قبيل الصدفة.
57
يناقش لينين، بشكل جدلي، أنه يجب على النقابات في دولة العمال أن تكون مستقلة، من أجل أن تكون الطبقة العاملة قادرة على
الدفاع عن نفسها ضد الدولة، وبالتالي الدفاع عن الدولة العمالية نفسها. كان لينين يؤكد على هذه النقطة ألنه رأى خطر قيام الدولة
باالر تفاع فوق الطبقة العاملة وفصل نفسها عنها. يمكن للعمال بذاتهم ومن خالل منظماتهم، أن يمارسوا الرقابة على جهاز الدولة
وعلى البيروقراطية.
من المضحك قراءة هجمات جونستون على "النزعة البيروقراطية" المزعومة عند تروتسكي، في ضوء ما حدث لـ "استقالل النقابات"
في روسيا في عهد ستالين واليوم. عندما كان تروتسكي "في السلطة" كان بيروقراطيا؛ وعندما كان ستالين في السلطة، استسلم لألسف
لنزعة "عبادة الشخصية". المسألة كلها مسألة "شخصيات!" ليس هذا أسلوب تحليل ماركسي، بل أسلوب تحليل مفكري الطبقة الوسطى
المبتذلين، الذين يفهمون السياسة بمنطق األفراد الذين "يخونون" بمجرد وصولهم إلى السلطة. وعلى الرغم من هذه المقاربة "النقدية"
للغاية فإن قدرات مونتي جونستون النقدية سرعان ما تتبخر في الهواء بمجرد ما نصل إلى "المؤتمر العشرين" الشهير:
»مؤيدو تروتسكي]![ يصورونه كبطل للنضال ضد البيروقراطية في االتحاد السوفياتي. وبما أن تروتسكي استمر طيلة السبعة عشر
عاما األخيرة من حياته يدين بال كلل جوانب كثيرة ]؟[ من نظام ستالين البيروقراطي، والتي سيفضحها الحزب الشيوعي السوفياتي
]؟[ في عام 1141 ،فإن مزاعم التروتسكيين تبدو معقولة، لكن وكما سنرى فإن الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير«. )Cogito الصفحة 11)
نعم في الواقع إن الحقيقة "أكثر تعقيدا بكثير!" أي نوع من "الفضح" قام به خروتشوف وشركائه في عام 1141؟ هل فضحوا أن
ستالين كان طاغية، وكان مجرما، وقاتال جماعيا، ومجنونا، الخ؟ وأن خروتشوف وبريجنيف وكوسيغين واآلخرين وقفوا مرعوبين أمام
الدكتاتورية )التي لم "يكتشفها" الحزب "الشيوعي" السوفييتي على ما يبدو إال في عام 1141 .)!لكن بالنسبة للماركسيين هذا ال يحل
المشكلة. إن ما هو أكثر أهمية هو العالقات االجتماعية التي يمكنها أن تنتج مثل ذلك المسخ. والسؤال الهام بخصوص المؤتمر
العشرين هو: ما الذي تغير منذ عام 9151؟
لقد رأى لينين منذ عام 1149 ،العمليات التي تجري داخل جهاز الدولة السوفييتية. وجميع كتاباته حول مسألة النقابات، والتي لم
يتطرق لها مونتي جونستون، مشغولة بفكرة رقابة العمال ومنظماتهم على البيروقراطية وميولها إلى المراكمة والفساد والهدر وسوء
اإلدارة. رأى لينين في تطوير ديمقراطية عمالية سليمة واالضمحالل التدريجي للدولة شرطا ال غنى عنه للحركة نحو االشتراكية.
بالنظر إلى إعجاب مونتي جونستون الذي ال حدود له بأنشطة "الفضح" التي قام بها خروتشوف فإن روسيا وأوروبا الشرقية من
وجهة نظره هي اآلن بلدان اشتراكية سليمة، ومنشغلة بالقضاء على كل آثار البيروقراطية وعبادة الشخصية والستالينية عموما،
باستثناء عدد من الحوادث " المؤسفة" )والتي ال يمكن تفسيرها على ما يبدو( من قبيل غزو تشيكوسلوفاكيا والمحاكمات الصورية ضد
الكتاب، والتي من الواضح أنه ال عالقة لها على اإلطالق مع الوضع العام!
إن مونتي جونستون إذ يقتبس كالم لينين عن البيروقراطية في الدولة ودور النقابات يوجه صفعة لنفسه.
منذ عام 1141 ،اضطرت البيروقراطية الروسية إلى إزالة عدد من الممارسات األكثر همجية في نظام ستالين - وهي الممارسات
التي ال يمكنها أن تكون في ظل الرأسمالية إال في دولة فاشية - مثل العمال العبودي، الخ. لكن ما تزال الدولة البوليسية واإلرهاب
مستمرين؛ فقط األسماء وحدها هي التي تغيرت. إن وضع النقابات العمالية في روسيا يبين زيف المزاعم حول أن البيروقراطية تصلح
نفسها. ونسأل مونتي جونستون: أين هي النقابات المستقلة في االتحاد السوفياتي بعد ثالثة عشر عاما على عقد المؤتمر العشرين؟
في عهد ستالين تم القضاء على الحقوق األساسية للطبقة العاملة السوفييتية. واليوم، في ظل ورثته: بريجنيف وكوسيغين، ليس
هناك حق اإلضراب، وال الحق في المفاوضات الجماعية، وال الحق في االنتخاب الديمقراطي للجان المصانع )وهي الحقوق التي
كانت موجودة في ظل لينين وتروتسكي، حتى في أحلك فترة الحرب األهلية(. إن النقابات العمالية في روسيا وأوروبا الشرقية صورة
كاريكاتورية: مجرد أداة لنقل أوامر السادة البيروقراطيين إلى الطبقة العاملة. لقد وصل اليوم الفساد الفاحش والتبذير وسوء اإلدارة،
58
التي أراد لينين القضاء عليها عن طريق رقابة المنظمات العمالية، أبعادا تهدد بتقويض التقدم المحرز من قبل الطبقة العاملة السوفيتية
على أساس االقتصاد المخطط.]4]
إنه تناقض صارخ يمكن لكل عضو واع في رابطة الشباب الشيوعي أو الحزب الشيوعي أن يراه، كون الجمهورية السوفييتية الضعيفة
والمنهكة في عهد لينين وتروتسكي، وعلى الرغم من التشوهات البيروقراطية التي أشار إليها لينين بصراحة، كانت تضمن مع ذلك
حرية واستقالل كل من النقابات والحزب. ينبغي على أعضاء رابطة الشباب الشيوعي تكبد عناء قراءة أدبيات المؤتمر العاشر للحزب
الشيوعي في أعمال لينين الكاملة ويسألوا أنفسهم بصراحة: هل يمكن لمثل تلك المناقشة الحرة للمسائل أن تحدث في أي حزب
"شيوعي" اليوم؟
على النقيض من فترة الحرب األهلية والسياسة االقتصادية الجديدة، عندما اضطر البالشفة، بسبب ضعف السلطة السوفييتية وخطر
الردة الرأسمالية، إلى تقييد بعض الحقوق الديمقراطية كإجراء مؤقت واستثنائي، فإن االتحاد السوفييتي اليوم هو الدولة الصناعية
الثانية في العالم. ورغم ذلك فإن البيروقراطية تشعر بالرعب من احتمال منح حتى أبسط الحقوق الديمقراطية للعمال السوفييت. و هكذا
فإن تمكن العمال في تشيكوسلوفاكيا من انتزاع استقالل نسبي للنقابات من يد البيروقراطية بعد سقوط نوفوتني، مهد لرد الفعل الروسي.
لقد شعر البريجنيفيون والكوسيغيون بالرعب الشديد من تأثير ذلك على الطبقة العاملة السوفييتية!
تبدو محاولة مونتي جونستون للظهور بمظهر صديق "حرية العمل" ضد تروتسكي "البيروقراطي الشرس" جوفاء أكثر عندما نقارن
الوضع في االتحاد السوفياتي اليوم بالوضع حتى في اسبانيا في ظل فرانكو. فهناك أيضا، نجد بعض "التنازالت" قدمت للطبقة
العاملة، خوفا من الثورة. الفرق بينهما هو أنه في حين نجد حتى في إسبانيا، حيث النقابات العمالية غير شرعية، العمال يشكلون
منظمات حقيقية - "اللجان العمالية" غير الشرعية، والتي تقود اإلضرابات والنضال باسم الطبقة العاملة، بل وحتى التفاوض مع
أرباب العمل، فإنه في روسيا "االشتراكية"، كل من يحاول تنظيم مثل هذه األجهزة سيجد نفسه ور اء القضبان.
في الواقع، تنعكس في قضية النقابات كل مسألة العالقات االجتماعية في االتحاد السوفياتي وبقية الدول المشوهة بيروقراطيا
األخرى. إن الحديث عن التقدم نحو االشتراكية )أو "الشيوعية"!( يعني توفير كل شروط تطور وتحرر الطبقة العاملة باعتبارها الطبقة
الحاكمة في المجتمع، ولها الحق في الرقابة والتسيير والمحاسبة. إنه يعني إشراك المجتمع كله في تخطيط وتسيير اإلنتاج والدولة،
واالضمحالل التدريجي للبيروقراطية. هذه هي الضمانة الوحيدة لالنتقال إلى مجتمع بدون طبقات. إن التخطيط االشتراكي يحتاج إلى
الرقابة الديمقراطية العمالية كما يحتاج جسم اإلنسان إلى األوكسجين.
إن البيروقراطية الشمولية القائمة في االتحاد السوفياتي ليست فقط نظاما قمعيا ضد الطبقة العاملة السوفييتية ومنفرا للعمال في
الغرب. بل تشكل أيضا وعلى نحو متزايد عائقا أمام التطور الحر والمتناغم للقوى المنتجة في االتحاد السوفييتي. إنه أكبر اتهام
للصورة الكاريكاتورية عن االشتراكية هي كون العمال، وبعد مرور خمسين عاما على ثورة أكتوبر، يفتقرون حتى لتلك الحقوق
الديمقراطية الموجودة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وفي حين أن البيروقراطية تفتخر بـ "بناء الشيوعية" نجد العودة إلى تطبيق عقوبة
اإلعدام - على الجرائم االقتصادية - كاالحتيال والفساد والسرقة التي تضر باالقتصاد السوفياتي - وهو الدليل الملموس على إفالس
النظام وضرورة الديمقراطية العمالية. سوف يصل العمال السوفييت ال محالة ألن يفهموا أن السبيل الوحيد للخالص بالنسبة لهم هو
برنامج لينين وتروتسكي. وعندما سيدركون ذلك، وسوف يدركون ذلك حتما، ستصير أيام البيروقراطية معدودة.
المؤتمر العاشر للحزب والسياسة االقتصادية الجديدة
انعقد المؤتمر العاشر للحزب في جو من األزمة؛ ودخلت سياسة "شيوعية الحرب" مرحلتها األخيرة واألكثر اضطرابا. اندلعت
انتفاضات الفالحين المسلحة في سلسلة من المقاطعات، وبلغت ذروتها في انتفاضة خطيرة في تامبوف. انتشر السخط في المدن
الجائعة. وفي شهر فبراير 1141 اندلعت سلسلة من اإلضرابات في بتروغراد بسبب نقص الخبز. فاستغلت العناصر المنشفية هذه
االضطرابات من أجل طرح الشعار الرجعي: "من أجل سوفييتات بدون شيوعيين".
59
في هذا السياق كما قال لينين، كان النقاش حول النقابات "ترفا غير مسموح به"، يدفع »إلى الواجهة بمسألة ال يمكنها أن تطرح
ألسباب موضوعية«. لم تكن القضية األساسية في النقاش هي النقابات، لكنها كانت بمثابة المحفز الذي أدى إلى تبلو ر عدد من
التيارات الواضحة المعالم داخل الحزب.
أدت نهاية الحرب األهلية، وبخاصة تسريح الجيش األحمر، إلى تعميق األزمة وسخط جماهير الفالحين. وقد أوضح لينين أن
بعض تيارات المعارضة داخل الحزب »مرتبطة بالهيمنة الكبيرة للفالحين فى البالد، وعدم رضاهم عن ديكتاتورية البروليتاريا«. وقد
تراجعت مسألة النقابات أمام القضايا التي انفجرت في خضم المؤتمر أثناء انتفاضة كرونشتادت.
كانت انتفاضة كرونشتادت تعكس بال شك تزايد السخط على سياسة شيوعية الحرب بين الجماهير، وعلى الخصوص بين الفئات
األكثر تخلفا وبين الفالحين، لكن أيضا بين صفوف العمال الذين تقوضت معنوياتهم بسبب سنوات الحرب العالمية والحرب األهلية
والمجاعة. وأمام المعارضة العنيفة لجماهير الفالحين أجبرت الثورة على التراجع. ألغيت سياسة االستيالء على الحبوب واستعيض
عنها بضريبة الحبوب، واتخذت تدابير إلعادة إنعاش اقتصاد السوق، لتشجيع التجارة الخاصة. بل وتم التراجع عن تأميم بعض
القطاعات الصناعية، إال أن الركائز األساسية لالقتصاد والمصارف وشركات التأمين والصناعات الكبيرة إضافة إلى احتكار التجارة
الخارجية، بقيت في يد الدولة.
لم تكن هذه التنازالت التي قدمت لـ"الحرية" البرجوازية انتصارا على "بيروقراطية" شيوعية الحرب، بل كانت تراجعا تحت الضغط،
وتنازالت مؤقتة قدمت للجماهير البرجوازية الصغيرة من أجل الحيلولة دون حدوث انشقاق بين العمال والفالحين والذي من شأنه أن
يؤدي إلى سقوط الدولة السوفييتية.
وفي سياق دفاعه عن هذه التنازالت خالل المؤتمر العاشر أشار لينين إلى أن الضغط الساحق لجماهير الفالحين على الطبقة
العاملة »يشكل خطرا أكبر بكثير من خطر كل من دينيكين وكولشاك ويدينيتش، مجتمعين معا«. وأضاف قائال: »سيكون من الخطأ
ة هائلة، وا ليها، الفادح أن ننخدع بخصوص هذه النقطة! إن الصعوبات الناجمة عن العناصر البرجوازية الصغير ذا أردنا أن نتغلب ع
البد لنا من وحدة أكبر، وأنا ال أقصد مجرد وحدة شكلية. يجب علينا أن نقف معا كجسد واحد، ألنه في بلد فالحي وحدها إرادة
جماهير البروليتاريين ستمكن البروليتاريا من الحفاظ على قيادتها ودكتاتوريتها. إن يد المساعدة في طريقها إلينا من بلدان أوروبا
الغربية لكنها لن تأتي بالسرعة الكافية. إال أنها قادمة وتتطور«. )األعمال الكاملة، المجلد 34 ،الصفحة 111)
لينين، وكما هو الحال دائما، طرح المسألة بشكل واضح ونزيه. إن التراجع المتمثل في السياسة االقتصادية الجديدة أملته ضغوط
هائلة من قبل الفالحين على الدولة العمالية، المعزولة بسبب تأخر الثورة االشتراكية في الغرب. لقد أشار لينين إليها دائما باعتبارها
سياسة مؤقتة، وباعتبارها "متنفسا"، في انتظار التطورات الهائلة المقبلة للثورة االشتراكية العالمية. لكنه كان أيضا واعيا تماما بالمخاطر
التي تكمن في هذا الطريق، وخصوصا مخاطر إعادة إحياء العناصر البرجوازية والبرجوازية الصغيرة مع نمو اقتصاد السوق :
حذر لينين الحزب خالل المؤ تمر العاشر قائال: »إن هذا الخطر، أي تطور اإلنتاج الصغير والبرجوازية الصغيرة في المناطق
الريفية، جسيم للغاية«. وفي رده على أولئك الذين كانوا يميلون إلى الشعور بالرضا، أكد لينين على النقطة التالية: »هل لدينا طبقات؟
نعم لدينا. هل لدينا صراع طبقي؟ نعم صراع طبقي شرس جدا! « )األعمال الكاملة، المجلد 34 ،الصفحة 414)
يقدم مونتي جونستون صورة أحادية الجانب تماما للمؤتمر العاشر، مشددا بشكل كبير على مسألة النقابات، ومتجاهال ألي إشارة
إلى القضايا الرئيسية المطروحة للنقاش، وتعامل مع مسألة النقابات بطريقة خاطئة – حيث طرح المسألة مرة أخرى باعتبار ها "معركة
طاحنة" بين لينين وتروتسكي، بينما فشل في ذكر المواقف األخرى المقدمة: مواقف بوخارين وما يسمى بـ "المعارضة العمالية" ومواقف
"أنصار المركزية الديمقراطية"، على سبيل المثال. ومرة أخرى يمكن هذا "السهو" مونتي جونستون من خلق انطباع زائف تماما.
ويمكن أن نرى الكلبية الهائلة التي تميز مقاربته في محاولته الربط بين موقف تروتسكي حول النقابات وبين قرار المؤتمر حظر
التكتالت داخل الحزب :
61
»بتنظيمه ]تروتسكي[ لتكتل حول األفكار التي أعرب عنها في منشوره... فتح نقاشا داخل الحزب، والذي انتهى في المؤ تمر العاشر،
مارس 1141 ،إلى تكبده هزيمة ساحقة، وصدور قرار يمنع التكتالت داخل الحزب«. )Cogito ،الصفحة 49)
هذا غريب حقا! ال أحد في المؤتمر العاشر اتهم تروتسكي "بتنظيم تكتل" حول أي شيء. إن المقصود من هذا التلميح هو ربط
إشارة لينين، في وقت سابق، إلى "تكتلية" تر وتسكي )أي رفضه االنضمام إلى لجنة التحقيق في النقابات(. يعلم جونستون جيدا أن
قرار حظر التكتالت اتخذ ألسباب ال صلة لها ال بالنقاش حول دور النقابات وال بدور تروتسكي في هذا النقاش.
لقد اتخذ القرار نظرا لألسباب التي أشار إليها لينين في المقطع المذكور أعاله، والذي يفسر بوضوح أن هذا التدبير االستثنائي أملته
مخاطر تعبير ضغوط الطبقات األخرى عن نفسها من خالل مجموعات داخل الحزب. وفي السياق المباشر للمؤتمر العاشر كان هذا
اإلجراء موجها ليس ضد تروتسكي، بل صراحة ضد ما كان يسمى بـ "المعارضة العمالية"، التي كانت مجموعة شبه نقابية يقودها
شيليابويكوف وكولنتاي، والتي تم حلها رسميا من قبل المؤتمر. ويفسر القرار الذي صدر بشأن هذه النقطة بوضوح أسباب هذا اإلجراء
:
»إن االنحراف المشار إليه يرجع جزئيا إلى تدفق المناشفة السابقين على الحزب، وكذلك إلى العمال والفالحين الذين لم يستوعبوا
بعد تماما النظرة الشيوعية عن العالم. إن هذا االنحراف هو نتيجة أساسا للضغوط التي تعانيها البروليتاريا والحزب الشيوعي الروسي
من قبل العناصر البرجوازية الصغيرة، التي هي قوية بشكل استثنائي في بلدنا، والتي تؤدي حتما إلى التذبذب نحو الفوضوية، ال
سيما في األوقات التي تكون فيها أوضاع الجماهير قد تدهورت كثيرا نتيجة لشح المحاصيل، واآلثار المدمرة للحرب، وعندما خلق
تسريح ماليين الجنود آالفا من الفالحين والعمال، غير القادرين على الفور على إيجاد وسائل قارة لكسب العيش«. )األعمال الكاملة،
المجلد 34 ،الصفحة 424)
وبالتحديد خالل النقاش حول "المعارضة العمالية"، أدلى لينين ببيان يوضح تماما كذب تلميحات مونتي جونستون بخصوص
"تكتلية" تروتسكي المزعومة :
»يقول أعضاء المعارضة العمالية: "إن لينين وتروتسكي سوف يتحدان". وقال تروتسكي: "إن هؤالء الذين ال يستطيعون أن يفهموا
أنه من الضروري أن نتحد هم ضد الحزب؛ بالطبع سوف نتحد، ألننا رجال الحزب". لقد دعمته. بالطبع لقد اختلفنا أنا والرفيق
تروتسكي؛ وعندما تظهر مجموعات متساوية إلى هذا الحد أو ذاك داخل اللجنة المركزية، فإن الحزب سوف يصدر حكمه، وبطريقة
من شأنها أن تجعلنا نتحد وفقا لرغبة و تعليمات الحزب«. )األعمال الكاملة، المجلد 34 ،الصفحة 492)
هوامش:
]1 ]وحدة قياس روسية تعادل 911.1 كلمتر
]4 ]لإلطالع على تحليل مفصل لهذه المسألة، أنظر: Power Workers or Bureaucratism( البيروقراطية أو سلطة العمال(،
بقلم تيد غرانت وروجر سيلفرمان.
61
الفصل السابع: نضال لينين ضد البيروقراطية
»في الفترة األخيرة من حياته كان لينين شديد القلق حيال نمو البيروقراطية في الدولة السوفياتية والحزب«. )Cogito صفحة 44)
إن مونتي جونستون الذي خصص فقرة واحدة للثورة الروسية، وفقرة واحدة للحرب األهلية، استمر محافظا على "التوازن" من خالل
منح نفس المساحة لنضال لينين ضد قوى الردة الداخلية في الدولة السوفياتية والحزب.
كيف تعامل لينين مع مسألة البيروقراطية السوفياتية؟ هل اكتفى فقط بـ"القلق الشديد" إزاءها؟ أم أنه قام بشيء يحاو ل "منظرو"
الحزب الشيوعي اليوم بإصرار تجنب الحديث عنه، أي تحليل أسباب البيروقراطية من أجل شن نضال عنيد ضدها؟
ف ارط في البيروق ارطية من طرف الموظفين
يشير مونتي جونستون إلى "البيروق ارطية" كما لو كانت مجرد مسألة "سلوك بيروق ارطي"، وا
الرسميين، إلخ. ليست لهذه المقاربة أية عالقة بالمنهج الماركسي، الذي يفسر البيروقراطية بكونها ظاهرة اجتماعية، تنشأ عن أسباب
محددة. إن لينين، الذي حلل مسألة البيروقراطية بطريقة ماركسية، شرح صعود البيروقراطية باعتباره ورما طفيليا رأسماليا داخل جسد
دولة العمال، نشأ عن عزلة الثورة في بلد متخلف أغلب سكانه من الفالحين األميين.
كتب لينين في واحدة من آخر مقاالته -"من األفضل أقل شريطة أن يكون أفضل"- قائال:
»إن جهاز دولتنا في حالة يرثى لها، إن لم نقل بائسة، لهذا يجب علينا أن نفكر بعناية فائقة قبل كل شيء في كيفية محاربة
عيوبه، واضعين في االعتبار أن تلك العيوب تضرب بجذورها في الماضي، الذي، على الرغم من أنه قد أطيح به، فإنه لم يتم بعد
التغلب عليه، ولم نصل بعد إلى مستوى ثقافة تراجعت في الماضي« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 211)
لقد أطاحت ثورة أكتوبر بالنظام القديم، وسحقت تماما الدولة القيصرية وكنستها؛ لكن وبسبب التخلف االقتصادي والثقافي المزمن،
بدأت عناصر النظام القديم في كل مكان تزحف للعودة إلى مواقع االمتياز والسلطة مع تراجع الموجة الثورية بفعل هزائم الثورة
العالمية. سبق إلنجلز أن أوضح أنه في كل مجتمع حيث يكون الفن و العلم والسلطة امتيازات حصرية لألقلية، فإن تلك األقلية
ستعمل دوما على استخدام واستغالل مواقعها لخدمة مصالحها. وهذا الوضع ال مفر منه، طالما بقيت الغالبية العظمى من الشعب
مضطرة إلى الكدح ساعات طويلة في الصناعة والزراعة لتحقيق ضروريات الحياة.
بعد الثورة، ومع حالة الخراب في الصناعة، لم تنقص ساعات يوم العمل، بل ازدادت. اشتغل العمال لعشرة واثنتي عشرة ساعة في
اليوم وأكثر من ذلك لتحقيق األساسيات؛ وقد عمل العديد منهم خالل عطالت نهاية األسبوع بدون أجر طواعية. لكن الجماهير، كما
شرح تروتسكي، ال يمكنها التضحية "بحاضرها" من أجل "غدها" إال لدرجة معينة. إن سنوات الحرب والثورة، ثم أربع سنوات من
الحرب األهلية الدامية، والمجاعة التي لقي فيها خمسة ماليين شخص حتفهم، أدت بشكل حتمي إلى تقويض الطبقة العاملة سواء
من حيث العدد أو المعنويات.
أدت السياسة االقتصادية الجديدة إلى استقرار االقتصاد، لكنها خلقت أخطارا جديدة عن طريق تشجيع نمو الرأسمال الصغير،
وبخاصة في الريف حيث حقق "الكوالك" األغنياء مكاسب على حساب الفالحين الفقراء. انتعشت الصناعة، لكن وبسبب أنها كانت
مرتبطة بالطلب من قبل الفالحين، وبخاصة الفالحين األغنياء، فإنها اقتصرت بشكل كامل تقريبا على الصناعات الخفيفة )السلع
االستهالكية(. بينما تعرضت الصناعة الثقيلة، التي هي مفتاح بناء االشتراكية، للركود. مع حلول سنة 1144 كان هناك مليونا )4
مليون( عاطل عن العمل في المدن. خالل المؤتمر التاسع للسوفيات، في دجنبر 1141 ،قال لينين:
»اعذروني، لكن ما الذي تقصدونه بالبروليتاريا؟ تلك الفئة من العمال الذين يشتغلون في الصناعة الضخمة. لكن أين هي هذه
الصناعة الضخمة؟ أي نوع من البروليتاريا هذه؟ أين هي صناعتكم؟ لماذا تعطلت؟« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 112)
62
في خطاب ألقاه خالل مؤتمر الحزب الحادي عشر في مارس 1144 ،أشار لينين إلى أن الطبيعة الطبقية للكثير من الذين يعملون
في المصانع في ذلك الوقت ليست بروليتارية؛ وأن العديد منهم فارون من الخدمة العسكرية وفالحون وعناصر متفسخة طبقيا:
»خالل الحرب التحق بالمصانع أناس لم يكونوا بروليتاريين بأي شكل من األشكال؛ لقد التحقوا بالمصانع ليتهربوا من الحرب. هل
الظروف االجتماعية واالقتصادية في بلدنا اليوم متوفرة لحث البروليتاريين الحقيقيين على الذهاب إلى المصانع؟ كال. يمكن أن يكون
هذا صحيحا وفقا لماركس، لكن ماركس لم يكتب عن روسيا؛ لقد كتب عن الرأسمالية بشكل عام، بدءا من القرن الخامس عشر. ذلك
صحيح على مدى ستمائة سنة، لكنه ليس صحيحا بالنسبة إلى روسيا اليوم. إن أولئك الذين يذهبون إلى المصانع هم في كثير من
األحيان ليسو بروليتاريين؛ بل مجرد عناصر طارئة من كل األصناف« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 411)
تفكك الطبقة العاملة، وفقدان العديد من العناصر األكثر تقدما في الحرب األهلية، وتدفق عناصر متخلفة من الريف، واإلرهاق
وانخفاض الروح المعنوية للجماهير، كل هذا شكل وجها للعملة. أما الوجه اآلخر فقد كان هو قوى الردة الرجعية تلك العناصر
البرجوازية الصغرى والبرجوازية، التي تعرضت لإلحباط واختفت عن األنظار مؤقتا بسبب نجاحات الثورة في روسيا وعلى الصعيد
األممي. لقد بدأت تستعيد رباطة جأشها في كل مكان، وامتلكت الثقة في نفسها، مستفيدة من الوضع لكي تتسلل من كل زاوية وركن
إلى األجهزة المسيرة للصناعة والدولة، بل وحتى الحزب.
مباشرة بعد االستيالء على السلطة، كان الحزب السياسي الوحيد الذي تم قمعه من قبل البالشفة هو حزب المائة السود الفاشستي.
وحتى حزب الكاديت البرجوازي لم يحضر فورا. كانت الحكومة نفسها حكومة ائتالفية من البالشفة واالشتراكيين الثوريين اليساريين.
لكن وتحت ضغط الحرب األهلية، حدث استقطاب حاد بين القوى الطبقية، فانتقل المناشفة واالشتراكيون الثوريون و"االشتراكيون
الثوريون اليساريون" إلى جانب الثورة المضادة. وخالفا لرغبتهم اضطر البالشفة إلى احتكار السلطة السياسية. خلق هذا االحتكار،
الذي كان يعتبر حالة استثنائية ومؤقتة، مخاطر هائلة حيث سقطت الطليعة البروليتارية تحت ضغوط متزايدة من الطبقات األخرى.
في فبراير عام 1111 ،لم يكن الحزب البلشفي يضم أكثر من 999.43 عضو في كل روسيا. في ذروة الحرب األهلية، عندما
كان االنخراط في الحزب يعني مخاطر شخصية، فتحت أبواب العضوية للعمال الذين رفعوا عدد األعضاء إلى 999.499 .لكن مع
اقتراب الحرب من نهايتها، ارتفعت عضوية الحزب في الواقع بثالثة أضعاف مما عكس تدفق عناصر من الوصوليين وعناصر من
الطبقات واألحزاب المعادية.
أكد لينين في ذلك الوقت مرارا وتكرارا على مخاطر استسالم الحزب لضغط وأمزجة الجماهير البرجوازية الصغيرة؛ و أن العدو
الرئيسي للثورة هو:
»االقتصاد اليومي في بلد يسوده الفالحون الصغار وصناعة كبيرة مدمرة. إنه العنصر البرجوازي الصغير الذي يحيط بنا مثل
الهواء، ويتوغل عميقا في صفوف البروليتاريا. والبروليتاريا تفسخت، أي طردت من مواقعها الطبقية. المصانع والمطاحن عاطلة عن
العمل - البروليتاريا ضعيفة، مفككة، ومنهكة. ومن ناحية أخرى فإن العنصر البرجوازي الصغير داخل البلد مدعوم من جانب كل
البرجوازية العالمية، والتي تحتفظ بسلطتها في جميع أنحاء العالم«. )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 43)
ليس لحملة "التطهير" التي بدأها لينين في عام 1141 أي وجه شبه مع محاكمات ستالين الوحشية الصورية؛ لم يتم اللجوء إلى
البوليس وال المحاكمات، وال معسكرات االعتقال؛ بل فقط طرد العناصر البرجوازية الصغيرة والمناشفة من صفوف الحزب، من
أجل حماية تقاليد وأفكار أكتوبر من التأثيرات السامة للردة البرجوازية الصغيرة. بحلول أوائل عام 1144 ،تم طرد حوالي 999.499
عضو )ما يعادل ثلث أعضاء الحزب(.
63
مراسالت وكتابات لينين لهذه الفترة، عندما كان المرض يمنعه بشكل متزايد من المشاركة المباشرة في النضال، تبين بشكل واضح
قلقه اتجاه زحف البيروقراطية السوفياتية، وتغلغلها الوقح في كل أركان جهاز الدولة. وهكذا كتب في رسالة إلى شينمان في فبراير
:1144
»في الوقت الحاضر صار بنك الدولة لعبة بيروقراطية. هذه هي الحقيقة، إذا كنت ال تريد أن تستمع إلى األكاذيب الشيوعية
الرسمية الحلوة )التي يسمعك الجميع إياها باعتبارك موظفا ساميا(، بل تريد االستماع إلى الحقيقة. أما إذا كنت ال تريد أن تنظر
إلى هذه الحقيقة بعيون مفتوحة، رغم كل الكذب الشيوعي، فأنت رجل لقي حتفه في مقتبل العمر في مستنقع الكذب الرسمي. هذه
حقيقة محزنة، لكن هذه هي الحقيقة« )األعمال الكاملة، المجلد 31 ،الصفحة 411)
قارن بين هذا الصدق الشجاع من قبل لينين وبين كل األكاذيب الحلوة التي روجها جميع قادة الحزب الشيوعي و"منظرو" الحركة
الشيوعية الدولية حول االتحاد السوفياتي لعدة أجيال، واحكم بنفسك على عمق االنحطاط الذي أغرق فيه من أسموا أنفسهم "أصدقاء
االتحاد السوفياتي" أفكار وتقاليد لينين! ومرة أخرى كتب لينين في رسالة مؤرخة في 14 أبريل 1144 قائال:
»كلما قمنا بهذا العمل، وكلما سرنا أعمق في الحياة العملية، ونأينا بأنفسنا وبقرائنا عن الجو البيروقراطي المتعفن والجو الثقافي
المتعفن )جو البرجوازية السوفييتية عموما( في موسكو، كلما عظم نجاحنا في تحسين كل من صحافتنا وعملنا البناء« )األعمال
الكاملة، المجلد 31 ،الصفحة 411)
أثناء المؤتمر الحادي عشر وضع لينين أمام الحزب الئحة اتهام الذعة بوجود البيروقراطية في جهاز الدولة:
»إذا أخذنا موسكو بشيوعييها 2199 المتواجدين في مناصب المسؤولية، واذا أخذنا اآللة البيروق ارطية الضخمة، هذه الكومة
الضخمة، يجب أن نتسائل: من يوجه من؟ أشك كثيرا في ما إذا كان من الصدق أن نقول إن الشيوعيين يوجهون تلك الكومة. في
َهون
الحقيقة إنهم ال يو ِجهون بل هم الذين يوج « ) األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 411 ،التشديد من عندنا(
من أجل اجتثاث البيروقراطيين والوصوليين من جهاز الدولة والحزب، بادر لينين إلى إقامة مفتشية العمال والفالحين )رابكرين-
RABKRIN )برئاسة ستالين. احتاج لينين إلى منظم قوي للتأكد من تنفيذ هذه المهمة بدقة؛ وقد بدا أن سجل ستالين باعتباره منظما
حزبيا يؤهله لهذا المنصب. في غضون بضع سنوات احتل ستالين عددا من المواقع التنظيمية داخل الحزب: رئيس رابكرين، عضو
اللجنة المركزية والمكتب السياسي واألمانة العامة. لكن نظرته التنظيمية الضيقة وطموحه الشخصي قاده، في فترة قصيرة من الزمن،
ليحتل منصب المتحدث باسم البيروقراطية في قيادة الحزب، وليس خصمها.
منذ عام 1149 انتقد تروتسكي عمل رابكرين، التي تحولت من أداة للصراع ضد البيروقراطية إلى مرتع للبيروقراطية. في البداية
دافع لينين عن رابكرين ضد تروتسكي. فقد منعه مرضه من إدراك ما كان يحدث وراء ظهره في الدولة والحزب. استغل ستالين
موقعه، الذي مكنه من انتخاب أشخاص في الوظائف القيادية في الدولة والحزب، ليحيط نفسه بعناية بطغمة من الحلفاء واألتباع،
أشخاص ال أهمية سياسية لهم، ممتنون لفضله عليهم في ترقيتهم. لقد صارت رابكرين في يده أداة لتقوية موقعه السياسي والقضاء
على خصومه السياسيين.
لم ينتبه لينين لهذا الوضع الرهيب إال عندما اكتشف الحقيقة حول تصرف ستالين في العالقة مع جورجيا. حيث قام ستالين، دون
علم لينين أو المكتب السياسي، وبتعاون مع تابعيه دزرجينسكي وأوردجونيكيدزه، بتنفيذ انقالب في جورجيا. تمت تصفية خيرة الكوادر
البلشفية الجورجية، وحرم مناضلو الحزب من الوصول إلى لينين، الذي كان يتغذى على سلسلة األكاذيب التي يحكيها له ستالين.
وعندما اكتشف في النهاية ما كان يحدث، أصيب لينين بغضب شديد. ومن سرير المرض أملى، أواخر عام 1144 ،سلسلة من
المالحظات على سكرتيره حول "مسألة االستقالل الذاتي الشهيرة، التي تسمى رسميا على ما يبدو مسألة اتحاد الجمهوريات االشتراكية
السوفيتية".
64
مالحظات لينين اتهام ساحق للغطرسة البيروقراطية والشوفينية لستالين وزمرته. إال أن لينين لم يتعامل مع هذا الحادث كظاهرة
عرضية أو كـ "خطأ مؤسف"، على غرار غزو تشيكوسلوفاكيا، أو كـ "مأساة"، مثل سحق كومونة عمال المجر، بل باعتبارها تعبيرا
عن النزعة القومية الرجعية المتعفنة للبيروقراطية السوفياتية. ومن الجدير االستشهاد مطوال بكلمات لينين عن جهاز الدولة.
»يقال إن هناك حاجة إلى وجود جهاز دولة موحد. من أين جاء هذا التأكيد؟ ألم يأت من نفس الجهاز الروسي الذي، كما سبق
لي أن أشرت في فقرة سابقة من فقرات مذكراتي، ورثناه عن القيصرية بعد دهنه بطالء سوفييتي؟
»لقد كان األفضل دون ريب إرجاء هذا اإلجراء إلى أن يصبح في مقدورنا أن نقول بأننا على ثقة تامة بأن الجهاز جهازنا. لكن
أصبح لزاما علينا اآلن أن نسلم، وبوعي كامل، بعكس ذلك، فالجهاز الذي نسميه جهازنا ما زال في واقع األمر جد غريب عنا؛ إنه
مزيج برجوازي وقيصري ولم يكن في المستطاع التخلص منه إبان السنوات الخمس الماضية دون مساعدة بلدان أخرى وألننا كنا
"مشغولين" أكثر الوقت بمهام عسكرية وبالحرب ضد المجاعة.
»من الطبيعي جدا في مثل هذه الظروف أن يصبح شعار "حرية االنفصال عن االتحاد" الذي نبرر به موقفنا مجرد قصاصة ورق
ليس إال، عاجزا عن حماية غير الروسي من تهجم الرجل الروسي الحقيقي، ذلك الروسي الشوفيني العظيم، الذي هو في جوهره ماكر
وطاغية مثله مثل البيروقراطي الروسي القح. ال ريب في أن النسبة المئوية الضئيلة للغاية من العمال السوفييت والذين اتخذو ا
الصبغة السوفيتية سيغرقون في مد الغوغاء من أصحاب االتجاه الشوفيني الروسي مثلما تغرق ذبابة في وعاء لبن«. )األعمال
الكاملة، المجلد 31 ،الصفحة 194 .التشديد من عندنا(
بعد القضية الجورجية، ألقى لينين بكل ثقل سلطته المعنوية في النضال من أجل إزالة ستالين من منصب األمين العام للحزب،
الذي احتله عام 1144 بعد وفاة سفيردلوف. إال أن أشد ما صار لينين يخافه اآلن أكثر من أي وقت مضى هو إمكانية أن يؤدي
انشقاق في قيادة الحزب، في ظل الظروف السائدة، إلى تفكك الحزب على أساس طبقي. لذلك حاول أن يبقي الصراع مقتصرا على
القيادة، فلم تنشر المالحظات وغيرها من األدبيات للعموم. كتب لينين سرا إلى البالشفة اللينينين الجورجيين )أرسل نسخة منها إلى
تروتسكي وكامينيف( يعلن فيها مساندته التامة لقضيتهم ضد ستالين. وبما أنه لم يكن قادرا على متابعة القضية شخصيا، فقد كتب
إلى تروتسكي يطلب منه الدفاع عن الجورجيين في اللجنة المركزية.
غني عن القول إن األدلة الوثائقية على نضال لينين األخير ضد ستالين والبيروقراطية قد تمت مصادرتها لعدة عقود. لقد أخفيت
كتابات لينين األخيرة عن قواعد الحزب الشيوعي في روسيا والعالم. خطاب لينين األخير لمؤتمر الحزب لم يقرأ في المؤتمر، على
الرغم من احتجاجات أرملته، وظل مخفيا حتى عام 1141 عندما نشره خروتشوف وشركائه، مع وثائق أخرى )بما في ذلك الرسائل
بشأن جورجيا( كجزء من حملتهم إللقاء اللوم على ستالين في كل ما حدث خالل السنوات الثالثين الماضية.
يبدي مونتي جونستون وأمثاله أسفهم بخصوص كتابات لينين – من رسائل ومذكرات الخ- التي صادرتها البيروقراطية السوفياتية،
والتي نشرت، في الغرب "على مسؤولية تروتسكي". لكن نفس التقاة الستالينيين البائسين وصفوا وصية لينين ورسائله األخيرة المصادرة
بأنها "مزورة" حين نشرتها الحركة التروتسكية، ليس بعد المؤتمر العشرين )الشهير( بل قبل ثالثين عاما من إبداء قادة الحزب
الشيوعي استعدادهم االعتراف بوجودها. على أعضاء الحزب الشيوعي ورابطة الشباب الشيوعي أن يسألوا أنفسهم بنزاهة حول من
يفضلون أن يصدقوا كلمته: هل تروتسكي وأتباعه الذين قالوا الحقيقة عن نضال لينين ضد البيروقراطية الستالينية ونشروا الكتابات
التي نفى قادة الحزب الشيوعي أمام قواعدهم وجودها طيلة مرحلة تاريخية كاملة، أم مونتي جونستون وأصدقائه الذين يفضح كل
ماضيهم السياسي غياب النزاهة لديهم في تعاملهم مع تراث لينين وتاريخ الثورة الروسية.
يقتبس مونتي جونستون مقاطع مبتورة من وصية لينين المحضورة، لكنه ال يوضح مطلقا مضمون تلك الرسالة. يحذر لينين فيها
من مخاطر حدوث انشقاق داخل الحزب، ألن "حزبنا يستند على طبقتين، ولهذا السبب فإن عدم االستقرار داخله مسألة ممكنة...".
65
لم يعتبر لينين أن الخالف بين تروتسكي وستالين مسألة عرضية، أو ناتجة عن "عوامل شخصية" )على الرغم من أنه قدم سلسلة
من التحاليل بخصوص المميزات الشخصية لألعضاء القياديين في الحزب(.
يجب أن يقرأ خطاب لينين األخير في سياق كتاباته األخرى التي صاغها في األشهر القليلة السابقة، والهجمات التي شنها على
البيروقراطية والكتلة التي شكلها مع تروتسكي ضد ستالين. صاغ لينين رسالته بحذر شديد )كان من المفترض أن يكون حاضرا في
المؤتمر حيث كان وفقا لسكرتيرته فوتييفا سيفجر قنبلة ضد ستالين(. قدم تحليال لكل من السمات االيجابية والسلبية لكل واحد من
األعضاء القياديين في الحزب: في حالة تروتسكي، أشار إلى "قدراته االستثنائية" )»الرجل األكثر كفاءة داخل اللجنة المركز ية في
الوقت الحالي«( لكنه انتقده بسبب إفراطه "في الثقة بالنفس"، و"ولعه الشديد بالجانب اإلداري الدقيق لألمور"، وهي األخطاء، التي
مهما قد تكون خطورتها في حد ذاتها، فإنه ال صلة لها بتاتا مع الثورة الدائمة أو "االشتراكية في بلد واحد"، أو أي من األكاذيب
األخرى التي اخترعها الستالينيون.
أما بالنسبة لستالين فقد كتب لينين أن » ز بين يديه سلطة هائلة، ول
ّ
الرفيق ستالين بعد أن صار السكرتير العام للحزب، ركـ ست
متأكدا بأن في مقدوره دائما أن يستخدمها بتبصر.«
إنها بالفعل مسألة سياسية، ومرتبطة بنضال لينين ضد البيروقراطية داخل الحزب. في مقاله من األفضل أقل شريطة أن يكون
أفضل الذي كتبه قبل فترة وجيزة، علق لينين قائال: »دعونا نقول بين قوسين إنه لدينا بيروقراطيون في أجهز ة حزبنا، وكذلك في
المؤسسات السوفييتية«. وشن في نفس المقال هجوما حادا على رابكرين، والذي كان موجها بوضوح ضد ستالين:
»دعونا نقول بصراحة إن مفوضية الشعب للعمال والفالحين للتفتيش ال تتمتع، في الوقت الحاضر، بأدنى سلطة. يعلم الجميع أنه
ال توجد أي مؤسسات أخرى أسوء تنظيما من مفوضية الشعب للعمال والفالحين للتفتيش وأنه في الوقت الحالي ال يمكن توقع أي
شيء من مفوضية الشعب هذه« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 219)
في حاشية لرسالته دعا لينين إلى عزل ستالين من منصب األمين العام، بسبب "فضاضته"، ودعا إلى تعويضه بشخص »يختلف
عن ستالين فقط في كونه أكثر والء وأكثر تهذيبا، وأكثر انتباها للرفاق، وأقل تقلبا في المزاج، وما إلى ذلك«. إن طريقة التعبير
الدبلوماسية هذه ال تخفي االتهام غير المباشر، والواضح جدا في ضوء األحداث التي وقعت في جورجيا، لستالين بالوقاحة وتقلب
المزاج وانعدام الوالء.
من خالل تقديمهم لوصية لينين باعتبارها مجرد وثيقة لوصف "السمات الشخصية" للقادة، وقع منظروا الحزب الشيوعي في تحريف
مبتذل تماما لتصور لينين. حتى لو افترضنا أن "الوصية" تترك مجاال للغموض )وهي ليست كذلك إال بالنسبة للعقول المريضة(
فإن مجموع كتابات لينين األخيرة تقدم بيانا برنامجيا واضحا لموقفه، ال يمكن تشويهه.
مرارا وتكرارا وصف لينين البيروقراطية باعتبارها تطورا برجوازيا طفيليا في الدولة العمالية، وتعبيرا عن وجهة النظر البرجوازية
الصغيرة، التي توغلت في الدولة والحزب أيضا.
كانت محاربة الردة البرجوازية الصغيرة ضد ثورة أكتوبر أكثر صعوبة بسبب حالة اإلنهاك التي كانت عليها البروليتاريا، والتي
أصيبت بعض شرائحها باإلحباط هي أيضا. ومع ذلك فقد كان لينين وتروتسكي ينظران إلى الطبقة العاملة باعتبارها
القاعدة الوحيدة للنضال ضد البيروقراطية، وأن الحفاظ على ديمقراطية عمالية سليمة هو الضمانة الوحيدة لذلك. ولهذا كتب لينين
في إحدى مقاالته "تطهير الحزب" يقول:
»بالطبع، ال يجب علينا أن نرضخ لكل ما تقوله الجماهير، ألن الجماهير بدورها تستسلم، في بعض األحيان، وخاصة في أوقات
التعب واإلرهاق االستثنائية الناشئة عن المشقة والمعاناة المفرطة، لمشاعر متخلفة. لكن فيما يتعلق بتقييمها لألشخاص، فيما يتعلق
بالموقف السلبي تجاه هؤالء الذين "تعلقوا" بنا لدوافع أنانية، والذين أصبحوا "مفوضين منتفخين" و"بيروقراطيين"، فإن االقتراحات
66
المقدمة من طرف الجماهير البروليتارية غير الحزبية، وفي كثير من األحيان من طرف جماهير الفالحين غير الحزبيين، قيمة
للغاية« ) األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 31)
لقد فسر لينين صعود البيروقراطية كنتاج للتخلف االقتصادي والثقافي الذي كان نتيجة لعزلة الثورة. وكانت وسائل النضال ضدها
مرتبطة مع النضال من أجل التقدم االقتصادي و القضاء التدريجي على األمية، والذي كان مرتبطا بشكل ال ينفصم مع النضال من
أجل إشراك الجماهير العاملة في تسيير الصناعة والدولة. لقد اعتمد لينين وتروتسكي دائما على الجماهير في النضال ضد
"المفوضين المنتفخين". فقط باالعتماد على النشاط الذاتي الواعي للشعب العامل يصير االنتقال إلى االشتراكية مضمونا.
من جهة أخرى، أوضح لينين مرارا وتكرارا أن القيود الرهيبة المفروضة على الطبقة العاملة بسبب عزلة الثورة في بلد متخلف تضع
صعوبات جمة في طريق خلق مجتمع مثقف حقا ومنسجم وال طبقي. وقد أكدت لينين مرارا على المشاكل التي نشأت من عزلة الثورة.
يؤكد مونتي جونستون أن لينين أواخر حياته، كان قد بدأ يقبل بموقف "االشتراكية في بلد واحد"، مستشهدا كدليل على هذا بما كتبه
في المقال "عن التعاون"، حول أنه "بفضل السياسة االقتصادية الجديدة سيتم تحويل روسيا إلى روسيا اشتراكية" بما أنها تمتلك "كل
ما هو ضروري وكاف" لبناء مجتمع اشتراكي. )Cogito ،الصفحة 41)
إن الرفيق جونستون، وبعد بحث يائس في أعمال لينين المختارة، لم يتمكن من العثور سوى على اقتباس واحد فقط يمكن تفسيره
ضمنيا بكونه قبول بفكرة "االشتراكية في بلد واحد". لكن هيهات! يمكن تبديد هذا الغموض ولو بإلقاء لمحة خاطفة على نص هذه
الوثيقة غير المصححة التي حاول الستالينيون االستعانة بها، بعد وفاة لينين، لمساعدتهم. إن ما يشير إليه لينين في هذه المقالة ليس
"بناء االشتراكية" داخل حدود اإلمبراطورية القيصرية، بل األشكال االجتماعية الضرورية لتنفيذ اإللغاء التدر يجي لعناصر "رأسمالية
الدولة" )السياسة االقتصادية الجديدة(، ثم بدء مهام البناء االشتراكي )الكهربة، والتصنيع، الخ(. إن تقييمات لينين الدقيقة التي تؤكد
على عدم وجود القاعدة المادية من أجل االشتراكية، ال تترك مجاال للشك في موقفه. لذا يشير إلى الحاجة إلى "ثورة ثقافية" للتغلب
على التخلف المادي )ومن تم على صراع الطبقات في المجتمع(. كتب لينين:
»سوف تكون هذه الثورة الثقافية اآلن كافية لجعل بالدنا دولة اشتراكية تماما؛ لكنها تنطوي على صعوبات هائلة ذات طابع ثقافي
محض )ألننا أميون( وطابع مادي )فلكي نصير مثقفين يجب علينا تحقيق نمو معين لوسائل اإلنتاج المادية، يجب أن تكون لدينا
قاعدة مادية معينة(«. )عن التعاون، األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 214.)
لتحصين موقفه من احتمال سوء الفهم، وضح لينين أنه يتعامل مع مسألة التعليم بشكل مجرد عن مشكلة الموقف الدولي من
الثورة:
»علي أن أقول إن التركيز يتجه نحو العمل التعليمي... لوال حقيقة أنه يتوجب علينا النضال من أجل موقعنا على الصعيد
العالمي. لكن إذا تركنا هذا جانبا، رغم ذلك، وحصرنا أنفسنا في العالقات االقتصادية الداخلية، فإن التركيز يكون على التعليم.«
)المرجع نفسه، ص 212)
إن لينين، على النقيض تماما من االدعاء بكونه قد بدأ "أواخر حياته العملية، يقترب أكثر فأكثر في الممارسة" من تبني موقف
االشتراكية في بلد واحد، قد أوضح بحزم أن صعوبات الثورة: مشكالت التخلف واألمية والبيروقراطية ال يمكن التغلب عليها نهائيا
إال من بعد انتصار الثورة االشتراكية في بلد متقدم أو أكثر. هذا الرأي، الذي دافع عنه لينين مئات المرات منذ 1192 -1194
فصاعدا، تم قبوله كحقيقة بديهية من قبل كل الحزب البلشفي حتى عام 1142 .وحتى في األشهر األخيرة من حياته، لم تغب هذه
الحقيقة عن بال لينين مطلقا. حيث نجد بين كتاباته األخيرة سلسلة من المالحظات التي تجعل موقفه واضحا تماما:
67
»لقد شيدنا دولة من الطراز السوفياتي، وبهذا فتحنا عهدا جديدا في تاريخ العالم، عهد حكم البروليتاريا السياسي، والذي سيحل
محل عهد حكم البرجوازية. ال يمكن ألحد حرماننا من هذا، على الرغم من أن الطراز السوفياتي للدولة لن يتمكن من وضع اللمسات
األخيرة إال بمعونة الخبرة العملية من طرف الطبقة العاملة في العديد من البلدان.
»لكننا لم ننته بعد من بناء حتى أسس االقتصاد االشتراكي، وما زال في مستطاع القوى الرأسمالية المعادية حرماننا من هذا. علينا
أن نفهم هذا بوضوح ونعترف به بصراحة، ألنه ليس هناك ما هو أخطر من األوهام )والدوار، خصوصا في العلو الشاهق( وليس
هناك مطلقا أي شيء مخيف، وال شيء يمكنه أن يقدم أساسا شرعيا لمشاعر القنوط، في االعتراف بهذه الحقيقة المريرة؛ لقد أكدنا
دائما مرارا وتكرارا على الحقيقة األساسية في الماركسية بأن الجهود المشتركة لعمال عدة بلدان متقدمة ضرورية النتصار
االشتراكية.« ) األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 491 ،خط التأكيد من عندنا(
ليس في أسطر لينين هذه أية ذرة من "التشاؤم" أو "التقليل" من القدرات اإلبداعية للطبقة العاملة السوفياتية. في كل كتابات لينين،
وخصوصا في هذه الفترة، هناك إيمان راسخ بقدرة الشعب العامل على تغيير المجتمع ونزاهة مطلقة في التعامل مع الصعوبات. إن
االختالف بين مواقف الستالينية ومواقف اللينينية من الطبقة العاملة يكمن على وجه التحديد في هذا األمر: الستالينيون يسعون لخداع
الجماهير باألكاذيب "الر سمية" واألوهام حول بناء "االشتراكية في بلد واحد"، من اجل دفعها إلى القبول السلبي بالقيادة البيروقراطية،
في حين يسعى اللينينيون جاهدين إلى تطوير وعي الطبقة العاملة، وال يقومون أبدا بتخديره باألكاذيب والقصص الخيالية، بل يعملون
دائما على الكشف عن الحقائق غير المستساغة، بثقة كاملة في أن الطبقة العاملة سوف تفهم وتقبل ضرورة بذل أكبر التضحيات،
إذا ما شرحت لهم األسباب بأمانة وصدق.
لم تصمم حجج لينين من أجل تخدير العمال السوفيات بـ "األفيون االشتراكي"، بل لتحضيرهم للنضال ضد التخلف والبيروقراطية
في روسيا والنضال ضد الرأسمالية ومن أجل الثورة االشتراكية على الصعيد العالمي. وقد شرح لينين أن تعاطف عمال العالم هو
الذي منع االمبرياليين من خنق الثورة الروسية ما بين 1111-1149 ،لكن الحماية الوحيدة الحقيقية لمستقبل الجمهورية السوفياتية
هو امتداد الثورة إلى بلدان الغرب الرأسمالي.
في المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الروسي – وهو آخر مؤتمر حضره لينين- شدد لينين مرارا على المخاطر التي يسببها
للدولة والحزب ضغط التخلف والبيروقراطية. وتعليقا منه على إدارة الدولة، قال محذر:
»حسنا، لقد عشنا سنة، والدولة بين أيدينا، لكن هل سيرت السياسة االقتصادية الجديدة بالطريقة التي كنا نرغب فيها السنة الماضية؟
كال. لكننا نرفض أن نعترف أنها لم تعمل بالطريقة التي أردناها. بأي طريقة عملت؟ لقد رفضت اآللة االنصياع لليد التي تمسك بها،
لقد كانت مثل سيارة ال تسير في االتجاه الذي يريده السائق، بل في اتجاه يريده شخص آخر؛ كما لو كانت تقاد من قبل يد غامضة،
ال يعلمها إال هللا، يمكن أن تكون يد وصولي، أو رأسمالي، أو كالهما. لكن أيا كان األمر، فإن السيارة ال تسير في االتجاه الذي
يتخيله الجالس وراء عجلة القيادة، وغالبا ما تسير في اتجاه مختلف تماما.« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 111 ،خط
التشديد من عندنا(
في المؤتمر نفسه أوضح لينين، بلغة واضحة للغاية ال لبس فيها إمكانية انحطاط الثورة نتيجة لضغوط الطبقات المعادية. كانت
الفئات األكثر ذكاء بين البرجوازية في المهجر، مجموعة ايستريالوف )Ustryalov )سمينا فيخا )vekha Smena)ا]1 ،]تعبر علنا
عن آمالها في النزعات البيروقراطية البرجوازية التي صارت تظهر في المجتمع السوفياتي، باعتبارها خطوة في اتجاه عودة الرأسمالية.
نفس المجموعة قامت الحقا بالتصفيق للستالينيين وتشجيعهم في صراعهم ضد "التروتسكية". مجموعة سمينا فيخا، التي اعترف لها
لينين ببصيرتها الطبقية، فهمت بشكل صحيح طبيعة صراع ستالين ضد تروتسكي، باعتباره ليس مسألة "شخصية" بل باعتبارهمسألة
طبقية، باعتباره خطوة لالبتعاد عن تقاليد أكتوبر الثورية.
68
"لم تعد اآللة تطيع السائق" - لم تعد الدولة تحت رقابة الشيوعيين والعمال، بل بدأت تدريجيا ترفع نفسها فوق المجتمع. وفي إشارة
إلى وجهات نظر مجموعة سمينا فيخا، قال لينين:
»يجب علينا أن نقول بصراحة إن األشياء التي يتحدث عنها ايستريالوف ممكنة، التاريخ يعرف كل أشكال التحوالت. يمكن لالعتماد
على رسوخ القناعات والوالء، وغيرها من الصفات األخالقية الرائعة أن يكون أي شيء سوى أن يكون موقفا جادا في السياسة. يمكن
لقلة من الناس أن تتحلى بصفات أخالقية رائعة، لكن القضايا التاريخية تقررها الجماهير الواسعة، والتي إذا لم تعجبها تلك األقلية
فلن تعاملها بأدب« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،صفحة 411)
في كلمات لينين هذه نجد تفسيرا مسبقا لهزيمة المعارضة اليسارية أوضح مليون مرة من كل ذلك اللغو الفارغ من جانب "المثقفين"
حول السمات النفسية واألخالقية والشخصية لتروتسكي وستالين. كانت سلطة الدولة تنزلق من بين أيدي الشيوعيين، ليس بسبب
قصورهم الشخصي أو خصائصهم النفسية، بل نظرا للضغوط الهائلة التي كان يسببها التخلف والبيروقراطية، والقوى الطبقية
المعادية، التي أرخت بثقلها على الحفنة الصغيرة من العمال االشتراكيين المتقدمين وسحقتهم.
شبه لينين العالقة بين العمال السوفياتيين وطليعتهم وبين المسؤولين البيروقراطيين والعناصر البرجوازية الصغيرة والعناصر
الرأسمالية، بالعالقة بين األمة المنتصرة واألمة المهزومة. لقد أثبت التاريخ مرارا وتكرارا أن هزيمة أمة ألمة أخرى بقوة السالح ليست
ضمانة كافية في حد ذاتها لتحقيق النصر. ففي حالة ما إذا كان المستوى الثقافي للمنتصرين أقل بكثير من مستوى المهزومين،
فإن هؤالء األخيرين سيفرضون ثقافتهم على الغزاة. ونظرا لتدني مستوى ثقافة الطبقة العاملة السوفياتية، المحاطة ببحر من المالكين
الصغار، فإن الضغوط كانت هائلة. وقد عبرت عن نفسها ليس فقط في الدولة، بل حتى داخل الحزب نفسه، والذي أصبح مركزا
للصراع بين المصالح الطبقية المتضاربة.
فقط في ضوء كل هذا حيث يمكننا أن نفهم موقف لينين في النضال ضد البيروقراطية، وموقفه من ستالين، ومضامين وصيته
المحظورة. توضح تلك الوثيقة اقتناعه بأن الصراع بين ستالين وتروتسكي "ليست مجرد تفصيل، أو تفصيل يمكنه أن يكتسي أهمية
حاسمة"، بالنظر إلى حقيقة أن "حزبنا يستند على طبقتين". في رسالة كتبها قبل وقت قصير من انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب،
أوضح لينين داللة الصراعات واالنقسامات بين صفوف القيادة في هذه الكلمات:
»إذا كنا ال نغمض أعيننا عن الواقع يجب علينا أن نعترف بأنه في الوقت الحاضر ال يتم تحديد السياسة البروليتارية للحزب بطبيعة
أعضاءه، بل بالهيبة الهائلة التي تتمتع بها المجموعة الصغيرة الموحدة التي يمكن تسميتها بالحرس القديم في الحزب. إن اندالع
صراع ولو تافه بين هذه المجموعة، إن لم يؤدي إلى تدمير هذه الهيبة، فسيكون كافيا في كل الحاالت إلضعاف هذه المجموعة إلى
درجة تجريدها من قدرتها على تحديد السياسة« )األعمال الكاملة، المجلد 33 ،الصفحة 441)
إن الدافع وراء نضال لينين المرير ضد ستالين لم يكن نواقصه الشخصية )"الفضاضة"( بل الدور الذي لعبه في إدخال أساليب
وأيديولوجية طبقات وشرائح اجتماعية عدوة إلى داخل صفوف قيادة الحزب التي كان ينبغي لها أن تشكل حصنا ضد تلك األشياء.
في األشهر األخيرة من حياته، عندما أضعفه المرض، تحول لينين أكثر فأكثر نحو تروتسكي من أجل الحصول على الدعم في
نضاله ضد البيروقراطية وصنيعتها: ستالين. فحول مسألة احتكار التجارة الخارجية، وحول مسألة جورجيا، وأخيرا في النضال من
أجل اإلطاحة بستالين من القيادة، شكل لينين كتلة مع تروتسكي، الرجل الوحيد في القيادة الذي كان يمكنه أن يثق فيه.
طوال الفترة األخيرة من حياته، عبر لينين مرارا في العديد من المقاالت والخطب وخاصة الرسائل، عن تضامنه مع تروتسكي. فقد
اختار التعاون مع تروتسكي للدفاع عن وجهة نظرهما داخل الهيئات القيادية للحزب، في كل القضايا الهامة التي ذكرناها. ال يمكن
فهم تقييم لينين لتروتسكي في وصيته المحضورة إال في ضوء هذه الحقائق. وغني عن القول إن جميع األدلة على وجود هذه الكتلة
بين لينين وتروتسكي ضد زمرة ستالين قد أخفيت عن األنظار لسنوات عديدة. لكن الحقيقة بدأت تظهر. إن الرسالة التي وجهها لينين
69
لتروتسكي، والتي نشرت في المجلد 42 ،من الطبعة الروسية األخيرة لمؤلفات لينين الكاملة ) والتي ما زالت غير الكاملة لحد اآلن(
هي دليل ال يدحض على الكتلة التي كانت قائمة بين لينين وتروتسكي.
تلك الرسائل وغيرها من المواد كانت قد نشرت منذ فترة طويلة من طرف تروتسكي في الغرب – منذ 1141 في مؤلفه "الوضع
الحقيقي في روسيا". وحتى اآلن ال تجرؤ البيروقراطية على نشر جميع المو اد التي في حوزتها. ومن أجل االلتفاف على الشكوك
المتنامية بين قواعد الحزب الشيوعي، تلجأ البيروقراطية إلى االستعانة بخدمات أشباه مونتي جونستون للسخرية من كتابات لينين حول
"سلطة تروتسكي". سيكونون في حاجة إلى مثل هؤالء األصدقاء، بالضبط ألن "سلطتهم" صارت تتناقص بسرعة في أعين المناضلين
الشرفاء داخل األحزاب الشيوعية في كل مكان.
تروتسكي والنضال ضد البيروقراطية
»في عام 1143 ،عندما كان ]لينين[ يرقد عاجزا على فراش الموت... نوقشت هذه المسألة في قيادة الحزب التي تبنت، بمشاركة
تروتسكي، توصية - اتخذت باإلجماع في 4 دجنبر 1143 - ألقت الضوء على البيروقراطية في أجهزة الحزب والخطر الناتج عنها
المتمثل في فصل الجماهير عن الحزب، وتمت الدعوة إلى تطوير حرية المناظرات والنقاشات داخل الحزب« )Cogito ،ص: 44)
يطرح الرفيق جونستون المسألة كما لو أن قيادة الحزب اتفقت باإلجماع على موقف لينين حول مسألة البيروقراطية، الشيء الذي
يجعل من الصعب معرفة الفرق بين تروتسكي وبين ستالين وزينوفييف وكامينيف. مع األسف ال تشكل توصية واحدة نضاال ضد
البيروقراطية. حتى ستالين، في سنوات حكمه، كثيرا ما ندد بـ "شرور البيروقراطية". كما أن خروتشوف وكوسيغين وغيرهما أيدوا عددا
غير قليل من التوصيات حول هذا الموضوع. إن التوصية بالنسبة للماركسي دليل للعمل، أما بالنسبة لبيروقراطي منافق فليس هناك
شيء أفضل من إعالن "اإلجماع" و"مكافحة البيروقراطية" لذر الرماد في عيون الجماهير.
تظهر سخافة لجوء مونتي جونستون إلى هذه التوصية بوضو ح أكبر في ضوء ما حدث الحقا. جونستون ال يشرح كيف حدث
االنتقال من القرارات "باإلجماع ضد البيروقراطية" إلى اإلرهاب البوليسي ومعسكرات االعتقال وكل الفظاعات التوتاليتارية الستالينية
األخرى.
كانت ممارسات كتلة كامينييف- زينوفييف- ستالين المهيمنة داخل اللجنة المركزية طريقة عجيبة للتعبير عن الوالء للينين. فبالرغم
من احتجاجات كروبسكايا تعرضت "وصية" لينين للحضر. وبالرغم من توجيهات لينين الواضحة لم يتم عزل ستالين. ونصيحة لينين
بضرورة الزيادة في تمثيلية الطبقة العاملة داخل الحزب ومنظماته، استعملت بطريقة خبيثة لتبرير إغر اق الحزب بأعداد كبيرة من
العناصر عديمة الخبرة والمتخلفة سياسيا، التي شكلت أداة طيعة في أيدي رجال األجهزة، واستغلتها اآللة الستالينية.
وفي نفس اآلن، تم شن حملة من االفتراء واألكاذيب ضد تروتسكي. كانت هذه هي الفترة التي تم خاللها إحياء كل التهم القديمة
حول الماضي غير البلشفي لتروتسكي )وهو االتهام الذي رفضه لينين في "وصيته"(، وعن "الثورة الدائمة"، وبريست ليتوفسك، وغيرها،
سقاطه من القيادة. وقد اعترف زينوفييف الحقا، عندما قطع عالقته مع
من قبل الطغمة الحاكمة من اجل تشويه سمعة تروتسكي وا
ستالين وانتقل إلى المعارضة، أن أسطورة "التروتسكية" اخترعت عمدا في هذه الفترة.
لم يكن كامينيف أو زينوفييف أو ستالين، في هذه المرحلة، مدركين بوعي للعملية التي تجري داخل الدولة السوفياتية والتي كانوا
ّعون وتيرتها دون قصد. لم يكونوا يعرفون االتجاه الذي ستقودهم إليه هجماتهم ضد تروتسكي
يسر و"التروتسكية". لكنهم في سياق
محاولتهم دق إسفين بين "التروتسكية" وبين اللينينية، حركوا كل آليات تزوير التاريخ والتجاوزات البيروقراطية التي شكلت أول خطوة
حاسمة في طريق االبتعاد عن أفكار وتقاليد أكتوبر نحو بناء دولة ستالين وبريجينيف البوليسية الوحشية.
في إشار ة منه إلى انتقادات تروتسكي للبيروقراطية في مؤلفه "المسار الجديد"، علق مونتي جونستون قائال:
71
»على الرغم من أن مقاربته في مجملها سلبية نوعا ما، فإن هناك الكثير مما يمكن اعتباره صحيحا في هجومه على نمو وقوة
جهاز الحزب في ظل سيطرة ستالين وبخاصة ما نعرفه اآلن عن االنتهاكات الجسيمة، وما أدى إليه ذلك من ضرب لجوهر الديمقراطية
االشتراكية والمشروعية... إن "المسار الجديد"... يتضمن نقدا ماركسيا دقيقا ألساليب البيروقراطية الستالينية...« )Cogito ،الصفحة:
.)44
ال يسع القارئ إال أن يالحظ هذا "التنازل" الجديد والمفاجئ من طرف الرفيق جونستون. فبكل حكمة وبطريقة معلم في مدرسة،
يعطي مونتي جونستون لتحليل تروتسكي للبيروقراطية الستالينية عالمة جيدة - مع خصم عالمات على المقاربة "السلبية نوعا ما"
في مجملها. لكنه في نفس الوقت أخفى وراء عبارة "ضرب الديمقراطية االشتراكية" الغامضة ثالثين عاما من الردة الدموية ضد
بادة القيادة البلشفية القديمة بالكامل؛ وتصفية شعوب سوفياتية بأكملها؛ وتحطيم ماليين البشر في مخيمات األشغال الشاقة،
أكتوبر؛ وا
وتدمير الثورات في الخارج. ال تجد هذه "الحوادث" التافهة أي مكان لها في تحليل مونتي جونستون "المتوازن". كال، فمن األفضل
بكثير الكتابة عنها باعتبارها "أخطاء" من الماضي، ما تزال "تنتظر التحليل". إن مونتي جونستون، الذي يظهر نفسه باعتباره باحثا
مدققا في تفاصيل أرشيفات البلشفية، يرفض بتواضع القيام بمهمة تحليل وشرح الجرائم الدموية الستالينية خالل العقود الثالثة أو
األربعة الماضية.
إن الماركسية هي أوال وقبل كل شيء طريقة للتحليل التاريخي، توفر للطليعة المتقدمة من الطبقة العاملة المنظورات التي هي
الشروط األساسية الالزمة لنجاح النضال من أجل حسم السلطة. ال يقف الماركسيون عميانا أمام العملية التاريخية، ويتمتمون حول
"األخطاء" و"الحوادث" أو يذرفون دموع التماسيح حول "المآسي". مهمة الماركسي/ة هي التحليل والفهم المسبق لالتجاهات والسيرورات
العامة في المجتمع. بالطبع، ال يمكن لمثل هذا التحليل أن يقدم مخططا ناجزا، أو أن يتنبأ بدقة بكل التفاصيل الصغيرة. هذا غير
ضروري. إذ يكفي أن يتم استيعاب السيرورة العامة، لكي ال يأخذنا التاريخ على حين غرة.
لقد شرح تروتسكي بشكل مسبق تطور الستالينية باعتبارها ردة فعل البرجوازية الصغيرة ضد ثورة أكتوبر. وأوضح، كما سبق للينين
أن فعل، خطر االنحطاط الداخلي للحزب الذي تلعب فيه البيروقراطية – تلك الفئة من كبار المسؤولين الذين استفادوا من الثورة ولم
يعودوا يرون أية حاجة إلى إقالق روتين حياتهم المريحة بمواصلة النضاالت الثورية- دور أداة لنقل ونشر مزاج الردة البرجوازية
الصغيرة واليأس بين صفوف الحزب.
وصف الرفيق جونستون مؤلف تروتسكي "المسار الجديد" باعتباره يتضمن "نقدا ماركسيا دقيقا" للبيروقراطية. إن القارئ معذور إذا
كان يشعر بنوع من الحيرة. نحن نعلم أن الفراشات الجميلة تخرج من شرانق قبيحة ومتشابكة، لكن كيف خرج تروتسكي صاحب
"النقد الماركسي الدقيق" فجأة من ذلك اليساري المتطرف األناني البرجوازي الصغير الذي رأيناه في الصفحات الـ41 السابقة؟ هل
كانت مصادفة، أيها الرفيق جونستون، أن يكون تروتسكي والمعارضة اليسارية وحدهم، بعد وفاة لينين، من تمكنوا من إنتاج هذا
"النقد الماركسي الدقيق" للبيروقراطية الستالينية؟ أين كانت انتقادات قادة من أمثال خروتشوف وكوسيغين في ذلك الوقت؟ هل هو
مبدأ أساسي من مبادئ الماركسية اللينينية ان يأتي "النقد الماركسي الدقيق" دائما بعد وقوع الحدث؟
حتى في هذه النقطة يعمل مونتي جونستون على تشويه موقف تروتسكي بوصفه له بأنه نقد ألساليب البيرو قراطية الستالينية. لم
يكن هذا مطلقا موقف تروتسكي. إنه بالضبط طر يقة ستالين، كوسيغين، بريجنيف، وغوالن في "محاربة البيروقراطية". إن تروتسكي
في "المسار الجديد"، ال يتعامل مع السلوكيات، بل مع الطبقات والفئات االجتماعية. إن قادة البيروقراطية مستعدون دائما لشن
الهجوم ضد "األساليب البيروقراطية" و"الروتين"، الخ. لكن مثل هذه المقاربة ال عالقة لها مع الماركسية، كما سبق لتروتسكي أن
شرح:
71
»ال يجب على الماركسي أن ينظر إلى البيروقراطية باعتبارها مجرد تجميع لعادات سيئة ألصحاب المناصب. إن البيروقراطية
ظاهرة اجتماعية، نظام محدد إلدارة األشخاص واألشياء. إن أسبابها العميقة تكمن في عدم تجانس المجتمع، في الفرق بين المصالح
اليومية والمصالح الجوهرية لمختلف فئات السكان« )المسار الجديد، صفحة: 21).
بعيدا عن الفكرة التي تعتبر البيروقراطية "حالة ذهنية" أو مجرد بقايا للرأسمالية "ستضمحل" تلقائيا مع اقتراب المرحلة العليا من
االشتراكية، حذر تروتسكي من أن ظهور شريحة متميزة من الموظفين مسألة حتمية في ظل الظروف السائدة من التخلف االقتصادي
والثقافي في روسيا، وستخلق مخاطر هائلة للثورة نفسها. وكما حذر لينين مرارا، كان احتمال الثورة المضادة ممكنا في ظل بعض
الظروف )انشقاق داخل الحزب، تحالف رجعي بين الفالحين وصغار الرأسماليين وقسم من البيروقراطية(.
أشار تروتسكي إلى مثال انحطاط االشتراكية الديموقراطية األلمانية، والتي كانت قبل 1112 تعتبر الطليعة القيادية للحركة الماركسية
العالمية. لقد شرح لينين وتروتسكي هذا االنحطاط ليس باألخطاء الشخصية أو خيانة القادة األفراد )على الرغم من أن ذلك بدوره
لعب دورا مميتا(، بل أوال وقبل كل شيء بالظروف الموضوعية التي اشتغل في ظلها الحزب األلماني قبل الحرب: عدم وجو د
نضاالت اجتماعية كبيرة وكفاح ثوري هام، الوسط البرلماني الراكد الذي خلق "جيال من البيروقراطيين التافهين والبلداء، الذين انكشفت
طبيعتهم السياسية تماما في الساعات األولى من الحرب االمبريالية".
في السنوات التي أعقبت الحرب األهلية، تبلورت شريحة اجتماعية جديدة من المسؤولين السوفيات، تشكل جزء منها من البيروقراطية
القيصرية القديمة، وجزء آخر من متخصصين برجوازيين وأيضا من عمال سابقين وشيوعيين تم استيعابهم في أجهزة الدولة و الحزب
وفقدوا االتصال مع الجماهير. كانت هذه الفئة من البيروقراطيين المحافظين، الراضين عن النفس والضيقي األفق المعزولين في
مكاتبهم، هي القاعدة التي استمدت منها كتلة ستالين داخل الحزب دعمها. وكانوا هم العناصر الذين رفعوا صوتهم عاليا، بعد 1141 ،
ضد "الثورة الدائمة" و"التروتسكية". لم يكونوا يقصدون بذلك كتابات تروتسكي عام 1194 ،أو جداالت الماضي الغامضة، بل كانوا
يقصدون عاصفة وغليان ثورة أكتوبر والحرب األهلية. ال يأمل البيروقراطي إال في السالم والهدوء لالستمرار في مهمته المتمثلة في
تنظيم هؤالء الذين يوجدون "تحته". كانت الشعارات التي رفعتها زمرة ستالين- بوخارين "االشتراكية بوتيرة السلحفاة" و"االشتراكية في
بلد واحد" هي بالضبط ما كانت البيروقراطية تريد أن تسمعه.
أنهكت سنوات الثورة والحرب األهلية الجماهير وقوضت جزئيا معنوياتهم. وأدت الهزائم التي تعرضت لها الثورات على الصعيد
الدولي إلى إضعاف األفكار البلشفية بين الفئات األكثر تخلفا من الجماهير وبين صفوف البرجوازية الصغيرة. منذ البداية كانت
األقلية البلشفية اللينينية، بقيادة تروتسكي، تصارع ضد التيار. ومن ناحية أخرى، بدأت البيروقراطية تصير أكثر عجرفة مع كل خطوة
إلى الوراء تخطوها الثورة في روسيا وعلى الصعيد األممي. وباالعتماد على الفئات والطبقات األكثر تخلفا في المجتمع، والكوالك،
والمستفيدين من السياسة االقتصادية الجديدة وصغار الرأسماليين، وجهت زمرة ستالين- بوخارين الضربات ألسس ثورة أكتو بر.
وباإلضافة إلى تعزيز العناصر الرأسمالية داخل روسيا، أدت السياسات اليمينية التي تبنتها القيادة إلى سلسلة من االنتكاسات الجديدة
على الصعيد الدولي، والتي بلغت ذروتها في المذبحة المروعة للثورة الصينية عام 1141.
ليس من الممكن الخوض هنا في األحداث الدولية لتلك المرحلة. ويكفي أن نشير إلى أنه في الصين ما بين سنوات 1144-
1141 ،حلت زمرة ستالين- بوخارين الحزب الشيوعي الصيني ودمجته في الكومينتانغ]4 .]وتمت اإلشادة بقاتل العمال الصينيين
شيانغ كاي تشيك، باعتباره القائد العظيم للثورة الصينية. كما تم قبول حزب الكومينتانغ كفرع متعاطف مع األممية الشيوعية - مع
صوت واحد فقط ضد هذا القرار، هو صوت ليون تروتسكي-. طوال هذه الفترة ناضل تروتسكي والمعارضة اليسارية ضد السياسات
الكارثية للستالينيين: من أجل الديمقراطية العمالية، والمخططات الخماسية والتجميع على سبيل المثال؛ ضد االتفاقات الالمبدئية مع
"الديمقراطيين" األجانب من قبيل شيانغ كاي شيك؛ من أجل الدعم المستمر للحركات الثورية للطبقة العاملة أمميا باعتباره الضمانة
الحقيقية الوحيدة لحماية مستقبل الدولة السوفياتية. ليس لمونتي جونستون ما يقوله بخصوص كل هذا، ما عدا التأكيد على أن
72
افتراءات ستالين ضد تروتسكي "تماشت مع رأي" العمال، وأن المعارضة اليسارية هزمت بـ 999.142 صوتا مقابل 2999" بعد
مناقشة حزبية على الصعيد الوطني".
"المناقشة الحزبية على الصعيد الوطني" التي يشير إليها الرفيق جونستون كانت تتألف من وسائل إقناع ودية من قبيل طرد العمال
المنتمين إلى المعارضة من وظائفهم، وتكسير اجتماعات المعارضة من طرف بلطجية ستالينين، وشن حملة شرسة من األكاذيب
واالفتراءات في الصحافة الرسمية، واضطهاد أصدقاء تروتسكي وأنصاره مما أدى إلى وفاة عدد من البالشفة البارزين مثل غالزمان
)الذي دفع إلى االنتحار بواسطة التهديد( وجوفي، الدبلوماسي السوفياتي الشهير )الذي أقدم على االنتحار بعد أن حرم من الحصول
على العالج الطبي الالزم(.
خالل االجتماعات الحزبية كان المتحدثون باسم المعارضة يتعرضون العتداءات ممنهجة من قبل عصابات من البلطجية شبه
فاشستيين منظمين من قبل األجهزة الستالينية لتخويف المعارضة. وقد وصفت الجريدة الشيوعية الفرنسية Courant le Contre
"ضد التيار"، في سنوات العشرينات، األساليب التي كان الستالينيون يسيرون بها "مناقشاتهم الحزبية على الصعيد الوطني"، قائلة:
»نظم بيروقراطيو الحزب الروسي في جميع أنحاء البالد عصابات من حاملي الصافرات. وفي كل مرة يحاول عامل ينتمي إلى
المعارضة أخذ الكلمة، ينشرون في القاعة عددا من الرجال الحاملين لصفارات الشرطة. وبمجرد ما ينبس المتحدث باسم المعارضة
بكلمة يبدأ الصفير. وتستمر الضجة حتى يترك المتحدث المعارض المنصة لغيره.« )الوضع الحقيقي في روسيا، الصفحة 12 ،
مالحظة على الهامش(
ال يجد جونستون أنه من الضروري النظر عن كثب في الظروف التي تم فيها "النقاش" األخير الذي شهده مؤتمر الحزب عام
1141 ،عندما جعل أتباع ستالين، الذين اكتظت بهم القاعة، من المستحيل على المعارضة إسماع صوتها. قارن بين هذه األساليب
البلطجية وبين الطرق المعتمدة من قبل لينين تجاه المعارضين السياسيين ليمكنك أن ترى المدى الذي وصلت إليه الردة الستالينية،
ابتداء من عام 1141 ،في إقبار آخر بقايا التقاليد البلشفية.
يتصفح مونتي جونستون تاريخ المعارضة اليسارية بمزاج أستاذ تاريخ عجوز تعب من التواريخ و"الوقائع". ال تكدر رباطة جأشه
"التفاصيل" التي يمر عبرها مرور الكرام.
»استمر تروتسكي، في المنافي المتعاقبة التي مر منها - تركيا، والنرويج، وفرنسا، وأخيرا المكسيك حيث اغتيل عام 1129 -يكتب
العديد من الكتب والكراريس والمقاالت، واستمر في محاولة بناء معارضة يسارية ضد ستالين«.
لكن مهال يا معلم المدرسة، كيف يمكن لمناقشة حزبية رفاقية على الصعيد الوطني أن تؤدي إلى نفي وقتل زعيم األقلية؟ هل اغتيال
تروتسكي، ومئات اآلالف من المعارضين في روسيا هو "النقاش" السياسي العقالني الذي تصوره؟ حول هذا المسألة ال يملك معلم
المدرسة سوى المراوغة بحذر:
يكتب جونستون مالحظة على الهامش فريدة من حيث "توازنها":
»إن األدلة تشير بقوة إلى أن القاتل ميركادير، أو جاكسون، الذي ادعى أنه مناصر لتروتسكي، كان يعمل في الواقع لحساب
ستالين والغيبيو. وبعد استكمال عقوبته بالسجن 49 عاما غادر المكسيك على متن طائرة تشيكوسلوفاكية]![ نحو جهة لم يكشف
عنها]![«. )Cogito ،الصفحة: 12)
ها هو "تنازل" مجاني آخر من قبل الرفيق جونستون! يعلم الجميع جيدا هذه األيام السجل الدموي لمخابرات ستالين الغيبيو. كل
عضو في الحزب الشيوعي يعرف جيدا أن هؤالء القتلة المأجورين كانوا مسؤولين عن اغتيال تروتسكي وثوريين آخرين ال حصر لهم
في روسيا واسبانيا وغيرهما. يعترف الرفيق جونستون برحابة صدر أنه ال يستطيع أن ينكر: فقط ما ال يستطيع أن ينكره! لكن ال
يكفي مجرد "االعتراف" بجريمة. إن ما ينتظره المرء من الماركسي هو التفسير.
73
يحاول مونتي جونستون رسم صورة للخالفات بين الستالينية والتروتسكية على شكل "خالفات سياسية" و"مناقشات" و"حجج" وهلم
جرا. لكن البيروقراطية الروسية تفضل أن تجادل بلغة الرصاص، ومعسكرات االعتقال، أو كما هو الحال في تشيكوسلوفاكيا والمجر
بالدبابات والطائرات والصواريخ. لينين "قتل" خصومه بالنقاش، لكنه لم يسفك دمائهم. لكن رغم ذلك ما يزال مونتي جونستون، ببراءة
رضيع حديث الوالدة، يدعي أن كل ذلك كان "خطأ". تم حمل قاتل تروتسكي على متن طائرة تشيكية "إلى جهة مجهولة". إن
البيروقراطية ال تنسى أصدقائها القدامى، حتى بعد المؤتمر العشرين على ما يبدو.
هوامش:
]1 ]فئة من البرجوازيين الروس الذين هاجروا بعد الثورة، تحلقت حول جريدة vekha Smena( غير االتجاه(، اعتبرت أن تبني
السياسة االقتصادية الجديدة سيؤدي تدريجيا إلى تحول النظام السوفييتي إلى دولة برجوازية.
]4 ]الكومينتانغ: الحزب الوطني الشعبي الصيني. حزب بزعامة شيانغ كاي تشيك، تأسس في بكين بتاريخ 14 غشت 1114 .كان
يضم خليطا من البرجوازيين وأمراء الحرب واإلقطاعيين. -المترجم-
74
الفصل الثامن: االشتراكية في بلد واحد
إن عنوان الفصل: "النقاش حول االشتراكية في بلد واحد" يجعل القارئ يعرف مسبقا المقاربة التي سوف يتخذها مونتي جونستون
بخصوص هذه المسألة. انه يفتتحه بتحذير هام:
»إن الخالف التاريخي الكبير بشأن إمكانية بناء االشتراكية في روسيا ما يزال حتى يومنا هذا مضببا من كال الجانبين بفعل عقود
من التشويه والتحريف. وهكذا فمن جهة يصور التروتسكيون ستالين وكأنه، منذ عام 1142 عندما صاغ للمرة األولى نظريته، يضع
االشتراكية في بلد واحد كمقابل النتشار الثورة إلى بلدان أخرى، ومن جهة أخرى ما يزال المؤرخون السوفياتيون يصورون معارضة
تروتسكي لنظرية ستالين كمعارضة للتصنيع االشتراكي في االتحاد السوفياتي وكدفاع عن تصدير الثورة بقوة السالح. إن كال الموقفين
خاطئين«. )Cogito ،الصفحة 12)
بعد أن تخلص مونتي جونستون بسهولة بالغة من رجلي القش االثنين، صار في إمكانه أن يركن إلى موقفه المريح المعهود "في
المنتصف بين طرفين". )من المفترض أن مثل هذه "الموضوعية" المريحة هي جوهر المنهج الماركسي!(. ويو اصل مونتي جونستون
اآلن محاضرته:
»كانت حجة ستالين تقول إن انتشار الثورة إلى الغرب هو بدون شك شيء جيدا جدا، لكن وبسبب تأخر ذلك لم يعد لروسيا من
بديل سوى أن تحدد لنفسها هدف بناء االشتراكية مع االعتقاد بأن لديها كل ما هو ضروري الستكمال ذلك«. )المرجع نفسه(
وبعد أن اقتطف عددا من االستشهادات المناسبة من كالم ستالين، خلص جونستون منتصرا إلى القول:
»إن مسار الثورات في العالم، والتي تشهد اليوم تزايد قوة المعسكر االشتراكي الذي يتحدى المعسكر اإلمبريالي القديم، قد أكد إلى
حد كبير المنظور العام لستالين«. )المرجع نفسه(
كيف توصل ستالين إلى صياغة "منظوره العام" الذي أكده التاريخ بشكل باهر؟ في فبراير 1142 ،وفي كتابه "أسس اللينينية"،
لخص ستالين وجهة نظر لينين حول بناء االشتراكية بهذه الكلمات:
ًر كامالً. إن
»إن إسقاط سلطة البرجوازية واقامة سلطة البروليتاريا في بالد واحدة ال يعني بعد ضمان انتصار االشت اركية انتصا ا
مهمة االشتراكية الرئيسية – تنظيم اإلنتاج االشتراكي – ما تزال قضية مستقبل. فهل يمكن حل هذه القضية، هل يمكن الوصول إلى
انتصار االشت اركية انتصا ار كال هذا مستحيل. فإلسقاط ً نهائياً في بالد واحدة بدون جهود مشتركة يبذلها بروليتاريو عدة بلدان متقدمة؟
وهذا ما يؤكده لنا تاريخ ثورتنا؛ أما النتصار االشت اركية انتصا ار لتنظيم اإلنتاج االشتراكي، ً نهائياً البرجوازية تكفي جهود بلد واحد – ،
فإن جهود بلد واحد، والسيما في بلد فالحين كروسيا، ال تكفي. لذلك ال بد من تضافر جهود بروليتاريا عدة بلدان متقدمة«.
»هذه، على العموم هي السمات المميزة للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية«.
إلى حدود النصف األول من سنة 1142 لم يكن هناك أي خالف حول أن تلك هي "السمات المميزة للنظرية اللينينية عن الثورة
البروليتارية". لقد أكدها لينين مرارا وتكرارا في مئات الخطب والمقاالت والوثائق منذ عام 1194 .وقد سبق لنا أن اقتطفنا ما يكفي
من االستشهادات على ذلك؛ ويمكن أن نقتطف منها بقدر ما نشاء. لكن قبيل نهاية عام 1142 ،تمت مراجعة كتاب ستالين، ووضع
مكانها الموقف المعاكس تماما. وبحلول شهر نوفمبر من عام 1141 ،صار في إمكان ستالين أن يؤكد دون أدنى خجل ما يلي:
»لقد كانت نقطة انطالق الحزب دائما هي فكرة أنه يمكن تحقيق انتصار االشتراكية في هذا البلد، وأنه يمكن إنجاز هذه المهمة
بقوى بلد واحد.«
75
إن مونتي جونستون الغارق في اإلعجاب "بمنظور ستالين العام" الذي أكده التاريخ "على العموم"، لم يعد يرى في موقف تروتسكي
المعارض لـ "نظرية" االشتراكية في بلد واحد سوى العناد و"التقليل من قيمة القوى الداخلية لالشتراكية الروسية". ويشرح مونتي جونستو ن
أن هذا الشعار التروتسكي "الدغمائي":
»ينبع من نظريته عن "الثورة الدائمة" التي ناقشناها أعاله ]![. لقد كان في واقع األمر في جوهره تعبيرا عن عدم ثقته في قدرة
االتحاد السوفياتي حتى على البقاء على قيد الحياة كدولة عمالية إذا لم تنتشر الثورة إلى البلدان األكثر تقدما.« )Cogito ،الصفحة
)41
كتب تروتسكي في عام 1191 أنه »بدون الدعم المباشر من طرف البروليتاريا األوروبية، ال يمكن للطبقة العاملة الروسية تحويل
سيادتها المؤقتة إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة. ال يمكن أن يكون هناك أي شك بهذا الخصوص... فإذا تركت لالعتماد على مواردها
الخاصة ستتعرض الطبقة العاملة في روسيا حتما للسحق من طرف الثورة المضادة بمجرد ما سيدير الفالحون ظهرهم لها.«
هل ينبع هذا التوقع من نظرية الثورة الدائمة وحدها؟ لينين، الذي لم يكن يتبنى في ذلك الوقت، كما أوضحنا سابقا، نفس موقف
تروتسكي، كتب في عام 1194:
»إن البروليتاريا تكافح بالفعل للحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في سبيل الثورة االشتراكية. سيكون هذا النضال ميؤوسا منه
تقريبا للبروليتاريا الروسية وحدها، وهزيمتها ستكون حتمية... فإذا لم تأت البروليتاريا االشتراكية األوروبية لمساعدة البروليتاريا
الروسية... فإن البرجوازية الليبرالية واألغنياء )باإلضافة إلى جزء من الفالحين المتوسطين( سينظمون آنذاك ثورة مضادة. البروليتاريا
الروسية إلى جانب البروليتاريا األوروبية سينظمون الثورة. وفي ظل هذه الظروف يمكن للبروليتاريا الروسية أن تحقق النصر الثاني.
عندها لن تكون القضية خاسرة. والفوز الثاني سيكون هو الثورة االشتراكية في أوروبا. وسيبين لنا العمال األوروبيون "كيف نقوم
بذلك".«
إن موقف لينين الذي لم يكن "نابعا من نظرية الثورة الدائمة" واضح تماما. لكن دعونا نقتطف من مكان آخر مقطعا يمكنه أن يلقي
مزيدا من الضوء على هذه المسألة. في مؤتمر عقد في ماي 1194 ،تمت المصادقة على الموقف التالي:
»فقط في حالة واحدة يمكن لالشتراكية الديمقراطية أن توجه جهدها في اتجاه االستيالء على السلطة واالحتفاظ بها ألطول فترة
ممكنة – أي في حالة ثورة تمتد إلى الدول المتقدمة في أوروبا الغربية، حيث بلغت شروط تحقيق االشتراكية بالفعل درجة معينة من
النضج. وفي هذه الحالة يمكن أن يتم توسيع الحدود التاريخية الضيقة للثور ة الروسية إلى حد كبير، وستنشأ إمكانية التقدم على طريق
التحول االشتراكي«.
المؤتمر المشار إليه كان مؤتمر المناشفة الروس، أي التيار الذي وقف أبعد من الجميع عن نظرية الثورة الدائمة!
وبالتالي يمكن للقارئ أن يرى أن كل االتجاهات الماركسية الروسية، وبغض النظر عن االختالفات حول المسائل األخرى، قد
اتفقت على شيء واحد هو: عدم إمكان القيام بالتحويل االشتراكي في روسيا دون ثورة اشتراكية في الغرب. وقد كان لينين أكثر
إصرارا على هذه المسألة من تروتسكي. ففي حين توقع تروتسكي في عام 1194 احتمال قيام دكتاتورية البروليتاريا في رو سيا قبل
اندالع الثورة العمالية في الغرب، فإن لينين أسس تصوره بأن الثورة االشتراكية في روسيا ستأتيفي أعقاب الثورة في أوروبا الغربية.
يريد مونتي جونستون أن يحصل على كل شي. ففي البداية خصص نصف مؤلفه "إلثبات" معارضة لينين العنيدة لنظرية الثورة
الدائمة، ثم خصص النصف اآلخر "إلثبات" أن الموقف الذي تبنته كل التيارات الماركسية الروسية "ينبع من نظرية الثورة الدائمة"!
في الواقع، إن موقف تروتسكي والبالشفة والمناشفة بخصوص استحالة بناء االشتراكية في روسيا وحدها )لم يكن أحد يجرؤ حتى
على طرح إمكانية ذلك حتى 1142 )لم يكن نابعا من نظرية الثورة الدائمة وحدها، بل من األفكار األساسية للماركسية نفسها.
76
نجلز أن العامل األكثر أساسية للتطور ال أرسمالي هو التركيز المت ازيد لوسائل اإلنتاج، التي تتمرد على
لقد أوضح كل من ماركس وا
الحدود الضيقة للرأسمالية؛ فمن ناحية هناك الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج، ومن ناحية أخرى تحولت الحدود القومية من واقع
تقدمي، من خالل تشجيع النمو االقتصادي، إلى قيود رجعية على قوى اإلنتاج. إن هذه السيرورة التي سبق أن تم شرحها نظريا في
البيان الشيوعي، قد أصبحت اليوم العامل المهيمن في العصر الحديث. ومن جهة أخرى لقد وحدت الرأسمالية العالم بأكمله في بنية
واحدة مترابطة ومتفاعلة. إن إفالس "الرأسمالية القومية" يتضح من خالل مثال أن شركة أمريكية واحدة، جنرال موتورز، لديها تحت
تصرفها رأسمال يتجاوز الموازنة العامة لبلجيكا، وحيث اضطرت الطبقات الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى االتحاد معا في سوق
مشتركة، في محاولة يائسة من أجل البقاء. وهكذا فإنه حتى البورجوازية تحاول، لكن بدون جدوى، التغلب على قيود السوق الوطنية.
ينبغي أن تكون تجربة حربين عالميتين كارثيتين قد أفهمتا حتى أكثر العقول غباء حقيقة الصراع بين وجود الدول القومية المفلسة
تاريخيا وبين تطور القوى اإلنتاجية في العالم، مما يتطلب أقصى حدود االستفادة من موارد جميع البلدان وبالشكل األكثر حرية. إن
تطور الشركات الدولية العمالقة، التي تنتشر على كل القارات، تضع العمال من مختلف البلدان في مواجهة عدو مشترك. ويتضح
اآلن، أكثر من أي وقت مضى، أن النزعة األممية للبيان الشيوعي هي السبيل الوحيد أمام البشرية للمضي قدما وهي البرنامج الو حيد
لحركة اشتراكية حقيقية. ال تقوم األممية االشتراكية على أساس مشروع طوباوي أو عاطفي، بل على أساس تطور اإلنتاج الرأسمالي
على النطاق العالمي.
يحاول مونتي جونستون تصوير نضال المعارضة اليسارية ضد التصور الستاليني بخصوص "االشتراكية في بلد واحد" كنقاش
أكاديمي مجرد، ال أهمية عملية له. ولتعزيز حجته استنجد جونستون بدويتشر الذي يقول: »كان "النقاش" حول "االشتراكية في بلد
واحد" يشبه نزاعا بين شخصين "حول ما إذا كان من الممكن وضع سقف لمبنى يتفق كالهما على ضرورة الشروع في تشييده، ومتفقان
بالفعل على شكله والمواد التي سيتم استخدامها في بناءه.«
سيكون من الصعب إيجاد توصيف أكثر سطحية لذلك الصراع من هذا، حتى بين كومة التفاهات النظرية وأنصاف الحقائق التي
يوفرها دويتشر بغزارة. لم تكن مطلقا الخالفات بين المعارضة اليسارية وبين البيروقراطية الستالينية حول ضرورة تطوير اقتصاد
االتحاد السوفييتي على أساس اشتراكي. في الواقع، كلما كانت تطرح هذه المسألة، فإن المعارضة هي من كانت تناضل من أجل
برنامج التخطيط والتصنيع، وكان دعاة "االشتراكية في بلد واحد" هم الذين يرفضونه، حتى عام 1141 ،مفضلين االعتماد على دعم
الكوالك و"النيبمان". كانت المعارضة هي التي دعمت بحزم المنظورات األممية للبلشفية، ووقفت بحزم أيضا لصالح بناء االشتراكية
في روسيا. ولم يكن هذا من قبيل الصدفة.
لم تكن الصراعات التي اندلعت في روسيا آنذاك مجر د "نقاشات" أكاديمية، بل كانت متعلقة بالقضايا الحيوية التي تهم حياة وسعادة
الطبقة العاملة الروسية، ومستقبل الثورة الروسية واألممية. لقد سبق لنا أن أوضحنا السيرورة التي كانت تشهدها روسيا في ذلك
الوقت. لقد أوضحنا أن فكرة بناء "االشتراكية في روسيا وحدها" كانت تعبر عن مزاج الردة الرجعية والكلبية السائدة بين صفوف تلك
الشرائح االجتماعية التي تحسنت أوضاعها بفضل الثورة، والتي صارت اآلن تريد وضع حد للسيرورة التي أطلقتها ثورة أكتوبر،
واستعادة "التوازن". إن نضال المعارضة اليسارية ضد هذه "النظرية" كان جزءا من نضال التيار البلشفي اللينيني من أجل مقاومة ردة
البرجوازية الصغرى والبيروقراطية ضد ثورة أكتوبر.
وجدت البيروقراطية الستالينية جذورها في التخلف االقتصادي والثقافي الذي ورثته الثورة عن القيصرية. وقد تغذت على كل هزيمة
تعرضت لها البروليتاريا العالمية، التي انتصارها وحده هو من كان في إمكانه أن يوفر للدولة السوفيتية الموارد الضرورية للتغلب
نجاز التحويل الكامل للمجتمع على أسس اشت اركية. لقد استندت البيروق ارطية على أكثر العناصر
على مشاكل التخلف المزمنة وا
تخلفا ومعاداة لالشتراكية في روسيا )الفالحون األغنياء والمستفيدون من النيب( لتوجيه الضربات ضد البروليتاريا وطليعتها: المعارضة
77
اليسارية. ومن ناحية أخرى، فإنها وبسبب افتقارها إلى أي إيمان في قدرات الطبقة العاملة في الغرب على إنجاز ثورة، صارت بمثابة
كابح لتطور أحزاب األممية الشيوعية الشابة وغير الناضجة.
إن روح التفاؤل الثوري التي كانت كتابات لينين وتروتسكي مشبعة بها انعكاس إليمانهما بقدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع.
لقد كان إنشاء األممية الثالثة )الشيوعية(، بعد االستيالء على السلطة في روسيا، أسمى تعبير عن المفهوم البلشفي للثورة، باعتبارها
ليست ظاهرة وطنية، صالحة داخل حدود اإلمبراطورية القيصرية السابقة وحدها، بل بوصفها حدثا أمميا. منذ البدايات األولى نظر
لينين والبالشفة لثورة أكتوبر باعتبارهاشرارة الثورة العالمية. وبدون هذا المنظور، فإن الثورة االشتراكية في روسيا كانت ستعتبر
مغامرة، كما كان المناشفة يتهمونها. في نوفمبر من عام 1111 ،رد لينين على هؤالء النقاد على النحو التالي:
»لقد أثبتت وقائع التاريخ لهؤالء القوميين الروس، الذين ال يهمهم أي شيء ما عدا المصالح المباشرة لبلدهم الذي يفهمونه بالطريقة
القديمة، أن تحول ثورتنا الروسية إلى ثورة اشتراكية، لم يكن مغامرة بل ضرورة بما أنه لم يكن هناك خيار آخر؛ سوف تعمل اإلمبريالية
األنجلوفرنسية واألمريكية حتما على خنق استقالل وحرية روسيا ما لم تتمكن الثورة االشتراكية العالمية، ما لم تتمكن البلشفية العالمية
من االنتصار«.
يعتبر مونتي جونستون أن تروتسكي قد سقط في "المبالغة في تقدير" آفاق الثورة االشتراكية األممية و"استهان" باحتماالت بناء
االشتراكية في روسيا وحدها. إن حكمة الدويتشريين والجونستونيين، التي هي أساسا نفس "واقعية" السياسيين اإلصالحيين، تتمثل في
هذا الزعم: "لقد توقع كل من لينين وتروتسكي اندالع ثورة عالمية، لكن هذا لم يحدث. وقال لينين وترو تسكي إنه بدون ثورة عالمية،
ال يمكن بناء االشتراكية في روسيا، لكن هذا هو ما حدث. وعليه فإن البلشفية هي مجرد يوتوبيا خيالية، أما الستالينية فقد أثبتت
صحتها". هذا هو جوهر "الفلسفة" الدويتشرية، بعد تخليصها من جماليات األسلوب. أما مونتي جونستون فإنه ال يضيف شيئا ألفكار
معلمه، سوى حذف اسم لينين من الموضوع.
لكن حكمة نوادي الثرثرة ال تجيب عن السؤال األساسي: لماذا "لم تكن" هناك أية ثورة في أوروبا؟ أو بعبارة أصح: لماذا لم تؤد
سلسلة الحركات الثورية التي شهدتها أوروبا ما بين سنوات 1111-1143 إلى استيالء الطبقة العاملة على السلطة؟ ال نحصل من
عند مونتي جونستون ودويتشر إال على "الوقائع": لقد فشلت الثورة. ولكن من وجهة نظر الماركسي ال يمكن للمسألة أن تنتهي هناك.
فإذا كنا مهتمين، ليس باستعراض المهارات اللغوية، بل بتغيير المجتمع، فإنه يجب علينا أن نتعلم من دروس التاريخ، وخاصة من
دروس الحركات الثورية العظيمة. كانت هذه دائما طريقة الحركة البلشفية، طريقة لينين وتروتسكي؛ ألن الذي يعجز عن التعلم من
أخطاء الماضي، محكوم عليه بالتأكيد بأن يكررها.
لقد هزمت الحركة الثورية التي اجتاحت أوروبا ما بين 9191-9129 بسبب خيانة القيادات االشتراكية الديمقراطية. نفس
هؤالء الخونة الذين باعوا أنفسهم عام 1112 ،والذين كانوا مسؤولين بشكل مباشر عن ذبح الماليين من العمال بالزي العسكري في
الحرب، يرتعدون اآلن في رعب من احتمال اندالع "حرب أهلية دامية". لقد انخرطت الجماهير في حركة ثورية في بلد تلو اآلخر:
في ألمانيا، النمسا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، لكنها لم تجد سوى الجبن والخيانة من طرف قادتـ"ها". وهكذا ففي ألمانيا عام 1111 ،
حيث وضعت الثورة السلطة بشكل سلمي بين أيدي العمال، قامت القيادة االشتراكية الديمقراطية "بتسليم الزمام طوعا" إلى البرجوازية.
وحده تعفن تلك القيادة هو ما منع العمال األلمان من قطف ثمار انتصارهم، والمجيء لمساعدة الجمهورية السوفياتية المحاصرة.
عندما شرح لينين وتروتسكي أنه بدون الثورة االشتراكية في الغرب، فإن الدولة العمالية الروسية ستتعرض بدون شك للسحق على
يد الثورة المضادة أو عن طريق حرب إمبريالية، فإن هذا لم يكن، على عكس ما يؤكد جونستون، مظهرا من مظاهر "االنهزامية"، بل
دليال على أقصى أشكال الواقعية الثورية. إن الماركسية نفسها فلسفة مادية )وبالتالي واقعية بعمق(، ومشبعة بروح التفاؤل الثوري. ال
عالقة لها مع تلك "الواقعية" الجبانة المتعجرفة التي هي جوهر وروح جميع أنواع التيارات اإلصالحية.
78
لقد كان لينين وتروتسكي دائما صادقين وواقعيين في تقييمهما آلفاق الثورة في روسيا وأمميا. لقد فهما أن الضمانة الحقيقية الوحيدة
لمستقبل الجمهورية السوفيتية تكمن في الثورة االشتراكية في الغرب. إنهما لم يخدعا أبدا الطبقة العاملة بأوهام "التعايش السلمي" بل
شرحا بحزم حقيقة أنه من دون التحول االشتراكي على النطاق العالمي، سيكون من الحتمي حدوث حرب امبريالية عالمية جديدة
ثانية وثالثة وعاشرة.
لقد تأكدت صحة تفاؤل لينين وتروتسكي بخصوص آفاق الثورة االشتراكية األممية بشكل كامل بفعل التحركات العمالية الرائعة بعد
الحرب العالمية األولى. لكنه ال يمكن ال للينين وال لتروتسكي وال ألي شخص آخر أن يضمن نجاح أية حركة ثورية. يعتمد ذلك
على عدد من العوامل: مأزق النظام الرأسمالي، وأزمة الحكومة، وحركة الجماهير العاملة، وسخط الطبقات الوسطى في المجتمع.
لكن أحد أهم العوامل الحاسمة هو وجود قيادة ثورية للطبقة العاملة جديرة بهذا االسم. وقد أدى غياب مثل هذه القيادة في أوروبا
الغربية إلى تكبد الحركة العمالية للهزائم الواحدة تلو األخرى، وهو ما مهد الطريق الحقا النتصار الردة الفاشية واندالع حرب عالمية
جديدة أكثر ترويعا. إن قتل سبعة وعشرين مليون مواطن روسي وتدمير الجزء األكبر من القطاع الصناعي الذي بني بتضحيات
جسيمة بذلها الشعب السوفييتي كان تأكيدا قاسيا للتوقعات الواقعية لكل من لينين وتروتسكي.
ليس من الممكن التفصيل هنا في السياسة الخارجية للستالينية. سيتم تناول هذه المسألة في أعمال مقبلة. ويكفي هنا أن نشير إلى
أن سياسة "االشتراكية في بلد واحد" أدت إلى التحول التدريجي للسياسة الخارجية السوفيتية من تبني إستراتيجية ثورية، تستند إلى
الطبقات العاملة في جميع البلدان، ومن خالل األممية الثالثة محاولة بناء أحزاب شيوعية وقيادات ثورية حقيقية في مختلف البلدان،
إلى سياسية المناورات و"الصفقات" مع الحكومات البرجوازية، والبيروقراطيين النقابيين و"القوى الديمقراطية" في المستعمرات من قبيل
تشيانغ كاي تشيك.
إن السبب والنتيجة ال يقفان عند حدود ثابتة إلى األبد، بل يغيران أماكنهما في كثير من األحيان، فيتحول أحدهما إلى اآلخر. كان
سبب صعود البيروقراطية السوفياتية هو عزلة الثورة في بلد متخلف. كما أن الهزائم الرهيبة التي تعرضت لها الطبقة العاملة في
ألمانيا وبلغاريا في عام 1143 ،وفي بريطانيا في عام 1141 ،وقبل كل شيء في الصين في عام 1141 ،بسبب السياسات الكارثية
لقيادة ستالين- بوخارين، أدت بدورها إلى تعزيز موقف البيروقراطية ودعاة "االشتراكية في بلد واحد"، وحكمت على المعارضة البلشفية
اللينينية بالهزيمة. إن طرد المعارضة اليسارية في عام 1141 مهد الطريق لحدوث انعطاف جديد وأكثر رجعية في روسيا خالل
مرحلة تدعيم الستالينية. لم يكن مصير الثورة في روسيا ومصير الثورة أمميا "مرحلتان" منفصلتان ميكانيكيا، حيث الثورة العالمية
هدف مأمول، لكنه ليس إضافة ضرورية )سقف المنزل، وخرافة شجرة عيد الميالد(، بل كانا مرتبطين ارتباطا ال ينفصم معا ويشترط
أحدهما األخر.
تروتسكي و الخطط الخماسية
مونتي جونستون، وبحركة بهلوانية عجيبة، لفق لتروتسكي موقفا "انهزاميا" فيما يتعلق بالتخطيط االشتراكي في االتحاد السوفياتي.
أين تتجلى "انهزامية" تروتسكي المزعومة؟
كما سبق لنا أن رأينا، دافع تروتسكي والمعارضة اليسارية لفترة كاملة )1143-1141 )عن فكرة تطوير الصناعة من خالل وكالة
الخطط الخماسية، بالرغم من المعارضة والسخرية من قبل الستالينيين. وبعد طرد المعارضة اليسارية )1141 ،)شنت كتلة ستالين
الهجوم ضد "االنحراف اليميني" لبوخارين، ومن أجل توجيه ضربة ضد هذه المجموعة، تبنت بشكل كاريكاتوري، جوانب معينة من
برنامج المعارضة اليسارية.
وبينما تجاهل الستالينيون المقاطع التي تشير إلى الحاجة إلى الديمقراطية العمالية ]في برنامج المعارضة اليسارية[، تبنوا فكرة
التصنيع والخطط الخماسية. خطر عودة الرأسمالية، الذي سبق للمعارضة اليسارية أن حذرت منه، والذي نفاه الستالينيون مرارا في
الفترة السابقة، صار اآلن يستخدم من طرف تكتل ستالين كعصا لضرب حلفائهم السابقين البوخارينيين.
79
في نقاشه لمناورة الستالينيين هذه كتب مونتي جونستون ما يلي:
»من بين األساطير التروتسكية المبتذلة قولهم بأن تنفيذ ستالين بعد 1141 لمخططات أبعد مدى ]؟[ مما كانت تطرحه المعارضة
يثبت في حد ذاته أن هذه األخيرة كانت على حق. وكما كتب موريس دوب: "ال يعني أن ما قد كان ممكن التنفيذ في 1141-
1141 كان ممكنا بالضرورة في وقت مبكر حينما كانت الصناعة والزراعة أضعف". ومع ذلك، سأتقبل الحجة القائلة بأنه لو أن
الحزب استجاب في وقت سابق لتحذيرات المعارضة ضد النمو الخطير في قوة الكوالك في الريف، فإن عملية التجميع التي حدثت
في 1141-1139 كان يمكنها أن تكون أقل عنفا ]![ على الرغم من أن سياسات التروتسكيين االقتصادية تدافع عن استغالل الريف
من قبل المدينة ]![ من خالل نظام فروق األسعار الذي من شأنه الحفاظ على ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية على حساب أسعار
المنتجات الزراعية )انظر على سبيل المثال كتاب االقتصاديات الجديدة لبريوبراجنسكي كبير االقتصاديين في صفوف المعارضة(
والتي استبقت بكثير من الناحية النظرية الموقف من الفالحين الذي طبقه ستالين عمليا ابتداء من 1141( »]![ Cogito ،الصفحة
44 - الحاشية(
سنتحدث الحقا عن "مخططات ستالين األبعد مدى". لكن قبل ذلك دعونا نتطرق إلى "األستاذ األحمر"، موريس دوب. هل من
الصحيح القول بأنه كان من األسهل البدء في سياسة التصنيع والخطط الخماسية في 1141-1141 من تطبيقه في الفترة السابقة؟
يجيب مونتي جونستون بنفسه على هذا الهراء عندما يشير إلى تحذيرات المعارضة من خطر الكوالك.
ضد سياسة ستالين- بوخارين القائمة على تقديم االمتيازات للكوالك والمضاربين )"Nepmen )"على حساب الفالحين الفقراء
والعمال الصناعيين، طالبت المعارضة بفرض الضرائب على الفالحين األغنياء، من أجل توفير األموال الالزمة الستثمارها في
التصنيع؛ فعلى قاعدة التصنيع وحدها، يصير من الممكن إعطاء القرى وسائل التغلب على تخلف الزراعة الروسية. فقط على
أساس مكننة الزراعة حيث يمكن تطبيق سياسة التجميع بإعطاء القدوة. إن تصوير سياسة ضرب الكوالك هذه وكأنها "استغالل
الريف من طرف المدينة" هو مجرد تكرار الفتراءات الستالينيين على المعارضة اليسارية، قبل أن يبدؤوا في تطبيق سياستهم المجنونة
المبنية على التجميع بالقوة!
عندما، اضطر الستالينيون، بعد طرد المعارضة اليسارية، إلى مهاجمة "اليمين" - الذي كمن وراءه خطر ردة الكوالك الرجعية -
كان الوضع في الريف بائسا بالفعل، في حين أن الصناعات الثقيلة، األساس الضروري لبناء االشتراكية، بقيت راكدة لفترة كاملة. إن
القول بأن معارضة الستالينيين للتصنيع خالل الفترة 1143-1141 قد أملته نواياهم في بناء الصناعة والزراعة ليس سوى كذبة. بل
على العكس: لقد كان موقفهم هو تشجيع تلك العناصر داخل االقتصاد السوفيتي التي كانت لتشكل حجر عثرة رهيبة أمام تطوير
اإلنتاج في فترة الخطة الخماسية األولى.
اعترف مونتي جونستون بشهامته المعروفة بأنه لو كان الحزب قد استمع لتحذيرات المعارضة بشأن خطر الكوالك لكانت "عملية
التجميع في 1141-1139 لتكون أقل عنفا". لكن إلى أي درجة بلغ عنف "عملية التجميع" هذه أيها الرفيق جونستون؟ في عام
1139 ،بلغ إجمالي محصول الحبوب 134 مليون قنطار. لكن خالل العامين الالحقين انخفض إلى 499 مليون؛ هذا في الوقت
الذي كان فيه مستوى إنتاج الحبوب بالكاد يكفي إلطعام السكان. والنتيجة كانت انتشار المجاعة في صفوف الماليين من العمال
والفالحين. وانخفض إنتاج السكر في نفس الفترة من 191 ماليين بود إلى 21 مليون بود.]*[
وكانت الخسارة األكثر فظاعة هي تلك التي لحقت بالماشية. أثارت وتيرة التجميع المجنونة واألساليب الوحشية المستخدمة، مقاومة
عنيدة من طرف الفالحين، مما أغرق البلد في أتون حرب أهلية جديدة ودموية. ذبح الفالحون الغاضبون خيولهم وماشيتهم على سبيل
االحتجاج. انخفض عدد الخيول من 1,32 مليون رأس في 1141 إلى 1,14 مليون رأس عام 1132 ،أي بخسارة قدرها 44 .٪
انخفض عدد األبقار من 1,39 مليون رأس إلى 4,11 مليون أي خسارة 29 .٪وتراجع عدد الخنازير بـ 44 ٪واألغنام بـ 11 .٪إن
الزراعة السوفياتية لم تتعاف حتى يومنا هذا من الضربة القاسية التي تسببت فيها عملية التجميع القسري. لكن اإلحصائية األكثر
81
بشاعة من ذلك كله هي ماليين الفالحين الذين قضوا نحبهم في هذه الفترة – بسبب الجوع والبرد والمرض، في الصراع مع الجيش
األحمر أو في مخيمات األشغال الشاقة؛ لم ينكر ستالين تصفية عشرة ماليين شخص؛ وأربعة ماليين هو أدنى تقدير. هذا هو
القليل من "العنف" الذي يشير إليه مونتي جونستون باستحياء في الهامش.
لقد ذهبت خطة ستالين للتجميع بالتأكيد "أبعد بكثير" من المقترحات التي وضعتها المعارضة! لقد ندد بها تروتسكي باعتبارها
مغامرة، بالنظر إلى التخلف المادي للزراعة الروسية. تسببت "مخططات ستالين األبعد مدى" في كارثة للزراعة الروسية. لكن ماذا
عن الصناعة؟ ألم يؤد نجاح مخططات ستالين التي ذهبت "أبعد بكثير" مما كانت تطالب به المعارضة اليسارية، إلى إعطاء الدليل
على درجة "تشاؤم" تروتسكي؟
عندما تقدم تروتسكي بشكل طوعي أمام لجنة ديوي، بعد محاكمات موسكو السيئة الذكر، والتي طرحت عليه االتهامات الموجهة
ضده وضد المعارضة، أجاب، من بين أمور أخرى، على عدد من األسئلة المتعلقة بالخالفات مع الستالينيين حول مسألة التصنيع
في 1143-1141 .نقتبس حرفيا من نص شهادته:
»غولدمان: السيد تروتسكي، ماذا كان موقفك من سياسة التصنيع في االتحاد السوفياتي قبل طردك من االتحاد السوفياتي؟
»تروتسكي: لقد ناضلت خالل الفترة ما بين عام 1144 حتى عام 1141 من أجل ضرورة التصنيع المتسارع. كتبت في بداية عام
1144 كتابا حاولت فيه أن أثبت أنه من خالل تخطيط وتوجيه الصناعة كان من الممكن تحقيق معامل سنوي من التصنيع يصل
إلى عشرين في المائة. لقد تعرضت للتنديد في ذلك الوقت بكوني رجال متعصبا، وذو نزعة صناعية متطرفة )-super
industrialiser .)وكان االسم الرسمي للتروتسكيين في ذلك الوقت هو: "ذوو النزعة الصناعية المتطرفة.
»غولدمان: ماذا كان اسم الكتاب الذي كتبته؟
»تروتسكي: هل تسير روسيا نحو الرأسمالية أم نحو االشتراكية؟
»غولدمان: أنا واثق من أنه نشر باللغة اإلنجليزية تحت عنوان: هل تسير روسيا نحو الرأسمالية أم نحو االشتراكية؟
»تروتسكي: لقد أظهرت مسيرة األحداث أنني كنت حذرا جدا في تقديري إلمكانيات االقتصاد المخطط – لم أكن جريئا بما يكفي.
كان ذلك نضالي بين عامي 1144 و1144 ،وأيضا النضال من أجل الخطة الخماسية. بدأ سنة 1143 ،عندما بدأت المعارضة
اليسارية في النضال من أجل ضرورة تطبيق الخطة الخماسية.
»غولدمان: أطلق عليك ستالين في ذلك الوقت اسم "ذو نزعة صناعية متطرفة"؟
»تروتسكي: بلى.
»غولدمان: كان يعارض التصنيع السريع في البالد.
»تروتسكي: اسمحوا لي أن أقول إنه في عام 1141 ،عندما كنت رئيسا للجنة في دنييبروستروي )Dnieprostroy )لمحطة
كهرومائية، محطة لتوليد الكهرباء، أكدت في دورة للجنة المركزية على ضرورة بناء هذه المحطة، وقد أجاب ستالين: "إن بناء محطة
دنييبروستروي بالنسبة لنا يشبه قيام فالح بشراء جهاز الحاكي بدال من شراء بقرة«. )قضية ليون تروتسكي، الصفحة 424)
كان هذا هو مدى "اتساع منظور" ستالين في عام 1141 !في ذلك الوقت، كان االتهام الموجه إلى المعارضة من قبل الستالينيين
ليس كونها "متشائمة" بل كونها "ذات نزعة صناعية متطرفة"! ماذا عن التأكيد بأن الخطط التي نفذها ستالين في وقت الحق ذهبت
"أبعد بكثير" من تلك التي طالب بها تروتسكي؟
كانت سنوات 1144-1141 مطبوعة بنضال المعارضة ضد السياسة االقتصادية الجبانة لقيادة ستالين- بوخارين. في عام 1141
اقترح الستالينيون "خطة" ستبدأ بمعامل من تسعة في المائة للسنة األولى، وثمانية للسنة الثانية، لتنخفض تدريجيا إلى أربعة في
81
المائة، أي انخفاض معدل النمو! تروتسكي، الذي أطلقت عليه الزمرة الحاكمة اسم "ذو النزعة الصناعية المتطرفة"، وصف التوقع
بكونه "تخريب الصناعة" )ليس بالمعنى الحرفي بطبيعة الحال(. في وقت الحق، تم تنقيح الخطة إلعطاء معامل من تسعة في المائة
لجميع السنوات الخمس. بينما ناضل تروتسكي من أجل معامل 11-49 .وأشار إلى أن معدل النمو، حتى في ظل الرأسمالية، كان
ستة في المائة! لم تول الطغمة الحاكمة أي اهتمام للمعارضة ومضت قدما في خططها الجبانة. وبدال من معامل التسعة في المائة
البائس المتوقع من قبل "المنظور البعيد المدى" عند ستالين - بوخارين، فإن نتائج السنة األولى من الخطة الخماسية أثبتت بالكامل
وجهة نظر المعارضة وكشفت عدم كفاية التقديرات المقدمة من طرف ستالين ومعاونيه. ونتيجة لذلك سقطوا في العام التالي في
مغامرة "الخطة الخماسية في أربع سنوات" الكارثية. عبثا حاول تروتسكي التحذير من هذه الفكرة المجنونة، والتي ضربت توازن كل
شيء. وبواسطة أوكاز )ukaze[ )مرسوم[ بيرو قراطي حددت القيادة اآلن معامال من 39 إلى 34 !٪إن تحطيم الصناعة في هذه
الفترة، والذي ألقي اللوم بسببه على المتهمين "بالتخريب" التعساء، كان في الواقع نتيجة لمغامرة الستالينيين، الذين سعوا وراء وهم
"االشتراكية في بلد واحد" و"الخطة الخماسية في غضون أربع سنوات" لى مصاعب ال حصر لها
مما أدى إلى عرقلة االقتصاد وا
بالنسبة للطبقة العاملة السوفياتية.
من أجل اإلجابة على كل محاوالت التشويه وأنصاف الحقائق التي أدلى بها مونتي جونستون بشأن موقف تروتسكي من الخطط
الخماسية، دعونا نرى ما قاله تروتسكي نفسه للجنة ديوي:
»تروتسكي: يمكن وصف موقفي تجاه التنمية االقتصادية في االتحاد السوفيتي على النحو التالي: أنا أدافع عن االقتصاد السوفياتي
ضد النقاد الرأسماليين والنقاد اإلصالحيين االشتراكيين الديمقراطيين، وأنتقد األساليب البيروقراطية التي تنهجها القيادة. وكانت
االستشهادات بسيطة جدا. إنها تستند إلى الصحافة السوفياتية نفسها. نحن متخلصون إلى حد ما من التنويم المغناطيسي الذي
تمارسه البيروقراطية. وكان من الممكن تماما مشاهدة كافة األخطار باالعتماد على الصحافة السوفياتية نفسها.
»غولدمان: هل لك أن تعطينا فكرة، بشكل عام، عن النجاحات التي حققها التصنيع في االتحاد السوفيتي؟
»تروتسكي: إن النجاحات مهمة جدا، وقد أكدتها دائما. إنها بفضل إلغاء الملكية الخاصة واإلمكانيات الكامنة في االقتصاد
المخطط. لكنها - ال أستطيع أن أقول بالضبط – أقل بمرتين أو ثالث مرات مما كان يمكن لها أن تكون عليه في ظل نظام
الديمقراطية السوفياتية.
»غولدمان: إذن فالنجاحات تحققت على الرغم من السيطرة البيروقراطية وأساليبها؟
»تروتسكي: لقد تحققت بفضل اإلمكانات الكامنة في تشريك )socialisation )القوى المنتجة.« )قضية ليون تروتسكي، الصفحة
)421
وفي سعيه إليراد أدلة إضافية عن "تشاؤم" تروتسكي، نقل جونستون مقتطفات من كتاب "األممية الثالثة بعد لينين":
»بقدر ما أن إنتاجية العمل وانتاجية نظام اجتماعي ككل يتم قياسها في السوق من خالل آلية األسعار، فإن أكبر خطر على
االقتصاد السوفياتي ربما ليس التدخل العسكري بقدر ما هو تدخل السلع الرأسمالية األرخص«.
تم كتابة هذه السطور في عام 1141 ،في وقت كانت فيه قوى السوق الرأسمالية تعيد تأكيد نفسها في االقتصاد السوفياتي في ظل
السياسة االقتصادية الجديدة. عندما كان الكوالك )الفالحون األغنياء( يتبعون نصيحة بوخارين: "إغتنوا!" وعندما كان خطر عودة
فعلية للرأسمالية، الذي حذرت المعارضة اليسارية منه، أمرا واقعيا جدا. وتعليقا منه على كالم تروتسكي دون أن يوضح سياقه كتب
جونستون ما يلي:
82
»كان احتكار الدولة للتجارة الخارجية، والذي أكد عليه ستالين وغالبية الحزب بشكل صحيح، هو وسيلة االتحاد السوفياتي ليحمي
نفسه من مثل ذلك التخريب االقتصادي، قد أصبح بالنسبة لتروتسكي" دليال على شدة ارتهاننا وطبيعته الخطيرة"« )Cogito ،الصفحة
)411
ذاكرة مونتي جونستون قصيرة. ألن نفس "ستالين وأغلبية حزب" )أي بوخارين( هم من دافعوا قبل خمس سنوات على إلغاء احتكار
الدولة للتجارة الخارجية، ومرروا فعال قرارا في اللجنة المركزية يوم 14 أكتوبر 1144 يلغي االحتكار. تضم الطبعة الروسية لألعمال
الكاملة للينين سلسلة كاملة من رسائل لينين يناشد فيها تروتسكي لتشكيل كتلة معه للنضال من أجل الحفاظ على احتكار التجارة
الخارجية. وهكذا، في 13 دجنبر 1144 ،كتب لينين إلى تروتسكي قائال:
»وعلى أية حال، إني ألتمس منك أن تأخذ على عاتقك، في الجلسة العامة المقبلة، الدفاع عن وجهة نظرنا المشتركة حول
الضرورة غير المشروطة للحفاظ على احتكار التجارة الخارجية وتعزيزه«. )لينين، األعمال الكاملة، الطبعة الروسية المجلد 42 ،
الصفحة 342)
ما الذي كان تروتسكي يقصده بقوله إن "السلع األجنبية الرخيصة" تشكل خطرا على السلطة السوفيتية؟ في عام 1111 اندلعت
نجلز قد توقعا، بل في اقتصاد متخلف، وشبه إقطاعي وفالحي.
الثورة البروليتارية، لكن ليس في بلد أرسمالي متقدم كما كان ماركس وا
حدث ذلك ليس ألن "جميع الظروف الالزمة لبناء االشتراكية" كانت موجودة في روسيا، بل بسبب العجز المطلق للبرجوازية الروسية
على حل أي من المهام التاريخية المطروحة أمامها، على أساس النظام الرأسمالي. لقد سارت روسيا نحو الثورة البروليتارية ليس
ألنها كانت األكثر تقدما، بل بالضبط ألنها كانت األكثر تخلفا بين القوى األوروبية. وكما قال لينين انكسرت الرأسمالية في أضعف
حلقاتها.
كان انتصار الطبقة العاملة الروسية في ثورة أكتوبر شرطا مسبقا لبدء تحول المجتمع الروسي. لم يكن يمكن تنفيذ المهام التاريخية
للثورة البرجوازية في روسيا إال في ظل دكتاتورية البروليتاريا. وهذا هو المعنى األساسي لنظرية تروتسكي الثورة الدائمة، التي
صاغها عام 1194 .كان تأميم الصناعة والتخطيط واحتكار التجارة الخارجية هي الوسائل التي أخرجت بها الطبقة العاملة الروسية
روسيا من التخلف القروسطوي. إن النجاحات التاريخية للخطط الخماسية في االتحاد السوفياتي هي، في حد ذاتها، مبرر كاف لثورة
أكتوبر. كما كتب تروتسكي في الثورة المغدورة:
»لقد أثبتت االشتراكية حقها في النصر، ليس على صفحات رأس المال، بل في مجال صناعي يضم سدس مساحة األرض؛ ليس
بلغة الديالكتيك، بل بلغة االسمنت والصلب والكهرباء«.
ومع ذلك، فإنه ال يمكن اإلجابة عن السؤال حول المصير التاريخي التحاد الجمهوريات االشتراكية السوفياتية بمجرد جرد نجاح
الخطط الخماسية. وقد سبق للينين أن طرح السؤال الجوهري بعبارة صادمة: "لمن ستكون الغلبة؟". ليس االتحاد السوفيتي جزيرة
معزولة، بل جزء من نظام اقتصادي وسياسي عالمي، حيث ال يمكن عزل مصير أي بلد عن مصير المجموع. كان االتحاد السوفياتي،
وعلى الرغم من نجاحاته الصناعية الهائلة، ما يزال محتاجا إلى قياس قوته بالمقارنة مع قوى البلدان االمبريالية الغربية.
كان النظام الرأسمالي، ورغم أنه كان يظهر بالفعل كل أعراض الشيخوخة على النطاق العالمي، ما يزال يتمتع بمزايا عديدة أكثر
من االتحاد السوفياتي. لقد كان على البالشفة منذ البداية النضال ضد انخفاض مستوى الثقافة بين الجماهير، وعدم وجود قوة عاملة
ماهرة، وبكلمة واحدة ضد: تدني إنتاجية العمل. هذا العامل، وليس حجم اإلنتاج من حيث القيمة المطلقة، هو المقياس الحقيقي
للنجاح االقتصادي والتقدم االجتماعي. في هذا المجال الحاسم، ما يزال االتحاد السوفياتي، بعد 49 عاما من السلطة السوفياتية،
يتخلف بعيدا وراء الواليات المتحدة األمريكية.
83
تشير اإلحصاءات السوفياتية الرسمية إلى أن نصيب الفرد من االنتاج الصناعي هو فقط 49-19 ٪من نظيره في الواليات المتحدة
األمريكية. بالرغم من امتالك روسيا لطبقة عاملة أكبر، وضعف عدد الفنيين والمهندسين، فإن الناتج الصناعي الفعلي عندها يشكل
فقط 14 ٪مما عليه الحال بالنسبة للواليات المتحدة. مؤشرات إنتاج الصناعات الثقيلة هي األكثر مأساوية. لقد ارتفع إنتاج الصلب
في االتحاد السوفياتي من 3,2 مليون طن عام 1141 إلى 191 ماليين طن عام 1111 – أقل فقط بـ 11 مليون طن من أمريكا
)دون حساب 42 مليون طن التي تستوردها الواليات المتحدة األمريكية(. ولكن نصيب الفرد من إنتاج الصلب في الواليات المتحدة
األمريكية أعلى مما عليه الحال في االتحاد السوفياتي، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن التنمية المتناغمة للحياة البشرية والثقافة
ال تنعكس اقتصاديا من خالل حجم انتاج الصلب وحده، ولكن بشكل أكثر دقة من خالل تطوير جودة المواد االستهالكية والبضائع
عالية التقنية الموجهة لجماهير الشعب. في هذا المجال الذي يؤثر على مستوى معيشة العمال، ما زال االتحاد السوفياتي متخلفا عن
البلدان الرأسمالية.
جحافل المضاربين وتجار السوق السوداء في موسكو، الذين يكسبون عيشهم عن طريق استجداء السياح األجانب للحصول على
البضائع والعملة الغربية، والتي يبيعونها بربح كبير للعمال السوفيات هم إشارة واضحة بأن التهديد من "السلع األجنبية الرخيصة" لم
يختف حتى اليوم. ليس لألحكام الصارمة )التي تصل إلى عقوبة اإلعدام( لمكافحة هذه المضاربات أي تأثير في القضاء على آفة
اجتماعية لها جذورها ليس في "قدرة الرأسمالية على البقاء" أو في عناد الطبيعة البشرية، بل في العالقات الموضوعية بين االتحاد
السوفياتي واالقتصاد العالمي. وهو ما ال يمكن ألي "نظريات" بيروقراطية متعجرفة إلغاءه.
كما شرح ماركس في اإليديولوجية األلمانية: »عندما تتعمم الفاقة تعود كل الزبالة القديمة إلى الظهور«. إن النقص دائم، وارتفاع
األسعار وانخفاض جودة السلع االستهالكية )ليس فقط السيارات والسلع التقنية، بل أيضا المالبس والمواد الغذائية( وقائع أساسية في
حياة الطبقة العاملة السوفياتية. هذا ال يعني أن السلع الفاخرة ال وجود لها. فالشريحة المحظوظة من البيروقراطيين ومديري المصانع
وضباط الجيش، وغيرهم، تمتلك بوفرة األشياء التي ال يمكن للعامل السوفياتي حتى أن يحلم بها: البذالت الباهضة الثمن والسيارات
األنيقة والشقق الفاخرة والفيالت في الريف، وما إلى ذلك. وبينما تعيش أسر الطبقة العاملة في موسكو والمدن السوفياتية األخرى في
ظروف اكتظاظ مزمنة، يمتلك العديد من أعضاء الفئة العليا أكثر من منزل ريفي )داشا( باإلضافة إلى شققهم في المدينة. إن نمط
المعيشة الفاخرة للبيروقراطية هو إهانة مستمرة لجماهير الشعب السوفياتي. وهكذا عندما كان العمال والفالحون السوفيات يعانون في
ظل ظروف المشقة المروعة، بعد الحرب العالمية الثانية، تلقى الضيف الماريشال مونتغمري من أيدي "أشقاءه" الضباط السوفيات
هدية كانت عبارة عن معطف ماريشال سوفياتي من الفراء مثقل باألوسمة والماس وغيرها، بتكلفة 4999 جنيه استرليني!
في ظل لينين وتروتسكي،كان قانون "Partmaximum "يعني أنه ال يحق ألي عضو من أعضاء الحزب أن يحصل على أكثر
من أجرة عامل عادي، حتى ولو كانت مهاراته تسمح له بالحصول على أجور أعلى. من بين الشروط الالزمة لتأسيس الدولة العمالية،
كما شرح لينين في كتابه الدولة والثورة، عدم تلقي أي مسؤول ألجر أعلى من أجرة عامل مؤهل. وقد نص مرسوم صدر في و قت
مبكر بعد الثورة على أن التفاوت في األجور بين العمال والمتخصصين ال يزيد على أربعة أضعاف، وهو التفاوت الذي وصفه لينين
بصراحة بأنه "تفاوت رأسمالي"، على أن يخفض بشكل تدريجي. تم تطبيق هذا القانون حتى عام 1131 عندما ألغي رسميا من قبل
ستالين.
"الثورة المغدورة"
كتب جونستون في الصفحات 34 و33 ما يلي:
»إن تصورات تروتسكي الدغمائية حول استحالة بناء االشتراكية في بلد واحد أدت به حتى اآلن إلى االستهانة بعمق جذور النظام
االشتراكي في روسيا وقوته، على الرغم من الدمار الذي أحدثته عمليات التطهير التي قام بها ستالين. لقد زعم ]تروتسكي[ أنه في
84
حالة عدم حدوث ثورة في الغرب، فإنه في حالة نشوب حرب "ستسحق القاعدة االجتماعية لالتحاد السوفيتي، ليس فقط في حالة
الهزيمة، بل أيضا في حالة االنتصار!«
»وبعيدا كل البعد عن الواقع السوفياتي كتب يقول إن "البيروقراطية السوفياتية قد ذهبت بعيدا في مسار التحضير لعودة البرجوازية"،
و"يجب عليها حتما في المستقبل التماس الدعم لنفسها في عالقات الملكية" مما ينطوي على إمكانية "تحولها إلى طبقة مالكة جديدة".«
) Cogito(
هل حقا قال تروتسكي هذا؟ دعونا نستشهد بفقرات كاملة من الثورة المغدورة التي اقتطع منها جونستون هذه االستشهادات الموجزة
"المتوازنة". في الصفحات 441-444 كتب تروتسكي:
»إن البيروقراطية من حيث هي قوة سياسية واعية قد خانت الثورة. لكن الثورة الظافرة ليست لحسن الحظ مجرد برنامج وراية، وليست
مؤسسات سياسية فقط، إنما هي أيضا نظام للعالقات االجتماعية. فال تكفي خيانتها بل يجب كذلك إسقاطها. لقد تعرضت ثورة
أكتوبر للخيانة من طرف الفئة الحاكمة، لكنهم لم يسقطوها بعد. إنها تمتلك طاقات كبرى على المقاومة، وتتفق مع العالقات الجديدة
للملكية ومع القوة الحية للبروليتاريا ومع وعي أفضل عناصرها ومع مأزق الرأسمالية العالمية و حتمية الثورة العالمية«. )خط
التشديد من عندنا(
في كلمات تروتسكي هذه، التي من الواضح أن جونستون "لم يالحظها"، ليس هناك أي أثر لالستهانة بقوة قاعدة المكاسب
االجتماعية األساسية لثورة أكتوبر، أو أية نزعة قدرية حول احتمال انتصار الثورة البرجوازية المضادة. لكن دعونا نواصل القراءة.
سنعمل على اقتباس المقطع التالي من مؤلف تروتسكي )"لم يحسم التاريخ بعد مسألة طابع االتحاد السوفياتي االجتماعي"( بالكامل،
إذ أن ذلك أفضل وسيلة لتوضيح كيف يشتغل عمليا منهج مونتي جونستون "المتوازن" في االقتباس. كتب تروتسكي استمرارا لحديثه
المنقول أعاله:
»لكي نفهم بشكل بشمل أفضل الطابع االجتماعي لالتحاد السوفياتي اليوم، فلنضغ فرضيتين للمستقبل: لنفترض أن البيروقراطية
السوفياتية قد طردها من الحكم حزب ثوري يملك كل صفات البلشفية القديمة، حزب اغتنى، باإلضافة إلى ذلك بالتجربة العالمية لهذه
األي لى مجالس السوفييتات، وباستطاعته أيضا أن يعيد
عادتها إلى النقابات وا
ام األخيرة. سوف يبدأ هذا الحزب بتجديد الديمق ارطية وا
حرية االشتغال إلى األحزاب السوفياتية ويقوم مع الجماهير وبقيادتها بعملية تطهير ال تعرف الرحمة لدوائر الدولة فيلغي الرتب
واألوسمة واالمتياز ات ويضيق من حدة عدم المساواة في أجور العمل إلى الحد الضروري لالقتصاد والدولة ويتيح للشبيبة إمكانية
التفكير الحر والتعلم والنقد والنمو. سيدخل هذا الحزب تعديالت عميقة على توزيع الدخل الوطني طبقا إلرادة الجماهير العمالية
والفالحية، لكنه لن يحتاج لالستعانة بتدابير ثورية فيما يتعلق بعالقات الملكية. كما سيستمر في تطبيق تجربة االقتصاد الموجه ويدفع
بهذه التجربة إلى أقصى ما يمكن. وال بد للبروليتاريا بعد الثورة السياسية وقلب البيروقراطية من تحقيق إصالحات هامة في االقتصاد
ولن يكون عليها أن تقوم بثورة اجتماعية جديدة.
»أما، وفق فرضية ثانية، إذا تمكن حزب برجوازي من قلب الفئة السوفياتية الحاكمة فإنه سيجد كثيرا ممن سيعرضون عليه خدماتهم
من بين البيروقراطيين الحاكمين اليوم والفنيين والمدراء وأمناء الحزب ومن رجال الحكم بشكل عام. وال بد في هذه الحالة من تطهير
مصانع الدولة أيضا. ولكن عملية إعادة البرجوازية ستجد عددا من الناس ممن يتوجب طردهم اقل من العدد الذي يتوجب على حزب
ثوري طرده. وسيكون الهدف الرئيسي للسلطة الجديدة هو إعادة الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج. وعلى السلطة الجديدة أيضا أن
تعطي للكولخوزات الضعيفة إمكانية إعداد مزارعين كبار و تحويل الكولخوزات القوية إلى تعاونيات تنتج على الطريقة البرجوازية أو
إلى شركات مساهمة. أما في الصناعة فان عملية نزع التأميم ستبتدئ بمشاريع الصناعة الخفيفة والصناعات الغذائية. وستقتصر
الخطة في اللحظات األولى على مساومات تتضمن حلوال وسطى بين السلطة ومختلف الهيئات أي بين السلطة وقادة الصناعة
85
السوفياتية والمالكين القدماء المهاجرين والرأسماليين األجانب. و مع أن البيروقراطية السوفياتية قد سارت بعيدا في اتجاه إعادة
البرجوازية فان النظام الجديد سيكون ملزما فيما يتعلق بالملكية ونمط اإلدارة بالقيام بالثورة وليس اإلصالح.
»ثم لنضع فرضية ثالثة فنفترض انه ال الحزب الثوري وال الحزب المعادي للثورة تمكن من االستيالء على السلطة، واستمرت
البيروقراطية على رأس الدولة. حتى في ظل هذه الشروط لن يتوقف تطور العالقات االجتماعية. ال يمكننا أن ننتظر من البيروقراطية
أن تتنازل بشكل ودي وسلمي لصالح المساواة االجتماعية. فهي منذ اآلن قد أعادت الرتب واألوسمة بالرغم من مساوئها. و يتوجب
عليها أن تفتش عن الدعم في عالقات الملكية فيما بعد بصورة ال يمكن تجنبها. وقد يعترض البعض قائال إن الموظف الكبير ال
يهتم بأشكال الملكية التي يسحب منها دخله. إن هذا االعتراض يدل على أننا ال نجهل فقط عدم ثبات حقوق البيروقراطية بل مسألة
انحدارها أيضا. فالتمجيد الجديد لألسرة السوفياتية لم ينزل من السماء الن االمتيازات التي ال يستطيع البيروقراطيون توريثها ألبنائهم
تفقد نصف قيمتها. و الحال أن حق التوريث ال ينفصل عن حق الملكية. فال يكفي أن يكون البيروقراطي مديرا للتروست بل ينبغي
أن يكون مساهما أيضا. إن انتصار البيروقراطية في هذا القطاع الحاسم يجعلها طبقة مالكة جديدة. وعلى العكس فإن انتصار
البروليتاريا على البيروقراطية يدل على بعث الثورة االشتراكية. وهكذا فإن الفرضية الثالثة تعيدنا إلى الفرضيتين األولتين اللتين ابتدأنا
بهما من أجل تحقيق الوضوح و البساطة«. )الثورة المغدورة. الصفحات: 444 -442– الطبعة االنجليزية-(
هذه هي الطريقة التي يطبق بها مونتي جونستون منهجه "الماركسي". إنه يقدم وجهة نظر تروتسكي عبر مجموعة من الحجج التي
أخرجت من سياقها وجمعت بشكل مصطنع معا، بينما هي في المؤلف الذي انتزعت منه تظهر كجزء من فرضية، )واحدة من ثالثة
فرضيات!( ومشروطة بسلسلة كاملة من التحفظات واإليضاحات التي عمل مونتي جونستون ببساطة على عدم إدراجها في أي مكان
من نقاشه "الموضوعي" لحجج تروتسكي. "توقع تروتسكي عودة حتمية للرأسمالية في روسيا". هذا هو جوهر جدال مونتي جونستون
"المتوازن". لكنه ال يمكن ألي شخص قرأ الفقرة التي أوردناها أعاله من الثورة المغدورة أن يصل الستنتاج من هذا القبيل. على العكس
من ذلك، يؤكد تروتسكي مرارا وتكرارا أنه في حين ستواجه الثورة السياسية )ضد البيروقراطية( مهاما سهلة نسبيا، فإن أية محاولة من
طرف البيروقراطية إلعادة إدخال عالقات الملكية الرأسمالية سوف تواجه بمقاومة عنيدة من جانب العمال السوفيات ولن تنجح إال
نتيجة لصراع دموي وحرب أهلية.
بعيدا عن توقع إمكانية وشيكة لعودة الرأسمالية إلى االتحاد السوفيتي، يوضح تروتسكي في كتابه الثورة المغدورة أن البيروقراطية
مضطرة للدفاع عن ملكية القطاع العام التي تستند إليها وتستمد منها كل قوتها وامتيازاتها. وفي مواجهة أولئك الذين يعتبرون
البيروقراطية طبقة حاكمة واالتحاد السوفياتي"رأسمالية الدولة"، أوضح تروتسكي أن:
»البيروقراطية السوفياتية قد صادرت البروليتاريا سياسيا لتدافع بأساليبها الخاصة عن المكاسب االجتماعية للبر وليتاريا. لكن
استيالئها على السلطة في بلد تتملك فيه الدولة أهم وسائل اإلنتاج قد نسج بينها وبين ثروات األمة عالقات جديدة كل الجدة. فوسائل
ذا ما
ذا استقرت هذه العالقات )التي هي عالقات حديثة( وا
اإلنتاج تعود إلى الدولة. والدولة "تعود" بشكل ما إلى البيروق ارطية. وا
أضحت شرعية وطبيعية دون مقاومة أو ضد مقاومة الشغيلة فإنها ستنتهي، على المدى البعيد، بالقضاء نهائيا على مكاسب الثورة
البروليتارية. لكن الحديث عن هذه الفرضية ما يزال سابقا ألوانه. فالبروليتاريا لم تقل بعد كلمتها األخيرة ولم تخلق البيروقراطية
إلى حد اآلن قاعدة اجتماعية لتسلطها بشكل شروط خاصة للتملك. إنها ملزمة بالدفاع عن ملكية الدولة التي هي منبع سلطتها
ومداخيلها، و عبر هذا المظهر من مظاهر نشاطها، ما تزال أداة لديكتاتورية البروليتاريا.« )الثورة المغدورة، الصفحة 421 -خط
التشديد من عندنا(
كيف يمكن لمونتي جونستون أمام كل هذا أن يقول بأن تروتسكي ادعى أن عملية عودة الرأسمالية كانت تحدث في االتحاد
السوفيتي؟ إما أنه لم يكلف نفسه عناء قراء ما أنه لم يفهم ما ق أر. هناك إمكانية أخرى لكن ال حاجة
ة الكتاب الذي يرمي إلى تحليله، وا
86
ألن نلفت انتباه القراء إليها. ويكفي أن نشير إلى أنه إذا أراد أعضاء رابطة الشباب الشيوعي فهم ما كتبه تروتسكي عن روسيا فعليهم
االطالع على أعمال تروتسكي نفسه، وعدم االعتماد على نزاهة "منظريهم".
وأضاف مونتي جونستون »لكن تروتسكي توقع هزيمة االتحاد السوفياتي وانتصار الثورة الرأسمالية المضادة بعد الحرب!« )Cogito ،
صفحة 33)
في الصفحة 441 من الثورة المغدورة، كتب تروتسكي ما يلي:
»هل يمكننا أن نتوقع أن االتحاد السوفياتي سيخرج من الحرب المقبلة دون هزيمة؟ لنجب بصراحة على هذا السؤال الواضح! إذا
بقيت الحرب مجرد حرب عادية فإن هزيمة االتحاد السوفياتي أكيدة، ألن االمبريالية أقوى منه بكثير في مجاالت التقنية واالقتصاد
والفن العسكري. إن االمبريالية إذا لم تشلها الثورة في الغرب سوف تدمر النظام الذي أرسته ثورة أكتوبر«. )التشديد من عندنا(
ثم انتقل تروتسكي إلعطاء تحليل عميق لموازين القوى الدولية، وخلص إلى ما يلي:
»إن خطر الحرب وهزيمة االتحاد السوفياتي هو حقيقة واقعة، لكن الثورة هي أيضا حقيقة واقعة. إذا لم تعمل الثورة على منع اندالع
الحرب، ستساعد الحر ب على اندالع الثورة. إن الوالدة الثانية هي أسهل عادة من األولى. وخالل الحرب الجديدة، لن يكون من
الضروري االنتظار لمدة سنتين ونصف الندالع أول انتفاضة. وعالوة على ذلك فإن الثورة بمجرد ما ستشتعل لن تضطر هذه المرة
ألن تقف في منتصف الطريق. وسيتم تحديد مصير االتحاد السوفيتي على المدى البعيد ليس على خرائط الجنراالت، بل على خريطة
الصراع الطبقي. وحدها البروليتاريا األوروبية، المعارضة الحازمة لبرجوازية بلدانها ولـ "أصدقاء" السالم، من يمكنها أن تحمي االتحاد
السوفيتي من الدمار، أو من دولة "حليفة" في الظهر. وحتى هزيمة عسكرية لالتحاد السوفيتي لن تكون إال حدثا مؤقتا، في حالة
انتصار البروليتاريا في البلدان األخرى. ومن جهة أخرى، ال يمكن ألي نصر عسكري أن يحفظ ميراث ثورة أكتوبر، إذا بقيت
اإلمبريالية قائمة في بقية العالم.« )الثورة المغدورة، الصفحات 431-434)
ما هو الوضع الذي واجهه االتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية؟ عام 1124 ،كانت روسيا قد عانت من خسارة
كارثية لسبعة وعشرين مليون قتيل. توقف إنتاجها من الفوالذ في ثمانية ماليين طن، مقابل 149 مليون طن تنتجها أمريكا و44
مليون طن تنتجها بريطانيا. وعالوة على ذلك بقيت القو ات المسلحة للقوى اإلمبريالية األنجلو- أمريكية سليمة، فالحرب في أوروبا
تحولت إلى صراع ملحمي بين االتحاد السوفييتي وألمانيا النازية. كانت القنبلة النووية في يد اإلمبريالية األمريكية، لكنها لم تكن بعد
في يد روسيا.
جميع حسابات اإلمبريالية األنجلو- أمريكية استندت على نشوء مثل هذه الحالة. كانت سياستهم تقوم على إضعاف كل من
بقاء أيديهم حرة لخنق االتحاد السوفياتي في حالة نجاحه في هزيمة هتلر.
االمبريالية األلمانية واالتحاد السوفيتي على حد سواء، وا
لماذا اجهضت هذه الخطة؟ ما هي القوة التي قيدت أيدي اإلمبريالية البريطانية واألمريكية في عام 1124؟ كان الجيش األحمر، كما
أوضح تروتسكي في الثورة المغدورة، عامال قويا في الدفاع عن مكاسب ثورة أكتوبر؛ لكن في مواجهة مثل هذا االختالل الساحق في
موازين القوى لم تكن حتى بطولة الجيش األحمر لتجدي نفعا.
لقد نجا االتحاد السوفياتي فقط بفضل المزاج الثوري لقوات "الحلفاء" والحركة الثورية التي اندلعت في أوروبا في ذلك الوقت.
بعد هزيمة هتلر كانت أية محاولة لشن هجوم على االتحاد السوفييتي ستثير حركات تمرد في صفوف جيوش كل من اإلمبريالية
البريطانية واألمريكية. كان تروتسكي قد توقع هذا، وبينت األحداث أنه كان محقا جدا.
كانت مأساة الحرب العالمية الثانية، التي دفع عمال االتحاد السوفياتي ثمنا باهظا عنها، نتيجة للسياسات االجرامية التي انتهجها
ستالين والبيروقراطية في فترة ما قبل الحرب. فباإلضافة إلى المناورات التي قام بها ستالين على الصعيد الدولي والتي ضربت الر و ح
سبانيا وأدت إلى انتصار الفاشية في تلك البلدان، أدت محاكمات التطهير إلى التقويض الكامل لقوى
المعنوية للعمال في ألمانيا وا
87
الجيش واالقتصاد السوفياتيين، وضرب قوات الدفاع السوفياتية، مما شجع النازيين على مهاجمة االتحاد السوفياتي، وتسبب في سلسلة
من الهزائم الرهيبة في األيام األولى من الحرب عندما استسلم الماليين من القوات السوفيتية للنازيين دون قتال. لم تكن المسألة مسألة
ضعف عسكري )كانت قوة إطالق النار عند الجيش األحمر متفوقة على قوة الجيش النازي( بل كانت ببساطة بسبب تصفية قيادة
الجيش األحمر بواسطة عمليات التطهير وغطرسة ستالين والبيروقراطية، الذين بينما ينددون بشكل هستيري "بتشاؤم" تروتسكي، تركوا
االتحاد السوفياتي في حالة من عدم االستعداد الكامل للهجوم الفاشي.
نظام البونابارتية البروليتارية
ليس عند مونتي جونستون الكثير ليقوله عن أسباب الستالينية. يعمل هنا وهناك على استعمال عبارة غريبة عن "انتهاكات الشرعية
االشتراكية". لكنه، وعلى الرغم من كل العبارات المنمقة عن "أسلوب التحليل الماركسي في النقد والنقد الذاتي"، ليست هناك ذرة من
التحليل في المؤلف كله. يختار مونتي جونستون ثقوبا في إحدى عبارات تروتسكي، ينزعها خارج السياق ويلصقها بشكل مصطنع
مع مقاطع أخرى من مؤلفات مختلفة. وهكذا، يتمكن من جهة من اتهام تروتسكي بالتعصب "البيروقراطي المتطرف" للتخطيط
المركزي؛ ويتهمه من جهة أخرى بتبني موقف "انهزامي" تجاه التخطيط االشتراكي!
على أي أساس قامت معارضة لينين للبيروقراطية الستالينية؟ لقد خشي لينين من احتمال قيام هذه الفئة بخنق الثورة وتمهيد الطريق
إلعادة الرأسمالية. ذلك لم يحدث، كما يحرص مونتي جونستون على اإلشارة في حديثه عن تروتسكي الذي توقع هو أيضا، في
البداية، إمكانية حدوث ذلك. لكن، وكما أوضح لينين، يعرف التاريخ كل أنواع التحوالت االجتماعية؛ ليس فقط الثورات االجتماعية
والثورات المضادة، بل أيضا الثورات السياسية والثورات السياسية المضادة.
ال يمكن لقارئ مؤلف مونتي جونستون أن يفسر كيف أنه ولفترة تاريخية كاملة عبرت "االشتراكية" عن نفسها من خالل دكتاتورية
رجل واحد! في الواقع، لقد قدم تاريخ الثورات البرجوازية العديد من األمثلة على عمليات مماثلة. عبرت الثورة البرجوازية اإلنجليزية
عن نفسها من خالل دكتاتورية كرومويل. الثورة الفرنسية العظمى مرت بمراحل عديدة، واستسلمت في النهاية للثورة السياسية المضادة
لنابليون. لم تمثل الردة الرجعية في فرنسا عودة النظام اإلقطاعي، بل نظاما بونابارتيا معاديا للثورة، والذي قام رغم ذلك على أساس
عالقات الملكية الجديدة التي وضعتها الثورة.
نجلز ولينين وتروتسكي. إن ما
سيكون من الخطأ، بالطبع، أن نخلط بين هذه الدكتاتورية وبين االشت اركية كما يفهمها ماركس وا
كان موجودا في روسيا ليس نظاما "اشتراكيا"، بل نظام ديكتاتورية البروليتاريا؛ وعالوة على ذلك، فإن الديكتاتورية ظهرت في ظل
ظروف تاريخية خاصة؛ معزولة في بلد متخلف وتحت الضغوط الهائلة لقوى طبقية عدوة. إن تخيل أنه يمكن لدكتاتورية البروليتاريا
أال تخضع، في ظل هذه الظروف، لسلسلة من التحوالت الداخلية، وأنه يجب أن تبقى دائما في حالة من النقاء، يعني تخيل أنه من
الممكن فصل الثورة عن السيرورات التي تجري في المجتمع – وهو ما يناقض تماما الماركسية. ليست البروليتاريا "بقرة مقدسة"
محصنة بشكل ما ضد ضغوط المجتمع الطبقي.
لم يكن عند لينين، خالل محاولته تخليص جهاز الدولة السوفيتي من خطر البيروقراطية، أي وهم حول إمكانية حل المشكلة دون
مساعدة من طرف الثورة االشتراكية األممية. وقد كان محقا تماما في هذا. لم يؤد فشل الثورات في الغرب الرأسمالي إلى حدوث ثورة
مضادة، كما توقع لينين وتروتسكي. لكن تلك السيرور ات االجتماعية التي نتجت عن عزلة الثورة في روسيا أدت إلى تحويل الدولة
العمالية إلى ذلك النظام البونابارتي الشمولي الوحشي في ظل ستالين، والذي استمر، رغم إزالة بعض أبشع البثور منه، في عهد
بريجينيف وكوسيجين. رفعت الدولة نفسها فوق الجماهير، واغتصبت وظائف اإلدار ة من الطبقة العاملة، وسحقت آخر ما تبقى من
آثار الديمقراطية العمالية، وختمت نصرها باإلبادة الجسدية لكامل القيادة "البلشفية القديمة".
إن أكثر ما يثير انتباه المرء عندما يقرأ أعمال لينين هو الغياب التام لهذا النوع من اللغة المتعجرفة المفاخرة التي يستعملها
الستالينيون. لقد كان لينين دائما نزيها وواقعيا وصادقا في ما كتبه عن الدولة السوفياتية. إن الدولة التي كانت عندهم في ذلك الوقت
88
لم تكن "اشتراكية" وال "شيوعية"، بل دولة عمالية، ولينين لم يكن يخاف من أن يضيف "مع تشوهات بيروقراطية". والفرق هو أنه في
ذلك الوقت كانت الدولة السوفياتية تسير في اتجاه االشتراكية. كانت الالمساواة موجودة، لكن كان الجهد الواعي يسير في اتجاه
المساواة، في اتجاه الحد من قوة وامتيازات المسؤولين، وفي اتجاه إشراك العمال في إدارة حياتهم، وتسيير الدولة والصناعة. ماذا عن
اليوم؟ إن الشيء الوحيد الذي يميز االتحاد السوفياتي كدولة عمالية هو االقتصاد المؤمم والتخطيط؛ هذه هي المكاسب الوحيدة الباقية
من ثورة أكتوبر. تمثل هذه المكاسب في حد ذاتها خطوة هائلة إلى األمام، لكنها ال تستطيع أن تضمن االنتقال الناجح إلى االشتراكية.
بعيدا عن التقدم الذي أحرزه االقتصاد المخطط مما يؤدي إلى قدر أكبر من المساواة والحرية للشعب العامل، ينمو الفساد الفظيع
واالمتيازات بين صفوف الفئات العليا في غياب الديمقراطية العمالية.
إن "اإلصالحات" من أعلى، تماما كما كان الحال في ظل القياصرة، أمالها الخوف من ثورة من تحت. إنها لم تلمس أساس
امتيازات وسلطة البيروقراطية. وحتى ذلك الفتات يقدم بتردد لدقيقة واحدة فقط ليؤخذ مرة أخرى في الدقيقة التالية.
هل "ستضمحل" البيروقراطية؟
»إن ما عجز ]تروتسكي[ عن فهمه... هو أنه من الممكن أن يكون هناك لفترة طويلة معينة، تعايش صعب ومتناقض بين االقتصاد
االشتراكي وبين بنية فوقية غير ديمقراطية وغير اشتراكية. عاجال أو آجال سوف يؤدي تطور األول ]؟[ إلى دفع المجتمع )ولو ببطء،
وبشكل غير متساو، وليس بشكل "تلقائي" على اإلطالق( نحو إصالح البنية الفوقية ]؟[ وجعلها أكثر انسجاما]؟[ مع قاعدتها
االقتصادية ورغبات المثقفين والطبقة العاملة التي تصير تدريجيا أكثر تطورا وأفضل تعليما«. )Cogito ،صفحة 39)
صعود البيروقراطية الستالينية إلى السلطة يجد جذوره في تخلف المجتمع الروسي، لكنه سيكون من الخطأ الفادح، المميز للعقلية
الليبرالية "المتدرجة"، افتراض أن البيروقراطية سوف "تتالشى" ببساطة مع تقدم االقتصاد. كان هذا ليكون صحيحا في حالة الحديث
عن دولة عمالية سليمة نسبيا مع تشوهات بيروقراطية ثانوية، مثلما كانت عليه روسيا في عهد لينين وتروتسكي. لكن النقطة التي
يسعى مونتي جونستون للتعتيم عليها هي حقيقة أن البيروقراطية السوفياتية اآلن تشكل فئة خاصة مميزة، وأرستقراطية جديدة، اعتادت
على مدى عقود على أن تملي إرادتها على بقية المجتمع. إنها تحتكر بشكل كامل السلطة السياسية في جهاز الدولة، ووسائل اإلعالم
والشرطة والقوات المسلحة. وعلى مدى عقود أظهرت، وما زالت تظهر، أنها قادرة على استعمال أشد الوسائل قسوة وهمجية في قمع
ولو أبسط أشكال المعارضة.
توضح النظرية الماركسية عن الدولة كيف تنشأ البنية الفوقية للدولة من التناقضات بين الطبقات في المجتمع. لكنها بعد نشوئها
تميل دائما للحصول على نوع من االستقالل وحركة خاصة بها. بهذا المعنى تحدث ماركس ولينين عن سلطة الدولة بكونها »تقف
"فوق" المجتمع وتنفصل على نحو متزايد عنه«. وقد كانت التدابير المتخذة من قبل البالشفة بعد الثورة تهدف لمنع تطور هذه
الميوالت في جهاز الدولة السوفياتية، من خالل إخضاعها إلى أشد أشكال الحساب واإلشراف والرقابة من جانب الطبقة العاملة. لكن
وبمجرد ما نجحت البيروقراطية الستالينية )كما اضطر جونستون لالعتراف( في رفع نفسها فوق بقية المجتمع كفئة خاصة مميزة،
أخذت مسألة مكافحة البيروقراطية شكال مختلفا تماما. إن المصالح الخاصة للبيروقراطية، وانفصالها الكامل عن الطبقة العاملة التي
تحكم باسمها، يعني ضرورة خوض نضال ثو ري جديد - ثورة سياسية - للتخلص من نير الحكم البيروقراطي البوليسي.
لماذا تتمسك البيروقراطية بعناد بالسلطة؟ هل هو سمة خاصة بعقليتها؟ هل هي مسألة "شخصية"؟ كال على اإلطالق. إن
البيروقراطية السوفياتية مثلها مثل جميع الطبقات والطوائف والمجموعات الحاكمة األخرى في التاريخ، تستخدم سلطة الدولة في
الدفاع عن موقعها المتميز في المجتمع. ومثلها مثل الطبقة الرأسمالية في الغرب ليست مستعدة ألن "تضمحل" وتتخلى بلطف عن
سلطتها وممتلكاتها للطبقة العاملة.
89
ينتقد مونتي جونستون تروتسكي بسبب نقده "المتجني وغير الدقيق" لدستور ستالين لسنة 1131 ،الذي ألغى النظام السوفياتي
لالنتخابات واستبدله بدستور يشبه )على الورق( دساتير الديمقراطية البرجوازية، والذي »ال يكمن ضعفه في أحكامه الديمقراطية للغاية،
بل في عدم تماشيه مع الوضع الحقيقي في االتحاد السوفيتي في ذلك الوقت عندما كان في مقدور ستالين أن يدوس عليه، وقد داس
عليه، بقدميه.« )Cogito ،الصفحة 34)
إن مونتي جونستون يدين حججه بنفسه. أي "دستور" ذلك الذي ال يمكن تنفيذه؟ وكيف كان يمكن لرجل واحد أن "يدوس عليه
بقدميه"؟ هل كان ذلك مجرد نزوة من طرف ستالين؟ أو بسبب قوة "شخصيته"؟ لقد سبق لنا أن قلنا من قبل، ونكرر هنا أنه لكي
تتمكن فكرة من الحصول على قاعدة دعم وتصبح قوة في حياة الناس، يجب أن تعبر عن مصالح طبقة ما أو مجموعة ما. إن
"نظرية عبادة الشخصية" ال تفسر أي شيء عن روسيا الستالينية. يجب على المرء أن يطرح هذا السؤال: من الذي استفاد من التدابير
التي اتخذها ستالين؟ ما هي الجماعة في المجتمع التي ربحت من قمع الديمقراطية العمالية، ومن تكميم النقابات، ومن إلغاء الحد
األقصى القانوني لألجور، ومن إعادة إدخال األوسمة والسالم العسكري والخدم في الجيش؟ كانت المصالح التي تنعكس في السياسات
المعادية للطبقة العاملة التي طبقتها الستالينية هي مصالح نفس تلك البيروقراطية التي ناضل ضدها لينين: هؤالء الماليين من
المسؤولين في الدولة والحزب والجيش والمزارع الجماعية والنقابات.
"لكن ما هذا؟" يصرخ مونتي جونستون قائال، هل هناك فئة تتألف من الماليين من الناس! إن بيروقراطيتكم تضم »الحزب كله،
ورابطة الشباب الشيوعي، ومسؤولي الدولة والمزارع التعاونية والجماعية والموظفين والمديرين والفنيين والمعلمين، وأسرهم المنحدرون
من بين الشرائح األكثر تقدما من الطبقة العاملة والفالحين، والذين شكلوا عند وفاة ستالين نحو 44 مليون شخص«. )Cogito ،
الصفحة 33)
يرفض مونتي جونستون هذه الحجة باللجوء إلى موجة من االزدراء، فئة حاكمة من 44 مليون شخص؟ من سبق له أن سمع بشيء
سخيف كهذا؟ إن ما ال يفسره جونستون هو أن البيروقراطية، كما أشار تروتسكي، ليست فئة متجانسة بل شريحة تتكون من سلسلة
من الشرائح المختلفة. إن تروتسكي لم يساو بين سكرتير محلي للحزب وبين ستالين وبريجنيف وأمثالهما، مثلما ال يمكننا أن نساوي
بين صاحب متجر صغير في زاوية الشارع وبين آل روكفلر وجيتيز )Gettys.)
لو كان هؤالء الواحد في المائة من الرأسماليين االحتكاريين يشكلون وحدهم دعامة الرأسمالية في الغرب، النهار النظام في يوم
غلين الصغار فاألصغر.
ِ
واحد. لكن البرجوازية تحافظ على سلطتها الطبقية عن طريق سلسلة كاملة من الفئات الوسيطة من المست
إنها ظاهرة مماثلة لما عليه الحال عند البيروقراطيات الستالينية في الشرق. لقد صعدت زمرة ستالين إلى السلطة على ظهر الماليين
من المو ظفين. ذلك لم يمنع ستالين من دفع مئات اآلالف من الموظفين الصغار )وليس الصغار فقط( إلى نهاية مروعة في معسكرات
االعتقال. وكما كان عليه الحال في اإلمبراطورية العثمانية، وفي كل دولة استبدادية، تم تحويل الموظفين المحليين إلى كبش فداء
إلخفاء جرائم البيروقراطية ككل.
لقد رسم ستالين بواسطة عمليات التطهير خطا من الدماء بين ثورة أكتوبر وبين النظام البونابارتي البروليتاري الجديد. بسبب خوفه
من أفكار ثورة أكتوبر، مع ما تتضمنه من روح الديمقراطية العمالية واألممية االشتراكية، عمل على ذبح كامل القيادة "البلشفية
القديمة"، ثم تعامل بنفس المعاملة مع أي شخص كان ما يزال يحتفظ بأية روابط مع تقاليد البلشفية وثورة أكتوبر، بمن في ذلك
أنصاره. كانت عمليات التطهير، كما أوضح تروتسكي، حربا أهلية من جانب شنتها البيروقراطية ضد البلشفية. لم يكن "لقادة" الدولة
السوفياتية أي شيء مشترك مع تقاليد أكتوبر. الخروتشوفيون والبريجنيفيون والكوسيغينيون كلهم أعضاء جيل من المجرمين وأذناب
السلطة الذين تسلقوا المناصب في الثالثينات على جثة البلشفية المضرجة بالدماء.
في الوقت الحاضر، صارت التناقضات الداخلية للنظام البونابارتي السوفياتي أكثر فأكثر انفضاحا. حركة التمرد بين صفوف
المثقفين نذير باألشياء التي ستقع في المستقبل. إن الماركسيين يفهمون أن المثقفين ليسو طبقة في حد ذاتهم، لكنهم الفئة االجتماعية
91
األكثر حساسية تجاه ضغوط وتحركات الطبقات في المجتمع. وهكذا فإن حركة المثقفين في 1141"( الدائرة المعوجة" في بولندا،
وحلقة بيتوفي في المجر( سبقت الحركة الثورية للطبقة العاملة.
مما له داللته أن بعض المعارضين البارزين للنظام في االتحاد السوفيتي هم أنفسهم أعضاء سابقون في البيروقراطية - مثل الجنرال
"المتقاعد" الذي دافع عن قضية تتار القرم في اآلونة األخيرة. تحت ضغط الطبقة العاملة تعرضت البيروقراطية، التي تعصف بها
التناقضات الداخلية، النقسام حتمي. ستقف الشرائح السفلى من البيروقراطيين، الذين هم على اتصال مع الطبقة العاملة، من
المسؤولين المحليين، وقواعد الحزب الشيوعي، والشريحة الدنيا في الجيش والشرطة والموظفين الصغار إلى جانب العمال، كما فعلوا
في المجر عام 9151 ،عندما بقي البيروقراطيون الكبار معزولين لوحدهم. جاءت المقاومة الوحيدة التي واجهها العمال المجريون
من حثالة البروليتاريا المنظمة في صفوف البوليس السياسي الممقوت )AVO ،)والذين تعرضوا لنهاية دموية على يد البروليتاريا التي
عانت بشدة من جرائمهم.
خالفا ألوهام "التطور التدريجي" لمونتي جونستون، ليست هناك إمكانية لالتحاد السوفياتي لكي يتقدم على طريق االشتراكية حتى
تتم اإلطاحة بحكم البيروقراطيين عبر ثورة سياسية جديدة في روسيا والدول العمالية المشوهة األخرى. لن تكون الثورة ثورة
اجتماعية هدفها تغيير عالقات الملكية القائمة. إن الطبقة العاملة السوفياتية ال تريد العودة إلى الرأسمالية، بل تريد المضي قدما على
أساس إنجازات الصناعة والعلوم نحو مستوى أعلى من الديمقراطية العمالية حتى مما كان في أيام لينين وتروتسكي، ومن ثم نحو
االشتراكية.
ستكون الثو رة ضد البيروق ارطية الرجعية ثورة النت ازع السيطرة على الدولة، وعلى النقابات والصناعة، من أيدي تلك الطفيليات واعادة
تطبيق ديمقراطية عمالية سليمة من شأنها أن تكون مثاال ومنارة لعمال بقية بلدان العالم وليس الكاريكاتير البشع الذي ألحق أضرارا
ال توصف بصورة الماركسية اللينينية في أعين عمال العالم. وما قلناه عن روسيا ينطبق على البلدان األخرى حيث تمت اإلطاحة
بالرأسمالية والمالكين العقاريين: أوروبا الشرقية والصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية وسوريا وبورما.
أي نوع من االشتراكية؟
كتب مونتي جونستون: »إذا أردنا إجراء تقدير ذا معنى لموقف تروتسكي السياسي، علينا تجنب التعريفات التعسفية التي تخرج
القضايا من سياقها التاريخي وتجنب إثارة مشاحنات داللية عقيمة« )Cogito ،الصفحة 41)
إذا كنا نبحث عن تقدير ذا معنى لموقف تروتسكي السياسي سيكون من األفضل لنا أن نبحث في مكان آخر. إذ ال نجد في مقال
مونتي جونستون كله أي شرح لما كتبه تروتسكي فعال بخصوص الستالينية واالتحاد السوفياتي. إنه يكتفي بشظايا معزولة من
االقتباسات، والتي ال تهدف إلى جعل موقف تروتسكي واضحا للقارئ، بل تهدف فقط لجعل تروتسكي يبدو كأحمق. سيكون من
السهل تشويه ماركس وا لينين، باستخدام نفس "المنهج"- وكثيرا ما قام األساتذة البرجوازيون بذلك! إن ما ال يستطيع مونتي نجلز أو
جونستون أن يفهمه أو ال يريد أن يفهمه هو أن نفس الظاهرة يمكنها أن تعبر عن نفسها بشكل مختلف في ظل ظروف مختلفة،
ويجب التعامل معها بطريقة مختلفة تماما. وهكذا فإنه فيما يتعلق بمسألة إمكانية إعادة الرأسمالية في روسيا، سواء لينين وتروتسكي
اعتبرا هذا أمرا ال مفر منه، إال إذا حدثت الثورة االشتراكية في الغرب. لقد كان هذا، في الواقع، ممكنا حتى سنوات 1141-1131 .
لكن تروتسكي في مؤلفه األخير: "ستالين" كان قد توصل بالفعل إلى االستنتاج بأن النظام الستاليني في روسيا، ولعدد من األسباب،
قد يستمر لعقود على شكله الحالي.
وبالحديث عن "التعريفات التعسفية" سيالحظ القارئ أن الرفيق جونستون سرعان ما سيتنصل من الفكرة ويغرق في مناقشة تعسفية
محضة. هل االشتراكية "مجتمع بدون طبقات وال مال وال سلع وال دولة"؟ أم أنها ربما "تحويل وسائل اإلنتاج إلى ملكية مشتركة
للمجتمع بأسره"؟ وفي نهاية المطاف يتطرق جونستون إلى "اإلنتاج التعاوني على نطاق واسع"، ثم يخلص بابتهاج إلى أن "االشتراكية"
قد تحققت، ليس فقط في االتحاد السوفياتي، بل في البلدان الثالثة عشر األخرى كذلك!
91
في الوقت الراهن دعونا ال ندخل في مماحكة مع "تعريف" الرفيق جونستون. إن عنصر "اإلنتاج التعاوني على نطاق واسع" هو
مما ال شك فيه سمة أساسية لالشتراكية. لكن هل هذا هو كل االشتراكية؟ حتى مونتي جونستون ال يجرؤ على قول ذلك. ففي الصفحة
39 يكتب:
»إن ما تم إنجازه في الثالثينات من االقتصاد االشتراكي كان بالطبع ما يزال فقط الهيكل العظمي العاري لالشتراكية التي كانت
تتطلب عدة عقود أخرى من النمو السلمي قبل أن تتغلب تماما على التركة الرهيبة من التخلف الروسي وتظهر باعتبارها مجتمعا
اشتراكيا مزدهرا متناغما ومتعلما«. )التشديد من عندنا(
بالنسبة لمونتي جونستون لم تكن األمور جيدة جدا في روسيا الستالينية. لكن لم يكن عندهم بعد سوى "الهيكل العظمي العاري"
لالشتراكية. واآلن أيها الرفيق جونستون، ماذا عن اآلن؟ ترى المجتمع السوفياتي بأنه "مجتمع اشتراكي متطور ومزدهر ومتناغم
ومتعلم". هذا جيد للغاية، لكن ماذا عن كل تلك التقارير عن سوء اإلدارة والفساد والمحسوبية التي تزخر بها الصحافة السوفياتية؟
يزعم قادة االتحاد السوفيتي أنهم "يبنون الشيوعية" – التي هي أعلى شكل من أشكال المجتمع البشري وأكثرها ثقافة - ومع ذلك فإنهم
في حاجة إلى فرض عقوبة اإلعدام على الجرائم االقتصادية. قبل عامين ذكرت صحيفة Star Morning أن رئيس قطاع الصناعات
الخفيفة في منطقة موسكو قد أعدم بتهمة االختالس. الفساد بدوره "متطور جدا" في االتحاد السوفياتي. ماذا عن التفاوت الهائل في
األجور، وماذا عن وجود 499 مليونير، الذين حياتهم بالتأكيد "مزدهرة". وأي تناغم أكثر من ذلك الذي يطبع العالقة بين البيروقراطية
الروسية والتشيكوسلوفاكية؟ أو ربما يقصد بهذه الكلمة الداللة على الوضع في مجتمع يتم فيه سحق كل معارضة بال رحمة؟ أما
بالنسبة للمعايير "الثقافية" فإنه تتم حمايتها بشكل جيد عن طريق إرسال الكتاب إلى معسكرات األشغال "إلعادة التربية" بسبب جريمة
المطالبة بتنفيذ الدستور السوفياتي!
في عام 1134 تفاخر ستالين بأن بناء االشتراكية في االتحاد السوفياتي قد اكتمل. في ذلك الوقت كانت عقوبة اإلعدام تطبق على
األطفال من اثني عشر سنة! في الواقع، استمر بناء "االشتراكية" في دعاية البيروقراطية السوفيتية "يكتمل" كل بضع سنوات؛ لقد
"اكتمل" بناء االشتراكية كثيرا إلى درجة أنه أصبح نكتة شهيرة بين العمال السوفيات، وبعد وفاة ستالين اضطرت البيروقراطية إلى
التخلي عنها لصالح نكتة أكثر قتامة منها: لم تعد "االشتراكية" هي التي يجري بناؤها، بل "الشيوعية"، وذلك في غضون عشرين
عاما!
وبالطبع كلما اقتربنا من نهاية أجل العشرين سنة، كلما قرأنا أقل في صحافة الحزب الشيوعي عن "تحقيق الشيوعية" في روسيا!
وهكذا كتب جونستون في الصفحة 39 ما يلي:
»إن الكالم عن االنتقال إلى الشيوعية في المستقبل المنظور الذي كان يردد في عهد ستالين وخروشوف ينظر إليه عموما ]![
بكونه تضمن قدرا هائال من الكالم المنمق واالدعاءات المبالغة فيها«.
هذا صحيح أيها الرفيق جونستون. لكن ما الذي كنتم تكتبونه لقراء الحزب الشيوعي عن هذا " القدر الهائل من الكالم المنمق
واالدعاءات المبالغة فيها" أثناء المؤتمر الثاني والعشرين؟ لقد كنتم في ذلك الوقت منشغلين ببيع هذا الوهم لمناضليكم. لكن اآلن يبدو
أن االتجاه قد تغير مرة أخرى، دون أية كلمة لتفسير ذلك للقواعد! إن عبارة "ينظر إليه عموما" صيغة تخدم بوصفها مجرد ورقة تين
لتغطية حرج "المنظرين" الذين كانوا باألمس يكيلون المديح لخروشوف، وكانوا أول أمس يكيلو نه لستالين، والذين هم على استعداد
عموما لتغيير أفكارهم ومبادئهم مثلما يغير انسان ثري قمصانه.
السؤال األول الذي سيتبادر لذهن أي عضو ذو فكر نقدي داخل الحزب الشيوعي هو: إذا كانت االشتراكية قد تم بناءها في االتحاد
السوفيتي، وا زية وتم التغلب على الصراع الطبقي، فلماذا ال يمكن السماح بالحقوق الديمقراطية ذا كانوا قد قضوا أخي ار على البرجوا
للعمال؟ نعتقد أنه ال توجد إمكانية في الوقت الحالي لعودة الرأسمالية في روسيا أو أي دولة من الدول العمالية. إذن لماذا يتم منع
التعبير عن وجهات النظر المعارضة، وتشكيل أحزاب عمالية مختلفة؟ ليس لدا االتحاد السوفييتي ما يخافه إن كان حقا قد بنى
92
االشتراكية. بل يمكن السماح حتى لألحزاب البرجوازية التي لم تشارك في أعمال اإلرهاب أو التخريب. يمكنك بسهولة أن تسمح
لين السابقين ارتكاب الفضائح بالدعوة إلى العودة إلى "أيام العز" حين كان يسود أ
للمستغ رباب العمل المليونيرات والقوز اق واألمية ِ
الجماهيرية. سيتعامل معهم العمال كمجانين، مثلما ينظر البرجوازيون االنجليز إلى دعاة العودة إلى "الماضي اإلنجليزي السعيد" في
ظل اإلقطاع!
دعونا نطرح السؤال بطريقة أخرى: إذا كان صحيحا أنه قد تم بناء االشتراكية في روسيا )التي يقصد بها ليس مجرد االقتصاد
شباع الرغبات البشرية"(، فإن يد الردة الرجعية ستكون مشلولة على
المخطط بل"االقتصاد المؤمم والمخطط والمتناغم إلنتاج السلع وا
الصعيدين الداخلي والخارجي. إن صورة "مجتمع سوفياتي متطور بالكامل ومزدهر ومتناغم ومثقف" حقا سيمارس تأثيرا عميقا على
قلوب وعقول العمال في البلدان الرأسمالية في الغرب. إن الدافع نحو تحقيق التحول االشتراكي سيكون ال يقاوم. لكن كيف يواجه
الواقع صيغة الرفيق جونستون "الجميلة"؟ إن واقع الحياة في االتحاد السوفياتي أبعد ما يكون عن إلهام الطبقة العاملة في الغرب
للتحرك نحو االشتراكية، ى بما ال يقاس موقف البرجوازية التي يمكنها أن تشير إلى التشوهات الشمولية الخسيسة في
ّ
بل إنه قو
روسيا وشرق أوروبا والصين، لتخويف عمال بلدانها. تقول البرجوازية للعمال: "هل تريدون الشيوعية؟ ها هي الشيوعية! جدار
برلين هو الشيوعية! قمع المجر سنة 1141 هو الشيوعية! معسكرات األشغال الشاقة هي الشيوعية!" لقد سعى المدافعون عن األحزاب
"الشيوعية" لتجميل وجه الشمولية البغيضة عن طريق إطالق تسمية "االشتراكية" و"الشيوعية" على كل ذلك. لكنهم ال ينجحون في
تجميل جرائم البيروقراطية الروسية، بل ينجحون فقط في تشويه فكر ة االشتراكية في أعين العمال.
يناقش مونتي جونستون مسألة هل تم بناء االشتراكية في بلد واحد أم ال، ليس كماركسي بل باستخدام المنطق الصوري. بالنسبة
للماركسي ال يمكن أن تحل المسألة بمنطق التعريفات بل عن طريق ديالكتيك التاريخ. يقتبس مونتي جونستون "تعريفا" من كتاب
لينين الدولة والثورة لكنه ال يفسر التحليل الوارد في ذلك الكتاب للعملية التي تتحرك بها الدولة العمالية نحو االشتراكية. في كتاب
الدولة والثورة يضع لينين الشروط التالية لقيام الدولة العمالية، لقيام دكتاتورية البروليتاريا، في بدايتها:
1 .إجراء انتخابات ديمقراطية حرة مع الحق في عزل جميع المسؤولين.
4 .ال يحق ألي مسؤول الحصول على أجرة أعلى من أجرة عامل مؤهل.
3 .ال جيش دائم أو قوات شرطة دائمة، بل الشعب المسلح.
2 .تدريجيا يجب أن يتم القيام بجميع المهام اإلدارية من قبل الجميع بالتناوب - ينبغي أن يكون كل طباخ
قادرا على أن يصير ر ئيسا للوزراء -، "عندما يصبح الجميع بيروقراطيا بالتناوب ال يمكن ألحد أن يكون
بيروقراطيا".
كانت هذه هي الشروط التي وضعها لينين ليس "لالشتراكية"، وال "للشيوعية"، بل للمرحلة األولى للدولة العمالية: مرحلة االنتقال
من الرأسمالية إلى االشتراكية. لم يكن لينين يتالعب بتعاريف "االشتراكية". لم يخرج لينين شروط الدولة العمالية من جعبته، إنها
تشكل تعميما للتجربة التاريخية للطبقة العاملة. إنها خالصة تجربة كومونة باريس )1119-1114 ،)التي على أساسها بنى ماركس
تصوره لديكتاتورية البروليتاريا، والتي حللها لينين ببراعة في كتابه الدولة والثورة.
ال يمكن تحقيق التحول نحو االشتراكية إال من خالل المشاركة الفعالة والواعية للطبقة العاملة في إدارة المجتمع، والصناعة
والدولة. إنها ليست صدقة يتفضل عليهم بها القادة "الشيوعيون". على هذه الحقيقة قام كل تصور ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي.
غلة.
ِ
ضدا على األفكار المشوشة التي يتبناها الالسلطويون، أكد ماركس أن العمال بحاجة إلى دولة للتغلب على مقاومة الطبقات المست
ولكن فكرة ماركس هذه تعرضت للتشويه على يد كل من اإلصالحيين والستالينيين على حد سواء، من جهة لتبرير اإلصالحية، ومن
جهة أخرى لتبرير الصورة الكاريكاتورية الشمولية للـ"االشتراكية" التي يزعم أنها بنيت في االتحاد السوفياتي. لكن، وكما أكد لينين،
93
البروليتاريا تحتاج فقط إلى دولة "مشكلة بحيث تبدأ في االضمحالل وال يمكنها إال أن تضمحل"، أو باستخدام عبارة ماركس، "شبه
دولة".
في ظل لينين وتروتسكي تم بناء الدولة السوفياتية لتسهيل انخراط العمال في مهام المراقبة والمحاسبة، لضمان التقدم المتواصل في
طريق الحد من "المهام الخاصة" في تسيير الدولة. ووضعت قيود صارمة على أجور وسلطات وامتيازات المسؤولين من أجل منع
تشكيل فئة متميزة. لكن بسبب سيادة التخلف، ونقص العمالة الماهرة، تم السماح بتفاوت في األجور بما ال يتجاوز أربع أضعاف.
في عام 1111 ،كان مفوض الشعب )أي ما يعادل وزير( يتلقى نفس أجرة العامل. تلقى االختصاصيون البرجوازيون أجرة أكبر،
لكن االختصاصيين من أعضاء الحزب كانوا ال يتلقون بدورهم سوى أجرة العامل.
في عام 1131 ،ألغى ستالين القانون الذي يحدد الحد األقصى القانوني لألجور. متوسط األجر الشهري للعامل في روسيا اليوم
هو ما بين 19 و19 روبل )حوالي 44 جنيه استرليني، أو بناء على تضخم سعر الصرف الرسمي 29 جنيها استرلينيا على األكثر(.
لكن أجرة الوزراء تصل إلى 4999 روبل شهريا )ما بين 1449 إلى 4999 جنيه استرليني( دون احتساب العديد من "االمتيازات"،
مثل المصاريف دون رادع، والمصحات الخاصة والمسارح والفيالت والحانات، الخ. عندما أسس تروتسكي الجيش األحمر، استند
إلى نفس مفاهيم الديمقراطية العمالية، حيث تم إلغاء التقاليد القيصرية القديمة والتمييز في الزي الرسمي والرتب، واألوسمة وغيرها.
لم تكن هناك أية فئة ضابط متميزة، كان ضباط الجيش األحمر يختلطون بحرية وعلى قدم المساواة مع الجنود "العاديين". أما في
عهد ستالين فقد تم إحياء كل "الشكليات" القديمة، عاد صف الضباط إلى الظهور في كل عظمته البيزنطية: الهرمية و الرتب والتحية
العسكرية والخدم. وفي الثالثينات أعيدت كل أشكال الخضوع والطاعة القديمين. اليوم في روسيا وأوروبا الشرقية تمثل الخدمة العسكرية
سنتين من العمل الشاق، مقابل أجور زهيدة، حيث الجنراالت والضباط أسياد على الجنود. في بلغاريا، على سبيل المثال، متوسط
األجر الشهري للعامل يساوي حوالي 199 ليفا، والجندي يتلقى 149 ليفا، وضابط صف يبدأ بـ 499 ليفا. وبالنسبة للماركسي يكشف
الجيش، في شكل أكثر حدة، عن كل تناقضات المجتمع.
بطبيعة الحال ال يفترض أي ماركسي أنه يمكن للمجتمع أن يقفز على الفور من الرأسمالية إلى االشتراكية دون المرور بمراحل
وسيطة، وخاصة في بلد متخلف. لكن جوهر الفترة االنتقالية، كما أوضح لينين، هو أن تمثل التخفيض التدريجي في سلطات الدولة،
حيث يشترك أغلبية السكان في أعمال التخطيط إلدارة المجتمع. إن الماركسي في دراسته لمجتمع معين ال يطرح فقط سؤال ما هو
عليه، بل أيضا في أي اتجاه يتحرك؟ في ظل لينين وتروتسكي، كانت الجمهورية السوفياتية دولة دكتاتورية البروليتاريا تتحرك في
اتجاه االشتراكية. أما في عهد ستالين وخروتشوف وبريجنيف، فقد صارت دولة عمالية مشوهة بشكل مخيف؛ دولة حيث استمر تأميم
وسائل اإلنتاج والتخطيط، لكن تحت سيطرة دولة شمولية ذات الحزب الواحد، تتحرك ليس في اتجاه االشتراكية، بل على العكس
من ذلك، نحو مراكمة المزيد من الثروة واالمتيازات والسلطة في يد الفئة الطفيلية الحاكمة.
تأكيد مونتي جونستون اللطيف على أن "االشتراكية" قد اكتمل بناؤها في االتحاد السوفييتي يشكل افتراءا فضيعا على كل أفكار
ماركس ولينين. إنه يردد كل الوعود واالدعاءات التي تقولها الزمرة الحاكمة الحالية، على الرغم من أنه قد تم بالفعل فضحها بسبب
القمع الدموي ضد عمال المجر في عام 1141 ،ومن خالل استمرار وجود االمتيازات، والفساد، والقمع داخل روسيا، وغزو
تشيكوسلوفاكيا، وقمع الكتاب، واستمرار الحضر على مؤلفات تروتسكي و"البالشفة القدامى"، والمعاملة التي تتلقاها األقليات مثل
األوكرانيين وتتر القرم، والتزوير الصارخ للتاريخ "الرسمي"، ومعاداة السامية، وهلم جرا. إن حكم البيروقراطية السوفياتية جعل كلمة
"االشتراكية" كلمة نتنة. وهذه، يا مونتي جونستون، هي الجريمة الكبرى للستالينية وقادة الحزب الشيوعي أمميا.
االنحطاط القومي لألحزاب الشيوعية
»إن النقد الماركسي الجوهري للستالينية، والذي ما يزال يتعين القيام به، لن يأتي من جانب تروتسكي، على الرغم من ضرورة دراسة
كتاباته بسبب الدروس القيمة الكثيرة المتضمنة فيها - سواء إيجابية أو سلبية -. وحتى عندما يقدم تروتسكي في بعض األحيان رؤية
94
متميزة وجيدة فإنها تأتي ضمن إطار نموذج خاطئ في األساس، مما منعه من فهم قوانين تطور المجتمع السوفياتي أو استيعاب
ظاهرة الستالينية )الجديدة وغير المسبوقة باعتراف الجميع( في تعقيدها وتعدد جوانبها. وهو سبب القسوة التي عامل بها التاريخ
توقعاته الرئيسية التي استشهدنا بها في سياق هذا المقال.« )Cogito ،الصفحة 33)
لقد سبق لنا أن علقنا على الطريقة التي "تعامل" بها مونتي جونستون، وليس التاريخ، مع "توقعات" تروتسكي. ومن المؤسف أنه
لم يتعامل أيضا مع بعض "التوقعات" التي أدلى بها ستالين، أو قادة الحزب الشيوعي في الغرب خالل العقود القليلة الماضية. إنه
ال يجرؤ على اقتباس كالمهم. إنه لن يضطر حتى إلى اللجوء إلى تشويه كالمهم ليجعلهم يبدون منفصلين تماما عن الو اقع!
نأمل أن نكون قد أظهرنا في هذه المقالة، على األقل بشكل عام، أن تروتسكي وحده من قدم تحليال ماركسيا لظاهرة الستالينية
"الجديدة وغير المسبوقة باعتراف الجميع". أما فيما يتعلق بـ "التحليالت المتميزة والمعقدة والمتعددة الجوانب" للبريجنيفيين والكوسيغينيين
والدوتيين والكوغمانيين، فنحن ما نزال نبحث عنها. إن التاريخ لم يتعامل بقسوة معها ألنها لم توجد أصال!
إلى أي درجة من "القسوة" تعامل التاريخ مع أهم توقعات تروتسكي؟ في عام 1141 ،وفي كتابه نقد مشروع برنامج األممية
الشيوعية، كتب تروتسكي أنه إذا ما تم تبني "نظرية" "االشتراكية في بلد واحد"، من طرف األممية، فإنه من شأنها أن تؤدي حتما
إلى االنحطاط القومي لألممية الشيوعية:
»ال يمكن للوطنية الثورية سوى أن تكون ذات طابع طبقي. إنها تبدأ كحمية لمنظمة الحزب، ثم للنقابات العمالية، وتصير حمية
للدولة عندما تستولي البروليتاريا على السلطة. في أي مكان وجدت فيه السلطة في أيدي العمال، تصير الحمية الوطنية واجبا ثوريا،
لكن يجب أن تكون هذه الحمية الوطنية جزءا ال يتجزأ من األممية الثورية. تعلم الماركسية العمال دائما أنه حتى النضال من أجل
أجور أعلى وساعات عمل أقل ال يمكن أن يكون ناجحا إال إذا شن على أنه صراع أممي، واآلن يبدو فجأة أن المثل األعلى للمجتمع
االشتراكي يمكن تحقيقه بواسطة القوى الوطنية وحدها، إن هذا ضربة قاصمة لألممية.
»إن القناعة الراسخة بأن الهدف الطبقي األساسي، بل وحتى أكثر األهداف جزئية، ال يمكن أن يتحقق عن طريق الوسائل القومية
أو داخل الحدود الوطنية، تشكل جوهر األممية الثورية. إذا كان الهدف النهائي ممكن التحقيق داخل الحدود الوطنية من خالل جهود
البروليتاريا الوطنية، فإن العمود الفقري لألممية ينكسر. نظرية إمكانية تحقيق االشتراكية في بلد واحد تدمر العالقة الداخلية بين نز عة
الدفاع عن الوطن عند البروليتاريا المنتصرة وبين انهزامية البروليتاريا في البلدان البرجوازية. ما تزال بروليتاريا البلدان الرأسمالية
المتقدمة تسير على الطريق نحو حسم السلطة. إن مسألة كيف وبأية طريقة ستسير في ذلك االتجاه يعتمد كليا على ما إذا كانت
تعتبر مهمة بناء المجتمع االشتراكي مهمة وطنية أو أممية.
»إذا كان من الممكن تحقيق االشتراكية في بلد واحد، يمكن للمرء آنذاك أن يعتقد في هذه النظرية ليس فقط بعد االستيالء على
ذلك. وا الحدود الوطنية لروسيا المتخلفة، ستكون هناك أسباب وجيهة السلطة بل أيضا قبل ذا كان من الممكن تحقيق االشت اركية داخل
لالعتقاد بأن ذلك يمكن أن يتحقق في ألمانيا المتقدمة. غدا سوف يتعهد قادة الحزب الشيوعي األلماني بتبني هذه النظرية. ومشروع
البرنامج يمكنهم من القيام بذلك. وبعد غد سيأتي دور الحزب الفرنسي. وسوف تكون بداية تفكك الكومنترن على أسس قومية«.
)األممية الشيوعية بعد لينين، الصفحات 11-14 ،خط التشديد من عندنا(
في هذه األسطر، توقع تروتسكي ببراعة انهيار األممية الثالثة، واالنحطاط القومي لألحزاب "الشيوعية"، قبل عقود من حدوث
ذلك. إن ستالين وبعد استخدامه بكلبية للكومنترن كحرس لحدود االتحاد السوفياتي، قام بحله بازدراء عام 1123 ،كبادرة "لحسن النية"
لحلفائه اإلمبرياليين. وفي ذات الوقت الذي كان فيه ماليين العمال في إيطاليا واليونان والصين وفي أوروبا الشرقية وفي بريطانيا،
يتحركون، تحت وطأة الحرب، في اتجاه الثورة، أرسلت األممية الثالثة إلى مزبلة التاريخ. صحيح أنه لعدد من األسباب خرجت
الستالينية قوية، مؤقتا، من الحرب العالمية الثانية. كان هذا أساسا بسبب اإلفالس المطلق للرأسمالية على الصعيد العالمي؛ وعجزها
95
عن التدخل ضد روسيا في نهاية الحرب. إن الحركة الثورية للطبقة العاملة في بريطانيا وفي فرنسا وفي ايطاليا، باإلضافة إلى الحالة
المزاجية لجنود "الحلفاء"، شلت يد اإلمبريالية.
أدى عدم قدرة اإلمبريالية على التدخل في أوروبا الشرقية والصين، باإلضافة إلى تعفن الرأسمالية في تلك المناطق، إلى اإلطاحة
السريعة بالرأسمالية والمالكين العقاريين، وهو ما وضح، وفقا لمونتي جونستون، بما ال يقبل الجدل عدم صحة اتهام تروتسكي لطبيعة
الستالينية المعادية للثورة. إنه لم يذكر الوضع في فرنسا، حيث دخل الحزب الشيوعي )الذي حظي بدعم جماهيري بسبب الدور
البطولي الذي قام به أعضاءه في حركة المقاومة( في حكومة ائتالفية مع ديغول؛ أو إيطاليا، حيث أوعز ستالين للحز ب الشيوعي
الجماهيري بدعم "الفاشي السابق" بادوليو، في الوقت الذي كانت المدن الشمالية في أيدي العمال؛ أو اليونان، حيث وجه األمر
لميليشيات الحزب الشيوعي المسلحة التي كانت تضم 499999 شخص بإلقاء أسلحتهم و"انتظار االنتخابات"، في حين كان بلطجية
غريفاس يقتلون الشيوعيين في الشوارع؛ أو بريطانيا، حيث دافع الحزب الشيوعي عن حكومة "الجبهة الوطنية"، بما في ذلك مع
تشرشل!
كان انهيار الرأسمالية والمالكين العقاريين في الصين وأوروبا الشرقية، واالستعاضة عنهم بتأميم وتخطيط االقتصاد، ضربة قوية
لإلمبريالية على الصعيد العالمي. وقد كان انتصار الجيش األحمر الصيني في عام 1121 ،على وجه الخصوص، ثاني أكبر حدث
في القرن العشرين، بعد ثورة أكتوبر عام 1111 .بفضل هذا الحدث تمكنت جماهير الفالحين الغفيرة في الصين من أن تدخل للمرة
األولى إلى مسرح التاريخ.
في ذلك الوقت رحب الماركسيون البريطانيون بهذه التطورات، وهم الذين لم يشكوا أبدا في أنها ستمكن هذه البلدان المتخلفة من
البدء في المهمة التاريخية للتغلب على المشاكل التي خلفها الماضي شبه اإلقطاعي. لكننا فهمنا أيضا بوضوح التناقض الضمني في
هذا النوع من "الثورات" التي وقعت في الصين وأوروبا الشرقية. فهمنا أنه قد تم تنفيذها بقيادة ستالينية وبأسلوب بونابارتي. باستخدام
الجيش األحمر، كقوة ضاربة، سحقت البيروقراطية الروسية البرجوازية الضعيفة ووضعت مكانها أنظمة مرتبطة بها. وقد قامت من
خالل التوازن بين الطبقات بإنشاء دول على صورة موسكو. واستبدل حكم السوفييتات العمالية بتنويعات ستالينية "قومية" على شاكلة
النموذج الستاليني الروسي، مع كل التشوهات البشعة لدول نظام الحزب الواحد الشمولية البوليسية. بدأت "ثورات" أوروبا الشرقية
والصين حيث انتهت الثورة الروسية؛ كأنظمة بونابارتية بروليتارية.
منذ الحرب العالمية الثانية، رأينا صحة تحليل تروتسكي لنظرية "االشتراكية في بلد واحد" قد تأكدت بطريقة باهرة. فبدال من الكتلة
"المتناغمة" االشتراكية المتحدة التي يشير إليها مونتي جونستون، شهدنا، في المقام األول، مشهدا مقرفا من القهر والنهب في أوروبا
الشرقية من قبل البيروقراطية الروسية بعد الحرب، وبعد ذلك تعرضت "الكتلة" الستالينية لجملة من االنشقاقات على أسس قومية،
بدءا من يوغوسالفيا وصوال إلى قيام جنود نظامي روسيا والصين "االشتراكيين" بإطالق النار على بعضهم البعض بالدبابات والطائرات
والمدافع في اشتباكات على الحدود.
لقد كسبت ثورة أكتوبر تعاطف عمال البلدان الرأسمالية المتقدمة بفضل دعوتها الواضحة إلى األممية االشتراكية. وقد القت دعوة
البالشفة إلى "سالم بدون إلحاقات أو تعويضات" ترحيبا عظيما في قلوب الماليين من العمال الذين أنهكتهم الحرب من جميع الدول
المتحاربة، بما في ذلك ألمانيا. تسببت الدعاية وسياسة التآخي، التي قامت على أساس طبقي، في انتشار سخط عارم بين صفوف
الجيش األلماني، وفيما بعد في جيوش التدخل األجنبية.
خالل الحرب العالمية الثانية استعملت البيروقراطية الروسية أسوء أشكال التحامل الشوفيني في دعايتها. وبدال من تبني موقف
األممية البروليتارية، أعلنت في شكل مبطن فكرة أن "األلماني الوحيد الجيد هو األلماني الميت". وما يزال هذا الموقف المعادي
لأللمان يسود دعاية الستالينيين. كانت سياسة البيروقراطية الروسية هي: جعل الطبقة العاملة األلمانية تدفع ثمن جرائم هتلر، الذي
كان انتصاره من جهة بسبب السياسات اإلجرامية للقادة االشتراكيين الديمقراطيين األلمان وبسبب سياسة ستالين وقادة الحزب
96
الشيوعي األلماني من جهة أخرى. طرد عشرة ماليين ألماني قسرا من أوروبا الشرقية بعد الحرب، ولقي مليونا شخص من بينهم
حتفهم بسبب الظروف الوحشية لترحيلهم.
في السنوات التي تلت الحرب نهبت البيروقراطية الروسية شرق أوروبا وكان على ألمانيا الشرقية أن تدفع تعويضات تساوي 11
مليار دوالر، بينما دفعت رومانيا 419 مليون دوالر والمجر 299 مليون دوالر. لم يكن "العدو" وحده هو من تعرض للنهب، بل
أيضا بقية بلدان أوروبا الشرقية جردت بشكل ممنهج من صناعتها وأرصدتها، الخ، وتم حملها إلى روسيا. وبالتالي فإن جرائم
الشوفينية الستالينية بعد الحرب هي التي أدت إلى نشوء الحركات الرجعية بين السكان المطرودين إلى ألمانيا الغربية، وجعلت
كلمة "الشيوعية" مكروهة عند الطبقة العاملة األلمانية، التي كانت قبل الحرب "الطبقة األكثر ثورية في أوروبا".
قبل الحرب كانت أوروبا الشرقية معروفة بانقساماتها القومية. وقد أظهرت الرأسمالية والدولة القومية البرجوازية عجزها عن التعامل
بشكل سلمي وعقالني مع المشاكل الناجمة عن هذا الخليط المعقد من الجنسيات واللغات. كانت هذه االنقسامات القومية لعنة أوروبا
الشرقية، وعامال رئيسيا في إدامة التخلف في المنطقة، والفقر والبؤس بين صفوف الجماهير، والقمع الوحشي لألقليات القومية. لو
كان الستالينيون ما يزالون يحتفظون بذرة من تقاليد األممية البلشفية، لكانوا قد رفعوا شعار فدرالية اشتراكية في أوروبا الشر قية،
استنادا إلى خطة اقتصادية مشتركة وباالرتباط بالموارد واإلمكانات الهائلة التي يتمتع بها اتحاد الجمهوريات االشتراكية السوفياتية.
إن "بلقنة" أوروبا الشرقية، والتي تم تعزيزها بشكل متعمد من قبل الستالينيين الروس بعد الحرب، أدت بشكل حتمي إلى الحالة
الراهنة. وكما توقع تروتسكي في وقت مبكر، تعمل كل فئة بيروقراطية قومية على حماية حدودها "الخاصة"! يحدث هذا في نفس
الوقت الذي تواجه فيه حتى البرجوازية في الغرب التناقض بين الحدود الضيقة للسوق الوطنية وبين الحاجيات الحتمية لالقتصاد
الحديث. على الرغم، بطبيعة الحال، من أنه ال وجود ألي حل لذلك التناقض على أساس الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج.
نتائج هذه "االشتراكية" القومية بشعة. في الوقت الحاضر يوجد في يوغوسالفيا 399999 عاطل عن العمل، إضافة إلى 299999
شخص ال يستطيعون العثور على عمل في وطنهم "االشتراكي" ويجبرون على العمل في الغرب. بينما في الجهة األخرى من الحدود
في بلغاريا "االشتراكية"؟ حيث يتحدث الناس لغة مماثلة، هناك شركات تعمل بـ 24 ٪إلى 49 ٪من قدرتها بسبب النقص في العمال
شبه المهرة. )اإليكونوميست 49 يناير، 1111 .)كما تعاني تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية أيضا من نقص في العمالة أساسا بفضل
طرد األلمان السوديت والفرار الجماعي من نظام أولبريخت الستاليني البغيض.
لكن أكثر المظاهر اإلجرامية للـ "االشتراكية في بلد واحد" مع ذلك هو االنقسام الصيني السوفياتي. يشير مونتي جونستون النتصار
الجيش األحمر الصيني في عام 1121 بأنه "دليل" على أن "االشتراكية في بلد واحد" ال تتعارض مع األممية االشتراكية الثورية.
لكن الستالينيين الصينيين أخذوا السلطة بالرغم من النصيحة "األخوية" من طرف "رفاقهم" السوفيات. لقد فضل ستالين تقسيم الصين
أو تشكيل حكومة ائتالفية مع تشيانغ كاي تشيك!
سيكون من المثير لالهتمام معرفة تحليل مونتي جونستون للنزاع الصيني السوفياتي، الذي لم يذكره ولو مرة واحدة في مقاله! ما هو
تفسير هذا أيها الرفيق جونستون؟ هل هو "خطأ مأساوي" آخر؟ أم أنه نتيجة لـ "عبادة شخصية" ماو؟ إذا كان في مقدور "شخصية"
ستالين أن تعقد لسان كل الشعب الروسي خوفا، فبإمكان ماو باالعتماد على قوته أن يتالعب أيضا بـ 199 مليون صيني! في الواقع
ال يمتلك مونتي جونستون أو "المنظرون" الستالينيون أي تفسير لالنقسام بين الصين واالتحاد السوفياتي. وال يمكن أن يكون هناك
أي تفسير إذا قبلنا أن كال من روسيا والصين هما "بلدان اشتراكيان".
ليس لالنقسام بين الصين واالتحاد السوفياتي )والذي توقعه الماركسيون البريطانيون، حتى قبل وصول جيوش ماو إلى السلطة،
باعتمادهم على توقعات تروتسكي، التي يزعم جونستون أن التاريخ عاملها بشكل "قاس"( أية عالقة مع المسائل النظرية
واإليديولوجية. إنه نتيجة لصراع المصالح بين بيروقراطيتين قوميتين متنافستين. إن البيروقراطية الروسية والصينية مثلهما مثل
97
عصابتين متنافستين في شيكاغو آل كابوني، ليستا مستعدتان لتقاسم السلطة والثروة مع أي كان، وتحرس كل منهما "أراضيها" بغيرة
ضد االختراقات من قبل "الرفاق األشقاء".
من جهة النظر الماركسية يعتبر النزاع الصيني السوفياتي حدثا فضيعا ال يمكن أبدا أن يحدث بين دولتين عماليتين سليمتين حقا.
إنه جريمة ال تلحق فقط ضررا ال يوصف بقضية االشتراكية على الصعيد العالمي، بل أيضا تقف على طرف النقيض تماما مع
مصالح العمال والفالحين في كل من روسيا والصين.
إن الشعار األساسي الذي كان حزب ماركسي لينيني حقيقي سيرفعه منذ فترة طويلة هو: تشييد فدرالية اشتراكية بين روسيا
والصين. كانت البيروقراطية الروسية تحاول فتح أراضي آسيا السوفياتية الشاسعة، والتي تحتوي على ثروات معدنية هائلة، والتي
يمكن الستغاللها أن يغير كل حياة الشعب السوفياتي. لكن العقبة الرئيسية هي نقص العمالة، والعمال السوفيات يرفضون مغادرة
موسكو ولينينغراد للذهاب إلى آسيا الوسطى. ومن ناحية أخرى، فإن العدد الكبير لسكان الصين يوفر إمكانيات هائلة من القوى
العاملة لهذه المهمة التاريخية. لكن ومع ذلك عندما عبر الصينيون "الحدود" والتي هي عبارة عن خط مصطنع ال معنى له يقطع
جميع الوحدات الطبيعية، تم طردهم قسرا من قبل وحدات من الجيش األحمر. وفي الوقت نفسه، نجد البيروقراطية الروسية منشغلة
في التفاوض مع الشركات الكبرى اليابانية لفتح سيبيريا في وجهها!
على الرغم من كل ضجيجهم الكلبي حول "األممية البروليتارية"، فإنه ال البيروقراطية الصينية وال البيروقراطية الروسية قدمتا برنامجا
أمميا حقيقيا من أجل الربط بين االقتصادين العمالقين لروسيا والصين في مصلحة كال الشعبين. وبدال من ذلك، شهدنا االشتباكات
الحدودية، والقتل اإلجرامي للعمال ج ارما من قبل الستالينيين الروس
الروس والصينيين بزي الجنود، وشهدنا الدعاية األكثر انحطاطا وا
والصينيين، والتي ليست مجرد دعاية شوفينية، بل حتى ذات إيحاءات عنصرية.
هذا هو واقع "البلدان االشتراكية الثالثة عشر" التي ذكرها مونتي جونستون، ثالثة عشر دولة شمولية، تحكمها ثالثة عشر بيروقراطية
قومية، وتتواصل فيما بينها بلغة المدافع الرشاشة والصواريخ الشقيقة!
لكن توقع تروتسكي يصدق بشكل جيد على مسألة أخرى. ففي نقده لمشروع برنامج الكومنترن يشير تروتسكي إلى أن "نظرية"
"االشتراكية في بلد واحد" تعني خطر االنحطاط القومي، ليس فقط بعد االستيالء على السلطة، بل أيضا قبل ذلك. ما هو موقف
أحزاب األممية الشيوعية السابقة اليوم؟ جميع ما يسمى باألحزاب الشيوعية، في كل مكان، سواء كانت في السلطة أو خارجها،
تظهر مالمح مثيرة لالشمئزاز من االنحطاط القومي.
على مدى عقود خضعت "قيادات" األحزاب الشيوعية العالمية بشكل مذل حقا، إلمالءات البيروقراطية الستالينية الروسية. وتألفت
سياساتها من سلسلة من التقلبات والمنعطفات المتناقضة وفقا ألحدث مناورات ستالين؛ فحينا شجبوا العمال االشتراكيين الديمقراطيين
باعتبارهم "مرضى بالجرب" و "فاشيين"؛ وحينا دعوا للوحدة مع األحزاب البرجوازية المسماة ليبرالية؛ ثم حينا عارضوا الحرب مع
ألمانيا على أساس سالم بشروط هتلر، وحينا آخر قاموا بدور أسوء كاسري اإلضرابات من أجل "المصلحة الوطنية" بعد عام 1121.
يحاول مونتي جونستون، عن طريق التالعب باالقتباسات، "إثبات" تناقض تحليل تروتسكي بخصوص االتحاد السوفياتي. لكن
سلسلة الشقلبات السياسية التي قام بها أصدقائه: بوليت، ودوت، وغوالن، وكامبل،واآلخرون في الماضي مجرد تفاهات. ليست لتلك
المناورات أية عالقة مع الماركسية والمنهج الماركسي، إنها مجرد دليل على الغياب التام للمبادئ في مواقف جميع قادة الحزب
الشيوعي.
على مدى العقدين الماضيين عانت "الوحدة" الستالينية من سلسلة من الضربات الساحقة: انشقاق يوغوسالفيا، األحداث البولندية
والثورة الهنغارية عام 1141 ،وخصوصا النزاع بين الصين واالتحاد السوفيتي، مما أضعف القبضة الحديدية للبيروقراطية الروسية
98
على حركة األممية. لكن ما هو البديل الذي يقدمه قادة األحزاب الشيوعية "التقدميون" أو "اليساريون" على "خط موسكو"؟ هل هو
العودة إلى أفكار لينين؟ كال، مطلقا.
لقد استفاد قادة األحزاب الشيوعية في كل مكان من هذا الوضع لتأكيد حق كل بيروقراطية قومية في الحكم في مجالها الخاص
بها. "الطريق البريطاني نحو االشتراكية "، "الطريق البولندي نحو االشتراكية " كلها مظاهر للعقلية القومية الضيقة لقيادة األحزاب
الشيوعية وتصميمها على حماية مكانتها الخاصة في بلدانها "الخاصة"، دون أي "تدخل" من الخارج.
كان الموقف الذي اتخذه عدد من األحزاب الشيوعية األجنبية بخصوص تشيكوسلوفاكيا دليال على ذلك. لم يكونوا "ليتحملوا"، كما
كان عليه الحال في عام 1141 ،إجراءات البيروقراطية الروسية ونتائجها الكارثية. لم يقم غوالن وال دوت وال مونتي جونستون بأية
محاولة لتحليل أو تفسير غزو تشيكوسلوفاكيا. "أال يكفي أن قيادة الحزب قد نأت بنفسها عن عملية الغزو؟ ما الذي تشتكون منه؟"
نعم أيها الرفاق، لكن ما يثير اهتمام الماركسي ليست مجرد األفعال المهذبة )فقادة الجناح اليميني داخل حزب العمال أيضا "نأوا
بأنفسهم" عن غزو تشيكوسلوفاكيا!( بل تقديم تفسير لما حدث.
السبب الحقيقي الذي جعل بريجنيف ومعاونيه يقررون غزو تشيكوسلوفاكيا هو أنهم يخشون من التأثير الذي سيكون ألدنى التنازالت
الديمقراطية في تشيكوسلوفاكيا على العمال في روسيا. كان تحركهم دليال على توتر األعصاب وليس على الثقة والقوة. ورغم ذلك
يواصل غوالن وجونستون وأتباعهما العمل كما لو أن ذلك كان مجرد "خطأ مأساوي" من جانب البيروقراطية السوفياتية!
إن الموقف "المستقل" لقادة الحزب الشيوعي في الغرب تجاه موسكو ليس سوى وجه واحد من وجهي العملة. فعلى الجانب اآلخر،
لدينا الجهود الدؤوبة من قبل غوالن وفالديك روشيتس من أجل تجميل صورتهم أمام "الرأي العام" لبرجوازيتـ "هم" القومية. إن "الشكل
الجديد" للستالينيين أكثر إثارة لالشمئزاز من شكلهم القديم. إنهم صورة كاريكاتورية إلصالحية قادة األحزاب االشتراكية الديمقراطية
البائسة. وهكذا تم تغيير اسم جريدة "يومية العمال" إلى "نجمة الصباح"، ويؤكد قادة الحزب الشيوعي في جميع تصريحاتهم على عدم
ثوريتهم، واحترامهم البرجوازي ووطنيتهم العميقة التي تريد إعادة "عظمة" بريطانيا مرة أخرى. من الواضح أن الزعماء الشيوعيين
يريدون أن يثبتوا أنه يمكنهم أن يغنوا النشيد الوطني بصوت أعلى من قادة حزب المحافظين أو القادة اليمينيين لحزب العمال! حيث
أن علم المملكة يظهر في كل مظاهرات الحزب الشيوعي، إذ أنه رغم كل شيء علمـ "نا"...!
ومما له داللة أن نفس "منظري" الحزب الشيوعي الذين انتقدوا غزو تشيكوسلوفاكيا، هم من كانوا األكثر صخبا في دعم الدور
المشين الذي لعبته قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي ونقابة الكنفدرالية العامة للشغل CGT أثناء وبعد أحداث ماي من العام الماضي
]1111- المترجم-[.
هوامش:
]1 ]من أجل اإلطالع على تحليل األحداث التشيكية والفرنسية، راجع SPARK ،شتاء 1111-1111 .وأيضا تشيكوسلوفاكيا: رسالة
مفتوحة إلى مناضل في الحزب الشيوعي )لندن( وتشيكوسلوفاكيا )1111 )بقلم ف. كارالسينغام )الناشرين الدوليين، كولومبو(
]*[ مقياس أوزان روسي يساوي 31.11 كيلوغرام. -المترجم-
99
الفصل التاسع: خالصة
إن كتابة االفتراءات أسهل من الرد عليها. وقد قمنا في هذا المؤلف بالتعامل فقط مع األكاذيب والتحريفات الصارخة. لكن كل
منهج كوجيتو مونتي جونستون، في الواقع، منهج غريب عن الماركسية. إنه ليس موجها لتوضيح موقف تروتسكي، من أجل الرد
عليه، بل يعمل فقط على تزييف أفكار تروتسكي، من أجل جعلها هدفا للسخرية. ليس لمثل هذا المنهج أية عالقة مع منهج ماركس
وانجلز ولينين وتروتسكي، الذين أعطوا دائما توصيفا واضحا ونزيها ألفكار خصومهم، من اجل الرد عليها.
لكن اإلفالس النهائي لموقف مونتي جونستون كشفت عنه عبارة انزلقت من قلمه دون أن يالحظها تقريبا:
كتب في الصفحة 33« :إن النقد الماركسي الجوهري للستالينية، والذي ما يزال يتعين القيام به، لن يأتي من جانب تروتسكي...«
ها قد وجدناها إذن! "لقد تمخض الجبل فولد... فأرا!"، إذ بعد ستة عشر عاما على وفاة ستالين، وبعد ثالثة عشر عاما على
المؤتمر العشرين، ما يزال نقد مونتي جونستون "الجوهري للستالينية" ينتظر من يقوم به!
هذا هو االستنتاج العجيب الذي يفترض من أعضاء رابطة الشباب الشيوعي والحزب الشيوعي أن يأخذوه من عند "منظري" حركتهم.
إن "نموذج" تروتسكي "خاطئ تماما"، أما فيما يتعلق بنموذجنا، فحسنا، نحن ما زلنا ننتظره أن يتحقق!
ومن جانبنا، نحن ندعو أعضاء الحزب الشيوعي ورابطة الشباب الشيوعي إلى استخالص استنتاجاتهم الخاصة بعيدا عن أعذار
مونتي جونستون وأمثاله الواهية. اطرحوا السؤال على القيادة : لماذا ال يمكنكم أن توفروا لنا تحليال وتفسيرا للستالينية؟ لألسف! لن
يكون هناك أي رد وشيك. إن "الرفاق" السوفيات منشغلون في هذه اللحظة بالذات في مهمة إحياء ستالين، ويحاولون التراجع حتى
عن تلك التنازالت الضئيلة التي تم انتزاعها من أيديهم في الخمسينات. بالطبع سيتم غدا خلع بريجنيف وسيقدم أحد البيروقراطيين
"التقدميين" بعض التنازالت مرة أخرى، لمنع العمال من االنتقال إلى النضال. إن البيروقراطية في الواقع ستفعل أي شيء للعمال، أي
شيء باستثناء النزول من فوق ظهورهم!
من الواضح أن هذا النقاش لم يكن مرحبا به من قبل قيادة الحزب الشيوعي. لقد حاولوا تأجيله ألطول فترة ممكنة. لكن وبما أن
صورتهم "المستقلة" و"الديمقراطية" و"المحترمة" الجديدة على المحك، فإنهم لم يتجرءوا على االستمرار في منعه. وقد فتحت األحداث
التي هزت الستالينية العالمية في السنوات األخيرة الباب أمام مناقشات واسعة النطاق في صفو ف األحزاب الشيوعية. وأية محاولة من
جانب البيروقراطية لتضييق الخناق على النقاش حول تشيكوسلوفاكيا مثال، كانت ستؤدي إلى كارثة على غرار عام 1141 .لقد كبلت
األحداث أيديهم.
إن خيانة القيادة الستالينية لحركة العمال الفرنسيين أدت إلى اندالع احتجاجات واسعة النطاق و معارضة بين قواعد الحزب الشيوعي،
الذين، على عكس القادة، لم يفقدوا الوعي الطبقي والرغبة في تغيير المجتمع. وكذلك في بريطانيا دفعت األحداث في فرنسا
وتشيكوسلوفاكيا األعضاء األكثر وعيا بين صفوف رابطة الشباب الشيوعي والحزب الشيوعي إلى التفكير في المسائل األساسية التي
تواجه الحركة. وتحدث تطورات مماثلة بدون شك داخل الحزب الشيوعي اإليطالي وغيره من األحزاب األخرى.
أمس اهتزت الستالينية بسبب هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وبسبب فرنسا واالنقسام بين الصين واالتحاد السوفيتي. ماذا سيحدث غدا؟
إن الفترة القادمة ستفتح الباب أمام اندالع معارك طبقية جديدة ورهيبة على الصعيد األممي. تحت غطاء طفرة مرحلة ما بعد الحرب،
استعدت قوات شابة جديدة ال يلوثها يأس وكلبية الجيل األكبر سنا. إن النضاالت الرائعة التي تخوضها الطبقة العاملة اإليطالية
والفرنسية تعطي مؤشرا عن األحداث المقبلة. السؤال اآلن هو فقط ما الذي سوف يأتي أوال: الثورة االشتراكية في الغرب، أم الثورة
السياسية في الشرق؟
111
في أتون األحداث العظيمة سيتم تكوين واختبار القوات الثورية الجديدة. وسيأتي جزء كبير من هذه القوات، خاصة في فرنسا
وا ، لكن أيضا في بريطانيا، من بين صفوف األحزاب الشيوعية ورابطة الشباب الشيوعي. من واجب جميع الرفاق في هذه يطاليا
المنظمات إعداد أنفسهم نظريا للقيام بالمهام العظيمة التي تواجهنا. ليست النظرية شيئا يقدمه "مثقفو" الحزب على طبق من ذهب.
يجب على جميع الماركسيين الحقيقيين النضال من أجل تكوين وتثقيف أنفسهم باألفكار األساسية للماركسية وأساليبها وتقاليدها.
نجلز ولينين وتروتسكي جافة وأكاديمية وقديمة، بل إنها تحتوي على الدروس الحية لتجربة حركة الطبقة
ليست كتابات ماركس وا
العاملة في جميع البلدان ألكثر من قرن ونصف. إذا كان أعضاء الحزب الشيوعي ورابطة الشباب الشيوعي يرغبون في لعب دور
في بناء الحركة التي سوف تغير المجتمع على أسس اشتراكية، يجب أن يأخذوا هذه المهمة على محمل الجد.
على قاعدة األحداث وتكوين المناضلين الماركسيين والكوادر البلشفية، للمشاركة في الحركات الحتمية للطبقة العاملة في بريطانيا
وأمميا، سيكون النصر، في آخر المطاف، أكيدا في النضال من أجل فدرالية اشتراكية عالمية متحدة ومتناغمة. سوف يصير كابوس
الستالينية والرأسمالية مجرد ذكريات سيئة من الماضي، وازدهار القوى المنتجة العالمية، المندمجة في إطار نظام للرقابة والتخطيط
الديمقراطيين، سوف يمكن الفن والثقافة والعلوم من أن ترتفع إلى مستويات لم يسمع بها من قبل. وللمرة األولى سوف يصير اإلنسان
قادرا على رفع نفسه إلى مكانته الحقيقية في عالم متحرر من الحروب والفقر و القهر.
غشت / أكتوبر 1111