افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (7)


موسى راكان موسى
2017 / 4 / 20 - 09:51     



الرفض الكبير (ص 40ـ44) :


لقد استعاد ماركوز ، و على نطاق واسع ، هذا النقد (( للمجتمع الصناعي المتقدم )) و ذلك في ما سيصبح لاحقا أهم و أشهر و أوسع أعماله انتشارا : (( الإنسان ذو البعد الواحد )) .


يبدأ الكتاب في القسم الأول بتأكيد و إظهار درجة البطلان التي وصل إليها تحليل ماركس . إن الطبقة العاملة الموصوفة في رأس المال لم تعد موجودة أو أن وجودها كان في طريق الانطفاء ، و أصحاب الياقات الزرق كانوا في انخفاض مستمر و ثابت . و على العكس من ذلك فإن الاستخدام في قطاعات التوزيع و الخدمات كان في ازدياد . و أكثر من ذلك ، و في الانتاج الصناعي نفسه ، فإن الأمور كانت تسير بشكل مختلف تماما عما كانته في عصر (( الرأسمالية التقليدية )) . بالنسبة لماركس كانت البروليتاريا في البداية العامل اليدوي الذي يصرف و يبدد طاقته في سياق سيرورة العمل ، حتى و لو كان يعمل بالآلات ، إن امتلاك و استخدام هذه الطاقة الجسدية في ظروف تفوق احتمال البشر ، لصالح التملك الفردي لفائض القيمة ، كان بحد ذاته يفترض السمات اللا إنسانية و الظالمة لعملية الاستغلال . إن المفاهيم الماركسيانية حول (( العمل المأجور )) و (( فائض القيمة )) كانت تدين العذاب الجسدي و فقر العامل . و هذا العنصر المادي ، الحاسم في استعباد و استلاب الأجير ، حتى و لو لم يكن هو كل شيء ، فإنه كان بالتأكيد العامل المركزي . و في عصر الرأسمالية الكلاسيكية فإنه كان للاستغلال أخيرا بعدا (( فيزيولوجيا و بيولوجيا )) في حين أنه في ظروف المجتمع التكنولوجي المعاصر ، تغير الإطار تماما .


و يكتب ماركوز قائلا بأن (( المكننة تخفف أكثر فأكثر من كمية و حجم الطاقة الجسدية المستهلكة في العمل )) و أكثر من ذلك فإنه (( يبدو أن المكننة تغير نوعيا العلاقة القائمة بين العمل الميت و العمل الحي )) . أنها تتقدم بإتجاه النقطة التي تصبح فيها الانتاجية محددة (( بالآلات و ليس بالانتاج أو الحصيلة الفردية )) . في مثل هكذا ظروف فإن مواصلة الحديث مع ماركس عن (( القيمة )) و عن (( فائض القيمة )) ، كما لو أنها كانت أشياء ينتجها العمل البشري ، لم يعد لها أي معنى . و التحليل لم يكن ليختلف كثيرا من حيث المضمون عن ذلك الذي قدمه في نفس الفترة تقريبا باران و سويزي في كتابهما الشهير : (( الرأسمال الاحتكاري )) .


و حتى في هذه الحالة ، كنا أمام عملية تخل عن المفهوم الماركسياني حول (( فائض القيمة )) (و كان ذلك مدعما بأسباب أكثر تقنية طبعا) لصالح مفهوم أكثر غموضا و لا تحديدا (( للفائض )) . و في نفس الوقت فإن الاقتصاديين الأمريكيين الماركسيين كانا يفضلان مفهوم (( العمل المأمور أو المرؤوس )) (و هو مفهوم أكثر غموضا و تسامحا) على مفهوم (( العمل المأجور )) الكلاسيكي .


[ لا ينبغي أن ندهش لهذا التوافق بين الكاتبين الأمريكيين و ماركوز : ذلك أن باران كان شديد التأثر بكتاب (( العقل و الثورة )) ، فيما أظهر سويزي على الدوام تعاطفا كبيرا مع أطروحات ماركوز ] .


و قد استخلص ماركوز نتيجة أخرى من الدور الجديد الذي جاءت التكنولوجيا للقيام به في المسيرة الانتاجية المعاصرة : ضياغ قيمة (( المفهوم القائل بأن القوى التاريخية المحررة تتطور في حضن المجتمع المتشكل )) . و هو مفهوم ، يقول عنه ماركوز ، بأنه (( حجر الزاوية في النظرية الماركسية )) .


و منذ اللحظة التي قامت فيها التكنولوجيا بتخفيف (( التعب العضلي )) و عموما ، دور قوة العمل البشري في الانتاج الممكنن و الآلي ، فإن قوة عناصر المعارضة الداخلية للنظام كانت تخف أيضا ، أي و ببساطة إن الوزن السياسي للطبقة العاملة كان يخف . و يلاحظ المؤلف بأن (( الصراعات الطبقية تخف )) .


و يظهر في المجتمع الرأسمالي ، بعد بلوغه مستوى (( المجتمع الصناعي المتقدم )) ، توحدا و تماسكا لم تعرفهما مراحل المجتمع الصناعي السابقة .


إن عالم البعد الواحد كان بالضبط مجتمع الإجماع (( و الاندماج )) الكلي هذا : أنه دوامة رهيبة نجحت في أن تسحب في شباكها و أن تحتوي في النهاية حتى ما كان ينبغي أن يكون عدوها الالد ، الطبقة العاملة . لقد كان ماركوز مترددا في أن يعلن إتفاقه مع سيرج مالليه الذي تحدث بوضوح عن (( الاندماج الطوعي )) . و لكنه كان يشير مع ذلك إلى وجود سلسلة من الظواهر المثيرة للقلق في أوساط و أعمال الكثير من تحاليل علم الاجتماع الأمريكي : (( الرغبة الحارة من طرف العمال في (( المشاركة )) في حل مشكلات الانتاج ، و رغبة في العمل بنشاط لتطبيق ذكائهم الخاص في معالجة المشكلات التقنية و مشكلات الانتاج ، و هو أمر تفترضه التكنولوجيا بالضبط )) .


إن التعليل الذي كان يقترحه ، كان يشير إلى السبب النهائي لهذا العالم المغلق حيث كانت تتلف و تستنفذ عبودية و استغلال الانسان حتى في أدق نبضات الروح و أسرارها [يقول ماركوز أنه (( إذا كان الأفراد راضين إلى حد الفرح و السعادة بالمنافع و الخدمات المقدمة لهم ، و إذا كانت المنافع التي ترضيهم تتضمن أيضا الأفكار و المشاعر و التطلعات ، فلماذا يتوجب عليهم إذن إرادة التفكير و الشعور و ممارسة خيالهم بأنفسهم ؟ ))] ، و ذلك ضمن إطار العقلانية التكنولوجية ـ و يضيف الكاتب مؤكد أنه (( في عملية توسط التشيؤ هو نظام و جمال مطلق ... موضوعات في نسق قابل للاستهلاك . إن الفعالية و الانتاجية الكلية للجهاز الذي يتضمنهما تخفيان عن الأنظار المصالح الخصوصية التي تنظم الجهاز . و بكلمة أخرى فإن التكنولوجيا قد أصبحت أكبر قاطرة لإعادة التشييء [...] و إضافة إلى أن الموقع الاجتماعي للفرد و علاقته بالباقين تحددهما سمات و قوانين موضوعية ، فإن هذه الأخيرة تفقد صفتها الغامضة و غير المسيطر عليها ، و تظهر و كأنها تجليات محسوبة للعقلانية (العلمية) )) و يختتم ماركوز قائلا (( إن خيوط عنكبوت السيطرة قد أصبحت خيوط العقل نفسه )) . إن الاستغلال أو كما يحب أن يقول الكاتب السيطرة ، كانت كامنة إذن في التكنولوجيا ذاتها . و الاستيلاب يتولد من الانتاج الصناعي بصفته تلك ، و الصناعة بدورها تستلب لأنها كانت مبنية على العلم ، على العقلانية المنطقية . و يكتب ماركوز (( بأن العقل كفكر تجريدي و كسلوك هو بالضرورة تسلط ، سيادة ، و سيطرة )) . و دون أن يخشى الاقتراب من السخف ، أشار ماركوز أيضا إلى السبب : (( بإلتقاطه لكل حالة خاصة تحت ظل قاعدة عامة ـ كلية ، بإخضاعها لكليته و شموليته ، فإن التفكير يصل إلى السيطرة على الحالات الخاصة )) ، إلى ممارسة الرقابة و العنف عليها .


سنعود لاحقا إلى هذه الموضوعات حين نتناول مفهوم العلم في سنوات السبعين . و بعد أن أثبت أن التكنولوجيا تفترض السيطرة و الاستغلال ، ماذا يقترح ماركوز و بقية كتاب مدرسة فرنكفورت للمستقبل ؟ .


لقد كانت مدرسة فرنكفورت فقيرة بالإشارات السياسية و كانت تميل تارة إلى التأمل في العودة النقية و البسيطة إلى العصر الأبوي البطريكي ، و طورا إلى فكرة أن تحرر الانسان ينبغي أن يتاح من خلال نوع من العلم و التقنية جديد جذريا ، و صعب التخيّل ، و مع ذلك مختلف عما هو عليه العلم و التقنية حتى تلك اللحظة . و كما لاحظ أيضا هابرماس ، فإنه خلف هذا الحلم بعلاقة ربما هي غير موضحة بصورة أفضل ، و لكنها جديدة جذريا ، بين الانسان و الطبيعة ، تعود إلى الظهور موضوعات و مفاهيم ميثولوجية سحرية قديمة . و قد تكلم هابرماس عن هذا المفهوم (( المعروف جدا من قبل التصوف اليهودي و البروتستانية ، و هو مفهوم قيامة أو بعث الطبيعة المخلوعة (الساقطة) . و هذا (( المكان الجغرافي )) تغلغل كما يعرف الجميع بواسطة مذهب التقوى في فلسفة شلينغ (و بادر) و هو يحدد اليوم الفكرة المركزية لفلسفة بلوخ ، و بشكل مستعار ، يحيي الآمال الأكثر سرية لأمثال بنيامين و هوركهايمر و أدورنو )) . و من جهته لم يستطع ماركوز الخروج من الضباب و الغموض . لقد اكتفى بالإشارة إلى أو استدعاء (( تكنولوجيا جديدة )) دون أن يقدم لهذا الأمر العناصر الملموسة ، و كتعويض فإنه حدد (( الرفض الكبير )) كوسيلة وحيدة لقلب المجتمع . و في ظروف استحالة الاعتماد على معارضة القوى الداخلية في المجتمع و في مواجهة (( إندماج )) الطبقة العاملة ، فإن ماركوز جعل آماله الأخيرة معلقة على (( القوى الخارجية )) أي على (( حثالة بروليتاريا )) الحاضرات الاستعمارية و الجماهير المحرومة في العالم الثالث . و هو قد اختتم كتابه (( الإنسان ذو البعد الواحد )) بهذا التكهن . و كان الكاتب يكتشف (( تحت القاعدة الشعبية المحافظة ، أساس المنبوذين و الغرباء و المستغلين و المضطهدين من بقية الأجناس و الألوان ، و العاطلين عن العمل و العاجزين )) (( إنهم يظلون خارج السياق الديمقراطي [...] و لذلك فإن معارضتهم ثورية )) . و يستنتج ماركوز بأن هذه المعارضة (( تضرب النظام من الخارج فهي إذن غير محرومة من النظام ، إنها قوة أساسية تغتصب قواعد اللعبة و بذلك فهي تظهر بأن اللعبة مغشوشة )) .