لينين: في عيدِ مولده الخمسين


ليون تروتسكي
2024 / 1 / 24 - 23:45     

ترجمه ‫الى العربية‫:‬ حاتم بشر

لا تحتاج أممية لينين إلى مديح. ومن الأفضل وصفها بقطيعة لينين التي يستحيل لأمها مع تلك النزعة الأممية الزائفة التي هيمنت على الأممية الثانية في الأيام الأولى من الحرب العالمية. لقد استعمل القادة الرسميون للـ"إشتراكية" المنبر البرلماني من أجل التوفيق بين مصالح الوطن ومصالح البشرية، عن طريق الحُجَج المجردة بروح الكوزموبوليتانيين القُدامى. لقد أدى هذا، في الممارسة العملية، كما نعرف، إلى مؤازرة القوى البروليتارية للوطن النّهَّاب.‬

‫إنَّ أممية لينين ليست بأي شكل من الأشكال وصفة للتوفيق اللفظي بين الأممية والقومية. إنها وصفة للعمل الثوري الأممي. إن النطاق العالمي الواقع في براثن ما يُسمَّىَ: القسم المتحضِّر من البشرية لهو بمثابة ساحة موحَّدة لصراعٍ جبّار تدور رحاه، تتشكل عناصره المكوِّنَة من الشعوب المتمايزة وطبقاتها الخاصة. ولا يمكن لأي قضية رئيسية أن تظل محصورة داخل إطارٍ وطني. فعبر خيوطٍ ظاهرة أو خفية، تنتظم قضية كهذه مع العشرات من الأحداث في جميع أنحاء العالم. إن لينين أكثر تجرُّداً من أي شخصٍ آخر من التّحيُّزات القومية فيما يتصل بتقدير القوى والعوامل العالمية.‬

‫خلص ماركس إلى أن الفلاسفة قد فسّروا العالم بما فيه الكفاية وأن المهمة الحقيقية هي تغييره. إلاّ أنه، تلك العبقرية الأصيلة، لم يعش ليشاهد تلك المهمة تتحقق. والآن، يجري تحويل العالم القديم على قدمٍ وساق، وإن لينين لهوَ العامل الأول في هذه المهمة. إنّ أمميته لهي تقييم عملي علاوة على كونها انخراط فعلي في سيرورة الأحداث التاريخية الجارية على نطاق عالمي ولأهداف عالمية. إن روسيا ومصيرها ليست سوى عنصر واحد في هذا الصراع التاريخي الهائل الذي يتوقف على نتائجه مصير البشرية. ‬

‫لا تحتاج أممية لينين إلى مديح. عدا أن لينين نفسه، في ذات الوقت، وطنيٌّ بعمق. جذوره ضاربة في التاريخ الروسي الحديث، وهو يشخصها في ذاته، ويعطيها أكمل تعبير، وعلى هذا النحو بالتحديد يبلغ أعلى مستويات العمل الأممي والتأثير العالمي.‬

‫للوهلة الأولى قد يبدو توصيف لينين كشخصية "وطنية" أمرا عجباً، ولكن في الجوهر، تلازمه الوطنية كطبيعة بكل تأكيد. فلكي يكون قادراً على قيادة مثل هذه الثورة كالتي تعيشها روسيا الآن، والتي لا نظير لها في تاريخ الشعوب، فمن الواضح أنه من الضروري أن يكون على صلة عضوية لا انفصام لها مع القوى الجوهرية في حياة الشعب، وهي صلة تنبثق من أعمق الجذور. ‬

‫يجسد لينين البروليتاريا الروسية. وهي طبقة يافعة، لا تكاد، سياسيا، أن تكون أكبر سِنّاً من لينين نفسه. ولكنها طبقة وطنية بعمق، يتلخص فيها ماضي روسيا بأسره، يكمن فيها مستقبل روسيا بأسره، والتي بها تنهض الأمة الروسية أو تهوي.‬

‫التحرر من الروتين والتفاهة، التحرر من الدجل والتقليد، قوة التفكير، الجرأة في العمل- الجرأة التي لا تتحول أبدا إلى تهور- هذا ما يميز الطبقة العاملة في روسيا، ومعها لينين أيضا. ‬

‫إن طبيعة البروليتاريا الروسية التي جعلت منها اليوم أهم قوة في الثورة الأممية، قد تبلورت سلفاً عبر مجمل صيرورة التاريخ الوطني الروسي: القسوة الوحشية للأوتوقراطية القيصرية، حقارة الطبقات الثرية، النمو المحموم للرأسمالية الذي تغذيه حثالة سوق الأوراق المالية العالمية، ملكية الدولة كخصيصة للبرجوازية الروسية، أيديولوجيتها المنحطة، سياساتها الخسيسة. "المِلكية الثالثة" عندنا لا تعرف لا الإصلاح ولا ثورة كبيرة لملكيتهم الخاصة، وما كان لهم أن يعرفوا ذلك أبدا. لذلك فإن المهام الثورية للبروليتاريا الروسية قد اتسمت بطابع أكثر شمولا. تاريخنا الماضي لا يعرف لا لوثر، ولا توماس منزر، ولا ميرابو، ولا دانتون، ولا روبسبير. ولهذا السبب بالضبط فإنه لدى البروليتاريا الروسية لينين. فما كان خاسرا في طريق التقليد قد أحرز النصر في مجرى الثورة. ‬

‫يعكس لينين الطبقة العاملة، ليس في حاضرها البروليتاري فقط، وإنما، أيضا، في ماضيها الفلاحي، المستمر حتى الآن. إن قائد البروليتاريا المعترَف به أكثر مِنْ سواه هذا، لا يشبه الفلاحين ظاهريا وحسب، بل إن ثمة شيئاً ما، في أعماقه، له قوة لطمة الفلاحين. قبالة سمولني، ينتصب تمثالُ شخصيةٍ عظيمةٍ أخرى من البروليتاريا الأممية: كارل ماركس، فوق قاعدة حجرية، في معطف أسود مشقوق الذيل. يقيناً، وهذا شيء غير ذي بال، لكن من المستحيل حقاً تخيل لينين مُغمدٌ في معطف أسود مشقوق الذيل. بعض بورتريهات ماركس تصوره مرتدياً سترة بخلاف تلك الفضفاضة الوسيعة وشيء ما يشبه نظارة مُدلاّة. ‬

‫لم يكن ماركس يميل إلى الأناقة، وهذا واضح تماما لكل من له أدنى معرفة بروحية ماركس. ولكن ماركس قد ولد وترعرع على تربة ثقافية وطنية مختلفة، وعاش في بيئة مختلفة، شأنه في هذا شأن الشخصيات البارزة في الطبقة العاملة الألمانية، الذين تمتد جذورهم لا إلى قرية الفلاحين، بل إلى المؤسسة، النقابات، إلى الثقافة المعقدة للمدينة القروسطية. ‬

‫أسلوب ماركس ثري وجميل للغاية، حيث القوة والمرونة، الغضب والتهكم، الشدة والصقل ممزوجة كلها معاً، كما يشتمل أيضاً على تراكمات أدبية وجمالية من كل الأدب الألماني الإجتماعي السياسي، منذ أيام الإصلاح وحتى قبل ذاك. أسلوب لينين الأدبي بسيط على نحو مذهل، عملي، متقشف، كما هو شأن تركيبته بأسرها. ولكن، ليس هنالك في هذا الزهد الاستثنائي أثرا لموقف أخلاقوي. لا يوجد ههنا مُعتَقَد، ولا أي نسق توجيهي، وبطبيعة الحال، ما من زهو. لكنما هو ببساطة التعبير الخارجي عن تكريس القوة الداخلية من أجل المعركة. إنها براعة الفلاحين العملية ولكن على نطاق هائل.‬

‫ماركس ماثلٌ بأكمله في البيان الشيوعي، في مقدمة نقده [نقد فلسفة الحقوق عند هيغل- الإضافة من المحرر]، وفي كتاب رأس المال. فحتى لو لم يكن مؤسس الأممية الأولى فلسوف يظل على الدوام ما هو عليه اليوم. لينين، من الجهة الأخرى، ماثلٌ كله في النشاط الثوري. ان أعماله العلمية ليست سوى تحضير للعمل. لو أنه لم ينشر كتابا واحداً في الماضي، فإنه يلج في التاريخ إلى الأبد فقط لأنه يدخله الآن: زعيم الثورة البروليتارية، ومؤسس الأممية الثالثة. ‬

‫إن وجود نسق علمي واضح- المادية الجدلية- ضروري من أجل النشاط على نطاق تاريخي كهذا كما هو مأثورٌ عن لينين- إنه ضروري ولكن غير كافٍ. توجد، ههنا، حاجةٌ، فضلاً عن ذلك، تتمثل في القوة الإبداعية التي لا سبيل إلى انكارها، تلك التي ندعوها بالحَدْس: القدرة على تقدير الأحداث أثناء طيرانها على نحوٍ صحيح، القدرة على استخلاص الجوهري والهام من ثنايا القشور والنِّثار، القدرة على ملء فراغات الصورة عقلياً، القدرة على الخلوص إلى استنتاج أفكار الآخرين وقبل كل شيء أفكار العدوّ، القدرة على ربط هذه جميعها في كل واحد، والقدرة على التعامل مع الضربة في اللحظة التي يتصاعد فيها إلى أفق الوعي ”نموذج“ تلك الضربة. ذلك هو الحدس المتصل بالعمل، وهو في أحد جوانبه يتطابق مع ما نسميه بالتبصر. ‬

‫عندما يدير لينين عينه اليسرى مصغياً عبر المذياع إلى خطبة برلمانية لأحد صانعي القرار الإمبرياليين أو يمر على نَصّ آخِر مُذكرة ديبلوماسية، أي خليط الخِداع المتوحش والرياء المشذب؛ فإنه يشبه موجيك [فلاح روسي- المترجم] داهية لا تنطلي عليه لا الكلمات ولا العبارات المعسولة الخدّاعة. ذلك هو دهاء الفلاحين المتسامق إلى العبقري والمسلح بالكلمة الأخيرة للفكر العلمي. ‬

‫ِلم تقدر البروليتاريا الروسية على إنجاز ما لديها إلا لأنها جرت وراءها جذورها، الكتلة الثقيلة للفلاحين. وقد أعدّ كل هذا مجمل تاريخنا الوطني. ‬

‫ولكن، بالضبط لأن البروليتاريا قد وصلت إلى السلطة من خلال مجرى الأحداث، تمكنت ثورتنا فجأة وعلى نحو جذري من التغلب على الضيق الوطني والجهالة الريفية في تاريخ روسيا الماضي. أصبحت روسيا السوفياتية لا ملاذا للأممية الشيوعية فحسب، وإنما تجسيداً حياً لبرنامجها وأساليبها كذلك. ‬

‫عبر طرائق مجهولة لم يستكشفها العلم بعد، والتي من خلالها تتشكل الشخصية الإنسانية، تَمثَّل لينين من البيئة الوطنية كل ما يلزمه لأكبر عمل ثوري في تاريخ البشرية. بالضبط لأن الثورة الاشتراكية، التي لطالما كان لها تعبيرها النظري الأممي، قد وجدت لأول مرة في لينين تجسيدها الوطني، صار لينين، بالمعنى الكامل والحقيقي للكلمة، الزعيم الثوري للبروليتاريا الأممية. وعلى هذا الحال وجده عيد ميلاده الخمسين. ‬

نيسان/ابريل 1920