الشيوعيون و المسألة القومية (الوحدة العربية)


غسان صمودي
2017 / 3 / 22 - 11:03     

وقفت أحزاب الطبقة العاملة على الدوام مع الحركات القومية الثورية، تؤيدها و تساندها و تشارك في انجاز مهامها التقدمية. و مع ذلك فإن موقف الأحزاب العمالية الثورية من قضايا القومية و الوحدة، ينطلق من موقف طبقي في الأساس يرعى مصالح الطبقة العاملة و الطبقات الشعبية. كما يشجب نزاعات القومية الشوفينية الرجعية و المعادية للتقدم و لمصالح الجماهير الشعبية الواسعة، و يدين اي مشروعات وحدوية بين الشعوب لا تراعي المساواة في الحقوق و تستبعد التسلط و السيطرة من جانب على الاخر.
و قد كان مفهوم القومية، منذ زمن طويل محل تنازع و صدام عنيف بين القوى الاجتماعية المختلفة، كل يحاول أن يعطيه المضمون الذي يتمشى مع مصلحته الطبقية.
و من هذا المنطلق، يتعين علينا كشيوعيين، تحديد المضمون و المحتوى الثوري لهذه القومية و [القومية العربية]، الذي يعكس طبيعة المرحلة الثورية التي تجتازها ثورة التحرر العربي الوطنية الديمقراطية.
تجدر الإشارة إلى أن الحركات القومية العربية و فكرة [الوحدة العربية ] ترجع في بداياتها إلى القرن التاسع عشر، صاحبت النهوض القومي للشعوب العربية، و حركة الإنبعاث التي تأثرت بتيارات القومية الأوروبية التقدمية. و قد حاولت الطبقات الإقطاعية في البلدان العربية أن تقود هذه الحركة في خدمة مصالحها متمسكة بالخلافة الاسلامية العثمانية و المفهوم الإسلامي المرتبط بهذا الموقف و متأرجحة حينا بتطلعات قطاعات منها إلى تحقيق الإستقلال الذاتي و المشاركة في السلطة المحلية.
أما الحركات القومية التقدمية و الثورية، فقد نشأت و تدعمت في أوساط البرجوازية العربية الناشئة و الناهضة، و بخاصة في المشرق العربي و في مصر، حاملة المفهوم العلماني التقدمي للقومية. و مع ذلك فقد ظل مفهوم القومية يختلط بالمفهوم الإسلامي، نتيجة الهجوم المبكر من جانب الاستعمار الغربي، و محاولة سحق المنظومة القيمية العربية و الاسلامية، و قد وجدت الشعوب العربية بحق في مقومات دينها كما شرحه المفكرون المسلمون العقلانيون أمثال جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و الطهطاوي .... و في تراثها العربي الاسلامي المستنير احد اسلحتها الهامة في الدفاع عن شخصيتها و وطنيتها و عن تطلعاتها في الحرية و الإستقلال، كما في أدبائها و مثقفيها المقاومين بشعرهم فيما يأخذنا شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي في قوله "اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر و لا بد لليل أن ينجلي و لا بد للقيد أن ينكسر".
و بعد ثورة 1952 و سقوط الحكم الملكي الإقطاعي في مصر و مع تصاعد الحركة الوطنية الثورية العربية في مواجهة الإستعمار القديم و الإمبريالية الأمريكية و مع احتدام الصراع ضد مشاريع الأحلاف العسكرية، و قيام الثورة الجزائرية و صمودها و انتصارها و تصاعد الحركة الثورية في المغرب العربي و تفجر الثورات في العراق و اليمن و السودان، و أساسا في مرحلة العدوان الثلاثي عام 1956 و الفترة التالية لها، برز دور التضامن العربي و المساندة و الدعم المتبادل، و تعمقت معاني [القومية العربية ] و الوحدة، اذ توحدت فعلا الحركة الثورية العربية أمام العدو المشترك و من ثم تبلورت [الحركة القومية] و برزت زعامتها القوية التي تمثلت في الناصرية، و إلى جوارها التيارات القومية البرجوازية الأخرى و بخاصة البعث العربي. لقد تزعمت هذه القيادات البرجوازية الوطنية و أحزابها القومية حركة النضال العربي ضد الإمبريالية في هذه المرحلة. و أسهمت بلا شك في تدعيم حركة [القومية العربية ] بمضمونها الوطني و التقدمي.
حركة [القومية العربية ] اذن من حيث النشأة والصعود، هي حركة وطنية و ثورية في الأساس، تجسد إرادة النضال العربي و وحدة كفاح الشعوب العربية ضد الإستعمار و الإمبريالية من أجل التحرر الوطني و الإستقلال.
و مع ذلك فقد كان ينقص هذه الحركة عامل حاسم في التشكيل القومي في مرحلة الثورة البرجوازية و هو [الإقتصاد المشترك].
و قد أفضى هذا العامل إلى بروز خصوصية و تمايز. فلا شك أن واقع التجزئة التاريخية في العالم العربي أدى إلى نشأم برجوازيات محلية و نموها بدرجات متفاوتة في كل بلد عربي. كما أدى إلى اكتساب هذه البرجوازيات المحلية لذاتية خاصة و استقلال داخل إطار سوقها المحلي. و بقدر قوة البرجوازية المحلية و نموها و الاتساع النسبي لسوقها المحلي، كانت بعيدة عن مفهوم القومية العربية.
و ذلك يفسر ما اتسمت به حركة البرجوازيات العربية عموما تجاه قضية القومية من تردد و تخبط بين اتجاهين متناقضين : الإتجاه البرجوازي و الإتجاه الإنفصالي.
إن هذه الحركة البرجوازية العربية عندما تحدق الأخطار بها، لا تلبث حتى تنكمش و تنغلق داخل حدودها و تفجر الصراعات بل و تقود الحركات الإنفصالية و تتآمر على الوحدة، جريا وراء مصالحها الطبقية الضيقة. و قد شهد تاريخ هذه الحركات كيف أن الأحزاب القومية الموحدة تنقسم و تتفتت (البعث العربي - القوميين العرب) و يرتفع مستوى العداء بينها، على عدائها للرجعية في كثير من الأحيان. و يزيد من حدة التناقضات بين البرجوازيات العربية نموها غير المتكافئ، وسعي البرجوازية الأكثر نموا وقوة السيطرة و التسلط و التوسع على حساب الأضعف. و بهذا تفتضح حدود المصالح الأنانية للبرجوازيات العربية و الصراعات التي تغلب في كثير من الأحيان على المصلحة المشتركة احركة الشعوب العربية الوطنية التحررية عامة.و من هنا أيضا يتضح أن البرجوازيات العربية هي آخر من يؤتمن على قضية الوحدة، بحكم مصالحها الطبقية الضيقة و الأنانية، و أن القوى القادرة على انجاز هده الوحدة على أسس سليمة و علمية ناجحة هي الطبقـــــة العــاملة ، بحكم مصالحها أيضا، التي تلتقي مع أهداف الوحدة.و من هنا تبرز ضرورة انتقال الثورة العربية إلى مرحلة جديدة، يتعمق فيها المضمون الوطني الديمقراطي و المحتوى الإجتماعي للقومية. و لن يتحقق ذلك إلا بتغيير في قيادتها، بأن تتولى الطبقة العاملة الدور القيادي في حركة التحرر الوطني، كما أن الإنتقال إلى هذا الوضع المتقدم يتطلب من قوى الثورة الإشتراكية و قوى التحرر الوطني تشكيل الجبهة الأممية المناهضة للهيمنة الإمبريالية و الإستغلال الطبقي و الإضطهاد العرقي و الديني و القومي و الجنسي و هذا يندرج في بناء "عولمة المقاومة الثورية الوطنية نقيضا تاريخيا لعولمة رأسمالية عدوانية عنصرية".
إن الإشتراكية هي المناخ الأمثل لتطور هذه الحركة و انتصارها. و لكن ذلك لا يعني تأجيل الوحدة أو التخلي عن النضال من أجلها و من أجل دعم القومية العربية كحركة توحيدية نضالية ثورية ث، حتى تتحقق الثورة الإشتراكية، بل يعني أن تستند إلى مبادئ الثورة الوطنية الديمقراطية و تعتمد على الجماهير الشعبية الكادحة و تستهدف استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية و الإنتقال إلى الإشتراكية.
فليست الوحدة هدفا في ذاتها، بل هي وسيلة الجماهير العربية لبلوغ هدفها الأساسي، و هي المضي بثورتها، و دفعها إلى الأمام و تقدمها في طريق التحرر و الإشتراكية.
و النضال من أجل التحرر و الإشتراكية هي الأهداف الإستراتيجية للثورة العربية. و يمكن تلخيص الشروط الضرورية للوحدة الثورية في وحدة مناهضة الرأسمالية و الإمبريالية و الصهيونية و الرجعية العربية، انها الوحدة التي تقوم على الأسس الديمقراطية و الاختيار الحر و تستند بالضرورة إلى تحالف جبهوي ديمقراطي بين القوى الوطنية الثورية و أحزابها.
كما أن أشكال الوحدة و مراحلها تتحدد انطلاقا من الواقع الموضوعي للشعوب و مع المراعاة الكاملة لخصائصها و سماتها المميزة. "فليست كل وحدة انجاز تقدمي و ليس كل نضال من أجل الوحدة عمل تقدمي". و الشيوعيون لا يخضعون للإرهاب الفكري للبرجوازية، فيؤيدون عمليات توحيد رجعية، تتعارض مع مصالح الوطن، خشية أن يتهموا بالعداء للوحدة و القومية. فالشيوعيون هم في مقدمة المناضلين من أجل بناء الأمة العربية الواحدة و أقدرهم على تحقيق وحدتها على أسس ثورية ديمقراطية و بآفق أممي.
و لذلك فنحن نناضل من أجل دعم حركة التضامن و الوحدة بين القوى الثورية العربية و نسهم في كل خطوة وحدوية ثورية تتم على أسس اختيارية ديمقراطية تحترم مصلحة النضال ضد الصهيونية و الإمبريالية و عملائها و من أجل التقدم الإجتماعي و الإشتراكية.