ثورات التحرر الوطني و استمرار الصراع


غسان صمودي
2017 / 3 / 3 - 18:53     

إن انهيار النظام الكولونيالي يشكل مرحلة هامة من مراحل التاريخ، و يعتبر واحدا من العوامل الرئيسية في تعميق و مفاقمة الأزمة العامة للرأسمالية.

ظلت الشعوب المستعمرة المقهورة تقاتل الإمبريالية بكل قواها منذ البداية. و الإمبريالية كانت فيما مضى، الطرف الأقوى، و لذلك سحقت انتفاضات الشعوب بكل وحشية. لكن "إرادة الشعوب لا تقهر" اذ تمكنت هذه الشعوب المستعمرة من طرد المستعمر الإمبريالي، و بفضل انبثاق المنظومة الاشتراكية العالمية أفقدت الإمبرياليين مواقع هيمنتهم اذ مكنت الشعوب المقهورة من الإنتصار.
و على هذا النحو، فالنضال التحرري للشعوب المقهورة ارتبط سابقا بنشاطات القوتين الثوريتين الرئيسيتين : المنظومة الإشتراكية و حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية.
إن تلك الأوضاع الجديدة التي تطورت في ظلها حركات التحرر الوطني أثرت على طبيعة هذه الحركات و قواها المحركة و آفاق مستقبلها.
إن المستعمرات السابقة و أشباه المستعمرات لا تملك، بوجه عام، الشروط المادية أو الإجتماعية اللازمة للإنتقال إلى الإشتراكية. و لذلك لا تعد ثورات التحرر الوطني إشتراكية بل ثورات وطنية ديمقراطية معادية للإمبريالية تسعى لنيل الإستقلال أولا، و إجراء إصلاحات ديمقراطية لصالح الشغيلة ثانيا. و يتوقف تطور هذه المنجزات على ميزان القوى الطبقية في حركة التحرر الوطني.
و تقوم ثورات التحرر الوطني، في العادة، على تحالف عريض بين قوى إجتماعية تضم المثقفين و الطبقة العاملة الوليدة و الفلاحين و البرجوازية الصغيرة في المدن و قطاعات من البرجوازية الوطنية المعادية للإمبريالية بوجه عام. و أهم ما في هذا التحالف هو قيادته السياسية.
ومثال ذلك ما سارت علية حركة التحرر الوطني بتونس، اذ قادت البرجوازية الكولونيالية عملية التحرر، و أوصلت هذه الحركة التحررية إلى مأزق طبقي أوصلتها إليه قيادة البرجوازية الصغيرة .
و مما تجدر الإشارة إليه أن الثورات الوطنية التحررية قد تتطور إلى ثورات إشتراكية في البلدان التي تتمكن فيها الطبقة العاملة و الأحزاب الشيوعية من قيادة النضال الجماهيري مثلما حدث في كوبا و الصين. و لكن حينما تكون الطبقة العاملة غائبة أو ضعيفة، تنجح الأحزاب الوطنية الديمقراطية في تسلم قيادة ثورات التحرر الوطني، و تتآلف هذه الأحزاب مع الفئات المثقفة التقدمية المحلية و عمال المكاتب و بعض العسكريين. و تتبنى بعض هذه القيادات الطريق الإشتراكي هي الأخرى، و لكنها تتطور بطريقة أكثر تعقيدا و سرعان ما تفشل.
و لكن حينما تتسلم العناصر الرأسمالية قيادة الثورة الوطنية التحررية نجد أن حل معضلات التحرر الوطني و الإطاحة بالإقطاع تتعرقل تماما بسبب الإجراءات النصفية و التراجعات. و تميل مثل هذه البلدان إلى حبس الثورة في إطار الرأسمالية.
إن انهيار النظام الكولونيالي أبعد من أن يعني اختفاء الكولونيالية اختفاء كليا. إن الرأسماليين يرفضون التخلي عن نفوذهم في المستعمرات و يلجأون إلى أساليب محسنة لمواصلة نهب البلدان المحررة حديثا.
و كخطوة أولى تسعى القوى الإمبريالية لأن تضع خدمها المطيعين على رأس السلطة في هذه البلدان الفتية، خدما أوفياء للسياسة الإستعمارية، و ما أن تنجح في تحقيق ذلك فإن إعلان الاستقلال يكف عن احداث أي تغيير في حياة الشعب.
و قد بدأ الإمبرياليون مساعيهم لجر المستعمرات السابقة إلى الأحلاف العدوانية منذ الحرب العالمية الثانية، مستهدفين الحفاظ على الهيمنة الإمبريالية في تلك المناطق. و أقامت الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، شبكة من القواعد العسكرية في عدد من البلدان المتحررة و أرسلت جنودها و مستشاريها بحجة "الوقوف بوجه الخطر الشيوعي" في حين أن غايتها الحقيقية السيطرة على تلك البلاد.
و عندما يفشل الإمبرياليون في الحفاظ على زمام السلطة السياسية في المستعمرات السابقة فإنهم يواصلون سطوتهم الإقتصادية و تحقيق أرباح طائلة باستغلال الشعوب. و تبلغ الأرباح السنوية للإحتكارات الغربية الناجمة عن استغلال البلدان النامية آلاف المليارات من الدولارات. و قد أطلق على هذا الشكل الجديد من أشكال الهيمنة السياسية و الإقتصادية على البلدان التي تتمتع رسميا بالإستقلال اسم : النيوكولونيالية (الإستعمار الجديد). إن النيوكولونيالية بالمفهوم التاريخي هي إمبريالية اضطرت للتراجح تحت ضربات حركة التحرر الوطني.
و عليه فإن النضال ضد الإستعمار بشكليه القديم و الجديد لم يكتمل بعد. إن السبيل الوحيد لإفلات البلدان الفتية من القبضة الإقتصادية للإمبريالية و وضع حد لنهب ثرواتها الوطنية يكمن في شروعها ببناء صناعتها الخاصة و إعداد كوادرها الوطنية و طرد الإحتكارات الرأسمالية. و لعل أكبر مشكلة تواجه هذه البلدان هي مشكلة التغلب على تأخرها الإقتصادي و بناء إقتصاد وطني مستقل.
لا تقتصر النيوكولونيالية على التغلغل الإقتصادي في بلدان إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية. فسياسة القوى الإمبريالية تذهب إلى أبعد من ذلك، و تقوم بتنظيم التدخلات العسكرية كما حدث في الهند الصينية و الفيتنام و الزائير و العراق..، و الإنقلابات الرجعية و مخططات تجزئة البلدان كما في نيجيريا و دعم الأنظمة الرجعية كما في جنوب أفريقيا و روديسيا، و الإغتيالات كما في بوركينافاسو، و تأجيج الصراعات الداخلية على السلطة و استثارة العداءات القبلية و التخريب الإيديولوجي مثل الحرب الأهلية في لبنان.
و تقع على عاتق الأمم المتحررة مهمات كبيرة تتلخص بالتغلب على مختلف الصعوبات و حل شتى المعضلات المعقدة. و في هذه الفترة، فترة استمرار النضال لتوطيد الإستقلال، تتعاون مختلف الطبقات و الفئات الإجتماعية لدحر العدو المشترك. ولكن ما ان يتم نيل الإستقلال، حتى تبرز المصالح الطبقية المتعارضة إلى المقدمة. و يشتد الصراع بين الطبقة العاملة و الفلاحين و الفئات الديمقراطية من جهة، و القوى الرجعية المحلية من جهة أخرى.
و تسعى الرأسمالية المحلية إلى استثمار الإستقلال الذي حققه الشعب لغاياتها الطبقية. و في محاولتها الإستحواذ على السلطة لا تتورع عن التواطؤ مع الإمبريالية و الأسياد الإقطاعيين على حساب الجماهير الشعبية.
و تبين تجربة البلدان التي سلكت الطريق الرأسمالي، أن الرأسمالية تعجزعن حل معضلات الأمم المتحررة، و لا تجلب للشعب غير العوز و الحرمان، و عندما يعرب الشعب عن سخطه، تلجأ الرجعية المحلية إلى إجراءات القمع و كبت الحريات الديمقراطية كما تلجأ إلى تأجيج النزاعات القبلية و الدينية و القيام بكل ما من شأنه تفتيت التحالف المعادي للإمبريالية، فتتعرض، بذلك، منجزات الثورة الوطنية التحررية للخطر.
و قد جاءت بعض أعمال لينين لترشد البلدان المتحررة إلى الحل، و كتب في إحدى مؤلفاته يقول : "أيتوجب علينا أن نعتبر التأكيد القائل بأن المرحلة الرأسمالية من التطور الإقتصادي مرحلة حتمية للأمم المتخلفة التي تقف الآن على درب التحرر، و التي نلمح في بعضها علائم التقدم منذ فترة الحرب، أيتوجب علينا أن نعتبر هذا التأكيد صحيحا ؟ إننا نجيب بالنفي" .
إن تجربة البلدان الإشتراكية مثل الإتحاد السوفياتي و ألبانيا و تشيكوسلوفاكيا سعت إلى إرشاد شعوب المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة إلى الطريق الصحيح للنهضة الوطنية والتقدم الإجتماعي. و للسير على هذا الطريق بخطى ثابتة، كان لا بد للقوى الديمقراطية الثورية من شن النضال الحازم و الإعتماد على دعم الجماهير الشغيلة بأكملها.
و قد واجهت البلدان التي تحررت حينذاك صعوبات جمة. فالإمبريالية و الرجعية المحلية تفعل كل شيء للحفاظ على النظام القديم، و منع هذه البلدان من تقويض النظام الرأسمالي. و قد توصلت بعض البلدان المتحررة آنذاك إلى إدراك نشاطات القوى المضادة للثورة بالتجربة. إن كبح جماح القوى الرجعية و منعها من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء يتطلب تحالف كل القوى التقدمية و الوطنية التي تناضل من أجل تحقيق الثورة الديمقراطية المعادية للإقطاع و الإمبريالية.
و قد شهدت بعض البلدان، في النصف الثاني من القرن الماضي، تطور النضال التحرري الوطني بشكل ملموس، إلى نضال معاد للعلاقات الإستغلالية. و أعلنت الأحزاب الحاكمة و القادة السياسيون في عدد من البلدان التي انتهجت طريق التطور المستقل، مثل بورما و العراق و سوريا و الجزائر و غينيا و الكونغو و الصومال و تانزانيا ، أن هدفها هو بناء الإشتراكية.
في الختام، نقول بأن النضال من أجل التحرر الوطني الفعلي لا يكون إلا بالإنتقال بهذه البلدان من واقعها الكولونيالي الحاضر إلى الإشتراكية. و هذا ما لا يكون، حسب "مهدي عامل"، إلا بفكر تحرري، هو "الفكر الجديد، من حيث هو، في عمليته، نظرية حركة التحرر الوطني" أي النظرية الماركسية اللينينية.