مقدمات نظرية لفهم تشكل الرأسمالية التبعية بالمغرب


التيتي الحبيب
2017 / 2 / 26 - 03:54     

في مؤلف "رأس المال" درس ماركس الشروط الموضوعية التي تحكمت في ميلاد المجتمع الجديد والذي خرج من أحشاء المجتمع الإقطاعي بأوروبا. لقد صاغ ماركس القوانين التي ميزت نمط الإنتاج الرأسمالي. شكل تطور هذا النمط للإنتاج القاعدة المادية التي قامت عليها بنية طبقية جديدة تمثلت في سيطرت البرجوازية كطبقة تمتلك وسائل الإنتاج، واستطاعت أن تنجز ثورة شملت المجالات الفكرية والسياسية والعلمية،مكنتها من إقامة الدولة البرجوازية باعتبارها الاداة الطبقية لتسهيل وتيسير كل الظروف القانونية والعسكرية لخدمة مصالح الرأسمال وخاصة توفير مقتضيات توسيع تراكمه ومواجهة انعكاسات ميل معدل الربح للتدني (baisse tendancielle du taux de profit) . فبعد استنفاد كل المصادر الممكنة على الصعيد الوطني للدولة الرأسمالية توجه الرأسمال إلى الخارج من اجل البحث عن الأسواق لتصريف المنتجات ومن اجل جلب المواد الأولية والخام. كان للدولة البرجوازية دورا مركزيا وأساسيا في هذه الاستراتيجية، لأنها اهتمت بالقوانين الدولية وتدبير الطرق البحرية والبرية ثم عقد الاتفاقات الدولية وصولا الى فرض مناطق النفوذ والاستعمار وتقسيم المناطق بين الدول الرأسمالية، وهي سياسات واكبت انتقال الرأسمالية من مرحلة الرأسمالية التنافسية إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية والامبريالية.
على عكس أنماط الإنتاج السابقة يتميز نمط الإنتاج الرأسمالي بخاصية الانتشار والتوسع على الخريطة والبحث عن الأسواق ومصادر المواد الأولية والخام عبر العالم. وفي هذا البحث المحموم عن مناطق النفوذ استعملت البرجوازية سياسة الإخضاع لكل البلدان التي تقع تحت نفوذها.
تعرض ماركس لهذه الخاصية لنمط الإنتاج الرأسمالي في مؤلفه "رأس المال". وشكلت إشارات ماركس العميقة مدخلا للبحث والتعميق قام به فيما بعد عدد من القادة الماركسيين، الأمر الذي سمح باستنتاج مهام البروليتاريا على الصعيد المحلي والاممي. هكذا ساهم في بلورة شعار يعمق ويطور شعار ماركس وانجلس لما ناديا "يا عمال العالم اتحدوا" وذلك لما رفع لينين شعارا جديدا يجسد مهام المرحلة الجديدة من تطور الرأسمالية عندما نادى "يا عمال العالم ويا شعوبه المضطهدة اتحدوا. "
ففي الكتاب الثاني من "رأس المال" استعرض ماركس خاصية توسع نمط الإنتاج الرأسمالي وبين كيف يتم تثوير البنية الاقتصادية التي ينغرس فيها هذا النمط الجديد :
((جانب أخر من المسالة: إن نفس الظروف التي تولد الشرط الأساسي للإنتاج الرأسمالي - وجود طبقة العمال المأجورين - هي التي تستوجب على أي إنتاج للسلع، الانتقال إلى إنتاج السلع الرأسمالي. وبقدر ما يتطور هذا الأخير فانه يمارس مفعول تفكيك وتذويب لأي شكل سابق للإنتاج الموجه في بداية الأمر للاستهلاك الشخصي المباشر، ولا يحول إلى سلعة إلا الفائض من الإنتاج. إن إنتاج السلع الرأسمالي يجعل من بيع الإنتاج همه الرئيسي: في البداية ومن دون أن يواجه ظاهريا نمط الإنتاج نفسه (هكذا كان مثلا التأثير الأول للتجارة الرأسمالية العالمية على شعوب مثل الصين والهنود والعرب الخ.)؛ ثم وحيثما استطاعت هذه التجارة ان تغرس جذورها، فإنها دمرت كل أشكال الإنتاج السلعي المرتكز على العمل الشخصي للمنتجين، أو على البيع فقط للمنتوج الفائض كسلعة. إنها تبدأ بتعميم إنتاج السلع،ثم تحول تدريجيا كل إنتاج للسلع إلى إنتاج رأسمالي. كيفما كانت الأشكال الاجتماعية للإنتاج، فإن العمال ووسائل الإنتاج يبقون دائما عوامل للإنتاج. لكنهما يبقيان كعوامل افتراضية ما داما منفصلين عن بعضهما البعض. ولأجل تحقيق انتاج ما، لا بد من جمعهما. إن الطريقة الخاصة لتحقيق هذا الجمع هي ما تميز مختلف الحقب اقتصادية التي مرت منها البنية الاجتماعية المعنية. في الحالة التي تشغلنا تبدأ نقطة الانطلاق من فصل العامل الحر عن وسائل إنتاجه؛ لقد رأينا كيف وفي آية شروط يجتمع هذان العنصران بين أيدي الرأسمالي: بصفتهما نمط الوجود المنتج لرأسماله. إن المسلسل الفعلي حيث تدخل بشكل مشترك العناصر المكونة للسلعة سواء الشخصية أو المادية، مسلسل الإنتاج، يصبح هو نفسه احد وظائف الرأسمال. انه مسلسل الإنتاج الرأسمالي والذي تم توضيح طبيعته بتفصيل في الكتاب الأول من هذا المؤلف. إن كل مؤسسة لإنتاج السلع، تصبح في ذات الوقت مؤسسة استغلال قوة العمل، لكنه وحده الإنتاج الرأسمالي للسلع هو ما يفتح عهدا جديدا للاستغلال، والذي في تطوره التاريخي يتم تثوير كل البنية الاقتصادية للمجتمع فتتجاوز بما لا يقاس جميع العهود السابقة وذلك بفضل التنظيم لمسلسل الإنتاج والتطوير الكبير للتقنية. )) هذه ترجمة ذاتية لفقرة من الصفحتين. 37 و38 من الكتاب الثاني من مؤلف "رأس المال"/ الطبعة الفرنسية.
انطلاقا من فهم هذه المقدمات النظرية في تطور نمط الإنتاج الجديد في الدول التي لم تعرف التطور الطبقي الذاتي والداخلي- نسميها من اجل تسهيل التحليل بدول الأطراف - نظرا للوضع الطارئ الذي عرفته دول أوروبا- نسميها من اجل تسهيل العرض بدول المركز - ودخولها مرحلة الانتصار المظفر لنمط الإنتاج الرأسمالي. أصبحت مهمة كشف طبيعة التغيرات التي شهدتها البنيات الاقتصادية لدول الأطراف وتشكيلاتها الاجتماعية من أهم القضايا النظرية في فهم طبيعة السياسة التي يجب اتباعها من اجل الخروج من وضع التخلف المركب والأوضاع الصعبة التي تعيشها شعوبها. هكذا وعلى قاعدة هذه الأسس النظرية يمكننا إدراك ما جرى عبر تاريخ المغرب منذ أولى البعثات التجارية الأوروبية إلى وصول القوى الاستعمارية واحتلال أراضيه، على انه تدخل أفضى إلى تفكيك المجتمع القبلي وذلك بتوقيف أو كبح ذلك التطور البطيئ والمتردد الجاري بفعل العوامل الداخلية لهذا المجتمع والذي كان سيؤدي إلى بروز الدولة الجديدة المعبرة عن مصالح طبقات وفئات اجتماعية ناشئة على أنقاض القبيلة وأعيانها. لقد استغل الاستعمار لحظة من هذه الدينامية الاجتماعية وهي تلك اللحظة التي كانت تعرف فيها القبائل نوعا من التمرد والرغبة في التحرر من استبداد السلطة المركزية، كانت آنذاك كل المؤشرات تنذر بتفسخها وبظهور بوادر سلطة مركزية بديلة. هكذا استنجدت السلطة القائمة بالقوى الاستعمارية وأبرمت معاهدة الحماية لتدخل تحت جبة الاستعمار وبالتالي تعلن عن التحاقها لخدمة مصالح الرأسمال الأوروبي خاصة الفرنسي.
لا يسع المجال هنا للتفصيل، لكننا نؤكد بان المغرب التحق مكرها كشعب ومرحبا كنظام سياسي بالدول المستعمرة وفتح مجاله أمام الرأسمال الأوروبي، وأنشئت المؤسسات الرأسمالية تحت الرعاية الاستعمارية، وتمكن نمط الإنتاج الرأسمالي المزروع من تطوير نفسه بالاستيلاء على أراضي الجموع ونزع ملكية وسائل إنتاج الحرفيين وتحويل الفلاحين الفقراء والصغار إلى جيش احتياطي خضع إلى عملية تهجير نحو مراكز حضرية أو منجمية للعمل في المؤسسات الصناعية والتجارية والخدماتية المستحدثة. سمحت كل فترة الاستعمار المباشر بقيام طبقة برجوازية مختلطة على هرمها نجد الأوروبيين خاصة في الصناعة والابناك والمناجم والتجارة الكبيرة وفي الزراعة الرأسمالية، وفي أسفلها نجد برجوازيين محليين يشتغلون في مؤسسات متوسطة إلى صغيرة وهامشية. لم تتغير البنية الاجتماعية لهذه البرجوازية كثيرا مع مرحلة الاستقلال الشكلي إلا من حيث الخروج الظاهري للرأسمال الأوروبي ولكنه في الحقيقة تخفى من خلال الشراكة مع نوع جديد من البرجوازية الكمبرادورية أو الوكيلة والتي ربطت مصالحها في مختلف المجالات مع الرأسمال الامبريالي. هكذا ساد نمط إنتاج الرأسمالية التبعية، وهو نمط إنتاج هجين يحمل في جيناته كل مظاهر الاستغلال المفترس لقوة العمل ولخيرات البلد ويتخلى أو يتنصل من كل القيم التي حملتها البرجوازية كطبقة ثورية حين كانت تصارع سلطة الإقطاع . شكل نمط الإنتاج الهجين هذا القاعدة المادية لقيام دولة استبدادية تسلطية مهدت السبيل للبرجوازية الطفيلية ولملاك الأراضي الكبار من اجل النهب والاستغلال ومن اجل تهريب الخيرات إلى الخارج وحماية كل مظاهر البذخ والتبذير.
عند تحليل مهام انجاز التغيير الثوري الذي باتت تتطلبه الأوضاع المتأزمة ببلادنا وهي المهام التي شرعت فيها الحركة الوطنية إبان معارك النضال من اجل الاستقلال والتي اجهضت بسبب غياب القيادة الطبقية الحازمة والمنسجمة مع طبيعة التناقضات الاجتماعية والدولية، فإننا نصل إلى أن ما يطرح على قوى التغيير ببلادنا هو نفسه الذي تعرفه نضالات شعوب أخرى، أي النضال من اجل بناء المجتمع الجديد - مجتمع الدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية - مجتمع يحقق ما عجزت عنه البرجوازية لكنه يتخطاه في إطار فتح عهد بناء الاشتراكية، لأنها هي الجواب على التناقضات الأساسية القائمة بين قوة العمل والرأسمال وبين البروليتاريا والبرجوازية، وكذلك بين الامبريالية والشعوب المناضلة.