دونالد ترامب يُسرع بالولايات المتحدة نحو الهاوية

نعوم تشومسكي
2017 / 2 / 15 - 23:37     


في الثامن من نوفمبر العام الماضي 2016، تمكن دونالد ترامب من صنع أكبر مفاجأة في تاريخ السياسة الأمريكية، وذلك باستغلال مشاعر السخط لدى الناخبين البيض واللعب على ميولاتهم الدنيا بشكل ربما كان سينال حتى إعجاب الدعائي النازي جوزيف غوبلز.

ما الذي يعنيه بالضبط فوز ترامب؟ وما الذي يمكن توقعه من هذا الرجل المصاب بجنون العظمة حينما يتولى مقاليد الحكم في العشرين من يناير المقبل؟ أي إيديولوجية لدى ترامب؟ إن كانت هناك واحدة أصلا؟ هل يمكن اعتبار "الترامبية" حركة؟ وهل ستختلف السياسات الخارجية للولايات المتحدة في عهد ترامب عن سابقاتها؟

سبق أن نبه المفكر نعوم تشومسكي منذ سنوات إلى أن المناخ السياسي في أمريكا أضحى خصبا لصعود شخصية مستبدة، وهو اليوم يشاركنا تصوره وأفكاره حول ما آلت إليه الأمور عقب الانتخابات الأخيرة: حالة الركود التي يعرفها المشهد السياسي الأمريكي، ولما ترامب يمثل تهديدا حقيقيا للعالم والكوكب بأسره.

ننشر فيما يلي الترجمة الكاملة للحوار الذي أجراه الإعلامي س.ج بوليكرونو من موقع "ثروث أوت" في وقت سابق من الشهر الماضي يناير 2017، مع نعوم تشومسكي، المفكر الأمريكي المعروف .

1 س: الأستاذ نعوم، حدث ما لم يكن في الحسبان، على عكس كل التنبؤات.. أحرز ترامب فوزا حاسما على هيلاري كلينتون، وصار الرجل الذي نعته مايكل مور بـ"المهرج البئيس، الجاهل والخطير بدوام جزئي، والمعتل اجتماعيا، بدوام كامل،" رئيسا للولايات المتحدة للسنوات الأربع المقبلة. في رأيكم ما العوامل الرئيسية التي دفعت الناخبين الأمريكيين إلى خلق أكبر مفاجأة في التاريخ السياسي الأمريكي؟

قبل أن نجيب على ذلك السؤال، أجد من الضروري أن نتذكر للحظة ما حدث يوم الثامن من نونبر؛ ذاك يوم ربما سيخلد كواحد من المحطات الحاسمة في تاريخ البشرية جمعاء، غير أن ذلك يتوقف على الكيفية التي ستكون عليها ردة فعلنا. لا مجال هنا للمبالغة، الحدث الأهم في الثامن من الشهر بالكاد ما يتم التطرق إليه، وتلك حقيقة لها أهميتها.

في تقرير لها قدمته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في اليوم نفسه، ضمن أجندة المؤتمر العالمي حول التغيرات المناخية، المنعقدة أشغاله بالمغرب، والهادف إلى إتمام ما نصت عليه اتفاقية باريس المتمخضة عن مؤتمر المناخ كوب 21، نبهت المنظمة إلى كون السنوات الخمس الماضية سجلت أكبر نسب حرارة على الإطلاق، كما حذرت من ارتفاع منسوب مياه البحار، الذي أوشك على المزيد من الارتفاع كنتيجة للذوبان السريع والمفاجئ للجليد بالقطبين؛ بشكل خاص، وعلى نحو ينذر بالخطر، الأنهار الجليدية الضخمة بالقطب الجنوبي.

في القطب الشمالي سبق أن سجل انخفاض لنسب الجليد بمعدل 28% عما كانت عليه خلال السنوات التسعة والعشرين الماضية، ما ترتب عنه ارتفاع منسوب مياه البحر واضطراب في الوظيفة التبريدية للجليد القطبي، والمتمثلة في صد أشعة الشمس، وبالتالي التعجيل بالآثار المقلقة للاحتباس الحراري. وذكرت المنظمة أيضا أن درجات الحرارة أصبحت بشكل مثير للقلق، في مقربة من تلك التي أنذرت بها التقارير المفزعة الصادرة عن مؤتمر باريس وتقارير أخرى.

حدث آخر وقع في اليوم نفسه، قد يكون ذا أهمية تاريخية بالغة، ولأسباب هي الأخرى لم تنل القدر الكافي من الاهتمام، إذ شهدت أقوى دولة في تاريخ العالم، والتي ستحدد مسار ما هو قادم، تجربة انتخابية جديدة أسفرت عن وضع السيطرة الكاملة على الحكومة من سلطة تنفيذية، كونغرس ومحكمة عليا في يد الحزب الجمهوري، الذي بات أخطر منظمة في تاريخ البشرية.

باستثناء ما تأخر من كلامي، يعد كل ما قلته غير قابل للجدال. قد تبدو العبارة الأخيرة غريبة، بل حتى متهورة، ولكن هل هي فعلا كذلك؟.. تشير الحقائق إلى خلاف ذلك. يكرس الحزب الجمهوري توجها سباقا بكل ما أوتي من قوة إلى تدمير جميع جوانب الحياة المنظمة. لم نشهد سابقة تاريخية لمثل هذا الموقف.

هل تعد تلك مبالغة؟ لنلق نظرة على ما شاهدناه مؤخرا. خلال الانتخابات الجمهورية التمهيدية، أنكر كل المرشحين حقيقة ما يحدث للمناخ.. يستثنى من ذلك بعض الجمهوريين المعتدلين، من أمثال جيب بوش، الذي رغم إقراره "بأن لا شي مضمون"، أضاف أنه "لا يجدر بنا فعل أي شيء ما دمنا ننتج غازا طبيعيا؛ وذلك بفضل عملية التكسير".. أضف إليه جون كاسيش، الذي رغم اعترافه بحقيقة الاحتباس الحراري، قال: "سنحرق الفحم في أوهايو ولن نبرر ذلك لأحد".

الفائز من بين هؤلاء، والذي يشغل منصب الرئيس المنتخب اليوم، نادى بالرفع السريع من وتيرة استهلاك الوقود الأحفوري، بما في ذلك الفحم، وإلغاء القوانين المنظمة للاستغلال، ورفع الدعم عن الدول النامية التي تتخذ مسارا اقتصاديا مؤسسا على الطاقة البديلة.. بشكل عام، الجري بأقصى سرعة نحو الهاوية.

سبق لترامب أن اتخذ عدة خطوات في اتجاه حل وكالة حماية البيئة بتعيينه على رأس تلك الوكالة لمايرون ايبيل، الذي يعد من الشخصيات المتكبرة والسيئة الصيت، والمنكرة لحقيقة الاحتباس الحراري. من جهة ثانية، أفصح ملياردير النفط هارولد بوم، ومستشار ترامب، عن توقعاته التي لم تكن بالمفاجأة، والمتمثلة في إلغاء القوانين المعمول بها، وتمكين الشركات المصنعة والأثرياء من التخفيضات الضريبية، وإنتاج المزيد من الوقود الأحفوري، ورفع الحظر الذي فرضته إدارة أوباما على خط أنابيب داكوتا.. لقد كان رد فعل السوق مباغتا، إذ ازدهرت أسهم شركات الطاقة، بما في ذلك بيوبودي للطاقة، التي تعد أكبر منقب عن الفحم في العالم.. كانت الشركة أعلنت إفلاسها، لكن وفور صعود ترامب حققت نموا بمعدل 50%.

لذا، شهدنا بالفعل بعض آثار النزعة الإنكارية لدى الجمهوريين. عقدت أمال بأن الاتفاق البيئي كوب 21 بباريس سينتج معاهدة حقيقة، لكن سرعان ما تخلي عن مضمون ذلك المؤتمر، لأن الكونغرس الجمهوري لن يقبل بأي تعهدات ملزمة. لذلك، ما أسفر عنه الملتقى العالمي لم يتعد أن يكون اتفاقا طوعيا، أو أضعف من ذلك بكثير.

قد تصير أثار الأزمة البيئية أكثر وضوحا في الأمد القريب مما هي عليه اليوم. في بنغلاديش وحدها، يتوقع في السنوات القليلة المقبلة أن يضطر الملايين من السكان إلى الفرار من السهول المنخفضة بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار وقسوة المناخ؛ ما سيعجل بأزمة مهاجرين لن يكون من الممكن مقارنتها بالأزمة الحالية. وكما عبر عن ذلك بصدق تام أحد علماء المناخ الرائدين في بنغلاديش: "ينبغي أن يعطى للمهاجرين حق الانتقال إلى البلدان التي هي مصدر الغازات المسببة للاحتباس الحراري. يتوجب فسح الطريق أمام الملايين من هؤلاء للدخول إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي جنت الثروة من وراء خلق حقبة جيولوجية جديدة -حقبة الانتروبوسين- والمتمثلة في القلب الجذري للنظام البيئي على يد الإنسان.

النتائج الكارثية تلك ستزداد لا محالة، ليس فقط في بنغلاديش، بل في الجنوب الأسيوي بأكمله، حيث درجات الحرارة، التي من الصعب على فقراء تلك الدول أن يطيقوها اليوم، آخذة في الارتفاع، وحيث الأنهار الثلجية بسلاسل جبال الهمالايا آخذة في الذوبان، ما يهدد إمدادات المياه بأكملها.

في الهند، أفادت تقارير بأن زهاء 300 مليون شخص يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب، ومن المرجح أن تصل تلك النسبة إلى أبعد من ذلك.

من الصعب وصف حقيقة أن البشر يواجهون السؤال الأهم في تاريخهم- سؤال: هل سيكون للحياة المنظمة كما نعرفها اليوم أن تستمر؟ يبدو أن إجابتنا عن ذلك هي الركض بأقصى سرعة نحو الكارثة.

يمكن سحب الملاحظات نفسها على الخطر الآخر المهول الذي يتهدد بقاءنا، وهو الخطر النووي، الذي بات شبحه يطاردنا منذ سبعين سنة، والذي لا تزال إمكانية حدوثه في ازدياد كل يوم.

كما لا تسع الكلمات لوصف الحقيقة الصادمة، وهي أنه رغم التغطية المكثفة والواسعة النطاق للحدث الانتخابي، لم يكن هناك متسع لذكر هاته التحديات. شخصيا، على الأقل، أجد نفسي حائرا في إيجاد الكلمات المناسبة.

لنمر الآن إلى السؤال الذي طرحتم. على وجه التحديد، يبدو أن كلينتون حازت أغلبية طفيفة من الأصوات. لكن يعزى النصر الحاسم لترامب إلى جوانب مثيرة للاهتمام في النظام السياسي الأمريكي، أذكر من بينهما المجمع الانتخابي كأحد الرواسب ومخلفات مرحلة نشأة الولايات المتحدة كاتحاد لولايات منفصلة.. أضف إلى ذلك التقسيم المناطقي للكونغرس (بأساليب ملتوية أحيانا) على نحو يضفي ثقلا أكبر على الأصوات الريفية (في الانتخابات السابقة وربما حتى في الانتخابات الأخيرة، حقق الديمقراطيون فارقا مريحا في التصويت الشعبي لمجلس النواب لكنهم شغلوا أقلية من المقاعد).

كما لا ننسى النسب المرتفعة للامتناع عن التصويت، البالغة عادة نصف عدد المسجلين باللوائح الانتخابية، كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة.

من الأهمية للمستقبل حقيقة أن في الفئة العمرية المتراوحة بين 18 و25 كان الفوز سهلا لفائدة كلينتون، كما كان بيرني ساندرز على مستوى أعلى من الدعم. أهمية ذلك تتوقف على نوع المستقبل الذي في انتظارنا.

وفقا للمعلومات الحالية، حطم ترامب كل السجلات في الدعم الذي تلقاه من الناخبين الأمريكيين البيض المنتسبين إلى الطبقة العاملة والطبقة الوسطى الدنيا، لاسيما الفئات المتراوح دخلها ما بين 50.000 دولار و90.000 دولار، وسكان الأرياف والضواحي، وفي المقام الأول من هم دون التعليم الجامعي. وتتقاسم هذه الفئات السخط العام في البلدان الغربية بمجملها من أحزاب الوسط، كما يبرر ذلك انسحاب المملكة المتحدة غير المتوقع من الاتحاد الأوروبي، وانهيار أحزاب الوسط في أوروبــــا.

العديد من هؤلاء هم ضحايا السياسات النيولبرالية الموروثة عن الجيل الماضي، والتي أوضحها في شهادته أمام الكونغرس رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي اَلان غريسبان -أو القديس اَلان- كما جرى تبجيله داخل أوساط الاقتصاد ومن قبل المعجبين إلى يوم أن انهار الاقتصاد الذي كان يرعاه سنة 2007-2008 ومعه الاقتصاد العالمي. وكما أوضح غريسبان إبان مجده، استندت نجاحاته في الإدارة الاقتصادية بشكل كبير على الشعور بانعدام الأمن المتزايد لدى العمال. معنى ذلك أن خلق يد عاملة تخشى على نفسها من فقدان وظيفتها ستكون غير قادرة على المطالبة بمكاسب أخرى من قبيل الرفع في الرواتب والتأمين في الشغل وغيرها.. وستكون راضية على أجور هزيلة وفوائد منخفضة، والتي هي وفق معايير النيوليبرالية مؤشرات على الاقتصاد السليم.

لم تصفق الطبقة العاملة التي كانت موضع تجارب النظريات الاقتصادية تلك لما أسفرت عنه نتائجها. على سبيل المثال، في سنة 2007 التي تعد ذروة المعجزة النيوليبرالية، لم يكن الحظ حليف العمال، إذ تراجع الدخل الصافي للعمال ممن لا يشغلون وظائف مراقبة إلى مستويات السنوات الماضية نفسها، وتراجع الدخل الصافي للعمال الذكور إلى مثل ما كان عليه خلال عقد التسعينات، في حين ذهبت مكاسب ضخمة إلى جيوب ثلة قليلة تمثل 1%. كل ذلك لم يكن نتيجة لقوى السوق أو لمنطق الإنجاز والاستحقاق، بل نتيجة قرارات سياسية محددة، وهي قضايا تطرق لها بعناية عالم الاقتصاد دين بايكر في عمل له نشر مؤخرا.

يبرز مصير الحد الأدنى للأجور ما حدث وما يحدث، ففي فترة الستينيات والسبعينيات، والتي تعد فترة نمو مرتفع ومساواة اجتماعية، ارتبط الحد الأدنى للأجور، الذي يحتل مرتبة أدنى بالنسبة لباقي الأجور، بالإنتاجية. انتهى ذلك بقدوم العقيدة الليبرالية. منذئذ بقي الحد الأدنى للأجور في حالة ركود في ما يتعلق بقيمته الحقيقية. ولو استمر الحال على ما كان عليه فمن المحتمل أن يصل الحد الأدنى للأجور إلى 20 دولار في الساعة الواحدة. أما اليوم، وحتى أن يكون ذاك بمعدل 15 دولارا، سيستدعي الانخراط في ثورة سياسية.

رغم كل الحديث الدائر اليوم حول الولوج شبه الكلي للوظيفة، لازالت مشاركة القوة العاملة ما دون القاعدة السابقة. بالنسبة لهؤلاء يوجد فرق شاسع بين عمل قار في قطاع التصنيع بدخل ومزايا، كما كان الحال في سابق الأعوام، وبين وظيفة مؤقتة بتأمين هزيل في أحد القطاعات الخدماتية. وبصرف النظر عن الرواتب والمزايا والتأمين، ثمة فقدان للكرامة والأمل في المستقبل، مصحوب بانعدام لمعنى أن يكون المرء منتميا إلى هذا العالم، يلعب فيه أدوارا جديرة بالاهتمام.

صورت ذلك جيدا آرلي هوشيلد في وصفها الحساس والشديد الوضوح لأحد معاقل ترامب في ولاية لوزيانا، حيث عاشت واشتغلت لسنوات. وظفت آرلي في وصفها صورة الطابور، حيث يقف نفر من الناس منتظرين أن يتقدم بهم الطابور، معتمدين في ذلك على جهدهم العضلي وتمسكهم بالقيم الأمريكية التقليدية؛ لكن مكانهم في الصف ظل ساكنا بينما هم يشاهدون مجموعة أخرى تقفز مسرعة إلى الأمام. غير أن ذلك لم يكن السبب الحقيقي في امتعاض هؤلاء العمال، ما دام ذاك هو الأسلوب الأمريكي المزعوم في الجدارة والمكافأة؛ بل المصدر الرئيسي للمضايقة يكمن في ما كان يدور خلف الطابور، حيث كان يتم نقل جماعة ممن لا يستحقون، ولا يخضعون لنفس القواعد، إلى الأمام بواسطة برامج تديرها الحكومة الفدرالية، برامج عادة ما ينظر إليها على أنها تخدم مصالح الأفارقة الأمريكيين المهجرين وطوائف أخرى ينظر إليها بازدراء.

زاد من حدة تلك الأفكار مزاعم رونالد ريغين العنصرية، القائلة من بين افتراءات أخرى بوجود "ملكات للرفاهية الاجتماعية،" بمعنى ضمني طائفة السود تقتات على عرق وكد البيض من بين أوهام أخرى.

أحيانا يكون للفشل في الشرح الذي يعد في حد ذاته شكلا من أشكال الازدراء دور في بث مشاعر الكراهية تجاه الحكومة. حدث أن التقيت ذات مرة بعامل طلاء في بوسطن، حيث تحول إلى منتقد شديد لحكومة "الشر" كما نعتها. خلال لقاء جمع هذا الرجل ومجموعة من المقاولين في مجال الطلاء بأحد البيروقراطيين بواشنطن، والمفتقر إلى أدنى تجربة في طلاء البيوت، تم إخبار هذا العامل وزملائه بأنهم لم يعد بمقدورهم استعمال الطلاء الرصاصي نفسه—النوع الوحيد الجيد للاستعمال—كما كان معروفا لديهم جميعهم، ليتضح في الأخير أنهم أساؤوا فهمه. أدى ذلك بصاحبنا إلى تكبد خسارة مهمة في تجارته الصغيرة، إذ أقنع باستعمال أدوات طلاء دون المستوى المطلوب، فرضت عليه من طرف النخبة.

أحيانا أخرى تكون لمثل هذه المواقف السلبية تجاه البيروقراطيات الحكومية أسباب حقيقية. تصف هورشيل رجلا وعائلته وأصدقاءه يشتكون من الآثار القاتلة للتلوث الكيماوي، ويكنون الامتعاض للحكومة والنخب الليبرالية، قائلة إنهم لا تعدو أن تكون وكالة حماية البيئة بالنسبة إليهم شخصا جاهلا يأمرهم بألا يصطادوا السمك، في حين لم يقم بشيء تجاه المعامل الكيماوية.

تلك ليست سوى بعض من النماذج من حياة مناصري ترامب، ممن اقنعوا بفكرة أن الرجل سيقوم بشي للحد من معاناتهم؛ وتظهر أدنى نظرة إلى مقترحاته وبرامجه المالية عكس ذلك، ما يضع تحديا أمام الناشطين الآملين في درء الأسوأ وجلب التغيرات المطلوبة بشدة.

وكما تكشف استطلاعات الرأي، فإن الدعم القوي الذي حاز عليه ترامب يعزى أساسا إلى الاعتقاد بأن الأخير يمثل "التغيير"، في حين رأى الناخبون في كلينتون المرشح الذي سيبقى على محنتهم.

من المرجح أن قدوم ترامب سيجلب المضرة أو حتى الأسوأ. لكن من المفهوم أن ذلك لن يتضح جليا في مرأى أناس معزولين عن بعضهم البعض، في مجتمع تنعدم فيه المؤسسات الجمعوية [مثل النقابات] التي تتولى أمر التثقيف والتنظيم؛ ذلك هو الفرق الجوهري الكامن بين معنى اليأس اليوم والمواقف المشجعة عموما للعمال خلال فترة الكساد الكبير لعقد الثلاثينيات، إذ كان التهديد الاقتصادي على قدر أكبر من الشدة.

ثمة عوامل أخرى كان لها دور محوري في فوز ترامب. كما أثبتت دراسات مقارنة أنه كان لعقيدة التفوق العرقي للبيض وقع أعمق في الثقافة الأمريكية من نظيراتها في جنوب إفريقيا. ولا يخفى على أحد أن عدد سكان أمريكا من البيض في تضاؤل مستمر. وكما تشير إلى ذلك التوقعات بالنسبة للعقد أو العقدين القادمين، من المنتظر أن يصبح البيض أقلية من بين الأوساط العاملة، كما سيمثلون في أمد غير بعيد أقلية من مجمل الساكنة. هذا في حين يسود اعتقاد أن الثقافة البيضاء المحافظة والتقليدية أضحت عرضة للهجوم المتمثل في النجاحات التي تحققها السياسات الهوياتية للأقليات. ينظر إلى تلك السياسات على أنها مرتع للنخب التي همها الوحيد هو كن البغض للأمريكيين البيض، ممن هم متفانون في عملهم، مخلصون لوطنهم ومداومون على الكنائس والقداس، ومن هم مستمسكون بالقيم العائلية الحقيقية، ومن يرون وطنهم يتلاشى أمام مراَهم.

مما يعرقل جهود إقناع الرأي العام بالمخاطر المحدقة للاحتباس الحراري حقيقة أن 40% من السكان في الولايات المتحدة الأمريكية لا ترى في ذلك تهديدا، مادام يسوع المسيح في اعتقاد هؤلاء سيعود خلال العقود القليلة القادمة. حوالي النسبة نفسها تعتقد أن العالم خلق منذ الٱف السنين، وإذا ما نشأ هنالك تعارض بين التفسير الإنجيلي للكون وللعلم فسيتم رد المشكل للأخير. من العسير إيجاد حالة مماثلة في مجتمعات أخرى.

تخلى الحزب الديمقراطي بحلول عقد السبعينيات عن أي انشغال حقيقي بالعمال، ليلتحق بركب أعداء هؤلاء في الصراع الطبقي ممن يتكلمون على الأقل اللغة نفسها. أتذكر هنا الأسلوب الشعبوي لورنالد ريغن في المزاح وهو يتناول سكاكر "الجيلي بينز". أذكر كذلك الصورة المنتقاة بعناية لجورج بوش كرجل متردد على الحانة ويقطع العشب في المزرعة تحث أشعة الشمس الحارقة، كما أذكر أساليبه المزيفة في نطق الكلمات [أشك في أنه كان يتحدث بنفس الطريقة في جامعة يايل].

أما اليوم فها هو ذا ترامب يقدم نفسه كمتحدث باسم ذوي القضايا والشكاوى المشروعة ممن فقدوا، ليس فقط الشغل، بل حتى معنى القيمة الذاتية، ومن ثاروا ضد الحكومة التي في اعتقادهم، وبشكل له ما يبرره، قامت بإفساد معيشتهم.

من أهم منجزات هذا النظام المذهبي توجيه غضب الناس بعيدا عن قطاع الشركات نحو الحكومة، التي تطبق البرامج التي يرسمها ويضعها هؤلاء، من قبيل الاتفاقيات الخاصة بحقوق الشركات والمستثمرين، والتي تعد إلى حد كبير حمائية. كثيرا ما تنعت مثل هذه الاتفاقيات في وسائل الإعلام والتعليقات بتسميات خاطئة، من قبيل "اتفاقيات التجارة الحرة". بكل ما يعتريها من نقص وعيوب، تبقى الحكومة إلى حد معين تحت السيطرة والتأثير الشعبيين على عكس القطاع الخاص. ومن المفيد للغاية بالنسبة لعالم الأعمال أن تشتد مشاعر الكره تجاه البيروقراطيين الحكوميين، وأن تمحى من أذهان الناس فكرة أن الحكومة قد تستعمل كأداة في يد الشعب حكومة ملك للشعب، نابعة منه وتخدمه.

2س: هل يمثل ترامب تيارا جديدا في المشهد السياسي الأمريكي، أم أن صعوده ناتج بالأساس عن رفض هيلاري من قبل ناخبين يكنون البغض لعائلة كلينتون ومتضايقين من "السياسة كالعادة"؟

ذاك ليس جديدا بأي حال من الأحوال. لقد اتخذ كل من الحزب الديمقراطي والجمهوري خلال فترة النيولبرالية منحى يمينيا، ومن يسمون اليوم بـ"الديمقراطيين الجدد" يشبهوه إلى حد كبير من كان يصطلح عليهم آنذاك "الجمهوريون المعتدلون". إن الثورة السياسية كما أسماها ونادى بها ساندرز لم تكن إلى حد بعيد لتفاجئ دوايت أيزنهاور. لقد قطع الجمهوريون شوطا كبيرا في التفاني في خدمة الأثرياء والخواص إلى حد استعصى معه كسب الأصوات بالاعتماد على برامجهم الانتخابية. إذن كان البديل أن يتوجهوا إلى تلك الفئات من السكان ممن لا ينتسبون إلى تكتلات وتنظيمات سياسية، وهي فئات دوما ما كانت موجودة من مدافعين على فكرة الأرض الأصلية، وإنجيليين، وعنصريين وضحايا أشكال العولمة المصممة لخلق المنافسة بين العمال حول العالم، محافظة على مصالح ذوي الحظوة والامتياز، ومقوضة الهياكل القانونية التي تضمن للعمال بعض الحماية وبعض السبل للتأثير على صناعة القرار قي المجالين الخاص والعام، لاسيما النقابات القوية والاتحادات العمالية ذات التأثير الحقيقي.

كانت النتائج واضحة في الانتخابات التمهيدية للجمهوريين. كل المرشحين الذين برزوا من القاعدة كميشيل باكمان، هيرمان كاين وريك سانتوم، كل هؤلاء تبنوا أفكارا متطرفة إلى حد دفع بالمؤسسة الحزبية الجمهورية إلى بذل كل جهد وتسخير الموارد في سبيل إسقاطهم. إلا أن ما يميز الانتخابات الأخيرة عن سابقاتها هو أن المؤسسة الجمهورية فشلت قي ذلك كما هو متضح أمام أنظارنا.

سواء استحقت ذلك أم لا، مثلت كلينتون بالنسبة للناخبين السياسات نفسها التي كانت تثير المخاوف والكره، في حين نظر إلى ترامب على أنه رمز "للتغيير"—تغيير يستدعى النظر بتمعن إلى مقترحاته الفعلية، ما ظل غائبا عما وصل إلى الناس. تعد حملة ترامب الانتخابية في حد ذاتها مدعاة للاهتمام، لاسيما في تجاهلها للقضايا الأهم. ساهم في ذلك الإعلام الذي ظل متشبثا بفكرة أن "الموضوعية" الحقيقية تتمثل في النقل الدقيق لما يحدث "داخل الحزام"، دونما الحاجة إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك.

3 س: في تصريح له عقب الفوز، زعم ترامب أنه سيمثل "جميع الأمريكيين"، كيف له ذلك والبلاد تعيش على وقع مجموعة من الانقسامات، إذ سبق للرجل أن أفصح عن كرهه العميق تجاه عدد من المجموعات في الولايات المتحدة، بما في ذلك الأقليات والنساء؟ هال ترون أي تشابه بين بريطانيا المنفصلة عن الاتحاد الأوروبي (بريكست) وصعود ترامب؟

ثمة أوجه تشابه واضحة، كما أن هنالك تشابها مع صعود الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة في أوروبا، والتي بادر زعماؤها إلى تهنئة ترامب معتبرين إياه واحدا منهم. أسوق هنا مثال نيجل فارج، مارين لوبان، فيكتور أوريان من بين آخرين، وهي تطورات مقلقة للغاية.

إن مجرد نظرة بسيطة في الانتخابات في دول كالنمسا وألمانيا لكفيل لاستحضار ذكريات غير سارة بالنسبة لمن عاشوا فترة الثلاثينيات، خاصة من عاشوا تلك الفترة عن كثب، كما هو الحال بالنسبة لي. لا أزال أتذكر استماعي إلى خطب هتلر وأنا طفل دون أن أفهم معنى كلماته، كانت نغمته وردة فعل جماهيره تقشعر منها الأبدان. كان أول مقال كتبته آنذاك، أذكر في فبراير من سنة 1939، بعد سقوط برشلونة، تناولت فيه ما بدا لي انتشارا محتما للطاعون الفاشي، وشاءت الصدف أنني كنت في برشلونة رفقة زوجتي عندما كنت أتابع نتائج الانتخابات الأخيرة.

أما بالنسبة للكيفية التي سيتعامل بها ترامب مع ما قام بجلبه [ أقصد ما جلبه، وليس ما قام بصنعه] فليس بمقدورنا الجزم. لعل السمة الأبرز لهذا الرجل هي عدم القدرة على التنبؤ به. كثير من الأمور ستتوقف على ردة فعل من هم مستاؤون من أدائه ومن الرؤى التي وضعها نصب عينيه كما هي متضحة أمامنا.

4 س: لا يمتلك ترامب أي مرجعية إيديولوجية واضحة في ما ما يخص القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن ثمة ميولات استبدادية عدة متضحة من خلال سلوكاته. ألا تتفقون مع مقولة أن ترامب يمثل بروز الفاشية "بقناع من الود" في الولايات المتحدة الأمريكية؟

لسنوات عدة وأنا أكتب وأتحدث عن خطر صعود زعيم إيديولوجي صريح وكاريزماتي في الولايات المتحدة، شخص سيستغل غليان الجماهير الغاضبة والخائفة ليوجهه بعد ذلك بعيدا عن الفاعلين الحقيقيين وراء المحنة، نحو أهداف وفئات أكثر هشاشة وحساسية. من ِشأن ذلك أن يؤدي فعلا إلى ما اصطلح عليه عالم السوسيولوجيا بيرترام غروس في دراسة له منذ 35 سنة بـ"الفاشية الودودة". لكن الأمر يتطلب إيديولوجيا صريحا من طراز هتلر، وليس من إيديولوجيته الوحيدة هي "أنا". منذ سنوات والمخاطر قائمة، وربما بشكل أثر وضوحا في ضوء القوى التي أطلق لها صعود ترامب العنان.

5 س: مع تواجد الجمهوريين في البيت الأبيض، وسيطرتهم على كلا المجلسين، وتحديدهم للشكل المستقبلي للمحكمة العليا، ما الذي ستبدو عليه الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع المقبلة؟

سيتوقف ذلك إلى حد كبير على التعيينات الحكومية والدوائر الاستشارية. بعبارة ملطفة تبدو المؤشرات الأولية غير مفرحة. ستخضع المحكمة العليا لسنوات لسلطة الرجعيين لعواقب يمكن التنبؤ بها. إذا ما واصل ترامب نهجه المالي المؤسس على غرار بول ريان، ستكون هنالك فوائد كثيرة بالنسبة للأثرياء، والتي حسب تقديرات مركز السياسات الضريبية ستشمل خفضا ضريبيا بنسبة 14% لفائدة النخبة التي تمثل 0.1% فقط. أضف إلى ذلك خفضا مهما عاما لفائدة من يشغلون الحد الأعلى في سلم الأجور. في مقابل ذلك ستكون تلك التخفيضات شبه منعدمة بالنسبة لباقي الفئات الاجتماعية، والتي ستواجه بالإضافة إلى ذلك أعباء جديدة جمة. وكما عبر عن ذلك مارتن وولف، المراسل الاقتصادي المحترم لفايناشال تايمز: "من شأن هذه التخفيضات الضريبية أن تمطر الأثرياء بوابل من الفوائد الكبيرة"، بينما ستضع غيرهم في وضع حرج، بما في ذلك بالطبع القاعدة الانتخابية لترامب. كما تبرز ذلك ردود الفعل الآنية للسوق، ثمة مستقبل مشرف في انتظار شركات من قبيل بيغ فارما، وول ستريت، الصناعات الحربية والطاقية وغيرها من المؤسسات العملاقة.

لعل إحدى التطورات الإيجابية لهذا كله ستكون في برامج البنية التحتية التي وعد بها ترامب، والتي حازت على قدر هام من التغطية الإعلامية والتعليقات. فشلت هذه في إظهار حقيقة أن البرنامج التحفيزي لأوباما بشكل جوهري كان سيعود بفائدة أعظم على الاقتصاد والمجتمع ككل، لكن سرعان ما تم إبطاله من قبل الكونغرس الجمهوري، بحجة أنه سيفجر العجز. على الرغم من أن تلك الحجة كانت واهية آنذاك، نظرا لسعر الفائدة المنخفض إلا أنها ستدر الكثير من النفع على برامج ترامب التي تحمل في طياتها تخفيضات ضريبية هائلة لفائدة الأثرياء والخواص، أضف إلى ذلك الزيادة في الميزانيات المنفقة على البانتاغون.

ومع تلك السياسات يبقى هناك منفذ للهروب، وهو ما اقترحه في عهد بوش ديك تشيني لوزير الخزينة آنذاك بول أونيل بقوله "لقد أثبتت إدارة رونالد ريغن أن العجز لا يهم"؛ يعنى بذلك "العجز الذي تسببنا فيه نحن الجمهوريون من أجل كسب التأييد الشعبي ثم نتركه لشخص آخر ليتولى تبعاته وما يترتب عنه من فوضى، والذي من المستحسن أن يكون من الديمقراطيين". تلك حيلة من شأنها أن تكون عملية لبعض الوقت على أقل تحديد.

6 س: ثمة أسئلة أخرى حول تداعيات صعود ترامب بالنسبة للسياسات الخارجية، جلها لازالت تنتظر الإجابة. هنالك إعجاب متبادل بين ترامب وبوتين، ما إمكانية أن نعيش حقبة جديدة في العلاقات الروسية الأمريكية؟

ثمة احتمال مفرح يتمثل في أن يكون هناك خفض للتوتر المتصاعد على الحدود الروسية، وأقصد الحدود الروسية، وليس المكسيكية. هنالك رواية تدور حول ذلك الشأن لا يسعنا أن نتطرق إليها هنا. من المحتمل أيضا أن أوروبا قد تنأى بنفسها عن أمريكا كما سبق أن صرحت بذلك المستشارة الألمانية وزعماء أوروبيون آخرون، كما ستنأى عن بريطانيا التي أصبحت في نظر الدول التي يتزعمها هؤلاء صدى للقوة الأمريكية في المنطقة في مرحلة من بعد بريكست. قد تترتب عن ذلك جهود لأخذ مسار مماثل لرؤية ميخائيل غورباتشوف الخاصة بإنشاء منظومة دفاعية أورو أسيوية متكاملة من دون تحالفات عسكرية، والتي قوبلت بالرفض من طرف واشنطن التي تفضل توسيع نطاق نفوذ حلف الناتو. تولى إحياء مثل تلك الرؤية مؤخرا الرئيس الروسي بوتين لكن إن كان الأمر جادا أم لا، فلا نستطيع الجزم ما دام قد تم رفض ذلك المقترح.

7 س: هل من المنتظر أن تكون السياسة الخارجية في ظل ترامب على القدر نفسه تقريبا مؤسسة على الخيار العسكري كما هو الحال في عهدي أوباما وجورج بوش؟

لا أحد في اعتقادي بوسعه أن يجيب بدقة. من الصعب التكهن مع ترامب، كما أن ثمة أسئلة كثيرة مفتوحة، لكن ما يسعنا قوله هو أنه بإمكان التعبئة والحراك الاجتماعين أن يحدثا فرقا كبيرا، إذا ما تم توظيفهما على النحو السليم. كما ينبغي أن نضع نصب أعيننا أن الرهانات كبيرة جدا.
-