الهزيمة - البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2017 / 2 / 8 - 00:00     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الثاني: الثورة الروسية الأولى

الهزيمة

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي


«لقد أظهر عمال موسكو الأبطال أن النضال النشيط ممكن، وقد استقطبوا إلى هذا النضال فئات واسعة من سكان المناطق الحضرية كانت تعتبر حتى الآن غير مبالية بالسياسة، إن لم نقل رجعية. ورغم ذلك فإن أحداث موسكو كانت مجرد واحدة من أهم الدلائل عن "الاتجاه" الذي يشمل جميع أنحاء روسيا. وقد واجهت ذلك الشكل الجديد للنضال مشاكل ضخمة لم يكن من الممكن، بطبيعة الحال، حلها دفعة واحدة...» (لينين)[1].

لم تقتصر الانتفاضات المسلحة على موسكو وحدها، بل كانت هناك، في الواقع، سلسلة كاملة من الانتفاضات المسلحة في خاركوف ودونباس وييكاتيرينوسلاف وروستوف- أون- دون وشمال القوقاز ونيجني نوفغورود وغيرها من المراكز. واشتعلت المسألة القومية بدورها على شكل انتفاضات في جورجيا ودول البلطيق على وجه الخصوص. وحتى قبل انتفاضة موسكو، كان هناك إضراب عام وعصيان في لاتفيا. وفي جورجيا، أيضا، أدى إضراب دجنبر العام إلى انتفاضة مسلحة في المنطقة العمالية بتفليس (تبليسي)، بقيادة الأسطوري "كامو" (تير- بيتروسيان). وقد سحقت تلك الانتفاضة على يد الفلاحين الرجعيين. وكانت هناك أيضا انتفاضات في سيبيريا (عمال السكك الحديدية) وأعلن في العديد من المناطق الأخرى عن قيام "جمهوريات" محلية. كانت هناك انتفاضات هامة على طول خطوط السكك الحديدية في منطقة دونيتسك حيث وقعت معارك في عدة محطات، جذبت دعم الفلاحين في المناطق المحيطة بها. في ييكاتيرينوسلاف أدت أخبار انتفاضة موسكو إلى جمع البلاشفة والمناشفة والبوند والاشتراكيين الثوريين معا في عمل موحد لإضراب سياسي. كانت هناك إضرابات في المناجم والمصانع في منطقة دونباس بدعوة من السوفييتات أو لجان الإضراب. وفي العديد من المناطق وقعت اشتباكات ومعارك مع الجيش والشرطة. ويظهر تجذر المناشفة في حقيقة أنهم نظموا وقادوا الانتفاضة في روستوف أون دون، والتي سحقت على يد القوزاق باستخدام المدفعية. لكن انتفاضة موسكو لم تنجح في إثارة بروليتاريا سان بيترسبورغ. شكل هذه نقطة ضعف قاتلة. عدم اندلاع الانتفاضة في العاصمة كان يعني أن الحكومة يمكنها أن تركز قواتها على سحق عمال موسكو، ومن ثم إخماد الحركات المحلية الواحدة منها تلو الآخر. وفي النهاية أدت هزيمة موسكو إلى ضرب الحركة في الصميم.

بسبب شعورهم بخيبة أمل مريرة من فشل الطبقة العاملة ببيترسبورغ في أن تنهض لمساعدة الانتفاضة، ألقى بعض الاشتراكيين الديمقراطيين، في البدء، مسؤولية الهزيمة على عمال العاصمة. قد تكون ردود الفعل مثل هذه في لحظة اليأس مفهومة. لكن في السنوات اللاحقة قدم الستالينيون بكل وقاحة تفسيرا زائفا تماما لتلك الأحداث، بدءا من كتيب الأكاذيب سيء السمعة الذي دبجه ستالين والذي ادعى فيه أن: «مجلس سوفييت سان بيترسبورغ لنواب العمال، والذي كان سوفييت أهم مركز صناعي وثوري في روسيا، عاصمة الإمبراطورية القيصرية، كان عليه أن يلعب دورا حاسما في ثورة 1905. لكنه لم يقم بمهمته (!)، وذلك بسبب قيادته المنشفية السيئة. كما نعلم لم يكن لينين قد وصل بعد إلى سان بيترسبورغ ، كان ما يزال في الخارج. استغل المناشفة فرصة غياب لينين ليشقوا طريقهم إلى سوفييت سان بيترسبورغ (؟) واستولوا على قيادته (؟). ولم يكن مستغربا، في ظل هذه الظروف، أن يتمكن المناشفة، خروستاليوف- نوسار وتروتسكي (!) وبارفوس وغيرهم، من تحويل سوفييت سان بيترسبورغ ضد سياسة الانتفاضة»[2]. هذه طريقة فجة للتعبير عن فكرة تكررت، منذ ذلك الحين، بأشكال متنوعة. لكن لينين كان قد رد مسبقا على هذا الافتراء الجاهل، وأعرب في مناسبات لا تعد ولا تحصى عن تضامنه الكامل مع الخط التكتيكي العام الذي طبقه سوفييت سان بيترسبورغ.

في مذكراتها عن لينين تصف كروبسكايا المزاج السائد بين صفوف الطبقة العاملة في سان بيترسبورغ في ذلك الوقت: «لقد دعت اللجنة المركزية بروليتاريا سان بيترسبورغ إلى دعم انتفاضة عمال موسكو، لكن لم يتحقق أي عمل منسق. استجاب للنداء عمال منطقة ما تزال بدون خبرة نسبيا مثل موسكوفسكي، لكن منطقة متقدمة مثل نيفسكي لم تفعل ذلك. أتذكر كيف كان ستانيسلاف فولسكي غاضبا، وكان يحرض في تلك المنطقة بالذات. فقد الثقة كليا وشكك في ما إذا كانت البروليتاريا ثورية بالفعل مثلما نعتقد. لقد عجز عن أن يرى أن عمال سان بيترسبورغ قد تعبوا بسبب الإضرابات السابقة، والأهم من ذلك كله هو أنهم أدركوا مدى سوء تنظيمهم وتسليحهم لخوض صراع حاسم ضد القيصرية، سيكون صراعا حتى الموت، كما يخبرهم بذلك مثال موسكو».

حتى في ظل وضع ثوري تتحرك مختلف فئات الطبقة العاملة بسرعات مختلفة وفي أوقات مختلفة. وباستخدام لغة عسكرية، كانت نقطة ضعف ثورة 1905، هي أن القسم الأكبر من جنود الاحتياط كان يدخل ميدان القتال في الوقت الذي كانت فيه فرق الطليعة قد تعبت وصارت غير قادرة على مواصلة الكفاح. وهذا ما يفسر الحقيقة التي تبدو متناقضة بأن المناطق العمالية الأكثر تخلفا صارت مستعدة للنضال في حين أن القطاعات الأكثر تقدما لم تستجب. تصلح نفس الملاحظة بالنسبة للفلاحين، والذين بدونهم كان محكوما على الثورة في المدن بالفشل. لم تبدأ الحركة في القرى تأخذ أبعادا هائلة إلا في عام 1906. لكن بحلول ذلك الوقت كان العمود الفقري للحركة العمالية قد انكسر، على الرغم من أن ذلك لم يكن واضحا في ذلك الوقت.

كانت هزيمة دجنبر ضربة قوية. وفي مذكراتها عن لينين، تذكر كروبسكايا أن: «هزيمة موسكو كانت تجربة مريرة جدا لإيليتش. كان واضحا أن العمال كانوا مسلحين بشكل سيئ وأن المنظمة كانت ضعيفة وحتى التنسيق بين بيترسبورغ وموسكو كان سيئا»[3]. لكن حتى بعد هزيمة دجنبر، لم يعتقد لينين أن الثورة قد استنفذت ذاتها. فعلى مدار عام 1906، استمرت سلسلة من الإضرابات والتحركات البروليتارية، مما دفع بلينين إلى الاعتقاد بأن الثورة كانت ما تزال على جدول الأعمال. وبعيدا عن انتقاد عمال بيترسبورغ لعدم مسارعتهم إلى حمل الأسلحة في دجنبر، قدم لينين التقييم التالي للوضع: «الحرب الأهلية مستعرة. الإضراب السياسي، على هذا النحو، بدأ يستنفذ نفسه، وأصبح شيئا من الماضي، أصبح شكلا للحركة عفا عليه الزمن. في سان بيترسبورغ، على سبيل المثال، لم يكن في مقدور العمال الجائعين والمنهكين تنفيذ إضراب دجنبر. لكن من ناحية أخرى، فإن الحركة ككل، وعلى الرغم من تعرضها لقمع الرجعية في الوقت الحالي، قد ارتقت، بلا شك، إلى مستوى أعلى من بكثير».

كانت حركة الفلاحين تنمو، ويمكنها ربما أن تعطي دفعة جديدة للمدن، وخاصة في فصل الربيع. كان النظام نفسه في أزمة، ويواجه إمكانية الانهيار المالي. وكان التماسك الداخلي للقوات المسلحة ما زال على المحك. كان من الضروري على العمال توحيد قوتهم إلى أقصى حد ممكن من أجل خوض النضال الحاسم عبر كل روسيا. وقد حذر لينين عمال بيترسبورغ من خطر الاستفزاز بشكل خاص: «سيكون من مصلحة الحكومة كثيرا قمع نضالات البروليتاريا التي ما تزال معزولة. سترغب الحكومة في تحدي عمال سان بيترسبورغ على الفور، للدخول في المعركة في ظل الظروف الأسوأ بالنسبة لهم. لكن العمال لن يسمحوا لأنفسهم بالسقوط ضحية الاستفزاز، وسوف يعرفون كيف يستمرون في طريقهم المتمثل في تحضير قواهم بشكل مستقل للنضال المقبل عبر كل روسيا»[4].

مع الخبرة التي قدمتها الأحداث السابقة، صار من الممكن أن نرى أن الفترة الممتدة من إضراب أكتوبر إلى انتفاضة دجنبر شكلت ذروة مد ثورة 1905. لكن مع هزيمة البروليتاريا في موسكو، تعرضت الحركة في المدن للسحق، على الرغم من استمرار حركة الإضرابات قوية في عام 1906. انتفاضة الفلاحين القوية جاءت بعد فوات الأوان. والحزب الذي كان ضعيفا ومنقسما في بداية الثورة، نما بشكل باهر في غضون بضعة أشهر، لكن ظهر جليا أن مهمة توحيد وقيادة حركة الملايين هي أكبر من قدرات بضعة آلاف من الكوادر، على الرغم من مجهوداتهم وتضحياتهم البطولية. لم يكن الشيء العجيب هو فشل الماركسيين الروس في قيادة البروليتاريا للنصر في عام 1905، بل العجيب هو الطريقة التي تمكنت بها حفنة صغيرة من الثوريين، الذين راكموا بالكاد عقدين من العمل وراءهم، من أن يتطوروا من حلقات صغيرة للدعاية إلى حزب قوي، مع عشرات الآلاف من المناضلين الذين يقودون مئات الآلاف من العمال، وكل ذلك في غضون بضعة أشهر.

الثورة، وعلى الرغم من هزيمتها، لم تذهب سدى. ومثلما هو الحال بالنسبة للعلم، حتى التجربة الفاشلة لا تضيع بالضرورة. هناك بعض أوجه التشابه مع تاريخ الثورات، على الرغم من أن التكلفة البشرية هي، بطبيعة الحال، أكبر بما لا يقاس. لولا تجربة كومونة باريس ولولا تجربة عام 1905، لكان نجاح ثورة عام 1917 مستحيلا، كما أشار لينين بعد سنوات كثيرة: «خرجت كل الطبقات إلى العلن. وجميع الآراء البرنامجية والتكتيكية جربت على محك ممارسة الجماهير. والنضال الإضرابي لم يسبق له مثيل في العالم في اتساعه وحدته. تطور الإضراب الاقتصادي إلى إضراب سياسي، وتطور الإضراب السياسي إلى انتفاضة. وتم التحقق في خضم الممارسة من العلاقات بين البروليتاريا القائدة وبين الفلاحين التابعين المتأرجحين والمتذبذبين. انبثق الشكل السوفييتي للتنظيم في غمرة التطور العفوي للنضال. وقد استبقت مجادلات تلك المرحلة حول أهمية السوفييتات نضال سنوات 1917-1920 العظيم. وحدث تناوب بين أشكال النضال البرلمانية وغير البرلمانية وتكتيكات مقاطعة البرلمان والمشاركة في البرلمان، وأشكال النضال العلنية وغير العلنية، وكذلك أشكال الترابط والتفاعل بينها، كل ذلك تميز بثراء غير عادي في المضمون. أما من حيث تعليم أسس علم السياسة للجماهير والقادة والطبقات والأحزاب على حد سواء، فقد كان كل شهر من تلك المرحلة يساوي سنة كاملة من التطور "السلمي" و"الدستوري". ولولا "تمرين" سنة 1905، لكان انتصار ثورة أكتوبر سنة 1917 مستحيلا»[5].

كما كان لثورة 1905 أيضا آثار عميقة على الصعيد الأممي. فبين عشية وضحاها أصبحت فكرة الإضراب العام قضية مركزية في مناقشات الحركة العمالية العالمية. وشكلت الثورة مصدر إلهام وحافز لعمال بقية أوروبا. في ألمانيا اندلعت موجة إضرابات في 1905، انخرط فيها 508.000 عامل، أي ما يقرب من أربعة أضعاف رقم عام 1904. وشهد أبريل 1906 أول إضراب سياسي عام في تاريخ ألمانيا. كما لم تقتصر آثار الثورة الروسية على أوروبا، بل كان لها تأثير على الحركات الثورية الصاعدة لشعوب المستعمرات. في دجنبر 1905 شهدت بلاد فارس ثورتها البرجوازية، والتي بلغت ذروتها في عام 1911. دخلت الصين بدورها، في عام 1905، في خضم حركة ثورية جماهيرية بزعامة البرجوازي الديمقراطي صن يات سين. وهو ما عبد الطريق بدوره للثورة البرجوازية الصينية ما بين 1911 و1913. وشهدت تركيا أيضا صعود حركة ثورية. ومثل صخرة ثقيلة ألقيت في بركة ساكنة، أنتجت الثورة الروسية موجات كبيرة كانت قادرة على الوصول إلى شواطئ بعيدة جدا.

كانت 1905 نقطة تحول حاسمة. فللمرة الأولى أصبحت الاشتراكية الديمقراطية الثورية قوة حاسمة داخل صفوف الطبقة العاملة في عموم روسيا. في غضون تسعة أشهر، شهدت الحركة تحولا كاملا. تطور وعي العمال بقفزات واسعة على أساس الأحداث العظيمة، مما هز أسس كل المعتقدات والعادات والتقاليد القديمة، ومكن الطبقة العاملة من التوصل إلى فهم حقائق وجودها الخاص. ومن خلال سيرورة تجارب متواصلة، اختبر الشعب العامل الخيارات السياسية الواحد منها تلو الآخر، بدءا من الكهنة والعرائض المتواضعة، مرورا بالإضرابات الاقتصادية لتحسين الأجور وظروف العمل، والإصلاحات الدستورية والبيانات الإمبراطورية، والمذابح الدموية، والمظاهرات في الشوارع وفرق الدفاع الذاتي العمالية، إلى أسمى تعبير عن الصراع الطبقي أي: الإضراب السياسي العام والانتفاضة المسلحة. وفي كل مرحلة تميز كسر الجماهير لأوهامها القديمة بصعود ونزول تيارات سياسية وشخصيات عرضية من جميع الأنواع. برز أمثال غابون وخروستاليوف- نوسار للحظة وجيزة على مسرح التاريخ قبل أن يختفوا إلى الأبد دون ترك أي أثر وراءهم. لكن التيار الثوري الحقيقي الذي تمثله البلشفية، وعلى الرغم من كل الأخطاء وفترات الصعود والهبوط الحتمية، تقدم بحزم لاحتلال مكانه الطبيعي على رأس البروليتاريا الثورية. الأسلحة النظرية والسياسية والتنظيمية، التي مكنت الحزب البلشفي من قيادة العمال إلى النصر في أكتوبر 1917، صقلت في نار ثورة 1905، وشحذت في ليل الردة الرجعية المظلمة الطويلة التي تلتها.

هوامش:


[1] LCW, The Workers’ Party and its Tasks in the Present Situation, vol. 10, p. 94.

[2] Stalin, History of the CPSU (B), p. 128.

[3] Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, vol. 1, pp. 142 and 159.

[4] LCW, The Workers’ Party and its Tasks in the Present Situation, vol. 10, pp. 93 and 94.

[5] LCW, ‘Left-wing’ Communism-An Infantile disorder, vol. 31, p. 27. (التشديد من عندي)