المنهج الجدلي - مقدمة لدراسة الديالكتيك


خليل اندراوس
2017 / 1 / 28 - 14:23     


عندما يدور الكلام عن الديالكتيك، فإنما يتم ذلك غالبا بغموض، ويقدم كشيء معقد، فعن جهل يتم الكلام عليه كيفما اتفق. وهذا مما يؤسف له، ومما يدعو لارتكاب أخطاء يجب تجنبها.
وهنا نريد ان نوضح بأننا كلمة "منهج" تعني الطريق الذي يؤدي بنا الى الهدف. ولقد درس كبار الفلاسفة امثال ديكارت وسبينوزا وهيجل قضايا المنهج لاهتمامهم باكتشاف اكثر الوسائل عقلانية لبلوغ الحقيقة. ومهم جدا لكل من يعتبر نفسه ماركسيا ان ينظر الى الواقع وجها لوجه حتى يتخطوا المظاهر المباشرة. ولهذا يجب ان يكون للمنهج اهمية كبرى عندما نطرح هذه القضية الاجتماعية او الثقافية او السياسية لكي نصل الى الهدف، من خلال نهج علمي جدلي لكونه الوحيد الذي يتيح لنا تكوين هذه النظرة العلمية الى العالم والتي هي ضرورية ، أي النهج العلمي الجدلي لاتمام عملية التغيير الثورية.
والجدلية هي ذلك المنهج الوحيد الذي يوافق النظرة العلمية الى العالم. فالجدلية تنظر الى الاشياء والمعاني في ترابطها بعضها بالبعض وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر وما ينتج عن ذلك من تغيير كما تنظر اليها عند ولادتها ونموها وانحطاطها (انجلز ضد دورنغ ص 392).
وهنا لا بد من ان يؤكد بان هذا لا يعني بأن الجدلية لا تقبل أي سكون او فصل بين مختلف جوانب الواقع، بل هي أي الجدلية ترى في السكون جانبا نسبيا من الواقع، بينما الحركة مطلقة.
والجدلية تهتم بالحركة في كل اشكالها وليس فقط بالتغيير المكاني، بل بتغييرات الحالات كتحول الماء السائل الى بخار فإنها تفسر الحركة عن طريق نضال الاضداد، وذلك اهم قانون في الجدلية.
يعود الفضل الى الفلاسفة اليونانيين في البدء بتكوين الجدلية – النهج الجدلي. فقد تصوروا الطبيعة ككل، وكان هيرقليط يعلم الناس ان هذا الكل يتحول، فكان يقول لا ندخل قط في نفس النهر مرتين. كما يحتل نضال الاضداد عندهم مكانة كبيرة ولا سيما عند افلاطون الذي يشير الى خصب هذا النضال اذ ان الاضداد يولد كل منها الآخر (ونجد اروع مثال على الجدلية الافلاطونية في احدى محاوراته الشهيرة، وهي محاورة سهلة، محاورة فيدون.
وكلمة الجدلية مشتقة من الكلمة اليونانية وتعني "جادل" فهي تعبر عن صراع الافكار المتناقضة.
ونجد عند اكبر مفكري العصر الحديث، ولا سيما عند ديكارت وسبينوزا امثلة رائعة على التفكير الجدلي.
لقد اعجب الفيلسوف الالماني هيغل بالثورة البرجوازية التي انتصرت في فرنسا وقضت على المجتمع الاقطاعي الذي خيل اليه انه ابدي لا يزول، فاذا بهيغل يقوم بثورة مماثلة في الافكار فينزل الميتافيزيقا (الفلسفة التي تجهل الحركة وتقول بالسكون والتماثل وشعارها "لا جديد تحت الشمس")، وحقائقها الخالدة عن عرشها السامي، واذا بالحقيقة عنده أي عند هيغل ليست مجموعة من المبادئ الجاهزة، بل هي عملية تاريخية تبدأ بالمعرفة البدئية لتنتهي بالمعرفة السامية. وهي أي المعرفة تتبع في ذلك حركة العلم نفسه الذي لا يتطور الا اذا عمد الى نقد نتائجه باستمرار وتجاوز هذه النتائج.
ولذلك نرى بأن مكان الفلسفة الكلاسيكية الالمانية في التاريخ، ولا سيما منها مذهب هيغل بوصفه ذروتها حدده برأي انجلز، دورها البارز في تطور العلم الفلسفي العالمي، وكذلك تأثيرها البالغ في الاحداث اللاحقة في حياة المجتمع الاوروبي السياسية والفكرية.
وكما احدث الماديون والمنورون الفرنسيون في القرن الثامن عشر بمؤلفاتهم ونشاطهم السياسي، انقلابا في وعي شعبهم وكوَّنوا بالتالي المقدمات الروحية للثورة البرجوازية، كذلك ادى انتشار نظرات الفلاسفة الالمان العظام الى الثورة الفلسفية الحقيقية واعد الوعي الاجتماعي لإدراك الافكار الثورية السياسية. وفي فرنسا والمانيا على السواء نشبت الثورات بادئ ذي بدء في ميدان النظرية ثم بعد ذلك في ميدان السياسة. ولكن الثورات الفلسفية في هذين البلدين المجاورين، كما لاحظ انجلز فقد اختلفت اختلافا تاما من حيث طابعها.
ولكن علينا ان نؤكد بأن فلسفة هيغل الجدلية كانت مثالية حيث نظرت الى طبيعة التاريخ الانساني كتجلٍّ للفكرة الازلية (للفكرة المطلقة) وهكذا تظل جدلية هيغل جدلية روحية صرفة. لذلك نرى انجلز يركز على ان نظرية هيغل الجدلية المثالية صارت من جراء تناقضاتها الداخلية، عاملا ثوريا في تطور الفلسفة ومقدمة روحية للثورة السياسية، وكيف صارت في الوقت نفسه دعامة فكرية لنشاط الاوساط الحاكمة، وكيف أنها حتى رفعت الى حد ما "الى مصاف الفلسفة الرسمية الملكية البروسية" (ماركس انجلز– منتخبات في ثلاثة مجلدات. المجلد 3 الجزء 2 ص 187).
ولقد كان ماركس وانجلز يريان ديالكتيك هيغل، باعتباره اكثر مذاهب التطور مشمولا واوفرها مضمونا واشدها عمقا، اثمن اكتساب حققته الفلسفة الكلاسيكية الالمانية. وكانا يعتبران كل صيغة اخرى لمبدأ التطور وحيدة الجانب، فقيرة المضمون تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور في الطبيعة والمجتمع.
"إننا كلينا، ماركس وانجلز، كنا وحدنا تقريبا اللذين وضعا نصب اعينهما مهمة انقاذ الديالكتيك الواعي". (عن طريق دك المثالية بما فيها الهيغلية) "ونقله الى صعيد المفهوم المادي عن الطبيعة".
وكتب انجلز يقول: "ان الطبيعة هي التأكيد على صحة الديالكتيك، وان العلوم الطبيعية الحديثة بالضبط تبين ان هذا التأكيد غني للغاية.. وانه يكرس كل يوم معطيات لا تحصى ويبرهن على ان الامور في الطبيعة تسير في آخر التحليل على النحو الديالكتيكي، ولا على النحو الميتافيزيائي".
ولقد رأى ماركس في الجدلية المنهج العلمي الوحيد، غير انه عرف ايضا كمادي ان يعيد الجدلية الى مكانها الحقيقي فرفض القول بالنظرة المثالية للعالم التي ترى في الكون المادي ثمرة للفكرة، وأدرك ان قوانين الجدلية هي قوانين العالم المادي وانه اذا كان الفكر جدليا فلأن الناس ليسوا غرباء في هذا العالم بل هم جزء منه.
وكذلك كتب انجلز، وهو صديق ماركس ومساعده يقول: "ليست الجدلية عند هيغل التي تتجلى في الطبيعة والتاريخ في صورة ترابط التقدم السببي الذي نجده منذ البداية حتى النهاية خلال جميع الحركات المتعرجة الالتواءات المؤقتة – ليست هذه الجدلية سوى صورة لحركات الفكرة الذاتية التي تستمر منذ الأزل حتى لا ندري، مستقلة عن كل ذهن انساني مفكر. فكان لا بد من تجنب هذا الانقلاب الفكري فنظرنا الى افكار الذهن نظرة مادية على انها انعكاس للأشياء بدلا من ان ننظر الى الأشياء على انها انعكاس لدرجة معينة من درجات الفكرة المطلقة. وهكذا اصبحت الجدلية معرفة قوانين الحركة العامة، في العالم الخارجي ام في التفكير الانساني وهما طائفتان من القوانين المتماثلة في الاصل المختلفة في الشكل، بمعنى ان الذهن الانساني يمكن ان يطبقها عن وعي وادراك. بينما هي لا تطبق في الطبيعة او التاريخ الانساني الا بصورة غير واعية في شكل الضرورة الخارجية وسط العديد من الصدف الظاهرة. فاذا بجدلية الفكر ليست سوى انعكاس بسيط واع لحركة العالم الحقيقي الجدلية. واذا بجدلية هيغل ترفع رأسها فتقف على رجليها بعد ان كانت تقف على رأسها (انجلز لودفيغ فورباخ 33- 34).
لذلك نستطيع ان نقول بأن ماركس رفض القشور في فلسفة هيغل، واحتفظ "باللباب العقلي" أي احتفظ بالجدلية. ويقول ماركس بنفسه بوضوح في المقدمة الثانية "رأس المال" كانون الثاني 1873.
"لا يختلف منهجي الجدلي في الاساس عن منهج هيغل فقط، بل هو نقيضه تماما، اذ يعتقد هيغل ان حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس هو سوى الصورة الظاهرية للفكرة. اما انا فأعتقد على العكس، ان حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت الى ذهن الانسان".(ماركس: رأس المال الكتاب الاول).
ويطرح السؤول كيف وصل ماركس وانجلز الى هذا الانقلاب في الفلسفة، نجد الجواب على ذلك في مؤلفاتهما. اذ ان ازدهار علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر وفي السنوات الاولى من القرن التاسع عشر هو الذي أدى بهما الى القول بأن للجدلية اساسا موضوعيا. وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير في ذلك:
1- اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الاجسام المعقدة.
2- اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية الخ، فهي صور مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة.
3- نظرية التطور عند داروين فلقد اظهرت هذه النظرية اعتمادًا على علم الحفريات وعلم تربية الحيوان ان جميع الكائنات الحية (ومنها الانسان) هي ثمرات التطور الطبيعي (داروين اصل الانواع 1859).
لقد انتهى ماركس وانجلز الى القول بأنه يجب الاستغناء عن المنهج الميتافيزيقي من اجل فهم الحقيقة الجدلية والتي تقول بأن للطبيعة طابعا جدليا وعلى انها وحدة لكل شاسع في صيرورة دائمة، وتطور حسب قوانين ضرورية ولا يكف عن توليد المظاهر الجديدة، وما النوع الانساني والمجتمع سوى لحظة من هذه الصيرورة الشاملة.
لذلك لم يأت ماركس وانجلز بالمنهج الجدلي من الخارج بصورة اعتباطية بل استقياه من العلوم نفسها التي تتخذ الطبيعة موضوعا لها والطبيعة جدلية في ذاتها.
ولهذا ظل كل من ماركس وانجلز طيلة حياتهما على اتصال دائم بتقدم العلوم وقد ازداد المنهج الجدلي في دقته كلما ازدادت معرفة العالم اتساعا وعمقا. كرس انجلز بالاتفاق مع ماركس (الذي ألف كتاب رأس المال) سنوات طويلة لدراسة الفلسفة وعلوم الطبيعة دراسة دقيقة كما كتب في عامي 1877- 1878 كتابه "ضد دورنج" وبدأ بكتابة مؤلف ضخم عن "جدلية الطبيعة" الذي خلف لنا منه عددا من الفصول.
برهن المنهج الجدلي على خصبة عند ماركس وانجلز نفسيهما، وكان ثائرين ومفكرين في نفس الوقت، لأنهما كانا جدليين، المشكلة التي لم ينجح سابقوهما في وضعها. فلقد طبقا الجدلية المادية على التاريخ الانساني فأسسا علم المجتمعات الذي يقوم على الفلسفة المادية التاريخية، ولهذا اعلنت البرجوازية وطبقة رأس المال، خدمة لمصلحتها الطبقية الحرب على الجدلية لأن الجدلية فضيحة بالنسبة للطبقات المسيطرة ومفكريها. ولأن النظرة الموضوعية للأشياء الموجودة تتضمن ايضا ادراك زوال هذه الطبقات وفناءها الضروري الموضوعي. لأن هذه الجدلية تدرك الحركة ولا يمكن لأي شيء ان يفرض عليها هذه الحركة اذ هي جدلية نقدية موضوعية ثورية.
فالفكر والفلسفة الماركسية ونهجها الجدلي الديالكتيكي هو انقلاب ثوري حقيقي في تطور الفكر البشري.
لقد حول ماركس وانجلز النهج الجدلي الديالكتيكي الى علم عن أعم قوانين حركة الطبيعة والمجتمع والتفكير.
لقد ابدع ماركس وانجلز النهج الجدلي الديالكتيكي المادي الذي يصبح في ايدي من يتعمق به ويدرسه ويعرفه ويمارسه اداة موثوقة للبحث العلمي وسلاحا حادًا جدا في الكفاح الطبقي الثوري.
قال لينين في رثائه لانجلز: "يمكننا ان نعبر في بضع كلمات عن الخدمات التي أداها ماركس وانجلز للطبقة العاملة على الوجه التالي: لقد علما الطبقة العاملة ان تعرف نفسها وان تعي ذاتها، وأحلّى العلم محل الاحلام".
لقد وضع ماركس وانجلز النظرية الثورية لنضال الطبقة العاملة النظرية التي تضيء الطريق الذي يمكّن الطبقة العاملة من الإطاحة بالاستغلال الرأسمالي، وان تتولى قياده كل جماهير الشعب ، وبذلك تحرر المجتمع بأسره مرة واحدة والى الابد من كل قهر ومن كل استغلال للانسان بواسطة الانسان.
وعلمنا ماركس وانجلز ان الطبقة العاملة دون حزبها – المستقل عن كل الاحزاب البرجوازية- لا تستطيع بالتأكيد ان تنتصر على الرأسمالية، ولا تستطيع ان تقود المجتمع كله نحو الغاء الرأسمالية. ولكن في نفس الوقت على الحزب ان يعمل كطليعة لطبقته، كأكثر اقسام طبقته وعيا، وانه هو سلاح كسب السلطة السياسية وتدعيمها.
ولكي يستطيع الحزب ان ينجز هذا الدور فمن الواضح ان عليه امتلاك المعرفة والفهم والبصيرة، وبعبارة اخرى ان يكون مسلحا بنظرية ثورية جدلية ديالكتيكية يقيم عليها سياسته ويسترسد بها في نشاطه. وهذه النظرية هي النظرية الماركسية وهي ليست مجرد نظرية اقتصادية ولا هي مجرد نظرية سياسية بل هي نظرة شاملة للعالم – فلسفة. فليست الافكار الاقتصادية والسياسية ولا يمكن ان تكون – مستقلة عن النظرة العامة الى العالم، فالأفكار الاقتصادية والسياسية المحددة تعبر عن نظرة معتنقيها الى العالم وبالعكس، تجد الافكار الفلسفية تعبيرا عنها في الافكار الاقتصادية والسياسية.
وفي النهاية النهج الجدلي – الديالكتيكي الماركسي فلسفة تسعى الى فهم العالم من اجل تغييره. يقول ماركس: "كان كل ما قام به الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة بيد ان القضية هي تغييره". (ماركس قضايا عن فيورباخ رم 11).
* المراجع:
- لينين – بعض خصائص تطور الماركسية التاريخي
- جورج بوليتزر – اصول الفكر الماركسي
- موريس كورنفورت – مدخل الى المادية الجدلية
- افاناسييف – اسس المعارف الفلسفية