البلاشفة والسوفييتات - البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2017 / 1 / 17 - 09:35     


الفصل الثاني: الثورة الروسية الأولى

البلاشفة والسوفييتات



آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

في ظل تلك الظروف حين كانت الحركة تكتسب زخما هائلا، شكلت ضرورة التغلغل في فئات جديدة واعتماد أساليب جديدة للتحريض تحديا كبيرا للحزب. كان من الضروري إحداث هزة لتحقيق الاستفادة الكاملة من ذلك الوضع. في كل يوم كانت تعقد اجتماعات جماهيرية في جميع مدن روسيا. انفتحت فرص كبيرة أمام الاشتراكيين الديمقراطيين الذين كانوا يوجدون في الساحة لوحدهم تقريبا. كان منافسوهم الحقيقيون الوحيدون هم الاشتراكيون الثوريون، الذين كان لديهم بعض الحضور، والمنظمات القومية البرجوازية الصغيرة: مثل الحزب الاشتراكي البولندي، في بولندا، وحزب البوند اليهودي. كان اللاسلطويون في بيترسبورغ فرقة أضعف من أن يتم تمثيلها في اللجنة التنفيذية للسوفييت. والشيء نفسه ينطبق على جميع أنحاء البلاد، مع استثناء وحيد هو بيلوستوك، حيث كانت لهم الأغلبية. لم تكن لليبراليين البرجوازيين أية قاعدة بين الجماهير، ولم يقوموا بأي محاولات تقريبا لكسبها. كانت كل إستراتيجيتهم تقوم على التوافقات من أجل انتزاع بعض التنازلات من النظام.

كان الحزب يكسب بسرعة النفوذ بين العناصر الأكثر تقدما. ولكن ذلك غير كاف للقيام بالثورة. من الضروري كسب الجماهير. ولإنجاز هذه المهمة لا بد من تبني تكتيكات مرنة، لكي تتمكن قوى الطليعة البروليتارية، الصغيرة نسبيا، من إيجاد الطريق إلى غالبية العمال الذين لم يصلوا بعد إلى كل الخلاصات الضرورية. كان السؤال الرئيسي الأهم لربط المنظمة الماركسية الصغيرة مع الكتلة الواسعة من العمال في النضال هو الموقف من سوفييت بيترسبورغ. لينين، كما رأينا، وعلى الرغم من أنه كان بعيدا بآلاف الكيلومترات عن ساحة الأحداث، تمكن على الفور من فهم مغزى هذه الظاهرة الجديدة. لكن لم يكن الحال نفسه ينطبق على أعضاء حزبه في بيترسبورغ. كان أعضاء اللجنة المركزية البلشفية، في بيترسبورغ، الذين أبانوا عن انعدام تام "للإحساس" بالحركة الحقيقية للطبقة العاملة، يشعرون بعدم الارتياح تجاه فكرة وجود منظمة جماهيرية "غير حزبية" جنبا إلى جنب مع الحزب. وعوض أن يروا في السوفييت حقل اشتغال هام، نظروا إليه بعداء، كمنافس لهم.

بسبب ما افترض أنه طبيعة غير حزبية للسوفييت، وبسبب رئيسه خاروستالوف، ذهب بلاشفة سان بيترسبورغ إلى حد تنظيم حملة ضد السوفييت. لقد أقنعوا المجلس الاتحادي، المكون من البلاشفة والمناشفة، بتوجيه إنذارا للسوفييت بأنه يجب عليه أن يضع نفسه تحت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. إلا أنه تم رفض هذا الاقتراح من طرف القواعد خلال مؤتمر مشترك بين البلاشفة والمناشفة، انعقد في 26 أكتوبر. عارض المناشفة ذلك، بينما مضى البلاشفة قدما بمفردهم. في 24 أكتوبر طرحوا قرارا على نفس المنوال خلال اجتماع في مصنع سيميانيكوف وغيره من مصانع الصلب الأخرى، مطالبين بأن يقبل السوفييت البرنامج والتكتيكات الاشتراكية الديمقراطية وطالبوا بوجوب أن يحدد موقفه السياسي. في العدد الأول من الصحيفة البلشفية الشرعية، نوفايا جيزن، ظهرت مقالة تحت عنوان: "حول مسألة السوفييت"، والذي اشتكى من «الوضع الغريب للغاية حيث لا يتبنى "السوفييت" أية علاقة تبعية تجاه الحزب».[1]

نشرت اللجنة المركزية البلشفية قرارا ملزما لكل البلاشفة في جميع أنحاء روسيا، يؤكد على أن السوفييتات يجب أن تقبل ببرنامج الحزب. لقد تبنوا ذلك النوع من سمات التفكير الصورية المميزة للعصبويين في كل عصر، أي أنه إذا أراد السوفييت أن يكون منظمة سياسية فيجب على الاشتراكيين الديمقراطيين آنذاك أن يطالبوه بأن يتبنى البرنامج الاشتراكي الديمقراطي، لكنه إذا قبل بذلك فإنه لن يكون هناك أي معنى لوجود منظمة اشتراكية ديمقراطية أخرى موازية للحزب، وبالتالي فإنه يجب على السوفييت أن يحل. كان هذا بمثابة مطالبة جميع أعضاء مجلس السوفييت بالانضمام للحزب الاشتراكي الديمقراطي. وللتوضيح أكد محررو صحيفة نوفايا جيزن أنهم ليسوا متفقين 100% مع ما جاء في المقال، لكن التحريض ضد السوفييت استمر بنفس المنوال. وفي 29 أكتوبر، أعلنت لجنة حي نيفسكي أنه من غير المقبول بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين المشاركة في أي نوع من أنواع "برلمان العمال" مثل السوفييتات. وتبنى اجتماع لعمال مصنع سيميونوف نفس الموقف. تجاهل هذا الموقف تماما الحاجة إلى إقامة صلة قوية بين العمال المتقدمين الذين يتبنون الأفكار الماركسية وبين جماهير العمال غير الواعين سياسيا. كان ذلك بمثابة مطالبة الطبقة العاملة كلها بأن تلتحق بالحزب الماركسي، وهو تصور غير واقعي تماما، والذي إذا ما تم التشبث به فلن يؤدي إلا إلى عزل أقلية العمال المتقدمين عن بقية الطبقة.

تكرر هذا الموقف الصوري الفج في عدد من المقالات التي نشرت في صحيفة نوفايا جيزن، لا سيما ذلك الذي ظهر في العدد السادس بتوقيع ب. مندليف، حيث نقرأ ما يلي: «يجب على سوفييت نواب العمال ألا يوجد كمنظمة سياسية ويجب على الاشتراكيين الديموقراطيين أن ينسحبوا منه، لأن وجوده يؤثر بشكل سلبي على تطور الحركة الاشتراكية الديمقراطية. يمكن لسوفييت المندوبين أن يبقى كمنظمة نقابية، أو عليه أن يختفي تماما». ويضيف نفس المؤلف اقتراحا بأنه على البلاشفة أن يوجهوا للسوفييت إنذارا نهائيا: إما قبول برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي وإما أن يحل نفسه! وقد برر القادة البلاشفة عدائهم للسوفييت بأنه يمثل "خضوع الوعي للعفوية".[2] بل وصلوا إلى حد أنهم طرحوا مشروع قرارا بذلك المعنى أمام السوفييت، وعندما رفض القرار، انسحب المندوبون البلاشفة، بقيادة عضوي اللجنة المركزية بوغدانوف وكنيانتس، بينما اكتفى بقية المندوبين بهز أكتافهم وانتقلوا إلى نقاش النقطة التالية على جدول الأعمال.

لقد صبت أخطاء "أعضاء اللجنة" البلاشفة في صالح المناشفة الذين مكنهم موقفهم الأكثر مرونة من اتخاذ مبادرات لإقامة السوفييتات، حيث سرعان ما حققوا التقدم على البلاشفة. لم يعتبر المناشفة السوفييتات حكومة ثورية مؤقتة، على حد تعبير لينين، بل اعتبروه جهازا "للحكم الذاتي الثوري". كان ذلك قياسا على الثورة الفرنسية عام 1789 وكومونة باريس، لكن ذلك التشبيه لم يكن على أساس نقطة قوة تلك السوابق التاريخية، بل تحديدا على أساس أخطاء الكومونة. وكانت فكرة المناشفة الأخرى عن "مؤتمر العمال" بدورها مفهوما غير ثوري، إذ قامت على اعتبار السوفييت ليس جهازا للنضال يمكن للعمال من خلاله الاستيلاء على السلطة، بل نقطة انطلاق لبناء حزب عمالي جماهيري، أي حزب يشبه حزب العمال البريطاني. شعار "مؤتمر العمال"، الذي تبناه لاحقا أكسلرود على وجه الخصوص، كان يعكس نفس الفكرة. وهكذا فعلى الرغم من نجاحهم في المشاركة في السوفييتات، فإن تصور المناشفة بمجمله كان تصورا ذا طابع إصلاحي وليس ثوري.

ومن بعيد تتبع لينين أنشطة أعضاء حزبه بمزيج من الإحباط والاستياء. مكنته غريزته السديدة ومعرفته بالحركة العمالية من أن يفهم بسرعة أهمية السوفييتات. لكن رفاقه لم يشاركوه فهمه للطريقة التي تتحرك بها الجماهير. تطلب الأمر تدخل لينين الحاسم لتصويب الأمور. في هذه الأثناء فقد البلاشفة الكثير من المواقع داخل السوفييتات لصالح المناشفة وفقدوا وقتا ثمينا وفرصا عظيمة. لا بد أنه لطم وجهه غضبا عندما علم بسلوك رفاقه في سان بيترسبورغ. وبينما كان عائدا إلى روسيا من ستوكهولم، في مطلع شهر نوفمبر، حاول لينين، بلطف لكن بحزم، تصحيح أخطاء بلاشفة بيترسبورغ. في العدد الخامس من نوفايا جيزن، طرح مقال وقعه عضو بارز في اللجنة المركزية، هو: ب. م. كنيانتس (رادين)، الخيار التالي: "السوفييت أو الحزب". قال لينين في جوابه على سؤال كنيانتس: «أعتقد أنه من الخطأ وضع السؤال بهذه الطريقة وأنه يجب أن يكون القرار بالتأكيد هو: سوفييت نواب العمال والحزب معا». ومن الجدير بالذكر أن المحررين لم ينشروا رسالة لينين، التي لم تر النور سوى في عام 1940.






أعضاء سوفييت إيفانوفو- فوزنيسينسك الذي حافظ على النظام في البلدة وأصدر تصريحات وأنشأ ميليشيات وسيطر على الصحافة، وبالتالي قام عمليا بفرض حرية الصحافة والتعبير والتجمع.
الصورة من موقع ويكيميديا

وأضاف لينين: «السؤال الوحيد، والمهم للغاية، هو كيفية تقسيم وكيفية تجميع مهام السوفييت ومهام حزب العمال الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي» ثم أضاف بعبارة لا بد أنها سببت ذعرا بين أعضاء اللجنة: «أعتقد أنه سيكون من غير المناسب للسوفييت أن يلتحق بحزب واحد، أيا كان». ويمضي لينين في شرح الحقيقة الأولية بأنه على النقابات العمالية والسوفييت أن يسعيا جاهدين لاحتواء جميع قطاعات الطبقة العاملة، بغض النظر عن الجنسية أو العرق أو العقيدة أو الانتماء السياسي. وحدها منظمة المائة السود شبه الفاشية من يجب إقصاؤها، وأنه يجب على الماركسيين الكفاح داخل تلك المنظمات الجماهيرية من أجل الحصول على الأغلبية لأفكارهم وبرنامجهم وتكتيكاتهم. وأضاف: «نحن لا نعزل أنفسنا عن الشعب الثوري، بل نخضع لحكمهم في كل خطوة وفي كل قرار نتخذه. ونحن نعتمد بشكل كامل وحصري على المبادرة الحرة لجماهير الشغيلة نفسها»[3]. هذا هو لينين يتحدث، بعيدا عن تلك الصورة الكاريكاتيرية الخبيثة التي تقدمه كعصبوي أو "متآمر بلانكي"، يتلاعب بالجماهير من وراء الكواليس!

أعطى إضراب أكتوبر دفعة قوية لتمرد القوميات المضطهدة. وقد أصبحت فنلندا ومنطقة بحر البلطيق ومناطق واسعة من القوقاز مناطق محررة عمليا، وخاصة بعد الإعلان عن الإصلاحات في بيان أكتوبر. كتب رئيس الوزراء "الليبرالي"، وايت، بقلق إلى القيصر حول الوضع في فنلندا قائلا: «خلال النصف الثاني من أكتوبر الماضي جرت في فنلندا أحداث ليست لها سابقة طيلة ما يقرب من مائة عام، منذ أن صار الإقليم تحت الحكم الروسي. تم تنظيم إضراب سياسي عام. وظهر "حرس وطني" [ميليشيات] جيد التسليح والتنظيم، تمكن في كثير من الأماكن من تولى دور الشرطة الشرعية، وأمرها بإلقاء أسلحتها. وقد اضطر بعض حكام المحافظات، بفعل تهديدات ممثلي الأحزاب السياسية المحلية، إلى الاستقالة من مناصبهم». أظهرت مراسلات الكونت وايت اليومية مع القيصر تزايد القلق من تطور الوضع الثوري. وبضغط من وايت أصدر القيصر بيان أكتوبر. لكنه أصبح من الواضح الآن أن التنازلات لم تؤد إلى وقف الثورة، بل فقط أعطتها دفعة جديدة. وإذا كان وايت يتوقع تعاطف القيصر، فإنه أصيب بخيبة أمل. كتب نيكولاس يرد عليه: «هل من الممكن لـ 162 من الفوضويين تخريب الجيش؟ ينبغي أن يُعدموا جميعا». كان هذا هو التعليق الوحيد الذي قدمه القيصر على رسالة وايت.

وتأكدت تعليقات وايت عن فنلندا بتقارير أخرى قدمت إلى القيصر. أحد تلك التقارير كتبها الحاكم العام لوارسو وقد تضمن التقييم التالي للوضع في بولندا: «لقد اكتسب المزاج الغريب السائد داخل المجتمع البولندي والعداء تجاه الروس أبعادا غير مسبوقة... لم يدع بيان أكتوبر لأنشطة محددة، لكنه، على العكس من ذلك، أثار أحداثا خطيرة إلى درجة أن بلدة وارسو والمناطق المحيطة بها أخذت مظهر معسكر متمرد واحد. هناك اجتماعات حاشدة في الشوارع والساحات وخطباء يدعون إلى الانتفاضة. القساوسة الكاثوليك ينظمون "مظاهرات وطنية" في القرى وينشدون الأغاني الثورية ويرفعون الأعلام الحمراء والسوداء بشعار النسر البولندي والشعارات الثورية»[4]. كانت أوكرانيا بدورها في حالة من الاضطراب مع اجتماعات احتجاجية جماهيرية في كييف وأوديسا، خلال شهر أكتوبر. كانت كل العوامل تنضج لانتقال السلطة إلى أيدي الطبقة العاملة. وكانت الحركة الثورية في القرى في تصاعد. خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 1905، تم الإبلاغ عن 1590 حالة من التمردات الفلاحية. وبدأت الانشقاقات تظهر في صفوف الحكم المطلق، ففي حين طلب وايت من القيصر منح إصلاحات من فوق لتجنب اندلاع الثورة من تحت، أصدر الجنرال تريبوف، الحاكم الفعلي لبيترسبورغ، أمره الشهير لجنوده: "لا توفروا الرصاص!".

ضعف النظام، الذي كان يواجه انفجار الغضب الشعبي، تبين في لهجة الذعر في رسائل وايت إلى القيصر، والشكاوى المستمرة من نقص القوات. وفي الأخير اضطر حتى عقل نيكولاس الثخين أن يتصالح مع الواقع ويعترف، على مضض، بالحاجة إلى إجراء انتخابات لمجلس الدوما. اعتبر لينين بيان القيصر، في 17 أكتوبر، بأنه "أول انتصار للثورة". وقد استقبل باحتفالات صاخبة في الشوارع. حشود من الناس المتحمسين تجمعوا في مراكز المدن لمناقشة الوضع. وفي 18 و19 و20 أكتوبر، وبدون خطة مسبقة، سار العمال إلى المعتقلات، رافعين الأعلام الحمراء، للمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين. في موسكو، فتحت المعتقلات قسرا وحمل السجناء على الأكتاف في الشوارع. كان موقف البلاشفة هو عدم وضع أي ثقة في الوعود المكتوبة على الورق والاستمرار في النضال من أجل جمعية تأسيسية. وعلى الرغم من الحالة المزاجية المشبعة بالنشوة، أكد لينين على فكرة أن البيان لم يكن سوى تراجع تكتيكي وحذر من الأوهام الدستورية والألاعيب البرلمانية:


«هناك حديث عن الحرية والتمثيل الشعبي، بعضهم يتحدث حتى عن الجمعية التأسيسية. لكن ما يجب أن نحرص باستمرار، كل ساعة وكل دقيقة، على ألا يغيب عن أذهاننا هو أنه من دون ضمانات جدية، فإن كل تلك الأشياء الجميلة ليست سوى عبارات جوفاء. لا يمكن تقديم ضمانة جدية إلا بانتفاضة شعبية ظافرة، إلا من خلال السيطرة الكاملة للبروليتاريا المسلحة والفلاحين على جميع ممثلي السلطة القيصرية الذين تراجعوا شيئا ما، تحت ضغط الشعب، لكنهم ما زالوا لم يستسلموا للشعب، وما زالوا لم يسقطوا بعد. وإلى حين أن يتحقق هذا الهدف لا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية ولا تمثيل شعبي حقيقي ولا جمعية تأسيسية حقيقية لديها السلطة لإقامة نظام جديد في روسيا».

كان النظام يلعب على الوقت، كان يقدم التنازلات من أجل تهدئة الوضع، في حين كان يحضر وراء الكواليس للهجوم المضاد. تنشأ حالة مماثلة لهذه عند نقطة معينة في كل ثورة. يمكن وصفها بأنها مرحلة الأوهام الديمقراطية. يتصور الناس أنه قد تم حل المشكلة وأن الثورة قد انتهت، في حين أنها تكون في واقع الأمر مجرد البداية، تكون المعركة الحاسمة ما زالت في المستقبل. لم يقدم بيان أكتوبر أي حل جوهري، لكنه قدم المبرر لليبراليين ليفصلوا أنفسهم عن الثورة. وكما توقع لينين وتروتسكي عملت البرجوازية، التي كانت دائما تسعى جاهدة للتوصل إلى اتفاق مع النظام القيصري على حساب العمال والفلاحين، على الانسحاب غدرا من المعسكر الثوري. اتحد كبار الرأسماليين وملاك الأراضي في تكتل رجعي: في ما سمي اتحاد 17 أكتوبر، أو "الاكتوبريين"، والذي وقف بكل ثقله إلى جانب الردة الرجعية القيصرية. وفي الوقت نفسه، قام القسم "الليبرالي" بين البرجوازية بتأسيس الحزب الديمقراطي الدستوري، "الكاديت"، الذي دافع عن إقامة "ملكية دستورية"، والذي تصرف في الواقع باعتباره القدم اليسرى للاستبداد، متسترا على الطبيعة الدموية للنظام القيصري بعبارات دستورية ديمقراطية مزيفة. كان لينين لاذعا في هجماته لا سيما على هذا الجناح "التقدمي" للبرجوازية، ولم يدخر أية فرصة لإدانتهم بسبب جبنهم وغدرهم.

كتب لينين: «ما هو الدستور؟ إنه قطعة من الورق مكتوب عليها حقوق الشعب. ما هي الضمانة بأن يتم الاعتراف حقا بهذه الحقوق؟ توجد تلك الضمانة في قوة تلك الطبقات الشعبية التي أصبحت على وعي بهذه الحقوق وتمكنت من الفوز بها»[5]. حلل لينين ببرودة أعصاب ميزان القوى في اللحظة المعينة وخلص إلى أن: «الاستبداد لم يعد قويا بما يكفي ليقمع الثورة علنا، والثورة ليست بعد قوية بما فيه الكفاية لتوجه للعدو ضربة حاسمة. هذا التذبذب في القوى التي بالكاد تتوازن يولد حتما الارتباك داخل صفوف السلطات، ليؤدي إلى الانتقال من القمع إلى التنازلات وإصدار قوانين تنص على حرية الصحافة وحرية التجمع»[6]. وكما توقع لينين، فإن ما أعطاه الحكم المطلق باليد اليسرى، بدأ يستعد الآن لاسترجاعه باليد اليمنى. لقد رفعت المكتسبات التي تحققت بفضل الإضراب العام من ثقة الطبقة العاملة. أطلق سراح المعتقلين من السجون، لكن الحرية التي تحققت بالضغط من أسفل كانت في جوهرها ذات طبيعة غير مستقرة وهشة. لا يمكن ضمان التحرر السياسي والاجتماعي الحقيقي إلا عن طريق الإطاحة الحاسمة بالنظام.

انسحاب الليبراليين أخلى الطريق لأجل العمل. صارت المسألة الآن بالنسبة للثورة هي: "إما... وإما...". وحدها الانتفاضة المسلحة، بقيادة البروليتاريا والتي تجر ورائها جماهير الفلاحين والقوميات وجميع الفئات المضطهدة في المجتمع، من يمكنها أن تقدم الحل. آنذاك كان الوهم في الإصلاح الدستوري قد تبدد. كان بيان أكتوبر محاولة واضحة من جانب النظام القديم لرسم خط في رمال الثورة: "كفى، لا مزيد من التقدم". تلك الإصلاحات التي تحققت لم تكن بفضل مناورات الليبراليين، بل كانت حصريا بفضل النضال الثوري للبروليتاريا. وبعيدا عن الأوهام حول بيان أكتوبر، دعا لينين الطبقة العاملة لاستجماع كل قواتها لأجل المواجهة الحاسمة. ووراء واجهة الدستور، كان الحكم المطلق يعد العدة لأجل القيام بتصفية دموية للحسابات. كانت مهمة الثوار في هذه الحالة، إلى جانب الوعي بوضوح أن المعارك الحاسمة ما تزال في المستقبل، هي اغتنام الفرصة بكلتا يديهم، والاستفادة الكاملة من الحريات التي انتزعت حديثا لبناء الحزب بسرعة، ومد نفوذهم في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، والاستعداد للمعركة الحاسمة. اعتبر لينين أن الانتفاضة هي الضمانة الوحيدة. وارتبط تسليح الشعب بالنضال من أجل المطالب الأساسية مثل تخفيض يوم العمل إلى ثماني ساعات وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين. لقد أثمرت واقعية لينين الثورية خلال الأحداث اللاحقة.

هوامش:


[1] Istoriya KPSS, vol. 2, p. 104.

[2] O. Anweiler, Los Soviets, pp. 84 and 85.

[3] LCW, Our Tasks in the Soviet of Workers’ Deputies—Letter to the Editors, vol. 10, pp. 19 and 27.

[4] V.P. Semenikov and A.M. Pankratova, Revolyutsiya 1905 Goda—a Collection of Government Documents, pp. 22-3 and 224-5.

[5] LCW, Between Two Battles, vol. 9, p. 460.