حول ثورة التكنولوجيا وحضارة القمع

محمد جبر الريفي
2017 / 1 / 9 - 06:58     


ان ما يعانيه العالم الغربي الرأسمالي من أزمات سياسية اقتصادية وأخلاقية هي في الحقيقة أزمة الحضارة الغربية البرجوازية القائمة أساسا على نتاج الحضارة الإغريقية والمسيحية الغربية والنظرة المادية وهكذا امتزجت الوثنية بالمسيحية الغربية يحكمها معا القانون الروماني كما يقول دريبر في كتابه بين العلم والدين ذلك أن الحضارة أية حضارة في التاريخ لا تستطيع كبح غرائز الإنسان لأسباب خلقية فحسب بل ولأسباب اقتصادية ايضا عند ذلك يأخذ مبدأ التناقض كما قال فرويد بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع الامر الذى يجعل الإنسان الغربي في ظل حضارته القمعية الاستهلاكية يتوق إلى نظام جديد وأيديولوجية جديدة وحضارة متحررة من كل أشكال القمع وهو الهدف الذي عجز النظام الصناعي التكنولوجي المتطور عن تحقيقه والذي لا يمكن الوصول إليه بمجرد الرفض والرفض المطلق لقيم هذا النظام بل بجعل هذا الرفض ضروريا لأحداث التغيير المنشود عبر رؤى حضارية جديدة.

لقد كلفت الحضارة الغربية في تطورها الفلسفي والطبيعي على النحو الذي سارت عليه خاصة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية البشرية اشياء كثيرة من الحزن والآلام وعلى هذا الأساس يمكن القول أن هذه الحضارة لم تستطع أن تحل معضلة الإنسان الفرد في أن ينمو نموا كاملا بعيدا عن كل أشكال القمع السياسية والاقتصادية والنفسية واذا كان للنهضة العلمية والصناعية التي انبثقت عن مكونات العقل الغربي اثرها في عالم اليوم وذلك بما أحدثته من تحولات متعددة الجوانب بداية بتطور القانون الطبيعي وسيطرة العلم التكنولوجي وانتهاء بمظاهر الرفض لقيم النظام البرجوازي في العالم الغربي فإن هذه النهضة لم تكن في واقع الامر إلا انتقالا من كمية صناعية إلى كمية أخرى اكثر تطورا منها وتقدما، فقد خلقت الحضارة الغربية في تطورها المادي تناقضات رهيبة عجزت التحولات الكبيرة التي احدثتها في جميع نواحي الحياة عن امتصاصها بل عملت هذه التناقضات على إغراق الإنسان في محيط عالمه المادي حتى وصلت في ظل حركة المجتمع الصناعي والتقدم التكنولوجي إلى مزيد من التأثير على عالمه الروحي والعقلي وبهذا تجاوز ما أحدثته هذه الحضارة من أزمات حدود الزمان والمكان مما دفع الفرد بالتالي إلى البحث عن نظريات إنسانية شاملة تبدو صلاحيتها لحياته المعذبة وانتزاعها من طوق المادية الخالصة إلى نزعة إنسانية شاملة.

إن الآلة الفكرية في الغرب لم تستطع من روسو إلى سارتر في أن تحقق القيم المثلى للإنسانية وهذا يظهر في الغرب أكثر منه في أي منطقة أخرى في العالم فالتمييز العنصري والاستغلال الاقتصادي والروح السلطوية والجرائم والفضائح الأخلاقية وعدم اتخاذ موقف عادل من القضايا الدولية (الكيل بمكيالين) كلها من مظاهر المجتمعات الرأسمالية الغربية الاكثر تقدما وإذا كان هناك من مصدر لهذه الظواهر فهو يتمثل اساسا في الحضارة الغربية ذاتها التي قامت على ماديات الجنس والغرائز والتي تعني روح القمع والعنف والتعصب وإثارة الصراعات بين الشعوب والأمم بهدف إضعافها لاستمرار عملية نهبها وباختصار فإن أزمة الحضارة البرجوازية الغربية تتجلى الآن أكثر ما تكون في تلك المعاملة التي يعامل بها الغرب الرأسمالي شعوب العالم الثالث النامية فهو لم يحجز الحرية والرفاهية عن تلك الشعوب لعقود طويلة فحسب بل وما زال يقاوم بالتدمير والعنف والحصار والعقوبات الاقتصادية الجائرة كل دولة تحاول اللحاق بالتطور والتقدم الصناعي والتكنولوجي خاصة امتلاك التكنولوجيا والعلوم النووية واختصار مراحل التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يبقي على التفاوت الحضاري بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلف وهو تخلف كان سببه في الواقع حقيقة الاستعمار الغربي الرأسمالي في هيمنته وسيطرته وفرضه لأشكال متعددة من التبعية تحت جملة من الأيديولوجيات والأحلاف والمعاهدات ويبدو لأول وهلة أن الطلاب والمثقفون الغربيون هم أكثر الفئات الاجتماعية احتجاجا على سياسات الدول الصناعية الغربية الكبرى وعلى القيم البرجوازية وطغيان التكنولوجيا وأكثر الناس تعاطفا مع انتفاضات العالم الثالث مما أدي إلى ظهورهم كقوة اجتماعية فاعلة بعيدا عن قواعد المعادلة الاستهلاكية ويعود هذا الدور للطلاب خاصة في البلدان الرأسمالي المتقدمة إلى ما حققه العلم من تطور تكنولوجي هائل حيث أصبح في ظل التطور الاقتصادي قوة منتجة مما يجعلهم يشكلون فئة إجتماعية لها خصائصها المميزة التي اكتسبتها في ظل هذا الوضع الذي يتشابه إلى حد كبير مع خصائص الطبقة العاملة فهم لا يمتلكون وسائل الإنتاج مثلهم في ذلك مثل العمال لكنهم في نفس الوقت يسهمون في خلق رأس المال لأرباب العمل بعتبارهم منتجين لفائض القيمة.