البلشفية طريق الثورة - لجنة شيدلوفسكي


آلان وودز
2016 / 12 / 8 - 20:59     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الثاني: الثورة الروسية الأولى

لجنة شيدلوفسكي

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

إدراكا منه للخطر، الذي كان يواجهه من جميع الجهات، تصرف النظام بمزيج من القسوة والمكر. وفي نفس الوقت الذي حاولت فيه الحكومة سحق الحركة عبر القيام باعتقالات جديدة وعمليات ترحيل وفرض الأحكام العرفية وتنظيم المذابح، حاولت جذب البرجوازية الليبرالية ببيان 18 فبراير ومجموعة من المناورات التي كانت تهدف إلى تقسيم وتضليل الطبقة العاملة. كما لجأت إلى الخدعة الشهيرة التي تلجأ إليها الطبقات الحاكمة في جميع البلدان، عندما تشعر بأنها محاصرة، حيث شكلت الحكومة القيصرية لجنة برئاسة الحاكم شيدلوفسكي "للتحقيق في أسباب السخط بين العمال". كان الهدف من وراء هذه الحيلة بوضوح هو محاولة تهدئة الوضع، وإبعاد العمال عن العمل الثوري ومنعهم من التحرك في اتجاه الماركسية. وفي خطوة غير مسبوقة، أعلنت الحكومة أن العمال سيكونون ممثلين في اللجنة عن طريق مندوبين منتخبين.

طرحت هذه المناورة على الماركسيين مشكلة تكتيكية. فمن جهة، كانت الأهداف الرجعية للحكومة واضحة جدا، لكن، من ناحية أخرى، كان رفض المشاركة يعني التخلي عن فرصة رائعة لحمل الأفكار الاشتراكية الثورية إلى جماهير العمال. بالنسبة للقادة المناشفة، مع ميولهم الانتهازية، لم تكن هناك أية مشكلة، إذ أنهم دعوا على الفور إلى استخدام اللجنة "منبرا" يمكن من خلاله مخاطبة عمال كل روسيا. لكن بين البلاشفة في بيترسبورغ، كان المزاج السائد في البداية لصالح المقاطعة. وقد كان نفس المزاج سائدا أيضا بين العمال المناشفة، الذين كانوا يقفون بعيدا على اليسار من قادتهم في المنفى. في المؤتمر الثالث، قال روميانتسيف (اسمه فليبوس في التقارير) إنه: «لا توجد خلافات حول الحاجة إلى مقاطعة اللجنة [ لجنة شيدلوفسكي]»[1]. ومع ذلك، فقد كان المزاج العام بين الأغلبية الساحقة من العمال لصالح المشاركة، وسرعان ما عدل البلاشفة موقفهم لصالح المشاركة، على الأقل في انتخاب المندوبين، مستفيدين بالكامل من الفرص القانونية المتاحة لممارسة التحريض بين فئات من العمال أوسع مما يمكنهم عادة.

تواصلت حركة الإضرابات واشتدت. وتراوحت المطالب التي طرحها العمال بين المطالبة بالماء الساخن لصنع الشاي ومرافق الغسيل، والمطالبة بيوم عمل من ثماني ساعات وجمعية تأسيسية. وقد أظهر المطلبان الأخيران تأثير الأفكار الاشتراكية الديمقراطية. كان المطلب الأكثر أهمية هو حق العمال في انتخاب نوابهم وأنه يجب أن يتمتع ممثلوهم المنتخبون بالحصانة. وقد استبق هذا تشكيل السوفييتات في الأشهر المقبلة. وبينما اعتقدت السلطات أن إنشاء لجنة من شأنه أن يوقف الحركة الجماهيرية، سرعان ما استيقظت على واقع لم يسعدها. كتب سوره «كانت القواعد العمالية أكثر تصلبا من نوابهم وأقل رغبة في تأجيل الإضرابات ووضع مطالبهم لمداولات اللجنة».

من خلال النضال الجماعي بدأ العمال يدركون قوتهم باعتبارهم طبقة وقيمتهم وكرامتهم باعتبارهم بشرا. وكان المطلب المشترك الذي يعكس صحوة الوعي عند العمال، هو مطلب التعامل باحترام مع العمال من قبل المديرين والمراقبين. نجد في قائمة مطالب عمال بوتيلوف: «المعاملة المهذبة، دون قيد أو شرط، من قبل إدارة المصنع، تجاه جميع العمال دون استثناء، وإلغاء استخدام مصطلح "تاي" مع العمال». ["تاي" هو الصيغة المألوفة لقول "أنت" لمخاطبة الأطفال والخدم والعبيد]. قال عمال أحواض السفن بالبلطيق إنه: «يجب على المراقبين ومساعدي المراقبين، وكل الإدارة عموما، أن يعاملوا العمال باعتبارهم بشرا وليس كأنهم أشياء... وعدم استخدام الكلمات غير المهذبة وغير الضرورية، كما هو الحال الآن».[2]

كانت المطالبات بعزل المراقبين الممقوتين مدعومة في الغالب بالنضال المباشر. كان العمال يقبضون على الجاني ويضعونه في كيس ويرمونه خارج المصنع. بحلول 18 مارس، كانت مفتشية المصانع قد سجلت أكثر من 20 حالة من هذا القبيل في سان بيترسبورغ. وبعد حدوث حالتين من هذا القبيل في مصنع بوتيلوف اتضح أن المراقبين تعلموا حسن الخلق، وأصبحوا مهذبين للغاية مع العمال. وفّـر مزاج الثقة الجديد عند الطبقة العاملة أرضا خصبة للتحريض الثوري. وبالاستفادة من الفرص الشرعية التي قدمها شيدلوفسكي، اكتسح المحرضون البلاشفة والمناشفة أماكن العمل بمنشوراتهم وتحدثوا في العديد من اللقاءات الجماهيرية. كان تكتيك كلا الفصيلين هو المشاركة في الانتخابات، لاستخدامها منبرا للوصول إلى عدد كبير من العمال، لكن مع رفض المشاركة في اللجنة نفسها حتى تلبية مطالب معينة.

وقد بينت الأحداث اللاحقة صحة قرار المشاركة في الحملة لانتخاب لجنة شيدلوفسكي. يوم 17 فبراير، تقدم 400 مرشح للانتخابات، 20% منهم اشتراكيون ديمقراطيون، و40% "عمال راديكاليون" والباقي عمال اقتصادويون وغيرهم. لكن وعلى الرغم من كونهم أقلية، فقد تمكن المندوبون البلاشفة من ضبط نغمة الاجتماعات. إلقاء القبض على عدد من المندوبين خلق مزاجا من الغضب الشديد الذي مكن البلاشفة من تقديم ما يرقى إلى إنذار نهائي للحاكم شيدلوفسكي، طالبوا فيه بحرية التعبير والتجمع، وحق المندوبين في القيام بأنشطتهم دون منع أو عرقلة، وحقهم في الاجتماع والمناقشة بحرية مع ناخبيهم وإطلاق سراح رفاقهم المعتقلين. لكن، في اليوم التالي، وعندما كان من المقرر حساب الأصوات، قررت الحكومة أن الأمور قد خرجت عن نطاق السيطرة ورفضت قبول مطالب العمال، وعندها تطورت حملة المقاطعة إلى الأمام بشكل جدي. وبعد أن مروا من تجربة اللجنة، جنبا إلى جنب مع بقية الطبقة، صار الآن من الأسهل نسبيا فضح الطبيعة الاحتيالية للمناورة بأكملها، وفي نفس الآن التحريض لصالح يوم عمل من ثماني ساعات وسياسة للضمان الاجتماعي وانتخابات ديمقراطية ووضع حد للحرب. بعد ثلاثة أيام سارعت السلطات إلى وضع حد للفرصة الوحيدة لحل مشكلة العمال بالطرق الشرعية. كان العمال، في الوقت نفسه، قد حصلوا على قدر كبير من الخبرة المهمة لانتخاب نواب العمال، والتي لعبت دورا في تأسيس سوفييت بيترسبورغ في وقت لاحق.

فهم لينين بوضوح أن جميع البيانات واللجان ووعود الإصلاح لم تكن سوى ستار من الدخان لخداع الجماهير، من ورائه كانت الردة الرجعية تراهن على الوقت وتستعد للانتقام. لذا فقد كان الوقت من ذهب. لذا فإنه في سيل غير منقطع من المقالات صب جام غضبه على الليبراليين وأوهامهم في الإصلاح الدستوري السلمي، وانتقد بشدة المناشفة بسبب أوهامهم في الليبراليين. من بين جوانب عبقرية لينين السياسية قدرته على فصل الجوهري عن غير الجوهري وفهم لب المشكلة. سرعان ما أدرك أن المسألة أصبحت الآن "إما ... أو". كان وقت اللعب قد انتهى. إما أن تنجح الطبقة العاملة، تحت قيادة ثورية واعية، في جمع شمل كل الجماهير المضطهدة، وقبل كل شيء الفلاحين الفقراء والقوميات المضطهدة، تحت قيادتها، وتحطم النظام القيصري بالانتفاضة المسلحة، أو أن قوى الرجعية القاتمة ستقضي، لا محالة، على الثورة، وتسلط انتقاما دمويا على الطبقة العاملة. لم يكن هناك حل وسط. لذلك كان كل شيء يتوقف على قدرة الماركسيين على كسب أغلبية حاسمة من الطبقة العاملة والقيام بأسرع وقت ممكن بالاستعدادات السياسية والتنظيمية والمادية اللازمة للانتفاضة المسلحة على الصعيد الوطني. شكلت هذه الفكرة نواة كل التصريحات التي كتبها لينين طيلة 1905، وهو ما يفسر جزئيا العجلة وأحيانا اللهجة الحادة على نحو غير معهود التي ميزت مراسلاته مع الداخل. لم يكن هناك وقت لتضييعه.

يمكن لوعي الناس أن يتغير، وفي خضم الثورة يمكنه أن يتغير بسرعة كبيرة جدا. في بداية فبراير، غابون نفسه، وبعد أن تطور مؤقتا إلى اليسار من خلال تجربته الخاصة، قام بإصدار "رسالة مفتوحة إلى الأحزاب الاشتراكية لعموم روسيا"، والتي تضمنت نداء للانتفاضة المسلحة: «أدعو جميع الأحزاب الاشتراكية في روسيا للدخول فورا في اتفاق فيما بينها والشروع في انتفاضة مسلحة ضد النظام القيصري. ينبغي تعبئة قوى كل الأحزاب، ويجب أن يكون لها جميعها خطة واحدة للعمل... الهدف المباشر هو إسقاط الحكم المطلق، وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة ستصدر فورا العفو الشامل عن جميع المناضلين من أجل الحريات السياسية والدينية، وتسلح على الفور الشعب وتدعو على الفور إلى جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع العام السري والمتساوي والمباشر».[3]

تلقى نداء غابون ترحيبا حارا من طرف لينين، الذي أكد في مقاله "اتفاق نضالي من أجل الانتفاضة" على ضرورة تشكيل جبهة موحدة من جميع القوى الثورية للتحضير للانتفاضة، على أساس الشعار القديم: "نسير متفرقين ونضرب معا". ومع ذلك، فقد أكد لينين هنا، وفي كل مقالاته الأخرى، على الضرورة المطلقة للحفاظ على الاستقلال السياسي الكامل للطبقة العاملة وحزبها: «نحن نرى في الاستقلالية التامة لحزب البروليتاريا الثورية الماركسي الضمانة الوحيدة لانتصار الاشتراكية والطريق الوحيد نحو النصر بأكبر قدر من الحزم. لذلك لا يجوز لنا أبدا، ولا حتى في أكثر اللحظات ثورية، التخلي عن الاستقلال الكامل للحزب الاشتراكي الديمقراطي والصلابة التامة لأيديولوجيتنا».

تحت ضغط الحركة الجماهيرية، بدأ المناشفة، وخاصة أولئك الموجودون داخل روسيا، في التحرك نحو اليسار. لم تكن الصحيفة البلشفية فبريود وحدها من نشرت مقالات ورسومات بيانية، بل حتى إيسكرا المناشفة قامت بذلك أيضا. لكن الميول الانتهازية، التي كانت واضحة بالفعل حتى قبل 09 يناير، اتضحت جليا في مبالغة المناشفة في تقدير دور البرجوازية الليبرالية وإصرار مارتوف على الاقتصار على الإعداد السياسي، عوض الإعداد التقني، للجماهير للانتفاضة المسلحة، وهو ما علق عليه لينين بشكل مقتضب قائلا: «إن الفصل بين الجانب "التقني" للثورة والجانب السياسي للثورة هو أكبر حماقة»[4].

كانت مسألة تسليح العمال، التي أثارها لينين باستمرار، تنبع من حاجيات اللحظة. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة تتكلم بخطاب تصالحي، كانت تحضر بشكل منهجي قوى الرجعية. السلطات التي هزها من الجذور التضامن بين العمال من مختلف الجنسيات، سعت لكسر هذه الوحدة من خلال تنظيم مذابح دموية. وفي بداية فبراير قام عملاء النظام بتحريض التتار في باكو على شن هجوم مميت على الأرمن في تلك المدينة. وطيلة عام 1905، رَشَـت الشرطة الغوغاء، في جميع أنحاء روسيا، بالمال والفودكا لضرب وقتل اليهود والاشتراكيين والطلاب. فتعاونت المنظمات الحزبية المختلفة لتنظيم الدفاع العمالي. ولأغراض عملية تم التوصل إلى اتفاقات تضم البلاشفة والمناشفة والبونديين والاشتراكيين من قوميات أخرى، وحتى المنظمات البرجوازية الصغيرة مثل الحزب الاشتراكي البولوني القومي والاشتراكيين الثوريين.

ليس هناك، من الناحية النظرية، أي خطأ، في ظل هذه الظروف، في الوصول إلى اتفاقات عملية مؤقتة حتى مع الليبراليين البرجوازيين من أجل، على سبيل المثال، النضال المشترك ضد منفذي المذابح، مع الحفاظ على الاستقلال التنظيمي والسياسي الكامل. لكن في الواقع، كانت مثل هذه الاتفاقيات مع الليبراليين شبه معدومة. لم يكن هؤلاء الأخيرين يسعون للعصيان المسلح، بل كانوا يسعون للتوصل إلى اتفاق مع النظام القيصري، واستندوا لفترة على الحركة الجماهيرية من أجل تخويف النظام ليمنحهم الدستور. كانت مقالات لينين في تلك الفترة مليئة بأشد الهجمات على الليبراليين حيث حذر من غدرهم وكافح محاولات المناشفة طمس الخط الفاصل بين الطبقة العاملة وبين البرجوازية الليبرالية ونشرهم الأوهام حول هؤلاء الأخيرين.

هوامش:


[1] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p. 179.

[2] G.D. Surh, 1905 in St Petersburg, pp. 209 and 181.

[3] F. Dan, The Origins of Bolshevism, p. 305.

[4] LCW, A Militant Agreement for the Uprising, vol. 8, pp. 159 and 163.