بعد رحيل كاسترو, الطريق الامثل (او الوحيد) لحماية الثورة الكوبية


طلال الربيعي
2016 / 11 / 28 - 22:46     

في 26 نوفمبر توفي الزعيم الثوري الكوبي فيدل كاسترو في سن ال90 عاما. ارتبطت حياته كلها ارتباطا وثيقا بالثورة الكوبية. وتقييم دوره في الواقع يعني إجراء تقييم للثورة الكوبية التي هي أول من إلغت الرأسمالية في نصف الكرة الغربي وقاومت لأكثر من خمسة عقود هجمة إمبريالية الولايات المتحدة، التي لا تبعد بالكاد اكثر من 90 ميلا إلى الشمال.

سببت أنباء وفاته ابتهاج الكوبيين المضادين للثورة في ميامي والمعارضة الرجعية في فنزويلا, بالاضافة الى وسائل الإعلام والمعلقين في جميع أنحاء العالم، اليمينية و "الليبرالية" على حد سواء.

من ناحية أخرى، ادى رحيل كاسترو , بالرغم من انه كان متوقعا, الى صدمة كبيرة لملايين العمال والشباب ونشطاء الجناح الثوري واليسار في أمريكا اللاتينية والعالم. فقد كان كاسترو رمزا للثورة الكوبية وتمكن من الوقوف في وجه الإمبريالية ومن ضمان جودة الرعاية الصحية واشاعة التعليم للجميع.

هنالك اسباب وجيهة جدا لماذا تضمر الطبقات الحاكمة في جميع أنحاء العالم كرها شديدا لكاسترو ولماذا تآمرت الإمبريالية الأمريكية, حسب تقدير البعض, بأكثر من 600 طريقة مختلفة لاغتياله. كان التهديد نتاجا للمثال الجيد الذي اعطته الثورة الكوبية للمظلومين في كافة ارجاء العالم, وذلك بإلغاء الرأسمالية, بقدرتها على القضاء على الأمية، بتوفيرالسكن لجميع مواطنيها، بتوفير خدمات صحية من الدرجة الأولى مما أدى إلى انخفاض معدل وفيات الرضع وزيادة العمر المتوقع إلى مستويات البلدان الرأسمالية المتقدمة, بالاضافة إلى تحسين واسع لمعايير التعليم لشعبها. كل هذا في بلد كان قبل الثورة بمثابة بيت دعارة وكازينو للولايات المتحدة, وعلى الرغم من عقود من التحرش الإرهابي والحصار التجاري الجنائي والحصار الذي تفرضه واشنطن.

ونحن عندما نقف دون قيد أو شرط للدفاع عن الثورة الكوبية، وذلك للأسباب نفسها, وهذا هو منطلقنا, فان أي تقييم من هذا المنطلق لفيدل كاسترو والثورة الكوبية ينبغي ان يكون متوازنا ونقديا، إذا أردنا أن نتعلم شيئا من ذلك. ولكن لابد أن يبدأ ذلك من وجهة نظر الاعتراف بالمكاسب التاريخية للثورة، التي تحققت من خلال مصادرة املاك الرأسماليين، الإمبرياليين وملاكي الارض.

كانت كوبا آخر دولة في أمريكا اللاتينية تحقق الاستقلال الرسمي. ولكنها, بمجرد تخلصها من خلال النضال الثوري من الاستعمار الإسباني الآيل للانهيار في عام 1898، سرعان ما وقعت في براثن الإمبريالية الأمريكية المتصاعدة. هيمن الجار القوي في الشمال على الاقتصاد الكوبي هيمنة كاملة تقريبا, وذلك من خلال الطغمات السياسية الحاكمة. ولفترة من الزمن تم إضفاء الطابع الرسمي للهيمنة المذلة في شكل بند في الدستور الكوبي الذي سمح للتدخل العسكري الأمريكي في البلاد. خلال النصف الأول من القرن ال20, ساد شعور عارم بالظلم والرغبة المستعرة في تحقيق السيادة الوطنية. كان كاسترو على بينة من ذلك، وكان نضاله مهتديا بأهم الشخصيات الكوبية التي سبقته في النضال من أجل لاستقلال.

وفي الوقت نفسه، كان هناك في كوبا طبقة عاملة كبيرة التي طورت تقاليدها النضالية. قبيل عام 1952، كان باتيستا قد نفذ انقلابه الثاني. بدأ كاسترو ومجموعة من رفاقه (بما في ذلك شقيقه راؤول، هابيل سانتاماريا، شقيقته هايدي وميلبا هيرنانديز) تنظيم مجموعة قتالية كان هدفها الاستيلاء على عدد كبير من الأسلحة وإصدار دعوة للانتفاضة الوطنية ضد دكتاتورية باتيستا. فشلت الانتفاضة واودع كاسترو السجن. في ذلك الوقت القى كاسترو خطابا من قفص الاتهام لشرح برنامجه والذي انتهى بالعبارة المشهورة: "ادينوني! ولكن التاريخ سوف يبرئني!", التي صنعت شهرته. وقد لخص البرنامج 5 قوانين ثورية:
إعادة الدستور الكوبي لعام 1940- للتخلص من البند المذل الضامن للهيمنة الاميركية على كوبا.
الإصلاح الزراعي.
حق العمال الصناعيين بالحصول على حصة تبلغ 30٪ من أرباح الشركة.
حق عمال السكر في الحصول على 55٪ من أرباح الشركة.
مصادرة ممتلكات من تم الحكم عليهم بتهمة الاحتيال تحت الإدارات السابقة.

تم اطلاق سراح كاسترو بعد فترة بعد العفو عنه. بعد عامين من النضال الثوري لكاسترو ورفاقه انتصرت الثورة. كان انتصار النضال الثوري نتيجة لسلسلة من العوامل التي تضمنت: الفساد الشديد للنظام، وحرب العصابات في الجبال والتي باستخدامها أساليب ثورية في الإصلاح الزراعي نجحت في استمالة الفلاحين وتحطيم معنويات المجندين بالجيش، اضافة الى مشاركة قوية من قبل الحركة العمالية (و هذا يشكل سببا أقل شهرة). وكانت الضربة القاضية للنظام هي الإضراب الثوري العام الذي استمر لمدة أسبوع في هافانا ولحين وصول القوى المسلحة من خارج العاصمة.

ولكن انتصار الثورة من خلال قيادة حرب العصابات لعب أيضا دورا في الطبيعة البيروقراطية لدولة الثورة. فكما أوضح كاسترو نفسه: "لا تقاد الحرب من خلال وسائل جماعية وديمقراطية, وانما تقاد من خلال القيادة المسؤولة". بعد انتصار الثورة كانت قيادة الثورة تتمتع بسلطة كبيرة وبتأييد جماهيري واسع النطاق. فقد خرج مئات الآلاف القادرون على حمل السلاح في أية لحظة في عام 1961 لهزيمة غزو خليج الخنازير. كما تجمع مليون شخص في ساحة الثورة في عام 1962 للتصديق على ما يسمى "اعلان هافانا الثاني"- اعتمد الإعلانان, الاول في 2 سبتمبر 1960, والثاني في 4 فبراير 1962, على التجمعات المليونية للشعب الكوبي. وكان كل منهما ردا على خطط الولايات المتحدة من خلال منظمة الدول الأمريكية (OAS) لعزل كوبا ومحاولة تدمير نظامها الثوري.

ومع ذلك، لم تكن هناك آليات ديمقراطية ثورية لتبادل الأفكار ومناقشتها، وقبل كل شيء، آليات يتوفر من خلالها لجماهير العمال والفلاحين ممارسة سلطتهم ومساءلة قادتهم. الحزب الشيوعي الكوبي، على سبيل المثال، تأسس في عام 1965، لكنه لم يعقد مؤتمره الأول حتى عام 1975. و لم يكن له حتى عام 1976 دستور رسمي. والاقتصاد المخطط يحتاج الديموقراطية العمالية كما يحتاج جسم الإنسان الأوكسجين، وهذا هو السبيل الوحيد للحفاظ علىى الرقابة على الإنتاج. وكان للبيروقراطية أيضا تأثيرا على السياسة الخارجية للقيادة الثورية الكوبية التي تمتلك سجلا ناصعا في مجال التضامن الدولي، وإرسال مساعدات طبية والمعونات الى جميع أنحاء العالم. كما لعبت كوبا دورا حاسما في هزيمة نظام جنوب أفريقيا في أنغولا، الذي ادى الى مصرع مئات الآلاف من الكوبيين على مدى سنوات عديدة.

قدمت كوبا لثورات نيكاراغوا في 1979-1989 وفي فنزويلا في الآونة الأخيرة دعما وتضامنا عمليا وماديا لا يقدر بثمن، ولكن المشورة السياسية التي قدمتها القيادة الكوبية هي عدم اتباع نفس المسار كما في حالة الثورة الكوبية المتجسد بإلغاء الرأسمالية. وكان لهذا عواقبا وخيمة في كلا البلدين. ففي نيكاراغوا مارس الاتحاد السوفياتي ضغوطا هائلة على القيادة الساندينية للحفاظ على "الاقتصاد المختلط" - أي الرأسمالي- ثم المشاركة في مفاوضات سلام الكونتادورا التي نجحت في خنق الثورة. وكانت القيادة الساندينية قريبة جدا من الثورة الكوبية وتكن لها الكثير من الاحترام. ولكن نصيحة كاسترو كانت كنصيحة الاتحاد السوفياتي: "لا لمصادرة املاك الرأسماليين، ما تقومون به هو اقصى ما يمكن القيام به في نيكاراغوا اليوم." أثبتت الايام ان هذه النصيحة كانت نصيحة قاتلة.

وكانت المشورة السياسية التي أعطتها كوبا مرة أخرى لفنزويلا هي ان لا تسير على خطى الثورة الكوبية 40 عاما من قبل. ونتيجة لذلك كانت ثورة فنزويلا بمثابة نصف ثورة كما يمكننا أن نرى ذلك بوضوح اليوم: التخلخل الجماعي للقوى المنتجة، تمرد الرأسمالية ضد أي محاولة لتنظيمها. وكان لهذه النصيحة ليس فقط تأثيرا سلبيا بالغ الخطورة على الثورات في نيكاراغوا وفنزويلا، ولكنها فاقمت أيضا مشكلة عزل الثورة الكوبية نفسها.

كانت المقاومة البطولية للثورة الكوبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أمرا مثيرا للإعجاب حقا. ففي حين اننقل قادة الحزب "الشيوعي" في الاتحاد السوفيتي بسرعة وبدون عناء الى مواقع استعادة الرأسمالية ونهب ممتلكات الدولة، دافع كاسترو والقيادة الكوبية عن مكاسب الثورة. وهذه "الفترة الخاصة" كما يجري تسميتها هي دليل على حيوية الثورة الكوبية. كان هناك جيلا على قيد الحياة لا يزال يتذكر ما كانت عليه حياته قبل الثورة, ويمكن للشعب ايضا أن يقارن مستوى المعيشة الخاصة به مع الدول المجاورة التي تعيش في ظل الرأسمالية.

قاومت القيادة والشعب الكوبي، بطريقة جماعية، الحصار الامريكي واستطاعت العثور على طرق ووسائل للتغلب على الصعوبات الاقتصادية. ولكن كوبا, معزولة تماما في وجه الحصار الأمريكي، اضطرت لتقديم تنازلات مهمة للرأسمالية، مع الحفاظ على الجزء الأكبر من الاقتصاد في يد الدولة. أصبحت السياحة أحد المصادر الرئيسية للدخل، مع كل الشرور المصاحبة لها. وقد دفع هذا المأزق بقسم مهم من القيادة الكوبية في اتجاه إصلاحات السوق على غرار فيتنام والصين وتقديم التنازلات للرأسمالية. وقد تم بالفعل اتخاذ العديد من الخطوات في هذا الاتجاه.

البيروقراطية ليست مجرد انحراف، أو مشكلة تخص عدد قليل من الأفراد. إنها مشكلة تنبع من غياب ديمقراطية العمال في إدارة الاقتصاد والدولة ويعززها عزل الثورة. كان من الواضح أن منظري الرأسمالية يعتقدون أنه طالما كان كاسترو على قيد الحياة، فإنه لا يمكن تحقيق أي تقدم يذكر على طريق الرأسمالية في كوبا.

برحيل كاسترو, يمكن للعملية الرأسمالية الآن ان تتسارع. بالفعل هنالك تناقضات كبيرة، وبدأت عملية متزايدة من التمايز الاجتماعي في البلاد. العوامل الرئيسية في هذه العملية هي: ركود الاقتصاد المخطط بيروقراطيا, والوضع غير المتكافئ للغاية لكوبا في الاقتصاد العالمي، والذي يؤدي بدوره الى عزلة الثورة.

ان الطريق الامثل او لربما الوحيد للدفاع عن الثورة الكوبية يتمثل الآن بمنع عودة الرأسمالية الى كوبا، ومحاربة الرأسمالية في جميع أنحاء العالم.