ليس جديداً على الفكر الماركسي أن يجابه الواقع الاجتماعي المتميز في حركة تطوره التاريخي في فجاءاته وتغيراته.


عليه اخرس
2016 / 11 / 14 - 02:37     

ليس جديداً على الفكر الماركسي أن يجابه الواقع الاجتماعي المتميز في حركة تطوره التاريخي في فجاءاته وتغيراته. بل يمكن القول إنه ولد وتكوّن وتطور في هذه المجابهة. وما طابعه المادي الذي تأكد في نقد الفكر المثالي الهيغلي والاقتصادي البورجوازي ـ بوجه خاص ـ سوى نتيجة هذه الضرورة في أن يكون قادراً على تفسير العالم وتاريخه تفسيراً علمياً، وأداة لتغييره في يد القوى الاجتماعية المؤهلة والمدعوّة إلى تغييره. ميزة هذا الفكر هي أن يكون فكراً مناضلاً، أو لا يكون. معنى هذا أن التحام النظرية الماركسية بالحركة الثورية أساسي لوجودها كنظرية علمية. والعكس صحيح أيضاً. فالحركة الثورية في عصرنا الراهن بحاجة إلى قاعدة نظرية تستند إليها في تغييرها العالم بحسب القوانين الفعلية التي تحكم حركته التاريخية. ولعل أخطر داء يصيب الحركة الثورية هو داء العفوية أو التلقائية في ممارساتها. إنه داء المغامرة بالثورة، في زمن التخطيط الامبريالي على الصعيد العالمي. ليس في هذا القول من جديد، بل فيه استعادة لقول لينين: «لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية». والنظرية الماركسية ثورية، ليس لأنها وحسب نظرية الثورة، بما تعنيه الثورة هذه من انتقال ضروري من الرأسمالية إلى الاشتراكية بل لأنها أيضاً، وبالدرجة الأولى، علمية، أي لأنها علم التاريخ في حركة انتقاله هذه.

والعالم العربي، كغيره من بلدان العالم، يسير في واقعه الراهن في خط هذه الحركة الكونية وفي أفقها، لا يشذّ عنها أو يتفرّد بالسير في خط آخر ـ سماه البعض طريقاً ثالثاً ـ إلّافي وهم الباحثين عن «الخصوصية» من أسياد الأيديولوجية البورجوازية وأتباعها أيضاً. وكلما احتدم الصراع في تلك الحركة الكونية الحاكمة سيرورة التاريخ الاجتماعي السياسي المعاصر بين قوى التغيير الثوري، في كل بلد، وعلى صعيده العالمي، وبين قوى الثورة المضادة، نبتت، كالفطر، في تربة الأيديولوجية البورجوازية، مفاهيم متلوّنة تحلّ محلّ مفاهيم أخرى في الهجوم الرجعي المضاد على الفكر الثوري العلمي. من هذه المفاهيم: مفهوم «الخصوصية» مثلاً، أو «الأصالة». تارة تكون الخصوصية «عربية»، فإذا تصدع الفكر البورجوازي بتصدّع مواقع السيطرة الطبقية للبورجوازيات العربية، صارت الخصوصية هذه «إسلامية» متسامحة حتى إلغاء الصراع ضد الاستبداد العثماني وإعادة قراءة التاريخ في ضوء هذه المصالحة الجديدة. وتارة تكون «مارونية» أو «شيعية» أو «درزية»، بحسب حاجات النظر الطائفي. وربما كانت عند بعضهم «قبطية» أو حتى «متوسطية»، فهي تضيق حيناً وتتسع حيناً آخر ويبقى المبدأ منها واحداً: رفض العقل العلمي ومبدأ كونيته.

إما أن نقول بما يقول به العلم التاريخي من وجود نظام رأسمالي عالمي تهيمن عليه الامبريالية هيمنة كليّة، في أشكال متعددة ومتجددة، وإما أن نرفض هذا القول وننفي وجود مثل هذا النظام العالمي لنتصوّر العالم في شكل مجموعة من «الوحدات القومية» ـ حسب تعبير أنور عبد الملك، مثلاً ـ تقيم بينها، في أحسن الحالات، علاقات خارجية، تستقل فيها كل واحدة عن الأخرى استقلالاً تؤكد فيه «خصوصيتها» التي تؤمّن لها «استمراريتها التاريخية»، كأنها جوهر ميتافيزيقي فيه تتماثل بذاتها ضد اختلاف الشروط وتغيراتها، فما تاريخها أو صيرورتها، في الماضي والحاضر والمستقبل، سوى حركة تمظهر هذا الجوهر الواحد الثابت. من منطق هذا النفي أن يقود إلى نفي العلم بعامة، والعلم التاريخي بخاصة، ونفي كونية قوانينه. بل إنه يقوده إلى تهافت العقل نفسه، إذ يتفتَّت العقل ـ أو ما يبدو كذلك ـ في ذرات «قومية» ينغلق في كل منها على «خصوصية» لا ينفتح فيها إلّا على ذاته. وما الذات هذه سوى أسطورة، وظيفتها أن تلغي التاريخ وقلق حركة التغيّر فيه، حتى يصير التاريخ، بالوهم، تكراراً يكبت الجديد فيه ويحول دون ولادته. هكذا يصير لكل «خصوصية» عقلها الذي هو لها مطلق لا يتغيّر، فطريق الذات إلى المستقبل هو هو طريق حاضرها إلى ماضيها الذي هو نموذجها الأول. لذا، كان لأوروبا عقل أوروبي خاص بها، وعلم أوروبي ومعرفة أوروبية، وكان لليابان عقل ياباني وعلم ياباني ومعرفة يابانية، وللصين كذلك، ولروسيا أو إيطاليا أو لغيرهما أيضاً. لكل «وحدة قومية» إذن، علم أو معرفة أو عقل لا يصح على غيرها، فكلّ أسير «خصوصيته». أما العلم الأوحد والعقل الأوحد فلله وحده، يخلق ما لا تعلمون. ولئن أراد العقل العربي أو الإسلامي أن يأخذ بالماركسية مثلاً، فعلى الماركسية أن تصير عربية أو إسلامية، وعلى العلوم الفيزيائية أو الكيميائية أيضاً أن تصير عربية أو إسلامية، إن أراد العقل ذلك أن يُطلّ من حدوده على العلوم هذه.

لا نريد للسخرية أن تكون وحدها أداة النقد، فما أسهل أن نترك لهذا الفكر الظلامي حرية التحرك والتوسع في حدود منطقه وبحسب منطقه، حتى يتهافت منطقه ويكون الواقع التاريخي الفعلي لاذعاً في سخريته. ما نريد أن نقول هو، ببساطة، ما يلي: إن القضية التاريخية الأساسية التي يطرحها مثل هذا الفكر، بحسب منطلقاته، ليست قضية تحديد الشروط التاريخية الخاصة بواقعنا الاجتماعي التي فيها تتحقق سيرورة التغيير الثوري في الانتقال الكوني من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بل إنها قضية توفير الشروط الضرورية لتحقيق سيرورة «الاستمرارية التاريخية» لـ «الخصوصية» العربية أو الإسلامية، بما تعنيه هذه «الخصوصية» من وجود أسطوري لجوهر ثابت لا يتماثل بذاته إلّا لأنه من خارج التاريخ، أقوى منه ومن تغيّراته المادية التي هي العارض قياساً على الجوهر، وبما تعنيه تلك «الاستمرارية التاريخية» من حركة يتكرر فيها الجوهر. لكن التاريخ الفعلي اقتحم، في حركته المادية، في لحظة معينة، ميدان حركة التكرار هذه، لما دخل النظام الرأسمالي العالمي في تطوره الامبريالي الكاسح، فأحدث في تلك «الاستمرارية التاريخية» انقطاعاً تعطّلت به حركة تكرار الجوهر، وانفصل أولها الذي هو منها الأصل عن حاضرها الراهن، وكان للحاضر نموذجاً لما استعاد الجوهر حركته. هكذا تكتمل دائرة الزمن الجوهري إذ تنغلق دائرة الزمن الأصلي على ذاتها، في عودة الحاضر إلى أوّله، أي ماضيه الأصيل الذي هو نموذج مستقبله. إنه زمن الأصالة، دائري كالزمن الأسطوري.

مقتطف من مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني "
مهدي عامل

النسخ الالكتروني عليه اخرس