ماركس: نقطة بدء لا خط نهاية


محمد عادل زكي
2016 / 11 / 9 - 21:46     

كارل ماركس (1818 - 1883) دفن فى مقبرة هاى جيت بلندن. نعاه إنجلز بقوله:" لقد كانت رسالته فى الحياة أن يسهم بطريقة أو بأخرى فى قلب المجتمع الرأسمالى... وأن يُسهم فى تحرير بروليتاريا العصر الحديث الذى كان أول مَن جعلها تعى مركزها وحاجاتها وتدرك الظروف التى يُمكن فى ظلها أن تحصل على حريتها. كان القتال ميدانه. وقد قاتل بعنف وإصرار ونجاح لا يباريه فيها كلها إلا قليل... ومن ثم فقد كان أكثر رجل تعرض للعداء فى عصره، ثم مات محبوباً محترماً مبكياً عليه من ملايين العمال الثوريين من زملائه من مناجم سيبريا إلى سواحل كاليفورنيا، وفى كل مكان فى أوروبا وأمريكا. . . إن اسمه وعمله سيخلدان على مر العصور". وقال عنه شومبيتر فى عبارات معبرة:"حقاً يختفى معظم ما يخلقه العقل أو الخيال بعد أزمنة مختلفة من عمليات الخلق تلك، قد تقصر أو تطول، لكن بعض هذه الآثار لا يختفى أبداً... فقد تعانى الإحتجاب، ولكنها تعود للظهور تارة أخرى... وهى روائع عظيمة... وما من ريب أن ذلك ينطبق على رسالة ماركس... ".
.
إن ماركس لم ينشىء، بل كشف، لقد كشف ماركس، على الصعيد النظرى، عن أفكار كبرى تُعبر عن واقع سير هذا العالم وتنظر لقوانين حركته. كشف عن أفكار تبناها، بالكشف كذلك مفكرون سالفون وغابرون، ولكن كان ماركس فى كشفه أشبه بالصانع الماهر الذى يبرع فى تنقية الجوهر النفيس مما يعتريه، ينتزع الجوهر دون أن يستهلك من أجزاءه ما يقلل من قيمته، بل يستخرجه استخراجاً جلياً نقياً، ولايبخل، كذلك، فى تشكيله على وجه راق براق. تلك أبجديات فهم ماركس والتعامل مع جهازه الفكري، هذا النظر فى مجمله، فى تقديرى، ربما يوفر على إنجلز مشقة الدفاع عن رفيقه تجاه مزاعم يوهان رودبرتوس وناشر مؤلفه كوزاك، الذين زعما أن ماركس قد استخدم نفس أفكار رودبرتوس. ليس هذا تسليماً بزعم الزاعمين بقدر ما هو الانتصار لماركس، فعلى الرغم من كون تحليلات ماركس قد قطعت شوطاً أبعد بكثير، إلا أنها وفى التحليل النهائى تأتى على نحو متفق، فى مجموعها، فى مجموعة من الأفكار الكبرى المعبرة والكاشفة عن السير الحقيقى لهذا العالم. ولقد كان لدى ماركس الوعى الكامل بذاك البصر، وكذا إنجلز؛ فحينما شرع صانعا البيان الشيوعي فى إعداده كان واضحاً لديهما انهما يقومان بكشف لا إنشاء. جاء فى البيان الشيوعى:"....هناك حقائق أزلية مثل الحرية والعدالة وغيرهما تشترك فى إمتلاكهما كل الأنظمة الإجتماعية...إن تاريخ المجتمعات حتى أيامنا هذا يتكون من صراعات تأخذ أشكالا مختلفة طبقا لعصورها. ولكن الشكل العام الذى تأخذه هذه الصراعات هو استغلال جزء من المجتمع لجزء أخر، وهى واقعة مشاعة تشترك فيها كل القرون السابقة (لاحظ هنا قوة التجريد) ومن ثم لن ندهش إذا كان الوعى الاجتماعى لكل القرون، برغم تنوعه واختلافه، يتحرك داخل أنماط معينة شائعة، أنماط لا تنحل إلا مع إختفاء الصراع بين الطبقات". فهل تختفى تلك الطبقية؟ وهل ذلك من الممكن إنجازه؟ تلك مسائل أخرى لن تكون خلافية إلا فى مرحلة تالية، وغير مهمة، على الاتفاق على ما أورده صاحبا البيان فى نصهما. إن إنجلز نفسه وحين يهم بالدفاع عن رفيقه، يقدم دفاعاً يؤكد منحانا فى الفهم، ولا ينفى مزاعم الزاعمين رودبرتوس وكوزاك؛ فهو يركن إلى أن تاريخ عِلم الكيمياء يُعين فى استيعاب علاقة ماركس بالمفكرين السابقين عليه؛ إذ أنه فى أواخر القرن الثامن عشر، كانت نظرية الفلوجستين هى المتربعة من جهة افتراض مادة ما تقبل الاشتعال بإطلاق حتى كان عام 1774 وفيه وصف بريستلى الهواء الخالى من الفلوجستين، ومن بعده شييله الذى سيطلق عليه الهواء النارى، ولم يكن بريستلى ولا شييله يدركان ماذا وصفا تحديداً، حتى يأتى لافوزييه كى يكشف عن ذلك العنصر الذى كان غير مثمر فى يد بريستلى وشييله وليسميه أوكسجيناً. هكذا يدافع إنجلز، وليقول:"إن علاقة ماركس بالمفكرين السابقين عليه من جهة نظرية القيمة الزائدة، هى كعلاقة لافوزييه ببريستلى وشييله". السؤال هنا وهو مهم جداً: ما الذى كان فعلاً بيد كل مِن بريستلى وشييله ولافوزييه!
.
فى نفس اللحظة التى هيمن فيها الكمى غير الواعى على الكيفى تم اختزال فكر ماركس إلى مادة ووعى ووجود وماهية وصراعات طبقية وتحالفات ثورية... وصارت تلك المفردات مع الوقت، مفردات ذات فهم انطباعى، تردد فى إيقاعات ذهولية. مفردات لا يمكن أن تخلف سوى الفصام والبلاهة مع قليل التعاطى؛ إذ أن كثيرها مهلك. مفردات(تنتمى إلى عالم الكم الجاهل بعالم الكيف)سدت الطريق أمام النتائج المبهرة لاعتبار ماركس نفسه امتداداً فكرياً لأكابر الناظرين فى الرأسمالية وفحول منظريها: أدم سميث وديفيد ريكاردو، وسيظل التساؤل، دوماً، عما إذا كان كارل تلميذاً ريكاردياً فاشلاً، محل اعتبار طالما أمنا بوحدة المعرفة الإنسانية دونما تقطيع لأوصالها أو مسخ لمعالمها؛ إن العبارة التى تقول"إن المعالم الرئيسية لعالم الاقتصاد اليــوم لم ترسمها رؤية شاملة لعقل منظم، ثم نفذها عن عمـد مجتمع ذكى، بل نفذها جمع من الأفراد كان محركهم الأول قوي غريزية وغير واعية لا تدرك الهدف الذي تتجه إليه". تلك العبارة لم يوردها ماركس وإنجلز فى البيان الشيوعى، إن الذى كتب تلك العبارة هو أدم سميث.
.
إن الكمى غير الواعى، بمعزل عن الكيف، المنهج، هو المسئول الأول والوحيد عن كل قطيعة معرفية فى تاريخ البشر، وهو المتهم الأول والوحيد كذلك فى ذلك الصدع فى وحدة المعرفة الإنسانية وهجر التراث المشترك للبشرية، وإنه هو أيضاً الشاهد الأول والوحيد على الأفكار كافة التى تتشرب بها كراسات التعميم فى الأصوليات والفرق والمذاهب كافة، إنها الأفكار التى استهواها الكم؛ فصار طبيعياً فقدها الرؤية بتوارى الطريق عنها بعدما تعاشت عنه. إن المنهج الواعى بوحدة المعرفة الإنسانية، هو الوحيد القادر على إعادة طرح الجهاز الفكري الماركسى كتراث مشترك للإنسانية جمعاء. ماركس كأيقونة... أيقونة لكل فكر مبدع خلاق... أيقونة لكل طموح إلى أكثر من الوجود. ماركس أيقونة لا وثن