حتى لا يتحول الدجل إلى ماركسية

جريدة الثورة
2016 / 11 / 9 - 00:09     





هذا المقال هو رد على مقال الرفيق التيتي الحبيب "حتى لا تتحول الماركسية الى دجل"، وقد سبق ان نشرناه على جزئين على صفحات جريدتنا في العدد: 04 (يونيو 2016)، والعدد: 06 (أكتوبر 2016)

يوم 11 ابريل 2016، وعلى موقع الهدف، قام الرفيق التيتي الحبيب، القيادي في حزب النهج الديمقراطي، بنشر مقال له، تحت عنوان "حتى لا تتحول الماركسية إلى دجل"، بمثابة رد على مقالنا "حزب الله هل هو تنظيم إرهابي؟"، الذي سبق لنا أن نشرناه في العدد الثاني - مارس 2016- من جريدتنا الثورة.

وعلى عكس مقالات وتعليقات أخرى لقياديين آخرين في حزبه، جاء مقال الرفيق الحبيب التيتي، وكما عودنا دائما، مصاغا بلغة رصينة رفاقية، الهدف منها الجدل من أجل توضيح الآراء وليس السباب والسجال الفارغ. كما يحسب له كذلك أنه كلف نفسه عناء صياغة رد متكامل ونشره، على عكس بقية الردود التي صاغها قياديون آخرون (من قبيل ردي الرفيقين علي فقير وعبد الله الحريف) اكتفوا بنشر تعاليق على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن مسألة الموقف من حزب الله وطبيعة الثورة، وغيرها من القضايا، مجرد تفاصيل يكفي نشر تغريدة حولها في صفحات التواصل الاجتماعي.

إن المجهود الذي بذله الرفيق في رده على بعض تصوراتنا، إضافة إلى الأفكار الهامة التي تضمنها مقاله، يجعل من الضروري تخصيص رد مفصل نبتغي من ورائه المزيد من توضيح نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بيننا ونقد الأخطاء، من أجل تجاوزها وتطوير المستوى النظري والسياسي الجماعي.

مرة أخرى حول الموقف من حزب الله

رغم أن مقال الرفيق التيتي جاء ردا على مقال يناقش مسألة هل حزب الله إرهابي أم لا، فإنه يقول: «[...] لن أناقش هنا هل حزب الله إرهابي أم لا، لان الجواب على وزراء الداخلية العرب سبق وان عبرنا عنه وفيه إدانة لموقف هؤلاء ولسياسة السعودية في المنطقة» !!!

في الواقع كنا نتمنى لو أن الرفيق التيتي تفضل بنقاش الموقف من حزب الله وهل هو إرهابي أم لا، لأن "الجواب على وزراء الداخلية العرب" الذي سبق لهم أن عبروا عنه "وفيه إدانة لموقف هؤلاء ولسياسة السعودية في المنطقة"، والذي يحيل عليه الحبيب التيتي في مقاله، يقول بأن حزب الله "حزب مقاوم" وليس حزبا إرهابيا، أو على حد تعبير الكاتب الوطني لحزب النهج الديمقراطي، الرفيق مصطفى البراهمة: «حزب الله كان ولازال أهم حركة مقاومة في لبنان وداعم للمقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني [...]».

لقد كان مقالنا المشار إليه أعلاه ردا على هذا الموقف الذي نعتبره خاطئا وخطيرا، حيث قدمنا المعطيـات التـي تثبـت مـا نقوله. وبالتالي كان من المفترض في رد الرفيق إما أن يثبت لنا خطأنا أو أن يقدم نقدا ذاتيا لموقفهم من حزب الله، عوض القفز على النقاش الرئيسي والانتقال إلى نقاشات أخرى، رغم أهميتها هي أيضا.

لعل الموقف من حزب الله، من وجهة نظر الرفيق، ليس بالشيء المهم جدا، لكنه في الواقع موقف في منتهى الأهمية، ولعل ما يزيد من أهميته هو حجم الجرائم التي يرتكبها الحزب في حق الشعب السوري، إلى جانب بوتين وبشار، والتي لا تختلف عن الجرائم البشعة التي ترتكبها داعش ومختلف القوى الموجودة على الطرف الآخر من الجبهة، في حرب كلا طرفاها رجعيان على طول الخط.

سبق لنا في مقالنا المشار إليه أن نبهنا الرفاق إلى خطأ موقفهم، كما نبهناهم أيضا إلى خطورته، خاصة عندما سيبدأ حزب الله "المقاوم" و"الممانع" في إطلاق الرصاص ضد العمال والشباب الثوري في شوارع لبنان أو إيران، بمجرد ما سينهضون لإسقاط تلك الأنظمة المتعفنة. آنذاك لن يكون لهم من جواب مقنع يقدمونه لهؤلاء ولا لقواعدهم ولا للتاريخ لتبرير جريمتهم النكراء المتمثلة في دفاعهم عن ذلك الحزب الإرهابي الرجعي.

مرة أخرى حول أخطاء اليسار

يبدو أن كل ما قلناه أعلاه لا يهم الرفيق كثيرا، فما يهمه حسب ما قال في مقاله: "هو الفقرة الطويلة نسبيا الواردة في الصفحة 4 وهي موجهة إلى النهج الديمقراطي بدون ذكر اسمه. لكن استنتاج ذلك لا يتطلب كثيرا من الذكاء". ويقصد ذلك الفصل في مقالنا المعنون بـ "أخطاء اليسار". وبعد أن اقتبس، بنزاهته المعهودة، فقرات كاملة من ذلك الفصل، قام الرفيق التيتي بالرد عليها.

وقد جاء رده ما يلي: «يقول رفاقنا إنهم يناقشون أناس لا يمكنهم أن يقولوا آية كلمة إلا وارتكبوا خطأ و لا يمكنهم القيام بممارسة ما إلا وكانت خاطئة، إنهم إذا يناقشون أناسا يجسدون الخطأ بلحمه وشحمه. لكن مكر المنطق يرتد على رفاقنا وإذا بهم هم أنفسهم يجسدون نفس هذا الأمر الذي وصفوه، فكل جملهم وأفكارهم خاطئة».

لكننا عندما تحدثنا عن الأخطاء في مقالنا لم نترك المسألة مجردة، بل ربطناها بمجموعة من المواقف الملموسة. لقد قلنا عن الرفاق إنهم أخطأوا عندما نفوا صفة الإرهاب عن حزب الله وأخطأوا عندما نسبوا إليه صفة المقاومة وأخطأوا عندما دعموه ودافعوا عنه أكثر مما دافع هو عن نفسه، ومخطئون في تشبثهم بنظرية الثورة عبر مراحل، ومخطئــون فـي تبنـيهم لسـياسة التعـاون الطبقي، ومخطئون في تقاربهم مع مختلف مكونات البرجوازية "المعارضة"، سواء في تونس (اللبراليين) أو المغرب (العدل والإحسان)، الخ. وهي المواقف التي كان على الرفيق أن يناقشها ويفندها ويؤكد أننا هم المخطئون في حكمنا، أو أن يعترف بأننا على صواب ويقوم بنقد ذاتي لها. لكن ذلك أيضا لم يحدث مع الأسف.

"إدانة موقف وزراء الداخلية العرب وسياسة السعودية في المنطقة"

يقول الرفيق التيتي الحبيب، في مقاله المذكور: «[...] لن أناقش هنا هل حزب الله إرهابي أم لا، لان الجواب على وزراء الداخلية العرب سبق وان عبرنا عنه وفيه إدانة لموقف هؤلاء ولسياسة السعودية في المنطقة».

إن إدانة الرفاق لموقف وزراء الداخلية العرب وسياسة السعودية في المنطقة، موقف صحيح بكل تأكيد، وهذا هو الموقف الذي على اليسار الحقيقي أن يتبناه بشكل حازم وعلى طول الخط.

يجب علينا أن نناضل ضد كل الأوهام بخصوص السياسة الخارجية لتلك الأنظمة، وعلى رأسها النظامان المغربي والسعودي. إن سياستها الخارجية استمرارية لسياستها الداخلية الدكتاتورية القمعية، سياسة تبعية هدفها تكريس الاستغلال والاستعمار والقهر. يجب أن نحرص على عدم تقديم أي دعم لها، مهما كان، ونناضل ضد كل تعاون بين اليسار وبين تلك الأنظمة، في أي قضية من القضايا وندافع في المقابل عن سياسة عمالية اشتراكية ثورية مستقلة بخصوص جميع القضايا الوطنية والإقليمية والأممية.

لكن الرفاق في النهج الديمقراطي، لم يكونوا دائما موفقين في تبني هذه السياسة، إذ سبق لهم أن سقطوا في الأوهام حول السياسة الخارجية للنظام القائم بالمغرب، عندما دعوا «الحكومة المغربية والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب إلى الجلوس على طاولة المفاوضات قصد البحث الجدي عن حل سياسي متفاوض عليه، في إطار مقررات المنتظم الدولي»، وعبروا عن استعدادهم «للمساهمة في إنجاح هذه المبادرة». وهو الموقف الذي سبق لنا أن انتقدناه في مقال سابق، والذي يبدو أن الرفاق ما يزالون متشبثين به لحدود اللحظة.

كما سقطوا أيضا في فخ دعوة النظام القائم بالمغرب، خادم السعودية وكلب الإمبريالية الوفي، إلى الخروج من الحرب على اليمن، وفك الارتباط مع نظام آل سعود، حسب ما جاء في بيان الكتابة الوطنية للنهج الديمقراطي، يوم السبت 27 فبراير 2016، عندما قالوا بالحرف: «[إن الكتابــــة الوطنــية] تـدعـو مـرة أخرى إلى خروج المغرب فورا من الحرب الظالمة على اليمن وفك الارتباط مع نظام آل سعود المتخلف، عميل الامبريالية والصهيونية». متناسين أن مشاركته في تلك الحرب العدوانية سياسة منسجمة مع طبيعته الرجعية وتبعيته لأولياء نعمته في الرياض.

بينما كان الأجدر بالرفاق أن يشرحوا للطبقة العاملة المغربية والشباب الباحث عن بديل ثوري، أسباب مشاركة النظام القائم في تلك الحرب العدوانية، واستحالة فكه للارتباط مع نظام آل سعود المتخلف، عميل الامبريالية والصهيونية، وأن يدعوهم إلى النضال الجماهيري الثوري من أجل فرض وقف المشاركة في تلك الحرب العدوانية وإسقاط نظام قاتلي الأطفال في اليمن.

كان من الأجدى أن يشرح الرفاق لقواعدهم وللعمال والشباب الثوري أن التزام النظام القائم بالمغرب بالسير وراء السعودية ينسجم تماما مع طبيعته الرجعية، لأنه هو أيضا "نظام متخلف، عميل للامبريالية والصهيونية". كما كان عليهم أن يشرحوا لهم أن لعقه لأحذية آل سعود يعود إلى وعيه بأنهم حلفاؤه الموثوقون الوحيدون في وجه الحركة الثورية التي تهدده، بعدما رأى رد فعل فرنسا والولايات المتحدة من نظامي بن علي ومبارك بعد اندلاع الثورة ضدهما.

لقد كانت السعودية أكبر سند له خلال سنوات الحراك الثوري، وما تزال كذلك، حيث ضخت في صناديقه ملايين الدولارات التي استعملها لشراء أدوات القمع وتوسيع وتقوية جهازه البوليسي وشراء صمت قيادات النقابات وجيوش المرتزقة في جمعيات المجتمع المدني والصحافة وما إلى ذلك، كما دعمته سياسيا وإعلاميا طيلة "سنوات المحنة".

ومؤخرا تتضح هذه العلاقة الوثيقة، التي تربط الرياض بالرباط، والدعم المتبادل لبعضهما البعض، من خلال موقف السعودية، وقبائل مجلس التعاون الخليجي، الداعم للنظام المغربي ضد قرارات الأمم المتحدة الأخيرة بخصوص الصحراء الغربية، والتي ليست في آخر المطاف سوى قرارات الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. فالصديق وقت الضيق.

كان على الرفاق أن يشرحوا كل هذا، ثم يحاربوا كل وهم حول إمكانية تراجع اختياري للنظام القائم بالمغرب عن المشاركة في جرائم السعودية في المنطقة وتغيير موقفه منها، وبعد ذلك يعملوا على طرح برنامج للنضال من أجل سياسة بديلة.

لكن الرفاق لم يقوموا بأي من هذه المهام، وسقطوا، مع الأسف، في دعوة نفس ذلك النظام إلى تغيير سياسته، بعدما أخبروه بكل لباقة أن السعودية "نظام متخلف، عميل الامبريالية والصهيونية"، وهو الشيء الذي في الغالب لم يكن في علمه، لأنه بمجرد ما سيفهم أن نظام آل سعود متخلف وعميل سيغير سياسته منه وسيتوقف عن اللعب مع أصدقاء السوء هؤلاء، وبهذا سيكون الجميع سعداء.

في نقد أخطائنا

يسترسل الرفيق قائلا: «لكن مكر المنطق يرتد على رفاقنا وإذا بهم هم أنفسهم يجسدون نفس هذا الأمر الذي وصفوه، فكل جملهم وأفكارهم خاطئة».

نحن لا ندعي نهائيا أننا لا نخطأ، ونريد أن نخبر الرفيق التيتي أنه ليست لدينا أية مشكلة في أن نعترف بأخطائنا حين نرتكبها وننتقدها ونصححها، وأننا نكون دائما شاكرين جدا لكل من يساعدنا على اكتشاف أخطائنا ونقدها، حتى ولو كان النقد قاسيا، فهو الضمانة الوحيدة لكي نطور عملنا في مسار إنجاز المهام التاريخية الملقاة على عاتقنا. لكن مع الأسف عبارة "كل جملهم وأفكارهم خاطئة" لا تساعد كثيرا في هذا المنحى.

كان مقالنا حول الموقف من حزب الله، وقد أكدنا فيه أن حزب الله حزب إرهابي، قتل من الشيوعيين وغيرهم من أعضاء التيارات الأخرى (في أمل والبعثيين وغيرهم) أكثر مما قتل من الإسرائيليين. وأن صفة المقاومة التي ينعتونه بها ليست سوى افتراء على التاريخ. فإذا كانت كل هذه "الجمل والأفكار خاطئة"، فعلى الرفيق أن يفندها بالحجة والدليل. لكن للرفيق انشغالات أخرى أهم.

وعوض أن يلتفت الرفيق إلى هذه "التفاصيل التافهة" يسترسل قائلا: «عندما أقرا هذا الكم الهائل من الاعطاب النظرية المجمعة في الفقرات أعلاه، يتملكني حزن شديد، و أدرك كم استطاع القمع الذي تعرضت له الحركة الماركسية اللينينية المغربية أن يعرقل ترسيخ بناء الفكر الماركسي في التربة المغربية، لان الساحة بقيت مفرغة. انشغل المناضلون في أولويات الحياة وترميم أوضاعهم الذاتية وسادت اللخبطة والغموض وزاد الطين بلة بما عرفته الساحة الدولية من انكسارات وهجوم على التجربة الاشتراكية».

يؤسفنا حقا أن نكون قد تسببنا للرفيق بكل ذلك الحزن الشديد، بسبب "الكم الهائل من الاعطاب النظرية" التي ارتكبناها في مقالنا، والتي تمنينا لو كان تفضل بإخبارنا بها حتى نصححها ونتلافى مستقبلا التسبب له في ذلك الحزن. لكن الرفيق يرفض إخبارنا بها رأفة بنا ربما واحتراما لمشاعرنا.

وتعبيرا منا عن صدق أسفنا لما سببناه للرفيق من حزن شديد، وبما أن ذلك "الكم الهائل من الاعطاب النظرية" الذي ارتكبناه سببه أننا، ولسوء حظنا، لم نستفد بما فيه الكفاية مما أنتجته الحركة الماركسية اللينينية المغربية، فإننا سوف نعمل على تخصيص الجزء الثاني من مقالنا للقيام بقراءة في بعض ما أنتجته الحملم منذ بدايتها وقبل أن ينشغل "المناضلون في أولويات الحياة وترميم أوضاعهم الذاتية" وقبل "ما عرفته الساحة الدولية من انكسارات وهجوم على التجربة الاشتراكية". لكن دعونا الآن نواصل مع الرفيق التيتي خطوة خطوة.

بقايا الإقطاع ؟

يقول الرفيق في مقاله «ان اكبر عيب في ما قدمه رفاقنا هو اعتبارهم ان التحليل العلمي و لا غيره يلزمنا بالقول بان الصراع اليوم هو ما بين البرجوازية من جهة والعمال من جهة ثانية. أما القول بالبرجوازية الوطنية وبقايا الإقطاع فهي أخطاء قاتلة في النظر إلى الصراع الدائر بالمنطقة».

نعم لقد قال هذا حرفيا، ومن لم يصدق يمكنه أن يعود إلى مقاله فهو منشور. إن أكبر عيب في ما نقدمه، من وجهة نظر الرفيق التيتي، هو قولنا "بأن الصراع اليوم هو ما بين البرجوازية من جهة والعمال من جهة ثانية"، وكوننا نرفض "القول بالبرجوازية الوطنية وبقايا الإقطاع".

حقيقة لقد احترنا من أين سنبدأ ولا ماذا يجب أن نقول. أبدا لم يسبق لنا أن واجهنا معضلة بهذا الحجم. نحن نعلم أن هناك الكثير من نقاط الاختلاف بين تصوراتنا وبين تصورات الرفاق، لكننا كنا نعتقد أننا، على الأقل، نتفق على بعض البديهيات، ومن أهمها أن الصراع الدائر اليوم، أي في عصرنا الحالي، هو بالفعل "بين البرجوازية من جهة والعمال من جهة ثانية". لكن هذا على ما يبدو غير صحيح.

نحن نعتبر أن هذا النقاش أكثر جدية من أن نضيعه في إعطاء الأدلة حول أن الصراع الدائر في منطقتنا والعالم هو بالفعل بين البرجوازية والعمال. كما لن نتطرق الآن لنقاش مسألة "البرجوازية الوطنية" فسوف يأتي أوان تنقاشها في سياق نقاش أفكار الحملم. ما سوف نركز نقاشنا حوله هنا هو مسألة بقايا الإقطاع .

طالما عمل الستالينيون على اختلاق كل أنواع الطبقات والفئات الاجتماعية التي يمكن للمرء أن يتصورها (بل حتى التي لا يمكنه أن يتصورها). فهناك البرجوازية الكومبرادورية و البرجوازية البيروقراطية و المافيا المخزنية و الإقطاع و بقايا الإقطاع و البرجوازية الوطنية ، بل وحتى الإقطاع المستنير ، الخ.

إن الهدف من وراء ذلك واضح جدا: أولا إقناع كل من أسقطه سوء حظه بين أيديهم بأن من يقول إن "الصراع اليوم هو ما بين البرجوازية من جهة والعمال من جهة ثانية" يرتكب خطأ قاتلا، ويعاني من "أعطاب نظرية"، وثانيا تبرير تحالفهم مع البرجوازية "التقدمية" (بل وحتى مع الإقطاع "المستنير").

نعم كيف يمكن أن يكون الصراع الرئيسي بين العمال والبرجوازية، بينما هناك طبقات أخرى أخطر حتى من البرجوازية و أشد رجعية منها. على العمال أن يعتبروا الصراع ضد تلك الطبقات ذا أولوية على الصراع ضد البرجوازية، التي يجب التحالف معها من اجل القضاء على تلك الطبقات، بثورة ديمقراطية شعبية، بعد ذلك فقط يمكنهم أن ينتقلوا إلى الصراع ضد البرجوازية.[1]

إن الحديث عن الطبقة السائدة وكأنها كتلة من الطبقات فوق بعضها البعض، أو إلى جانب بعضها البعض، تعبير عن نظرة ميكانيكية وفقر نظري لا علاج له. صحيح أن الطبقة السائدة مكونة من فئات مختلفة، حسب قطاعاتها وحسب حجم ملكيتها وحسب درجة قربها من القرار السياسي، الخ. لكنها جميعها في بوثقة واحدة يصهرها معا نمط الإنتاج السائد، الذي هو، في عصرنا الحالي، نمط الإنتاج الرأسمالي.

لقد تمكنت الرأسمالية، خاصة في عصر الإمبريالية، من دمج العالم بأسره في سوق عالمية واحدة وفرضت نمط الإنتاج الرأسمالي في كل مكان، بما في ذلك في المغرب. وفي هذا الصدد يقول ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي (أي قبل أزيد من 160 سنة):


«خلقت الصناعة الكبرى السوق العالمية [...]. سرعت هذه السوق العالمية نمو التجارة والملاحة وطرق المواصلات تسريعا مذهلا. وأثر هذا النمو بدوره على توسع الصناعة. وبقدر ما كانت الصناعة والتجارة والملاحة والسكك الحديدية تنمو، كانت البرجوازية تنمو هي أيضا، وتنمي رأسمالها وتزيح إلى المؤخرة جميع الطبقات التي خلفتها القرون الوسطى».[2]

ويضيفان:


«[...] تكتسح البرجوازية، مدفوعة بحاجتها إلى أسواق أبدا جديدة، الأرض بأسرها. فلا بد أن تعشش في كل مكان، وأن تستغل في كل مكان، وأن تقيم العلاقات في كل مكان.

أعطت البرجوازية، باستغلالها للسوق العالمية، طابعا عالميا لإنتاج جميع البلدان واستهلاكها. ورغم أسى الرجعيين العميق انتزعت البرجوازية من الصناعة قاعدتها القومية».[3]

«[...] وعلى أنقاض الانعزال القطري القومي القديم، القائم على الاكتفاء الذاتي، تنمو تجارة عالمية وتبعية متبادلة بين جميع الأمم».[4]

«[...] تجر البرجوازية إلى تيار الحضارة حتى أشد الأمم همجية [...] وتقود قسرا جميع الأمم، تحت طائلة الهلاك، إلى تبني نمط إنتاج البرجوازية؛ وترغمها، مهما أبت، على إدخال الحضارة المزعومة إليها، أو قل ترغمها على أن تصبح برجوازية، وباختصار فهي تخلق عالما على صورتها».[5]

«لقد أخضعت البرجوازية الريف لسيطرة المدينة، وأنشأت مدنا هائلة [...] مثلما أخضعت الريف للمدينة والبلدان الهمجية للبلدان المتحضرة، طوعت الشعوب الفلاحية للشعوب البرجوازية والشرق للغرب».[6]

إن هذه الأسطر التي كتبت سنة 1848، هي الآن أكثر راهنية مما كانت عليه آنذاك. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر لم تكن هذه الصيرورة سوى في بداياتها الأولى، أما الآن في عصر الإمبريالية، فإن هذه الصيرورة اكتملت، وصارت كل شعوب العالم وكل أممه وكل اقتصادياته منصهرة في سوق عالمية واحدة، وتحت هيمنة نمط إنتاج واحد هو نمط الإنتاج الرأسمالي. حتى سكان أدغال الأمازون الأشد بدائية يتأثرون بشكل مباشر بما يحدث في الشرق الأوسط وأسعار النفط والخشب في الصين، وأسعار المعادن في السوق الدولية وتقلبات بورصة وول ستريت، الخ. نعم قد تحافظ بعض أشكال الإنتاج السابقة على وجودها، فتستمر في ظل الرأسمالية، لكن ذلك ليس رغما عن أنف نمط الإنتاج الرأسمالي، بل لما فيه مصلحته هو بالذات.

وبالعودة إلى المغرب نقول إن نمط الإنتاج السائد فيه هو نمط الإنتاج الرأسمالي التبعي، ويشكل جزءا من السوق العالمية. وكبار الملاكين العقاريين، أصحاب الضيعات الكبرى، مرتبطون بالسوق، ليس الداخلية فقط بل العالمية أيضا. وحتى إن لم يكونوا يصدرون منتجاتهم مباشرة إلى الخارج، فإنهم يتأثرون بأسعارها في السوق العالمية وأسعار النفط والدولار، وما إلى ذلك. أغلبهم يستغلون ملكياتهم بطرق رأسمالية (العمل المأجور والإنتاج من أجل السوق) وكلهم يتعاملون مع الأبناك الرأسمالية، الخ.

قد نجد في بعض المناطق (الهامشية على كل حال) بعض أشكال التعاقد بين الفلاحين وبين الملاكين العقاريين الكبار، ينعدم فيها العمل المأجور، وتقوم على الاتفاق على الربع أو الخمس، أي حصول الملاك على الجزء الأكبر من الإنتاج، مقابل تفويت الحق في استغلال الأرض للفلاح الرباع أو الخماس . لكن هذا لا يغير من حيث الجوهر أي شيء. لأن المحدد في آخر المطاف هو نمط الإنتاج الرأسمالي السائد. وأشكال الاستغلال البالية تلك طريقة يستعملها الرأسماليون لتوسيع حجم أرباحهم.

فقد تستعمل الرأسمالية أشكال استغلال تعود لأنماط سابقة عليها، لكن هذا لا يغير من طبيعتها. قد تستعمل نظام السخرة، وبهذا النظام حفر الاستعمار المناجم وشق الطرقات ليسهل استغلال ثروات المستعمرات، بل قد تستعمل حتى العبودية، وقد سبق للرأسمالية في أمريكا نفسها أن استعملت عمل العبيد حتى القرن 19، لكن من كان آنذاك يشكك في أن مالكي العبيد هؤلاء كانوا رأسماليين، أو أن نمط الإنتاج السائد آنذاك هو نمط الإنتاج الرأسمالي؟ لا أحد، وهذا لحسن حظ أناس القرن 19، إذ لم يكن ستالين ولا ماو قد ولدا بعد.

ثم ما الذي يمكن أن يعنيه مصطلح بقايا الإقطاع ؟ هل يمكن أن يعني إمارات إقطاعية متناثرة هنا وهناك؟ أم مجرد بضع إقطاعيين يعيشون على هامش المجتمع؟ وأين هم بقايا الأقنان الذين يعملون عندهم وكيف هو حالهم؟ نحن نعلم أننا سنزيد من حزن الرفيق التيتي لكننا رغم ذلك نقول: إن مصطلح بقايا الإقطاع كلام فارغ وتلاعب نظري بالكلمات، لا يعني شيئا جديا.

تروتسكي أم ستالين

إن الرفاق في قيادة النهج الديمقراطي، مثلهم مثل جميع الستالينيين السابقين، لم يعودوا يحبون أن يوصفوا بالستالينيين. والسبب وراء ذلك واضح، فهم لا يستطيعون اليوم الدفاع عن جرائم ستالين والبيروقراطية الستالينية أمام الجيل الجديد من الشباب النقدي، الذي يرفض التماهي مع جرائم ستالين، ويريد راية نقية يلتف حولها. لذلك نجــدهم اليـــوم يقـولون مثلا: «النهج الديمقراطي ينهل من فكر ماركس وإنجلز ولينين وغيرهم من المفكرين والقادة الشيوعيين الذين قدموا إضافات أغنت الماركسية»[7]. فيخفون ستالين وراء جملة "وغيرهم من المفكرين والقادة الشيوعيين" المجنحة والغامضة، بشكل مقصود، والتي لا تعني شيئا، فلا ينفون ولا يؤكدون.

إلا أنه حتى لو افترضنا أنهم صاروا اليوم أبرياء من الانتماء إلى الستالينية، فإن ذلك لا يعفيهم مطلقا من ضرورة تقديم نقد ذاتي لماضيهم الستاليني. فلا يكفيهم أن يتناسوا ماضيهم لكي يتطهروا منه، بل تقتضي النزاهة أن يعترفوا بالخطأ ويصححوه لما فيه مصلحتهم ومصلحة الجيل الجديد من الشباب الثوري، الذي وضعه حظه تحت سقف واحد معهم.

لكن افتراض تخلصهم من الستالينية غير صحيح. إذ يكفيك أن تحك قليلا حتى تجد ستالين بشحمه ولحمه تحت ذلك الطلاء الخفيف الذي يختفون وراءه. انظروا مثلا إلى الرفيق التيتي في مقاله المذكور، إذ لم يتمالك نفسه أمام نقدنا إلا أن صرح قائلا: «ثقفوا أنفسكم حول تاريخ البلشفية والمنشفية ومن كان منشفيا اهو تروتسكي ام ستالين؟». (التشديد من عندنا)

"من كان منشفيا اهو تروتسكي ام ستالين؟" هذا سؤال وجيه جدا. يجب على كل الماركسيين، بمن فيهم شبيبة النهج الديمقراطي، وكل الشباب الباحث عن بديل ثوري عموما، أن يبحثوا عن الإجابة عنه بدراسة عميقة لتاريخ البلشفية والمنشفية، وتاريخ الحركة الشيوعية طيلة القرن الماضي. ولا يكتفوا بما يقوله لهم الجيل القديم من الستالينيين السابقين.

لكن قبل ذلك، لا بد أن نوضح أن نقاش الصراع بين ستالين وتروتسكي، ومن منهما كان يمثل الماركسية ومن كان يمثل نقيضها، ليس نقاشا تاريخيا أكاديميا مجردا، أو محض مقارنة بين شخصيتين، إنه نقاش ذو راهنية وأهمية قصوى بالنسبة لكل الماركسيين الشباب الذين يريدون اليوم بناء الحزب الثوري والمساهمة في قيادة نضالات الطبقة العاملة المغربية والعالمية من أجل الاشتراكية.

كما أن الصراع بين ستالين وتروتسكي لم يكن صراعا شخصيا، أو حول قضايا مجردة. بل كان صراعا حول قضايا ملموسة بين مفهومين متناقضين حول طبيعة الحزب الثوري وطبيعة الثورة والديمقراطية والاشتراكية والأممية وغيرها. لذلك أيها الشباب لا تتركوا أحدا يقنعكم بأنه نقاش متجاوز او يخدعكم بتعميم المفاهيم، وخلط الرايات، فبين تروتسكي وستالين، بين الماركسية والتحريفية، واد من الدماء وعالم واسع من التناقضات.

فلنبدأ بوجهة نظر الرفاق أولا. إن مجرد طرح الرفيق التيتي للسؤال بتلك الطريقة الاستنكارية يجعلنا نفهم أن جوابه لا يختلف عن تلك التعاليق التي نجدها في هوامش كتب دار التقدم عن أن "تروتسكي منشفي بورجوازي صغير ناضل ضد السياسة اللينينية" وأن "ستالين بلشفي ورئيس الاتحاد السوفياتي بعد لينين"، وغيرها من إبداعات المدرسة الستالينينة في تزوير التاريخ.

كيف لا والرفيق التيتي، وغيره من قادة حزب النهج الديمقراطي، استمرارية لتراث الحملم ومنظمة إلى الأمام بالتحديد! وهي المنظمة التي نجد في وثائقها التأسيسية اصطفافا لا مراء فيه وراء "أب الشعوب" ستالين.

يقول الرفاق في وثيقة "سقطت الأقنعة، فلنفتح الطريق الثوري" : «إن ترعرع الثورة العالمية [...] سيمكن في المدى المتوسط من عزل ثم تصفية الكمشة التحريفية التي تقود الاتحاد السوفياتي كي يحل محلها - على رأس وطن الاشتراكية الأول - قيادة ثورية ترفع من جديد راية لينين وستالين، راية الأممية البروليتارية والثورة العالمية»[8]. وهكذا يربطون بين لينين وستالين، ويصنفون ستالين ضمن راية الأممية البروليتارية والثورة العالمية !!!

لكن هل يعلم أصدقاؤنا أن من أهم إنجازات ستالين، السيئة الذكر، كان قضاؤه على الأممية الشيوعية، سواء من خلال قتل أغلب قادتها (وعلى رأسهم تروتسكي وكامينيف وزينوفييف وبوخارين، ثم الخ)، أو عندما حولها من هيئة أركان الثورة العالمية، كما أراد لها مؤسسوها لينين وتروتسكي وغيرهما من الماركسيين أن تكون، إلى مجرد ملحق بوزارة الخارجية الروسية لخدمة مصالح البيروقراطية السوفياتية القومية الضيقة، قبل أن يغلقها فعليا بقرار بيروقراطي، سنة 1943، لم يحتج فيه ولو لعقد مؤتمر شكلي، وذلك فقط لإرضاء حلفائه الإمبرياليين في واشنطن ولندن.[9]

وفي سياق الحديث عن علاقة ستالين بالثورة العالمية، هل يعلم الرفاق أن ستالين كان أول من فرض نظرية "الاشتراكية في بلد واحد" الرجعية على الحزب الشيوعي والأممية، مباشرة بعد وفاة لينين؟ حيث يقول في كتابه "أسس اللينينية" (طبعة نوفمبر 1926) «لقد كانت نقطة انطلاق الحزب دائما هي فكرة أنه يمكن تحقيق انتصار الاشتراكية في هذا البلد، وأنه يمكن إنجاز هذه المهمة بقوى بلد واحد»[10] !!!

كانت هذه النظرية المشؤومة، أي نظرية إمكانية بناء الاشتراكية في بلد واحد، "بقوى بلد واحد"، هي الأساس النظري للانحطاط القومي الذي دفعت البيروقراطية الستالينية الاتحاد السوفياتي إليه. ما الحاجة إلى الأممية والنضال الأممي والحزب العالمي للثورة ما دام بناء الاشتراكية ممكنا "بقوى بلد واحد"؟

هل يعلم الرفاق أنه ضحى بعشرات الثورات العمالية (في أوربا وإفريقيا وآسيا والقارة الأمريكية) خدمة لمصالح تحالفاته الضيقة مع أصدقائه الإمبرياليين؟

خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة كانت الأحزاب الشيوعية في العديد من البلدان الأوربية، بما فيها فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان، بل وحتى بريطانيا، قادرة على حسم السلطة السياسية. فالطبقة العاملة كانت ما تزال مسلحة وواثقة من نفسها بعد الانتصارات التي حققتها على الفاشية والنازية، والطبقة البرجوازية معلقة بخيط رفيع وضعيفة وغير قادرة على الحكـم. لكـن البيـروقراطيـة السـوفياتيـة كانت مشغولة بتوثيق أواصر الصداقة والتعايش مع أصدقائها في واشنطن ولندن فأعطت الأوامر لتلك الأحزاب بعدم القيام بأي فعل، والدخول في حكومات ائتلافية (جبهات شعبية) مع الأحزاب اللبرالية، وهو ما مكن الإمبريالية من مهلة لتنظيم صفوفها واستعادة المبادرة لاحقا وطرد تلك الأحزاب من الحكومات بدون ولو كلمة شكر.[11]

إذا لم يكن الرفاق، والتيتي قبل الجميع، على علم بهذه المعلومات التاريخية المعروفة، ومع ذلك ينصحوننا بأن ندرس تاريخ البلشفية، فتلك مشكلة كبيرة، أما إذا كانوا على علم بها ورغم ذلك يدافعون عن ستالين فتلك جريمة لا تغتفر.

واستمرارية لدفاع الرفاق عن ستالين يواصلون تحريف التاريخ لكي يتوافق مع خطهم السياسي، فنجدهم يقولون: «ومما دعم هذه السياسة للإمبريالية استيلاء حفنة من البيروقراطية المحترفين على الحكم في الاتحاد السوفياتي في السنوات التي تلت وفاة ستالين».

وهو ما نفهم منه أن البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي لم تظهر سوى بعد وفاة ستالين. وهذا كذب وافتراء على التاريخ. لقد كان ستالين نفسه ممثل البيروقراطية الأكثر شراسة. ولم يقم أتباعه من بعده سوى بالسير في نفس طريقه وإكمال مشروعه.

دعونا نقرأ ما كتبه لينين نفسه عن تبقرط الدولة السوفياتية، ليس بعد وفاة ستالين، بل قبل ذلك بوقت طويل. في رسالة كتبها إلى شينمان في فبراير 1922، قال لينين: «في الوقت الحاضر صار بنك الدولة لعبة بيروقراطية، هذه هي الحقيقة».[12]

وفي خطابه للمؤتمر 11 للحزب قال: «إذا أخذنا موسكو بشيوعييها 4700 المتواجدين في مناصب المسؤولية، وإذا أخذنا الآلة البيروقراطية الضخمة، هذه الكومة الضخمة، يجب أن نتساءل: من يوجه من؟ أشك كثيرا في ما إذا كان من الصدق أن نقول إن الشيوعيين يوجهون تلك الكومة. في الحقيقة إنهم لا يوجهون بل هم من يوجَهون».[13]

كما نجده يقول في مقاله "من الأفضل أقل شريطة أن يكون أفضل": «دعونا نقول بين قوسين إنه لدينا بيروقراطيون في أجهزة حزبنا وكذلك في المؤسسات السوفياتية»[14]. ويمكننا في هذا الصدد أن نأتي بعشرات الاستشهادات المماثلة من مقالات وخطب لينين التي خصصها لشن نضال شرس ضد البيروقراطية الصاعدة آنذاك، إلا أننا سنكتفي بهذا لضيق المجال.

وقد لعب ستالين دورا مهما في تسريع تبقرط الدولة السوفياتية والدفاع عن مصالح تلك الفئة الطفيلية التي كانت بمثابة السرطان الذي أكل لحم الدولة والحزب والأممية الشيوعية ودمرها جميعا. مستغلا السلطات الواسعة التي ركزها بين يديه. خاصة منصب الأمانة العامة للحزب، فبدأ يحيط نفسه بأتباع يدينون بالولاء له شخصيا، وهو ما انتبه له لينين في أواخر حياته، ومن بين ما كتب في هذا الصدد: «الرفيق ستالين بعد أن صـار السكـرتير العـام للحـزب، ركـز بيـن يديـه سلطة هائلة، ولست متأكدا بأن في مقدوره دائما أن يستخدمها بتبصر».[15]

وشن هجوما مباشرا على مفوضية الشعب للعمال والفلاحين للتفتيش (الرابكرين)، التي كانت تحت رئاسة ستالين شخصيا، حيث قال: «يعلم الجميع أنه لا توجد أي مؤسسات أخرى أسوء تنظيما من مفوضية الشعب للعمال والفلاحين للتفتيش، وأنه في الوقت الحالي لا يمكننا أن نتوقع أي شيء من مفوضية الشعب هذه».[16]

ودعا إلى عزل ستالين من منصب الأمين العام، وتعويضه بشخص «يختلف عن الرفيق ستالين فقط بكونه أكثر ولاء وأكثر تهذيبا وأكثر انتباها للرفاق وأقل تقلبا في المزاج وما إلى ذلك»، مما يعني أن لينين يشكك صراحة في ولاء ستالين.[17]

لكن ذلك لم يتحقق، ليس لأن ستالين كان شخصا ذا قدرات استثنائية مكنته من هزيمة لينين وتروتسكي والطبقة العاملة الروسية، بل لأن طموحه الشخصي وانحطاطه الأخلاقي وقلة ولائه جعلت منه أداة في يد البيروقراطية الصاعدة بخطى حثيثة آنذاك.

لقد تمكنت ثورة أكتوبر من الإطاحة بالنظام القديم، لكنها وبسبب التخلف الاقتصادي والثقافي الذي كانت تعرفه روسيا، وبسبب عزلة الثورة في بلد متخلف، خاصة بعد هزيمة الثورة في ألمانيا، بدأت عناصر النظام القديم تزحف للعودة إلى مواقعها السابقة. وقد استفادت في ذلك من إنهاك البروليتاريا بعد سنوات الثورة والحرب الأهلية المنهكة، والإحباط الذي خلفته هزائم الثورة العالمية.

جاءت سياسة النيب (السياسة الاقتصادية الجديدة) لتزيد من قوة وجرأة تلك البيروقراطية وسندها الاجتماعي من فلاحين أغنياء ومقاولين خواص، الخ[18]. بينما صار العمال تدريجيا عاجزين عن تسيير دولتهم وممارسة الرقابة عليها وعلى الإنتاج والتوزيع وعيرها من المهام الضرورية، بسبب طول ساعات العمل وانتشار الأمية وغيرها من الأسباب الذاتية والموضوعية.[19]

وقد تسربت العناصر الوصولية والرجعية ليس إلى جهاز الدولة فقط، بل كذلك إلى الحزب البلشفي نفسه. فبينما لم يكن عدد أعضاء الحزب البلشفي في فبراير 1917، يتجاوز 32.000 عضو، ارتفع العدد مع نهاية الحرب الأهلية إلى 600.000 عضو[20]. أمام هذا الخطر دعا لينين إلى طرد هؤلاء الوصوليين والانتهازيين، وبحلول أوائل عام 1922 تم طرد حوالي 200.000 عضو[21]، لكن ذلك لم يكن كافيا لوقف تمدد السرطان البيروقراطي في جهاز الحزب والدولة.

كانت تلك الفئة البيروقراطية في حاجة إلى وجه يمثلها، من داخل الحزب البلشفي نفسه، فلو لم يكن ستالين قد قام بالمهمة لكان شخص آخر قام بها. أما ستالين فقد كان مجرد أداة للضرورة لتحقق إرادتها.

ومنذ صعود ستالين إلى السلطة بدأت البيروقراطية، بزعامته، في شن حرب لا هوادة فيها ضد مكتسبات ثورة أكتوبر والديمقراطية العمالية وكل تقاليد البلشفية، بل قامت بحملة تصفية دموية ضد كل القادة الذين قادوا الثورة إلى جانب لينين. بدءا من محاكمات موسكو السيئة الذكر، والتي قتل ستالين خلالها آلاف القادة البلاشفة، بمن فيهم جميع من تبقى من أعضاء اللجنة المركزية الذين قادوا إلى جانب لينين وتروتسكي ثورة أكتوبر 1917، ثم تروتسكي الذي بعث إليه بقاتل مأجور حطم له رأسه بوحشية في منفاه بالمكسيك.

ولمطاردة المعارضين اليساريين، وخاصة أنصار تروتسكي، أسس ستالين جهازا مخابراتيا، أطلق عليه اسم الشعبة السياسية الخاصة، أو الغيبيو (G.P.U)، واستعمل طرقا وحشية وارتكب جرائم بشعة ضد أبرز قادة ثورة أكتوبر، بمن فيهم أغلب أعضاء اللجنة المركزية الذين قادوا ثورة أكتوبر إلى جانب لينين. جند هذا الجهاز أعضاءه في الخارج من بين المهاجرين المنتمين إلى الثورة المضادة والجيش الأبيض أساسا[22]. ونجد من بين عملاء ذلك الجهاز الستاليني أشخاصا من أشرس أعداء ثورة أكتوبر من قبيل الضابط ليتون إدوارد أوبينينش[23]، والجنرال الفاشستي تيركول (Turkul)[24]، وكذلك الجنرال ن. ف. سكوبلين[25]، والذين أسعدهم كثيرا المساهمة في تعقب واختطاف واغتيال قادة الثورة التي أطاحت بهم سنة 1917.[26]

"من كان منشفيا أهو تروتسكي ام ستالين؟"، يجب على الجيل الجديد من الشباب الماركسي أن يطرح هذا السؤال على الرفيق الحبيب التيتي، فهو في الغالب يمتلك الجواب. وبالمناسبة عليهم أن يطرحوا عليه سؤالا لطيفا في نفس السياق، وهو من كان رئيس محاكمات موسكو السيئة الذكر، التي أطلقها ستالين سنة 1936، ضد قادة الحزب البلشفي وأرسل يواسطتها الآلاف منهم نحو مراكز التعذيب والقتل؟ لا بد أن الرفيق التيتي، الذي ينصحنا بدراسة تاريخ البلشفية، قد عمل بنصيحته تلك، وبالتالي فإنه يعرف أن رئيس تلك المحكمة كان هو: أندريه فيشينسكي، المنشفي الشهير، والعدو الشرس للبلشفية، والذي كان في صيف 1917 هو المدعي العام الذي أصدر مذكرة الاعتقال ضد لينين، بتهمة "العمالة لصالح ألمانيا"[27]. ثم شارك في الحرب الأهلية في صفوف الجيش الأبيض، وفر إلى المنفى بعد هزيمته أمام الجيش الأحمر الذي أسسه تروتسكي وكان قائده آنذاك، ليصير نفس الشخص لاحقا سيف ستالين المسلط على رقاب قادة ثورة أكتوبر.

كانت محاكمات موسكو، على حد تعبير تروتسكي، حربا أهلية من طرف واحد شنتها البيروقراطية، بزعامة ستالين ضد الجيل الذي قاد ثورة أكتوبر. في تلك المحاكمات وجهت لقادة حزب لينين ورفاقه تهم "التآمر ضد الثورة" و"العمالة" و"التخطيط لاغتيال ستالين"، وغيرها من التهم الفضيعة. وكانوا يقدمون إليها بعد أن يكونوا قد تعرضوا لتعذيب وحشي فاضطروا إلى الاعتراف بجرائم لـم يـرتكبـوها، وخـلالها كان يفرض عليهم أن يسبوا أنفسهم باعتبارهم خونة وعملاء ومجرمين. وعندما كان أحدهم يرفض ذلك، كانوا يعادون إلى الجلادين لكي "يقنعوهم" بتغيير رأيهم. فعندما قرر كريستينسكي، على سبيل المثال، التراجع أمام المحكمة عن "اعترافاته"، قررت هذه الأخيرة إعادته إلى الجلادين الذين لم يستغرق بين أيديهم سوى 24 ساعة لكي يعود مجددا أمام المحكمة وهو يعترف بكل ما نسب إليه[28]. وبوخارين، الذي وصفه لينين بكونه "المفضل داخل الحزب" وأحد أكبر منظريه، وقف أمام المحكمة بتهمة تدبير محاولة لقتل لينين!! وفي تلك المحاكمات اعترف زينوفييف وكامينيف وبوخارين وريكوف وراكوفسكي وغيرهم من قادة ثورة أكتوبر بأنهم كانوا طوال حياتهم عملاء للإمبريالية!!! على أساس وعد من ستالين بأنه لن يعدم أي بلشفي في حالة تقديمهم لهذه الاعترافات، لكنه أعدمهم بعد ذلك.

بواسطة تلك المحاكمات تمكن ستالين والبيروقراطية الصاعدة من القضاء على كل الجيل القديم من القادة، الذين يمكن أن يشكلوا نقطة مرجعية للطبقة العاملة الروسية والعالمية عند نهوضها لإسقاط حكم البيروقراطية. فمن بين جميع أعضاء اللجنة المركزية الذين (قادوا ثورة أكتوبر إلى جانب لينين) لم يبق على قيد الحياة بعد التطهيرات سوى عضوين: ألكسندرا كولنتاي، التي أرسلت إلى الخارج سفيرة في سويسرا وستالين نفسه. ثم من بين أعضاء اللجنة المركزية التي انبثقت عن المؤتمر 17، أوائل 1939، والذين كان عددهم 139 عضوا، أرسل إلى السجن 110 عضوا[29]. والجدير بالذكر هو أن التصفية الجسدية لم تتوقف عند هؤلاء القادة وحدهم، بل امتدت إلى أهاليهم وحتى أطفالهم كذلك. لقد سطرت تلك التطهيرات، كما قال تروتسكي، نهرا كاملا من الدماء بين البلشفية والستالينية.[20]

بعد ذلك خلا الجو لستالين والبيروقراطية لإعادة كتابة تاريخ الحزب والثورة بما يتوافق ومصلحة المنتصرين. مسحت أسماء وكتبت أخرى، بل حتى الصور المخلدة لبعض الأحداث المهمة والحاسمة اختفت، وتم القضاء على الديمقراطية الداخلية في الحزب واستبدلت بنظام حديدي من الخوف والتبعية والتملق للقائد المعصوم.

تصوروا حزبا حاكما لا ينظم أي مؤتمر له على الإطلاق طيلة الفترة التي امتدت ما بين 1939 و1952 !! على الرغم من أنه استمر ينظم مؤتمراته بانتظام حتى في ظل أقسى ظروف السرية وحتى أثناء الحرب الأهلية.

"من هو المنشفي هل ستالين ام تروتسكي؟" لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نشرح، في حدود ما يسمح به المجال، موقف المناشفة من التحالف مع البرجوازية اللبرالية، وموقفهم من استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسية ومن ثورة أكتوبر؟ ثم نشرح موقف تروتسكي من تلك القضايا وموقف ستالين منها، لنرى من منهما كان متفقا مع المناشفة في مواقفهم تلك ومن منهما ناضل ضدها.

عندما اندلعت ثورة فبراير 1917، لم يلعب البلاشفة فيها دورا كبيرا في البداية، وذلك بسبب السياسة الخاطئة التي انتهجها القادة الذين أطلق عليهم لينين اسم "البلاشفة القدماء".

فالقادة الأوائل الذين خرجوا من السرية وخاصة شليابنيكوف ومولوتوف، انتهجوا سياسة انتظارية، حيث لم يعرفوا ماذا يفعلون أمام التسارع الكبير للأحداث، لكنها سياسة كانت رغم كل شيء أفضل من السياسة التي طبقها البلاشفة عندما رجع ستالين وكامينيف من المنفى (12/ 25 مارس 1917)، حيث صارت البرافدا (جريدة الحزب) تحت قيادتهم تتبنى موقف الدفاع الثوري عن الوطن وهو نفس موقف المناشفة من الحرب. وفي حين كان لينين وتروتسكي يحثان العمال على عدم الثقة في الحكومة المؤقتة والنضال من أجل إسقاطها، دافع هؤلاء القادة عن "ممارسة الرقابة على الحكومة" وفتحوا المفاوضات مع المناشفة من أجل إعادة توحيد الحزب.[31]

لو ترك الحزب البلشفي في يد هؤلاء القادة، وعلى رأسهم ستالين، لكان قد تحول إلى ذيل للمناشفة الذين كانوا هم بدورهم مجرد خدم للحكومة المؤقتة والبرجوازية اللبرالية، ولكانت الثورة قد ضاعت. لكن رجوع لينين قلب الأوضاع رأسا على عقب، حيث شن نضالا شرسا ضد هؤلاء البلاشفة القدماء، خاصة في كتابه الشهير "موضوعات أبريل"، رفض موقف الدفاع عن الوطن وموقف ممارسة الرقابة على الحكومة المؤقتة أو دعمها، ودعا في المقابل إلى استيلاء سوفيتات ممثلي العمال والفلاحين والجنود على السلطة السياسية، وهو ما جعل هؤلاء القادة يتهمونه بتبني نظرية تروتسكي و"القفز على المراحل" وما إلى ذلك من التهم المألوفة.

لم يكن لينين قد قرأ نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة، لكنه رغم ذلك وصل إلى نفس الخلاصة التي كان تروتسكي يدافع عنها حول ضرورة استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وديمومة الثورة لتتجاوز الحدود الديمقراطية إلى تطبيق سياسة اشتراكية.

السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا الآن هو هل يشرح الرفيق التيتي لرفاقه الشباب هذه الوقائع أم أن الرفيق التيتي يعتبر أن هذه المعلومات مضرة بصحتهم وقد تسبب لهم عسر الهضم؟

نحن على عكس الرفيق نعتبر أن شرح هذه الوقائع التاريخية للشباب الثوري مسألة مهمة جدا لتثقيفهم. لذلك ننصحهم بكل رفاقية أن يعملوا بكل جدية على دراسة شخصية دقيقة صبورة ومعمقة للنظرية الماركسية ولتاريخ البلشفية، وتاريخ الثورات العمالية، الناجحة منها والفاشلة التي شهدها القرن العشرين. بهذه الطريقة فقط سيصيرون قادرين على القيام بالمهام المنوطة بهم: مهام بناء الحزب الماركسي الثوري وقيادة نضالات الطبقة العاملة المغربية نحو حسم السلطة السياسية وبناء الاشتراكية في بلدنا ومنطقتنا وعالميا.

قراءة جزئية في تراث الحملم[32]

تقتضي متطلبات النقاش مع الرفيق التيتي الحبيب، كما سبقت الإشارة في الجزء الأول، القيام بقراءة، ولو موجزة، في أبرز مفاهيم ومواقف منظمة إلى الأمام، خاصة وأن الرفيق التيتي يعتبر أن سوء حظنا جعلنا لم نطلع على تلك المواقف مما أدى بنا إلى السقوط في "أعطاب نظرية" خطيرة أصابت الرفيق بالحزن الشديد.

تعود ضرورة القيام بهذه القراءة في تراث الحملم إلى عدة أسباب من أهمها واقع أنه لا يمكن نقاش تصورات رفاقنا في النهج الديمقراطي إلا بالعودة إلى أهم الأسس النظرية التي تقوم عليها، والتي نجدها مفصلة في أوراق منظمة إلى الأمام بالخصوص. حيث أنها ما تزال تشكل المرجعية المذهبية للحزب ولأغلب التيارات الستالينية التي ما تزال قائمة لحد الآن.

لكن قبل الخوض في هذا النقاش لا بد أن نشير إلى مسألتين في منتهى الأهمية وهما: أولا أننا نقف إجلالا لكل التضحيات التي قدمها مناضلو التجربة وإخلاصهم وصدقهم. وثانيا أن هذه القراءة لن تكون شاملة بسبب ضيق المجال، بل ستكون فقط قراءة في بعض الشعارات الرئيسية التي ميزت الحركة.

لذلك سنركز وفق ما يسمح به المجال على نقد تصورات الرفاق فيما يخص الموقف من "البرجوازية الوطنية" ومفهوم "الأوليغاريشيا الكمبرادورية"؛ وطبيعة الثورة، ثم الإجابة عن سؤال" ثورة عمالية أم "حرب الشعب الطويلة الأمد"؟.

أ - حول "البورجوازية الوطنية"

من أهم الركائز التي قام عليها تصور منظمة إلى الأمام الرهان على وجود طبقة بورجوازية لديها مصلحة في "ديمقراطية برجوازية وطنية".

لكن بما أنهم لم يكونوا يجدون مثل هذه الطبقة في الواقع، لأنها ليست موجودة ولا يمكنها أن توجد، في هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر الإمبريالية، فقد قاموا بأخذ الطبقة البورجوازية المغربية كما هي، ثم بدأوا يجرون لها عملية تجميلية لكي تصير على الشاكلة التي يريدونها أن تكون عليها.

تقول إلى الأمام في واحدة من وثائقها التأسيسية[33]:


«إن الاوليغاريشيا الكمبرادورية قد أدمجت في عملية نهبها لاقتصاد البلاد نواب البرجوازية الكبيرة التجارية والصناعية والعقارية التي أخذت في النمو قبل الاستقلال، إذ لعبت دورا لا وطنيا، والتي ما فتئت منذ الاستقلال مرهونة بمصير الرأسمال الأجنبي. إن ممثلي هذه البرجوازية الكبيرة يخدمون بالخصوص مصالح الاوليغاريشيا الكمبرادورية فيما يتعلق بعلاقاتها الاقتصادية والمالية بالإمبريالية، وفيما يتعلق بالتسيير والتنمية وذلك بالتعامل مع تقنوقراطيي الإمبريالية والأبناك والأجهزة التي تعمق بوسائلها سياسة الاستعمار الجديد».

وعليه فإن تلك الطبقة، أي البرجوازية الكبيرة، تعرضت لـ "لإدماج" من طرف بعض الأشرار ("الاوليغاريشيا الكمبرادورية")، في عملية نهب اقتصاد البلاد، الذين جعلوها تخدم بالخصوص مصالحهم. والرفاق في منظمة "إلى الأمام" يعلمون ورطتها ويؤسفهم الوضع، لذلك فإنهم يقترحون أنفسهم لكي يخلصوها من سيطرة تلك الأوليغارشيا ومن الارتهان للإمبريالية، بل وحتى من "أوهامها المستحيلة"... كل هذا وغيره بالوصفة السحرية التالية:


«فيما يخص التورط الحالي لهذه الطبقة الاجتماعية، التي وقعت أسيرة أحلامها المستحيلة المتمثلة في دولة تعتمد ديمقراطية برجوازية وطنية من جهة، ولنهب الاليغاريشيا الكمبرادورية من جهة أخرى، فإن برنامج الحزب الثوري هو وحده الكفيل بإعطاء رؤيا واقعية وشريفة في إطار إنجاز قطاع محدود من الرأسمالية الوطنية تحت قيادة الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين الفقراء وذلك ضمن المرحلة الانتقالية نحو الاشتراكية». (نفسه، خط التشديد من عندنا)

سيقوم الرفاق بثورتهم ليس لكي يتحرر العمال من عبودية الرأسمالية، (لأنه يمكن للعمال على كل حال أن ينتظروا، فتحررهم مرحلة ثانية ليس الأوان أوانها الآن)، بل سيقومون بثورتهم من أجل تحرير البرجوازية من "الأوليغارشيا الكومبرادورية"، من خلال "إنجاز قطاع محدود من الرأسمالية الوطنية"، "تحت قيادة الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين الفقراء".

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل لتلك "البورجوازية الوطنية" فعلا أية مصلحة في أي تحرر من الوضع القائم؟ وهل طلبت من الرفاق أن يحرروها، أم أنهم سوف يحررونها (من الأوليغارشية والرأسمال الأجنبي) رغما عن انفها؟ كل ذلك ليس ضروريا، فهم يعرفون مصالحها أفضل منها، ومستعدون لأن يخلصوها حتى من "أحلامها المستحيلة المتمثلة في دولة تعتمد ديمقراطية برجوازية وطنية" "بإعطاء رؤيا واقعية وشريفة" لأحلامها تلك لتصبح ممكنة.

الرفاق يعتبرون، في نفس الفقرة، أن تلك الطبقة "لعبت دورا لا وطنيا، وما فتئت منذ الاستقلال مرهونة بمصير الرأسمال الأجنبي"، مما كان يفترض منهم أن يستخلصوا النتيجة الصحيحة وهي أنها طبقة رجعية بالمطلق، ولا يمكن أن تكون جزءا من معسكر الثورة، لكنهم يناقضون أنفسهم ويصرون على "إعطاء رؤية شريفة لأحلامها". ورأيهم ذاك ليس جديدا في تاريخ الحركة العمالية الأممية، بل لقد سبق للينين وتروتسكي أن ناضلا ضده منذ بدايات القرن العشرين.

في روسيا، بداية القرن العشرين، كان هناك نقاش حاد بين تيارات الحركة الاشتراكية حول دور البرجوازية في الثورة. كان المناشفة يقولون: بما أن الثورة بورجوازية ومهام الثورة برجوازية ديمقراطية، فإن البورجوازية جزء من معسكر الثورة وراهنوا كثيرا على اللبراليين، بل وقالوا إن قيادة الثورة لا بد أن تكون في يدها، وعلى العمال أن يمتنعوا عن كل ما يمكنه أن يثير رعبها.

أما لينين، وإن اتفق حول طبيعة الثورة باعتبارها ثورة بورجوازية، فقد أكد على أن البرجوازية الروسية تمتلك آلاف الروابط مع النظام القيصري والرأسمال الأجنبي مما يجعلها عاجزة عن قيادة الثورة، وأوضح أنها ستكون لا محالة إلى جانب الثورة المضادة.

كتب عام 1905: «إن البورجوازية في مجموعها، ستنتقل حتما إلى معسكر الثورة المضادة، إلى معسكر الاستبداد، ضد الثورة وضد الشعب».[34]

لذا سيكون على الطبقة العاملة، بالتحالف مع الفلاحين، أن تقود الثورة الديمقراطية، ويقول في هذا السياق: «يبقى "الشعب" أي البروليتاريا والفلاحون. وحدها البروليتاريا من يمكن الاعتماد عليها للسير حتى النهاية [...]» (نفسه).

وبدوره ناضل تروتسكي ضد الأوهام المنشفية بخصوص "البورجوازية الوطنية"، وشرح، في كتابه نتائج وتوقعات، الذي صدر سنة 1906، أن البورجوازية الروسية دخلت إلى مسرح التاريخ متأخرة وضعيفة ومشوهة، وانها ظهرت في روسيا، في نهاية القرن التاسع عشر، تحت وصاية الدولة القيصرية، وبفعل تغلغل الرأسمال الأجنبي، وبالتالي فإنها ضعيفة وتابعة ورجعية.

واتفق هو ولينين في تقييمهما لموقف البورجوازية من الثورة حيث يقول في نفس المرجع: «إن تسليح الثورة في روسيا يعني أولا وقبل كل شيء تسليح العمال. واللبراليون، الذين يعلمون هذا ويخافونه، يتفادون مسألة إنشاء الميليشيا من أساسها. بل إنهم يتخلون عن مواقعهم للحكم المطلق بدون قتال، مثلما تخلى البرجوازيتيير عن باريس وفرنسا لصالح بسمارك، فقط للحيلولة دون تسليح العمال». (نفسه).

وقد دافع عن نفس الموقف الذي دافع عنه لينين، بخصوص الطبقة المؤهلة لقيادة الثورة، حيث كتب هو أيضا: «يؤدي هذا إلى واقع أن الصراع من أجل مصالح كل روسيا وقع على كاهل الطبقة الثورية الوحيدة الموجودة الآن في البلد، أي البروليتاريا الصناعية» (نفسه).

وفي المقابل اختلف لينين وتروتسكي حول طبيعة الدولة التي ستنتج عن هذه الثورة، ففي حين اعتبر لينين، في البداية، أن الثورة ستؤدي إلى إنشاء دولة "دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية الثورية"، فإن تروتسكي قال إن قيادة البروليتاريا للثورة تعني أن الطبقة العاملة ستستولي على السلطة، بالاستناد إلى الفلاحين وليس باقتسام السلطة معهم.

قال «إن البروليتاريا في الحكم ستقف أمام الفلاحين بوصفها الطبقة التي حررتهم [...] هذا يعني أن مؤسسة الأمة التمثيلية التي ستنعقد بقيادة البروليتاريا المعتمدة على تأييد الفلاحين، لن تكون غير شعار ديمقراطي لحكم البروليتاريا [...] إن التجربة التاريخية تبين أن الفلاحين عاجزين تماما عن القيام بدور سياسي مستقل» (نفسه).

وتوقع أن البروليتاريا في الحكم، وبعد أن تشرع في إنجاز المهام الديمقراطية للثورة، لن تتوقف عندها وستبدأ، في نفس الآن، بتطبيق مهام التحول إلى الاشتراكية، في إطار ثورة دائمة.

أثبتت الثورة الروسية، عام 1917، صحة موقف لينين وتروتسكي من الطبقة البورجوازية الروسية واللبراليين الروس[35]. بينما لعب المثقفون البورجوازيون الصغار، المناشفة والاشتراكيون الثوريون، في هذا الصراع دورا مشؤوما وخيانيا. حيث دفعتهم أوهامهم حول "البورجوازية التقدمية"، وضرورة المرور من مرحلة طويلة من الرأسمالية الوطنية، الخ، إلى تسليم السلطة عن طيب خاطر للحكومة المؤقتة ووقفوا بحزم ضد كل محاولات الطبقة العاملة لحسم السلطة بواسطة مجالسها.

وحتى البلاشفة انقسموا على أنفسهم بين معسكر (زينوفييف وكامينيف وستالين، الخ) يقول بأن الثورة بورجوازية وأنه يجب السماح بتمرير السلطة للحكومة المؤقتة، وبين معسكر آخر (بزعامة لينين) يقول بأن إنجاز المهام الديمقراطية للثورة مستحيلة بدون حسم الطبقة العاملة للسلطة السياسية، ورفع شعار: "لا ثقة في الحكومة المؤقتة، كل السلطة للسوفييتات".

ما هي التهمة التي رفعها هؤلاء "البلاشفة القدماء" ضد لينين الذي دافع عن إسقاط الحكومة المؤقتة وحسم السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة؟ لقد اتهموه بالقفز على المراحل، والنزعة الذاتوية، الخ، أي نفس التهم التي يوجهها لنا أصدقاؤنا الستالينيون اليوم. لكن لحسن الحظ خاض لينين نضالا صارما ضدهم داخل الحزب وأمام العمال وانتصر عليهم، وسلح الحزب بشعارات جديدة (انظر مثلا: كتاب موضوعات أبريل، وكراس: الكارثة المحدقة وكيف نحاربها). فتمكن الحزب من القيام بمهمته التي هي قيادة الطبقة العاملة لحسم السلطة السياسية.

لو أن أسلاف أصدقائنا كانوا هم من انتصر آنذاك لكانت روسيا استمرت بلدا شبه مستعمر، بل لم يكن من المستبعد نهائيا أن تتم إعادة النظام القيصري مجددا. فلقد حاولت البورجوازية في البداية إنقاذ النظام الملكي ودخلوا بالفعل في مفاوضات مع نيقولا الثاني من أجل التنازل عن الحكم لصالح شخص آخر من الأسرة المالكة، وهو ما تم يوم 02 مارس 1917، عندما تنازل لأخيه ميخائيل.

كان هذا هو مشروع البرجوازية، لكن العمال كان لهم رأي آخر، حيث اجتاحوا البلد بمظاهرات وإضرابات أثارت رعب البرجوازية وجعلتها تتخلى عن مخطط الحفاظ على حكم القياصرة. قال ميخائيل رودزيانكو، رئيس مجلس الدوما القيصري آنذاك: «إن إعلان الأمير الكبير إمبراطورا سيصب الزيت على النار وسيطلق طوفانا لا يبقي ولا يذر، وسنخسر كل السلطة»، لذلك اضطروا مرغمين إلى التخلي عن هذا المخطط الرجعي، ليس بفضل مشاعر ديمقراطية ثورية صادقة، بل فقط بسبب الخوف من الثورة والعمال.

بعد ذلك لجؤوا إلى تشكيل حكومة مؤقتة بزعامة الأمير لوفوف، أعضاؤها رأسماليون كبار ونبلاء، بدعم من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. هذه الحكومة البورجوازية استمرت في الحرب الإمبريالية ورفضت إعطاء الأرض للفلاحين الفقراء ورفضت تقليص ساعات العمل ولو إلى ثماني ساعات، ورفضت إجراء انتخابات ديمقراطية، وغيرها من المطالب الديمقراطية الأساسية، بل بدأت في شن حملة قمع ضد الثورة وخاصة ضد البلاشفة وعلى رأسهم لينين، كما رمت بتروتسكي في السجن.

إن ما قلناه عن "البورجوازية الوطنية" الروسية يصح تماما عن "البرجوازية الوطنية" المغربية. فهي أيضا دخلت إلى مسرح التاريخ متأخرة وضعيفة ومشوهة، وتحت وصاية الدولة وبفعل تغلغل الرأسمال الأجنبي، في عصر الإمبريالية. بل هي أكثر ضعفا وتشوها بالنظر إلى أن روسيا القيصرية لم تعرف، رغم كل شيء، استعمارا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا مباشرا مثلما هو حال المغرب. وبالتالي فإنها تنتمي في مجموعها حتما إلى معسكر الثورة المضادة، إلى معسكر الاستبداد، ضد الثورة وضد الشعب.

كما ان كل حديث عن تضررها من الدكتاتورية وسيطرة "الأوليغارشية الكومبرادورية" إلى درجة أن تفكر في الثورة أو مساندة الثورة، مجرد أوهام لا أساس لها من الصحة. اسألوا في هذا الصدد العمال الذين يشتغلون في معامل "البرجوازية الوطنية" المغربية عن قمع الحريات النقابية وكيف تستعمل تلك "البرجوازية الوطنية" البوليس والقوانين الدكتاتورية لمراكمة الثروات الهائلة وحرمانهم من كل الحقوق.

إن مصطلح "برجوازية وطنية" هو في حد ذاته تلاعب بالكلمات. ففي عصرنا الحالي: عصر الإمبريالية وعولمة الرأسمال، لا إمكانية لوجود برجوازية وطنية مستقلة عن السوق العالمية والرأسمال المالي الامبريالي. ليس أمام كل الرأسماليين في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، وبغض النظر عن نواياهم، سوى أن يندمجوا من موقع التابع، أو أن يندحروا ويتبلتروا (أي يلتحقوا بصفوف البروليتاريا بعد إفلاسهم). في الحالة الأولى لا يمكن وصفهم بكونهم "وطنيين" وفي الحالة الثانية لا يمكن وصفهم بكونهم "برجوازيين".

وفي سياق آخر نتسائل عن السبب الذي يمكن أن يدفع البروليتاريا إلى التضحية بنفسها في ثورة لكي تعمل على تحرير أعدائها وتمكنهم من رقبتها؟ وبدل أن تبني المجتمع تحت رقابتها ولمصلحتها، تتفضل ببنائه لصالح "البورجوازية الوطنية".

هل الاستغلال في معمل "بورجوازي وطني"، أفضل من الاستغلال في معمل تملكه شركة إمبريالية؟ وحدهم أصدقاؤنا المثقفون من يستطيع فهم حلاوة الاستغلال في معمل بورجوازي وطني، مقارنة بالاستغلال في معمل تملكه شركة إمبريالية، كيف لا وهم، إضافة إلى ثقافتهم الأكاديمية الواسعة، لم يدخلوا في حياتهم معملا. أما العمال فإنهم أقل تعمقا في العلوم المعقدة التي يفهمها أصدقائنا إلى درجة أنهم يفضلون الاشتغال في مصانع الشركات الكبرى على العمل في أقبية العمارات ومصانع البؤس.

ونحن الماركسيون، وبالرغم من أننا لا نريد أن نزيد في حزن الرفيق التيتي الشديد على "أعطابنا النظرية وغيرها"، نتفق بدورنا مع أبناء طبقتنا العمال في موقفهم، ونفضل المصانع الكبرى، مثل شركات صنع السيارات وأجزاء الطائرات، التي تشغل اليوم، في طنجة والبيضاء وغيرهما، آلاف العمال المجمعين في مكان واحد (أزيد من 7000 عامل في مصنع السيارات في طنجة وحدها!)، عوض شركات العائلات "البورجوازية الوطنية" التي تشغل بضعة عشرات من العمال تمتص دمائهم في ظروف عمل وحشية ومقابل أجور الجوع، وبدون أي حقوق.

كما سندع للقوميين البورجوازيين الصغار مهمة الدفاع عن "المنتوج الوطني"، أما نحن الماركسيون فإننا نعتبر أن تلك المصانع الكبرى، التابعة للشركات الإمبريالية المتعددة الجنسيات، هي قلاع الطبقة العاملة المغربية، وهي الثكنات التي تعلمها التنظيم والشعور بوحدتها الطبقية، ومن بين صفوف العاملين فيها سوف تكسب الحركة الماركسية المغربية أفضل قادتها، وهم من سيكونون في الخطوط الأولى للثورة الاشتراكية المغربية، التي ستحمل الطبقة العاملة إلى السلطة فتصادر تلك الشركات بدون أي تعويض وتسيرها تحت رقابتها الديمقراطية.

ب - في مفهوم "الأوليغاريشيا الكمبرادورية"

يعتبر هذا المصطلح بدوره من أكثر المصطلحات استعمالا عند الرفاق في الحملم، وكل التيارات التي تشكل استمرارية للحملم، بمن فيها تيار رفاقنا في النهج الديمقراطي. لكن ماذا يعني هذا المصطلح؟ في الواقع لا أحد يدري!!

فتلك "الأوليغارشية الكمبرادورية" تكون أحيانا فئة، (مثلما يدل على ذلك مصطلح أوليغارشية = نخبة حاكمة)، وهو ما قصدوه عندما تحدثوا عن أن "الاوليغاريشيا الكمبرادورية قد أدمجت في عملية نهبها لاقتصاد البلاد نواب البرجوازية الكبيرة"، الخ. وأحيانا أخرى تكون طبقة، مثلما نجد على سبيل المثال في مقال إلى الأمام "المرحلوية أو النيومنشفية" حيث يقولون عنها "الطبقة الكمبرادورية الحاكمة"، الخ.

طبقة أم فئة؟ ربما هذه المسألة ليست مهمة بالنسبة لرفاقنا، وفي الغالب هم أيضا لا يعرفون معناها. بل إن قوة هذا المصطلح تأتي أساسا من غموضه، وبالتالي ذلك الكم من "العمق النظري" الذي يوحي به لمن يسمعه ولا يفهمه.

إذا كان الرفاق يعنون به طبقة اجتماعية فعلا، فهذه مشكلة حقيقية. فبالرغم من أنه في بلاد العجائب كل شيء ممكن، فإنه في الواقع الحقيقي لا يمكن خلق طبقة اجتماعية من العدم. في العالم الواقعي لا يأتي شخص ويقول لأصدقائه: "يا له من يوم جميل مشمس! ما رأيكم أن نصنع طبقة اجتماعية جديدة؟" فيوافقونه ويبدأون في اللعب.

في العالم الواقعي تتحدد الطبقات الاجتماعية بنمط الإنتاج والموقع الذي تحتله في المجتمع. والطبقات الاجتماعية في عصرنا الحالي، عصر الرأسمالية العالمية والإمبريالية، هي عموما:

طبقة كبار مالكي وسائل الإنتاج (الأرض والمناجم والمصانع، الخ)، التي تعيش على استغلال قوة عمل الآخرين من فائض القيمة التي ينتجونها، وهي الطبقة الرأسمالية أو البرجوازية الكبيرة؛

وفي مقابلها هناك طبقة واسعة من غير المالكين ما عدا قوة عملهم الذهنية والعضلية والتي يبيعونها (أو يعرضونها للبيع) للطبقة البرجوازية، أو لدولتها، لكي يعيشوا، وهي طبقة العمال.

وبين هاتين الطبقتين توجد طبقة صغار مالكي وسائل الإنتاج من الفلاحين الصغار وأصحاب الدكاكين والورشات الصغرى ومن يشبههم، وهم من تسميهم الماركسية الطبقة البرجوازية الصغرى.[36]

وإلى جانبهم، بالأحرى تحتهم، توجد فئات أطلق عليها ماركس اسم البروليتاريا الرثة، حثالة الطبقات الأخرى المتساقطين في الهامش (المشردون، المتسولون، النشالون، الخ).

نحن نعلم أننا بهذا الحديث نزيد في حزن الرفيق التيتي الشديد، لأنه سيظن أننا لا نحبه ونحاول حرمانه من طبقاته العزيزة عليه. لكننا آسفون لأن كل الأطفال مجبرون في يوم ما، لمصلحتهم هم بالذات، أن يقال لهم بأن بابا نويل مجرد خرافة، مثله مثل "طبقة الكومبرادور".

أو ربما لا يقصد الرفاق بـ "الكومبرادور" طبقة اجتماعية، بالمعنى الماركسي للطبقة الاجتماعية، ربما يقصدون بها "فئة اجتماعية حاكمة"، أي أنها هي نفس ما يطلقون عليه اسم "المخزن"، أو "المافيا المخزنية"، أو القصر.

إنها بهذا التحديد فئة اجتماعية توجد فوق الطبقات الاجتماعية بما فيها البرجوازية الكبيرة، وهذا ما يتضح في قولهم "الاوليغاريشيا الكمبرادورية قد أدمجت في عملية نهبها لاقتصاد البلاد نواب البرجوازية الكبيرة التجارية والصناعية والعقارية [...]"، بل إن تلك البرجوازية الكبرى ليست سوى خادمة لمصلحة ذلك "الكومبرادور"، أو كما يقول الرفاق: "إن ممثلي هذه البرجوازية الكبيرة يخدمون بالخصوص مصالح الاوليغاريشيا الكمبرادورية [...]". التي تنهبهم كما سبق لهم أن قالوا في الفقرة التي استشهدنا بها أعلاه.

إذا كان هذا هو ما يريد الرفاق قوله، فإنهم يصيرون أقرب للتعبير عن مصطلح ماركسي أصيل واضح وعلمي، هو مصطلح: البونابارتية. لكنهم يقومون بذلك بطريقة خاطئة وغامضة. ولنفهم معنى هذا المصطلح لا بد من إعادة التذكير بالموقف الماركسي من الدولة.

التعريف الماركسي العام للدولة هو أنها "جهاز من الرجال المسلحين للدفاع عن الملكية الخاصة"، لكن الماركسية في نفس الآن تؤكد أن الدولة ليست مجرد ذلك الجهاز المشكل من الجيش والشرطة، إن الدولة وحش بيروقراطي هائل، جحافل من الموظفين الذين يمتصون كمية كبيرة من فائض القيمة التي تنتجها الطبقة العاملة.[37]

وقد شرح المعلمون الكبار أن الدولة قوة خاصة تضع نفسها فوق المجتمع وتميل تدريجيا إلى الانفصال عنه. وصفها إنجلز قائلا: «هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر».[38]

الدولة في آخر المطاف أداة سيطرة طبقية، جهاز في يد الطبقة السائدة اقتصاديا لتأبيد سيطرتها بمختلف أشكال القمع، لكن بيروقراطية الدولة إذ تقوم بذلك تخلق مصالح خاصة بها، لا تتوافق بالضرورة كليا ودائما مع مصالح الطبقة التي من المفترض أنها تمثلها وتدافع عن مصالحها. وقد شرح إنجلز ذلك قائلا: «إن الموظفين إذ يتمتعون بالسلطة العامة وبحق فرض الضرائب باعتبارهم من أجهزة المجتمع يصبحون فوق المجتمع»[39]. بل ويمكنهم أن يدخلوا في بعض الأحيان في مواجهة مع تلك الطبقة التي يمثلونها.

إن الدولة وبالرغم من أنها جهاز الطبقة السائدة اقتصاديا، فإنها في ظروف معينة استثنائية، وخاصة عندما تصل موازين القوى بين الطبقات المتصارعة إلى نقطة من التوازن، تتمكن من امتلاك نوع من الاستقلالية المؤقتة تجاه كلتا الطبقتين. يقول إنجلز في هذا الصدد: «الدولة النيابية الحديثة هي أداة لاستغلال رأس المال للعمل المأجور. ومع ذلك ثمة فترات - حالات استثنائية - تتوازن فيها قوى الطبقتين المتصارعتين لدرجة تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر الوسيط بينهما».[40]

وفي هذه الحالة لا تكتفي البيروقراطية بتحقيق نوع من الاستقلال عن الطبقة التي من المفترض أن تمثل مصالحها وتدافع عنها وتخدمها، بل قد تعمل حتى على قمعها. يقول ماركس عن نابليون بونابرت: «كان نابليون ما يزال ينظر إلى الدولة كغاية خاصة به، والمجتمع البرجوازي كممول لها لا غير، كمرؤوس محروم من أية إرادة خاصة [...] أشبع حتى التخمة أنانية القومية الفرنسية، لكنه من جهة أخرى فرض على البرجوازية التضحية بصفقاتها بلذاتها وبثروتها الخ، كلما دعا إلى ذلك داعي الغايات السياسية، داعي الفتوحات التي كان يعتزم القيام بها. وإذا كان قد قمع استبداديا ليبرالية المجتمع البرجوازي، في أشكالها العملية اليومية، فإنه إلى ذلك لم يكن يحترم المصالح المادية الجوهرية لهذا المجتمع، التجارة والصناعة، حالما تدخل في صراع مع المصالح السياسية الخاصة به».[41]

كما يشرح ماركس، في كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابارت"، هذه الظاهرة حين يصف كيف كان جنود لويس بونابارت السكارى يطلقون الرصاص على أفراد البرجوازية التي من المفترض أنهم خدم عندها.

وفي الصين كذلك عندما قام تشانغ كاي تشيك بمجزرته الشهيرة ضد عمال شنغهاي، سنة 1927، نظم البرجوازيون الكبار احتفالات على شرفه وصفقوا له باعتباره منقذهم، فقام هو باعتقالهم وفرض عليهم ضرائب ثقيلة مقابل إطلاق سراحهم.[42]

من هي الطبقة التي كان كل من نابليون بونابارت ولويس بونابرت وتشانغ كاي تشيك يمثلونها؟ إنها الطبقة البرجوازية بكل تأكيد. فبالرغم من أن هذه الأخيرة حرمت من سيادتها السياسية، فإنها تبقى الطبقة الحاكمة في المجتمع، لأنها تستمر مالكة وسائل الإنتاج، وتلك العصابات من المجرمين المسلحين يستمرون في الواقع حماة ملكيتها الخاصة ضد أعدائها الطبقيين.

في ظل الأنظمة البونابارتية تتعرض الطبقة البورجوازية لمصادرة سلطتها السياسية، ويصير العنف العسكري هو سيد المجتمع، ويعمل جيش البيروقراطية والموظفين الكبار على امتصاص أكبر قسم ممكن من فائض القيمة، بشتى الطرق "الشرعية" وغير الشرعية. لكنهم رغم ذلك يبقون مدافعين عن النظام الرأسمالي لصالح الطبقة الرأسمالية ككل. وتبقى البرجوازية هي الطبقة السائدة رغم أنها فقدت سلطتها السياسية المباشرة.[43]

يمكننا أن نعطي الكثير من الأمثلة عن هذه الظاهرة، التي ترتفع فيها الدولة والبيروقراطية المكونة لها فوق الطبقة التي تمثلها، وتعمل حتى على قمعها ونهبها بشتى الطرق. موسوليني وهتلر وبيتان، وبينوتشي، الخ. ومختلف الديكتاتوريين الذين شهدتهم منطقتنا...

وليس النظام الملكي بالمغرب، أو الأوليغارشية الحاكمة، أو "المخزن" أو "المافيا المخزنية"، إلى آخره من المصطلحات التي يحب الرفاق إطلاقها على شكل الحكم القائم بالمغرب، سوى تنويعة أخرى من تنويعات الأنظمة البونابارتية البرجوازية، التي رفعت نفسها فوق الطبقة التي تمثلها، بل ودخلت في العديد من الأحيان في مجابهات معها وقمعت العديد من مكوناتها.

عندما ننظر إلى النظام القائم بالمغرب بهذه الطريقة الماركسية يصير من الواضح لنا خطأ تحليل الرفاق لطبيعة نظام الحكم وكأنه مكون قائم بذاته مستقل كليا يمكن النضال ضده (أو كما يقول الرفاق عزله) دون المساس بالنظام الرأسمالي، بل وبالتحالف مع قسم من نفس تلك البرجوازية، كما يصير من الواضح لنا استحالة انخراط الطبقة البرجوازية في معسكر الثورة من أجل الإطاحة بدولتها من أجل استعادة سيادتها السياسية المباشرة.

إن الطبقة البرجوازية تخشى الطبقة العاملة وتخشى الثورة أكثر مما تخشى كلاب حراستها الذين صاروا فوقها، لما فيه مصلحتها في آخر المطاف. وهذا ما يجعلها تضع يدها في يد الاستبداد السياسي والحكم الفردي وتستفيد من كل الإمكانيات التي يتيحها لها في النهب واعتصار قوة عمل العمال، الخ. يمكن لبعض مكوناتها أن توجه بعض النقد إلى هذا المظهر أو ذاك من ممارسات بيروقراطية دولتها المتمردين عليها، لكنهم لا يمكنهم في أي وقت من الأوقات، وخاصة في زمن الثورة، أن يتحالفوا مع العمال والفلاحين الفقراء ضد تلك البيروقراطية.

كما يصير من الواضح لنا كذلك أن النضال ضد الاستبداد السياسي والحكم الفردي بالمغرب هو نفس النضال ضد الرأسمالية والطبقة البرجوازية، إنه نضال الطبقة العاملة من أجل الاشتراكية، وليس نضالا يمكن التحالف فيه مع البرجوازية "الوطنية"، كما يتوهم الرفاق في النهج الديمقراطي، وقبلهم الرفاق في إلى الأمام.

ج - حول طبيعة الثورة

يقول الرفاق في كراس (من أجل بناء خط ماركسي لينيني لحزب البروليتاريا المغربية): «إن طبيعة النظام الطبقي السائد ببلادنا يجعل من الثورة التي تختمر ببلادنا ثورة وطنية ديمقراطية شعبية، تستهدف حل التناقض الأساسي القائم بين الطبقة الكمبرادورية الحاكمة التي تضم الملاكين الكبار والبرجوازية الكمبرادورية وعلى رأسهم الملكية وسيدتهم الامبريالية من جهة، والشعب بطبقاته الوطنية من جهة أخرى، ويتكون الشعب في المرحلة التاريخية الحالية من الطبقات الوطنية التالية: البروليتاريا، الفلاحين، شبه البروليتاريا ، البرجوازية الصغيرة، البرجوازية المتوسطة الوطنية».

فلنلخص: إن الثورة التي تختمر ببلادنا، من وجهة نظر الرفاق، ثورة وطنية ديمقراطية شعبية مهمتها إنجاز قطاع محدود من الرأسمالية الوطنية، تحت قيادة الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين الفقراء، وذلك ضمن المرحلة الانتقالية نحو الاشتراكية.

عالم الخيالات والأفكار المجردة واسع ويمكن فيه لأكثر الأفكار سخافة أن تجد لنفسها موقعا تحت الشمس، فكل شيء ممكن في بلاد العجائب. في بلاد العجائب يمكن لأليس أن تخترق المرآة، كما يمكن لأوراق اللعب أن تتحدث، بل ويمكن حتى وجود نظام تكون فيه السلطة السياسية "تحت قيادة الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين الفقراء"، وفي نفس الوقت تكون السلطة الاقتصادية في يد "الرأسمالية الوطنية" !!!

الطبقة العاملة في ذلك العالم العجيب هي من يسير الدولة، لكنها مجبرة أن تنهض كل صباح لكي تذهب إلى معامل الرأسماليين "الوطنيين" لكي تنتج لهم فائض القيمة، وفي المساء تذهب إلى مقرات الحكومة لكي تمارس السلطة السياسية على المجتمع، بمن في ذلك على هؤلاء "الرأسماليين الوطنيين".

وفي ذلك العالم هؤلاء "الرأسماليون الوطنيون"، يكتفون بمراكمة فائض القيمة من عرق أسيادهم الجدد، ويتركون لهم السلطة السياسية دون أن ينافسوهم عليها، ولا يفكرون نهائيا في استعمال سيطرتهم على المصانع (بعضها على الأقل، لأن برنامج أصدقائنا سيسمح "بقطاع محدود" فقط كما أكدوا) من أجل تخريب أسس النظام الجديد، وإعادة النظام القديم واسترجاع سلطتهم السياسية.

لكن عالم الواقع والملموس، مع الأسف، ضيق ولا يسمح بشطحات الخيال. وخاصة عالم العلاقة بين الطبقات، التي هي علاقة تناحرية لا مجال فيها للهدنة أو التعاون أو تقاسم المهام. إما سيطرة هذه الطبقة أو تلك، هذا ما يقوله لنا التاريخ منذ ظهور الطبقات.


«إن تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا، ليس سوى تاريخ صراع الطبقات. فالحر والعبد والنبيل والعامي والإقطاعي والقن ومعلم الحرفة والصانع، وباختصار الظالمون والمظلومون، المتعارضون دوما، خاضوا صراعا متواصلا، صريحا تارة ومستترا تارة أخرى، صراعا كان ينتهي في كل مرة إما بتغيير ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين» [البيان الشيوعي - فصل البورجوازيون والبروليتاريون].

وبالعودة إلى دروس ثورة أكتوبر نتسائل هل قبل السادة البورجوازيون "الديمقراطيون"، عندما اندلعت الثورة، فبراير 1917، باقتسام السلطة مع العمال والفلاحين، وتركوا لهم مجالسهم الشعبية تسير شؤون البلد بديمقراطية بينما اكتفوا هم بالشؤون الاقتصادية وتطوير "الاقتصاد الوطني"؟ كلا بطبيعة الحال.

والعمال والفلاحون الفقراء، من جهتهم، هل قبلوا بأن يحكموا بنفس الطرق القديمة، وتقبلوا بصدر رحب نصائح أسلاف الرفاق بأن الرأسمالية عالم جيد وأن الاشتراكية مهمة مؤجلة إلى وقت آخر؟ كلا، فروسيا بلد يوجد في العالم الواقعي، وليس في عالم العجائب.

إن ما حدث بالفعل هو صراع رهيب بين الطبقات، البورجوازية وبقايا النظام القديم، في إطار الحكومة المؤقتة، من جهة؛ وبين الطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين الفقراء، في إطار سوفييتات نواب العمال والفلاحين والجنود، من جهة أخرى.

وبعد أن تمكنت الطبقة العاملة، وحلفاؤها فقراء المدن والأرياف، من إسقاط حكم الأقلية وبناء أول نظام ديمقراطي فعلا في التاريخ، انتقلت البرجوازية "الوطنية" إلى تخريب الإنتاج وتنظيم صفوفها في إطار جيوش ممولة ومدعومة من طرف مختلف القوى الإمبريالية، وشنت حربا مدمرة على "وطنها" بالذات. وكادت تنتصر وتؤسس نظاما فاشستيا لولا الصمود الذي أبداه العمال والفلاحون الروس وتضامن عمال العالم معهم، والدور البطولي الذي لعبه الجيش الأحمر بزعامة مؤسسه وقائده ليون تروتسكي.

إن فكرة التعاون بين الطبقات فكرة إصلاحية مقيتة، تصير على يد الإصلاحيين الواعين وسيلة لوضع العمال في خدمة الطبقة البورجوازية لتخدعهم وتخضعهم وتحارب بهم حروبها. لكنها عند ثوريين نزهاء، مثل هؤلاء الشباب الرائعين الذين أسسوا منظمة إلى الأمام، تصير كلاما متناقضا ليس فقط مع ما يعتقدونه، بل وحتى مع ما يقولونه في نفس المقال:

يقول الرفاق، بعد أسطر قليلة، إن هدف الثورة التي يريدون إنجازها هي "الاستيلاء على الحكم من طرف الجماهير الكادحة المنظمة في إطار مجالس العمال والفلاحين الفقراء وفي إطار جماعات النضال الشعبي"، كما يؤكدون أن قيادة الثورة "تتمثل في حزب العمال والفلاحين المبني على الإيديولوجية الماركسية-اللينينية و المنغرس في البروليتاريا".

هذا عظيم! ولا يمكننا إلا أن نبدي اتفاقنا معه. لكن الثورة التي تكون بقيادة البروليتاريا، بتحالف مع الفلاحين الفقراء وعموم الكادحين، والتي توصل الطبقة العاملة إلى السلطة هي بالضبط ثورة اشتراكية. لأن طبيعة الثورة هل هي اشتراكية أم بورجوازية تتحدد بالضبط بطبيعة الطبقة التي تقود تلك الثورة وتصل بفضلها إلى السلطة. تتحدد بالضبط بنمط الملكية التي تدافع عنها الدولة الناشئة عن تلك الثورة، أي هل تدافع عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، أم الملكية العامة والاقتصاد المخطط تحت رقابة المجالس العمالية، ولا تتحدد بطبيعة المهام التي تكون على الثورة إنجازها.

ولكي نوضح أكثر نقول: إننا عندما نقول بأن الثورة، التي هي على جدول الأعمال في المغرب، ثورة اشتراكية وليست بورجوازية، لا يعني أننا نقفز فوق المهام الديمقراطية العالقة، وهي كثيرة، بل نقول فقط إن الضمانة الوحيدة لإنجاز تلك المهام هي سيطرة الطبقة العاملة على السلطة والاقتصاد في المجتمع. أو بتعبير الرفاق: "الاستيلاء على الحكم من طرف الجماهير الكادحة المنظمة في إطار مجالس العمال والفلاحين الفقراء".

لو كانت طبيعة الثورة تتحدد بطبيعة المهام المباشرة التي على الثورة إنجازها لما كان من الصحيح علميا الحديث عن الثورة الروسية باعتبارها ثورة اشتراكية، إذ أنها قامت على أساس شعارات ديمقراطية "بسيطة" من قبيل السلام بدون إلحاقات والأرض والخبز وثماني ساعات من العمل. بل لن يصح إطلاق اسم ثورة اشتراكية حتى على الثورة التي ستحدث في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أو فرنسا أو غيرهما، إذ سوف تجد أمامها العديد من المهام الديمقراطية العالقة مثل حقوق الأقليات العرقية والمساواة في الحق في التعليم، الخ، الخ.

إذا لم تتمكن الطبقة العاملة من حسم السلطة السياسية، بعد اندلاع الثورة، لن يكون هناك أي إنجاز لأي مهام ديمقراطية، وحتى المكتسبات التي تتحقق تكون عرضة للتراجع والضرب بمجرد اختلال موازين القوى. ففي ظل حكم البورجوازية (سواء كان اسمها وطنية أو قومية أو غير ذلك من الألاعيب الكلامية) لا يمكن تحقق تحرر النساء ولا تعميم تعليم ذو جودة ولا إنجاز إصلاح زراعي جذري يعطي الأرض لمن يزرعها، ولا القطع مع التبعية للإمبريالية ولا تحقيق حرية الصحافة، الخ. انظروا إلى تونس ومصر، على سبيل المثال، بل وإلى فنزويلا نفسها.

أما إذا انتصرت الثورة، أي تمكنت الطبقة العاملة من تحطيم جهاز الدولة البورجوازي وبناء دولة المجالس العمالية، فآنذاك فقط سيصير من الممكن إنجاز المهام الديمقراطية العالقة؛ لكن الطبقة العاملة عندما ستكون في السلطة، لن تتوقف بطريقة مصطنعة أمام حق الملكية الخاصة البورجوازي، بل سوف تتجاوزه في كل إجراء، في ثورة دائمة تدمج بين إنجاز المهام الديمقراطية وبين المهام الاشتراكية (المصادرة والرقابة العمالية). خاصة أن إنجاز المهام الديمقراطية، ولو أبسطها، مستحيل دون مصادرة المفاتيح الرئيسية للاقتصاد ووضعها تحت الرقابة العمالية وتسييرها وفق مخطط اشتراكي موجه لخدمة مصالح المجتمع.

طبعا سيسمح لصغار المالكين البرجوازيين الصغار (فلاحين صغار وأصحاب الدكاكين والورشات الصغرى التي لا يستغل أصحابها قوة عمل الآخرين) بالاحتفاظ بملكياتهم، فالثورة لن تؤمم كل دكان ولا قطع الأرض الصغيرة وما يشبه ذلك، وهي ليست مضطرة لذلك، فتلك القطاعات لا أهمية حاسمة لها. لكن الضيعات الكبرى وشركات التسويق وشركات البناء والنقل والمصانع، إلى جانب الأبناك والمناجم، وكل مفاتيح الاقتصاد الهامة، لا بد من تأميمها فورا وبدون أي تعويض، إلا لصغار المساهمين.

وحده هذا الإجراء ما سيسمح لتلك المجالس العمالية بوضع مخطط عقلاني ثوري للإنتاج موجه لخدمة مصالح نفس تلك الطبقات (العمال والفلاحين الفقراء) التي أنجزت الثورة والتي تسيطر على جهاز الدولة. أما بدونها فلا يمكن وضع أي مخطط ولا خدمة مصالح العمال والفلاحين الفقراء. إذ لا يمكنك أن تخطط لاقتصاد لا تملكه.

رفاقنا يتوهمون إمكانية بناء مجتمع تكون فيه السلطة السياسية في يد طبقة بينما تظل فيه السلطة الاقتصادية، أو جزء منها على الأقل، في يد طبقة أخرى نقيض. لكن إذا كان برنامج الرفاق في فترات الهدوء مسليا ويعطي للقارئ الفرصة لاكتشاف قدرة الخيال البشري على فبركة الوصفات والخطاطات المجردة، فإنه في فترات الصدامات الثورية الحقيقية، عندما تنهض الطبقة العاملة وفقراء البوادي والمدن لأخذ مصيرهم بأيديهم وإسقاط النظام القائم، يصير ذلك البرنامج خطيرا ورجعيا إلى أقصى الحدود.

هذه ليست مبالغة ولا تجنيا رخيصا على الرفاق. فبغض النظر عن نواياهم، والتي نحن متأكدون أنها نوايا طيبة، سوف يدفعهم ذلك البرنامج المبني على نصف ثورة تضع السلطة السياسية بين أيدي العمال، بينما تمنعهم من مصادرة ممتلكات قسم من البورجوازية، إلى كوارث لا حصر لها.

فلنفترض أنه وقع في عالم رفاقنا خلاف بين عمال مصنع "رأسمالي وطني" لإنتاج الأحذية، على سبيل المثال، وبين رب ذلك المصنع "الرأسمالي الوطني". العمال يطالبون بأن تتساوى أجورهم وظروف عملهم بما هو معمولبه في القطاع العام، بينما الرأسمالي الوطني يقسم بأغلظ الأيمان أنه غير قادر على ذلك، وأنه إن قام برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل أو وتيرة امتصاص دماء عماله، سيزيد من إضعاف قدرة سلعه على المنافسة وسيقضى على مشروعه "الوطني". العمال يردون أن كل هذا لا يعنيهم وأنهم لم ينجزوا الثورة، ويقدموا كل تلك التضحيات التي قدموها، لكي يقبلوا بأجور البؤس وساعات العمل الطويلة، فإن كان سيفلس فليفلس وهم مستعدون للاستيلاء على المصنع وتسييره بدون رب العمل وبشكل أفضل مما يقوم به هو.

ماذا سيكون رد رفاقنا آنذاك؟ هل سيحاولون إقناع العمال بأن التأميم مهمة مؤجلة، وأنها غير موجودة في الوصفة التي لديهم، وأنه عليهم حماية الرأسمال الوطني، أم أنهم سيدعمون العمال في خطوتهم الثورية وسيتخلصون من تلك الخطاطات المجردة المتناقضة؟

في الحالة الأولى، ولكي ينسجموا مع برنامجهم، سيكون عليهم إما أن يقمعوا العمال، أو أن يقنعوهم ليساهموا في حماية "الرأسمال الوطني"، ونحن متشوقون، منذ الآن، لنشهد اللقاء الذي سيجمع بين ممثلي العمال، المنتصرين الواعين والواثقين من قوتهم والذين يكونون قد أنجحوا للتو ثورة أوصلتهم إلى السلطة، وبين موفدين من طرف أصدقائنا، مهمتهم إقناع العمال بأن يمتنعوا عن مصادرة أملاك الرأسمالي الوطني الذي استغلهم، واستغل آباءهم من قبلهم قبل الثورة، ويحافظوا له على "حقه" في مواصلة استغلالهم حتى بعد الثورة، حبا في "الوطن" وانسجاما مع خطاطات أصدقائنا المتقنة الإعداد.

أما في الحالة الثانية فسيتوجب عليهم أن يسمحوا بأن يقوم العمال بتحطيم أساس "الرأسمال الوطني"، بثورة دائمة، لا تقدس الملكية الخاصة ولا تقدس خطوطا حمراء فبركها مثقفون معزولون عن الواقع. ويرموا بخطاطاتهم إلى حيث تستحق أن تكون.

لكن ما حاجتنا إلى الافتراضات والتخمينات بينما الواقع المعاش يقدم لنا الكثير من الدروس في هذا السياق. فتجربة تشيلي في عهد ألييندي، والتي عاصرها الرفاق كاتبو هذه الكراسات، كافية لتؤكد لنا رد فعل البرجوازية الدموي ضد أية محاولة لتجريدها ولو من جزء من سلطتها السياسية، أو المس، ولو بطريقة إصلاحية، بمصالحها وملكيتها. لقد دعمت انقلابا دمويا أطاح بحكومة ألييندي المنتخبة وأطلقت سنوات من القمع الوحشي ضد العمال والشباب الثوري.

كما تقدم لنا تجربة فنزويلا، في عهد تشافيز وحتى اليوم، الكثير من الدروس حول كيف تعاملت المعارضة "اللبرالية الديمقراطية" و"البرجوازية الوطنية" مع الإصلاحات الديمقراطية التي نفذتها الحكومة البوليفارية، ومع مطالب العمال المشروعة في الاستفادة من خيرات بلادهم، في التعليم والصحة والسكن، الخ.

في فنزويلا وصل تشافيز إلى السلطة على أساس برنامج "طريق ثالث" بين الرأسمالية والاشتراكية، برنامج يقوم على تحقيق إصلاحات ديمقراطية جذرية لصالح الجماهير في التعليم والصحة والسكن والشغل، الخ. لكن مع عدم المساس بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ومناشدة "البورجوازية الوطنية" الانخراط في هذا المشروع النبيل. فماذا كان رد فعل هؤلاء السيدات والسادة اللبراليين و"الديمقراطيين"؟ لقد نظموا ضده انقلابا، سنة 2002، كاد يدخل البلاد في مرحلة حكم عسكري دموي، مثل ذلك الذي شهدته تشيلي وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية. وحدهم الجماهير، بقيادة الطبقة العاملة، من اجتاحوا الشوارع ونظموا الإضرابات والمسيرات والاعتصامات ففرضوا على البرجوازية التراجع وأعادوا السلطة الشرعية.

كانت الفرصة آنذاك مواتية لكي تقوم الثورة البوليفارية بتوجيه ضربة قاصمة للرأسمالية في فنزويلا، وتدعوا الطبقة العاملة إلى حسم السلطة السياسية وتطبيق برنامج اشتراكي ثوري، تحت رقابة وتسيير نفس هؤلاء العمال الذين أنقذوا الثورة.

لو تم ذلك لكان قد خلق زلزالا ثوريا في كل أمريكا اللاتينية ومنها إلى بقية العالم، وقدم للطبقة العاملة العالمية مثالا يحتذى. لكن ذلك لم يتم. لماذا؟ هل بسبب نقص وعي الجماهير، أم بسبب غياب الظروف الموضوعية؟ كلا أيها السادة، لقد تم بسبب ضيق الأفق الإصلاحي لقيادة الثورة البوليفارية وبرنامجها القائم على المرحلتين، أي نفس البرنامج الذي يتبناه الرفاق كذلك.

كان السوق في فنزويلا مليئا بالخطط والوصفات والبرامج من كل نوع، وحرص الستالينيون على تقديم النصائح لتشافيز وللطبقة العاملة بعدم "حرق المراحل"، مثلما نصحوا البرجوازية "بالتعقل" وعدم القيام بما يخرب الديمقراطية. لكن لا البرجوازية ولا العمال استمعوا إلى نصائح هؤلاء الطوباويين المثيرين للشفقة. فالبرجوازية واصلت تخريب الاقتصاد بإغلاق المعامل وخلق الفوضى في الشوارع والاغتيالات والتسبب في نقص المواد التموينية والامتناع عن الاستثمار والتآمر مع القوى الخارجية لإسقاط الحكومة البوليفارية. بينما قام العمال بالدفاع عن ثورتهم بما في ذلك الاستيلاء على المعامل المغلقة وتأميمها وتسييرها تحت الرقابة العمالية. لكن ضعف القوى الماركسية والبرنامج الإصلاحي لقيادة الحركة البوليفارية أدى إلى ضياع العديد من الفرص، ولننظر الآن إلى النتيجة...

د - ثورة عمالية أم "حرب الشعب الطويلة الأمد"؟

يكتسي الموقف من شكل العنف الثوري، الذي من المفترض أن يؤدي إلى انتصار الثورة، أهمية كبرى، ليس لأسباب تكتيكية محضة، بل لأسباب مبدئية جوهرية. لذلك ليس من قبيل الصدفة أن الماركسية منذ ظهورها كتبت بوضوح على رايتها: "تحرر العمال من صنع العمال أنفسهم". وليس من قبيل الصدفة كذلك أن الماركسية في روسيا ظهرت في النضال الحازم ضد الحركة الإرهابية وطرق النضال الاستبدالي.

والآن دعونا نرى ما موقف الرفاق في إلى الأمام من هذه المسألة الهامة. يقول الرفاق في كراس: "من أجل بناء خط ماركسي لينيني لحزب البروليتاريا المغربية":


«إننا نفهم من الخصائص المميزة للنموذج البلشفي في نهج العنف الجماهيري (الانتفاضة الشاملة) هو الاستيلاء: على السلطة بضربة واحدة، ومرة واحدة، بالاعتماد على قوى البروليتاريا وتحالف الفلاحين والجنود الثوريين، في ظروف الصراع الامبريالي الدائر، بهذا المعنى المحدد للنموذج البلشفي نقول إن هذا الأسلوب المحدد الذي نهجته الثورة في روسيا لا يستجيب لواقعنا الملموس». (التشديد من عندنا)

بما أن النموذج البلشفي، أي الماركسي الثوري، الذي نهجته الثورة في روسيا "لا يستجيب لواقعنا الملموس"، ما هو يا ترى الأسلوب الذي يستجيب لواقعنا الملموس، من وجهة نظر الرفاق؟

فلنتركهم يتحدثون بألسنتهم، يقول الرفاق في نفس الكراس:[44]


«[...] لقد أشرنا بوضوح إلى أن الطريق الثوري ببلدنا هو طريق العنف الثوري الجماهيري في شكل حرب التحرير الشعبية، إن هذا الاختيار السديد يفرضه التحليل السديد لواقعنا الوطني والظروف الدولية المحيطة به». (التشديد من عندنا)

ولمن لا يفهم ماذا تعني "حرب التحرير الشعبية" يشرحون له قائلين:


«أسلوب حرب التحرير الشعبية كأحد أساليب العنف الثوري الجماهيري، من حيث أنها حرب فلاحية بقيادة البروليتاريا وحزبها الطليعي، الفلاحون هم قواها الرئيسية [...]» (نفسه)

كما يعودون في كراسهم: "الوضع الراهن والمهام العاجلة للحركة الماركسية اللينينية"، ليؤكدوا على نفس التكتيك قائلين:


«إن هذه الشروط تظهر بشكل قاطع صحة الحرب الشعبية، الطريق الوحيد للثورة في بلادنا، طريق بناء الطليعة البروليتارية، وبناء جبهة العمال والفلاحين الفقراء المعتمدة على نضال الفلاحين في الاستيلاء على الأرض وتصفية المعمرين الجدد، وتأسيس الكتائب الأولى من الجيش الأحمر في شكل القواعد الحمراء المتحركة لتجنب سرعة تدخل قوات العدو، وتوسيع وتعميق نضال الجماهير الشعبية في المدن، وصولا إلى بناء المناطق المحررة الأولى لجمهورية مجالس العمال والفلاحين، وتوسيع جبهة الكفاح في المنطقة إلى معركة التحرر الوطني في الصحراء الغربية وكفاح الشعب الموريتاني.»

ولمن أصابه الدوار من حجم التناقضات الهائلة الموجودة في تصور الرفاق حيث يستطيعون الجمع في فقرة واحدة بين التأكيد على ضرورة بناء حزب البروليتاريا الطليعي، وقيادة الطبقة العاملة للثورة وبين بناء "جيش الفلاحين" في البوادي، نقول له: لم تر شيئا بعد، واصل القراءة وسترى العجب.

يقول رفاقنا في نفس الكراس: «إن مبدأ الماركسية-اللينينية الأول هو أن الثورة من صنع الجماهير. إن الثورة هي ممارسة الجماهير المنتجة والمنظمة بطليعة البروليتاريا، الطبقة الثورية حتى النهاية، بتحالف مع جماهير الفلاحين الفقراء والمعدمين [...] هذه هي طريق الماركسيين اللينينيين الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يضعوه موضع تردد أو تحريف». (نفسه)

في عالم الرفاق (عالم العجائب) يحمل القول بأن "الثورة من صنع الجماهير" نفس المعنى للقول بأن "الثورة من صنع جيش التحرير الشعبي". كما يحمل القول بأن "الثورة هي ممارسة الجماهير المنتجة والمنظمة بطليعة البروليتاريا" نفس المعنى الذي يعنيه القول ببناء "القواعد الحمراء المتحركة في البوادي"، وأن القوى الرئيسية هي الفلاحون!!

إن الماركسية إذ تؤكد على أن تحرر العمال إما أن يكون من صنع العمال أنفسهم أو أنه لن يكون هناك أي تحرر، لا تقوم بذلك انطلاقا من دوافع أخلاقية مثالية، بل لأن الثورة الاشتراكية وبناء الدولة العمالية لا يمكن أن يكون من فعل مخلصين يحررون الشعب عوضا عنه.

الاشتراكية، على عكس الرأسمالية، لا يمكنها أن تنبعث بشكل عفوي، إنها تفترض درجة عالية من مشاركة الجماهير في التسيير والتخطيط. الاشتراكية، على حد تعبير تروتسكي، إما أن تكون ديمقراطية أو لا تكون.[45]

ولكي يتحقق ذلك لا بد أن تأتي نتيجة مبادرة حرة واعية من طرف الطبقة العاملة نفسها، بعد أن تكون قد مرت من محطات ومعارك راكمت خلالها الدروس والخبرات والثقة في نفسها وتنظيماتها واختبرت قادتها وأحزابها.

لا يحصل هذا بواسطة النضال الاستبدالي، الذي تخوضه أقلية من المخلصين المنظمين في جيش أو عصابة مغاوير أو ما شابه، بل فقط من خلال الأسلوب الذي تدافع عنه الماركسية، أي النضال الواقعي اليومي الذي تخوضه الطبقة العاملة بقيادة حزبها (أحزابها) العمالي.

أما بواسطة النضال الاستبدالي فلن نحصل إلا على طبقة عاملة سلبية اتكالية وقفت موقف المتفرج، أو المساند الهامشي لمخلصيها، ولا يمكن الوصول، في حالة النصر، إلا إلى إقامة أنظمة بونابارتية بروليتارية من شاكلة نظام ماو تسي تونغ في الصين أو كاسترو في كوبا، الخ. أما في حالة الهزيمة، فلن يؤدي ذلك إلا إلى تعميق الوهم بقوة النظام الذي لا يقهر ويزيد في تخريب الوعي الجماهيري.

إن قامت فئة من المثقفين أو "جيش التحرير" أو فرقة المغاوير، أو أي تنويعة مشابهة، بمهمة إسقاط الدولة البرجوازية دون مبادرة ذاتية وواعية من الطبقة العاملة وبقيادتها، فلن تكون هناك ديمقراطية عمالية ولا مجالس ولا رقابة عمالية. من حكم الصين وفيتنام وكوبا بعد نجاح ثوراتها؟ هل العمال عبر مجالسهم المنتخبة ديمقراطيا؟ كلا! لقد حكمها نفس هؤلاء الذين "حرروها"، وذلك كان نتيجة حتمية، بغض النظر عن النوايا الحسنة لهؤلاء "المحررين".

إن الفرق بين الأسلوب البلشفي، أي الماركسي، لحسم السلطة من طرف الطبقة العاملة، وبين الأسلوب الستاليني الماوي في تجربة الصين ومختلف تجارب حروب العصابات، ليس فرقا بين تكتيكين من داخل نفس النظرية، بل هو فرق بين تصورين متناقضين من حيث المنطلقات والأهداف: تصور يقوم على أن تحرر العمال من صنع العمال أنفسهم، وآخر يقوم على تحرير يأتي من خارج الطبقة العاملة بالاعتماد على الإرهاب الفردي والنضال الاستبدالي وجيش الفلاحين.

أما عن المكان الرئيسي للمعركة بين معسكر الثورة ومعسكر الثورة المضادة، فبينما الماركسية تؤكد على المدن، حيث الطبقة العاملة وحيث المصانع والمفاتيح الرئيسية للقرار الاقتصادي والسياسي، يميل الماويون إلى التركيز على البوادي.

يقول الرفاق في نفس الوثيقة: «إن الانطلاقة الحاسمة تكمن في البادية، ومن الفلاحين بالذات ومن الثورة الزراعية، وسيحتم على الطليعة الماركسية اللينينية - كما أبرزنا سابقا- في مرحلة لاحقة أن تنتقل من مرحلة توزع قواها بين مراكز البروليتاريا ومناطق الصدام إلى تمركز قواها الرئيسية في مناطق الصدام والفلاحين».

يعني أنه على الماركسيين مغادرة المدن والأحياء العمالية والمصانع والنقابات لكي يذهبوا إلى البوادي، حيث يمركزون قواهم الرئيسية في "مناطق الصدام والفلاحين". هل هذه هي الماركسية؟ كلا بالتأكيد!

لكن الرفاق في إلى الأمام على الأقل كانوا يتحدثون في مغرب كان حوالي 70% من سكانه في البوادي[46]، أما أتباعهم في وقتنا الحالي فلا مبرر لهم، حيث لم يعد يسكن البوادي سوى أقل من 40% من السكان، بينما يمثل سكان المدن، والطبقة العاملة بمختلف شرائحها، أغلبية البلد. ورغم ذلك ما زالوا يتغنون بالبادية وجيش الفلاحين، وما إلى ذلك من الترهات.

هل هذه هي الأفكار التي يتأسف الرفيق الحبيب التيتي لأننا لم نتعلمها؟ هل هذه هي النظرية التي يتأسف الرفيق التيتي علينا لأننا لم ندرسها ولم نتشبع بها كما ينبغي؟

نقول للرفيق التيتي شكرا لك أيها الرفيق، إننا نتبنى النظرية الماركسية، وهذه النظرية تقول إنه لن يحرر العمال إلا العمال أنفسهم. وهذا يعني أن دورنا ليس تنظيم جيش للفلاحين في البوادي وقواعد حمراء متحركة، وخوض حرب طويلة الأمد (لماذا يا ترى لا تكون قصيرة الأمد؟)، بل مهمتنا الانغراس في الطبقة العاملة وكسب أفضل عناصرها إلى صفوفنا لبناء الحزب الماركسي الثوري وتنظيم نضالها اليومي وتخصيبه بالوعي الاشتراكي والبرنامج الثوري، لكي تقوم بالمهام التاريخية الملقاة على عاتقها.

إننا نتبنى النظرية الماركسية، وهذه النظرية تقول إن الثورة لكي تنتصر لا بد أن تكون بقيادة الطبقة العاملة التي تقود ورائها الفلاحين الفقراء وفقراء المدن. فالطبقة العاملة هي الوحيدة التي يجعلها موقعها الموضوعي في المجتمع قادرةعلى القيام بذلك حتى النهاية. وأن إنجاز المهام الديمقراطية العالقة للثورة رهينة بحسم الطبقة العاملة للسلطة وتأميمها لوسائل الإنتاج وتسييرها للاقتصاد والمجتمع بطريقة ديمقراطية عبر المجالس العمالية.

إننا نتبنى النظرية الماركسية، وهذه النظرية تقول إن الثورة الاشتراكية سيرورة أممية بالضرورة، حيث يمكن أن تنتصر الثورة في البداية في بلد واحد أو عدة بلدان، أي يمكن للطبقة العاملة في بلد ما أن تسقط بورجوازيتها القطرية عندما تتوفر الظروف لذلك، لكن بناء المجتمع الاشتراكي مستحيل في بلد واحد، الاشتراكية مشروع أممي، وهذا ما يجعل هويتنا الأممية ملموسة وأساسية وليست مجرد شعار أو علاقات مجردة مع هذا التنظيم أو ذاك في هذا البلد أو ذاك.

ولذلك فإننا نرفض أن نتغذى على ذلك الحساء الهزيل الذي يقدمه لنا الرفيق والحملم، فمثل تلك النظريات لا يمكنها سوى التسبب في المزيد من الأخطاء والهزائم، مثلما سبق لها أن تسببت في الماضي في ذلك، في المغرب وغيره، ونقول لكم إنه سيكون من الغباء أن تستمروا حتى أنتم في نفس النهج مع انتظار نتائج مختلفة.

هوامش:


[1] عندما كان الستالينيون يريدون التحالف مع البرجوازية في بعض البلدان، كان يكفيهم أن يطلقوا عليها اسم وطنية أو تقدمية ، الخ. كما كان في إمكانهم أن يبرروا ذبح الشيوعيين والعمال، بمجرد أن يطلقوا عليهم اسم خونة أو مخربين أو تحريفيين ، وما إلى ذلك. هذا ما قام به ستالين ونفس الشيء قام به ماو تسي تونغ حتى مع بعض الإقطاعيين حين أطلق عليهم اسم مستنيرين ، وفي كلتا الحالتين لم يكن من الضروري أن ينطبق المفهوم على الواقع.

[2] ماركس وإنجلز: البيان الشيوعي، ترجمة العفيف الأخضر، منشورات الجمل. طـ 1، 2015. ص، ص: 51- 52.

[3] نفسه : ص: 63

[4] نفسه. ص: 64

[5] نفسه. ص، ص: 65- 66

[6] نفسه. ص: 66

[7] النهج الديمقراطي: وثائق المؤنمر الوطني الثالث. 2012. مطبعة كوتر برنت- الرباط. ص: 06.

[8] إلى الأمام: "سقطت الأقنعة، فلنفتح الطريق الثوري"

[9] Ted Grant : Rusia de la revolución a la contrarrevolución. P :185

[10] نقلا عن كتاب آلان وودز وتيد غرانت: لينين وتروتسكي، ما هي مواقفهما الحقيقية. ترجمة هيئة تحرير موقع ماركسي (www.marxy.com) ط 1. 2013. ص: 126.

[11] Ted Grant : Rusia de la revolución a la contrarrevolución. P :185

[12] لينين: الأعمال الكاملة بالانجليزية، المجلد 36، ص، 567. نقلا عن آلان وودز وتيد غرانت: لينين وتروتسكي، ما هي مواقفهما الحقيقية .ص، 110.

[13] ورد في لينين وتروتسكي، نفسه، ص، 111.

[14] ورد في لينين وتروتسكي، نفسه، ص، 113.

[15] لينين: ورد في لينين وتروتسكي، نفسه، ص، 113.

[16] لينين: الأعمال الكاملة بالانجليزية، المجلد 33، ص، 490. نقلا عن آلان وودز وتيد غرانت: لينين وتروتسكي، ما هي مواقفهما الحقيقية .ص، 114.

[17] نفسه، ص، 114.

[18] آلان وودز وتيد غرانت: لينين وتروتسكي، ما هي مواقفهما الحقيقية. ص: 109.

[19] يضيق المجال هنا عن ذكر جميع الأسباب انظ على سبيل المثال: آلان وودز وتيد غرانت: لينين وتروتسكي، ما هي مواقفهما الحقيقية.

[20] نفسه: ص، 110.

[21] نفسه: ص، 111.

[22] Pierre Broué : Trotsky. P : 867.

[23] ضابط سابق في الجيش القيصري، مهاجر أبيض بعد الثورة وعميل لجهاز المخابرات الذي اسسه ستالين لتعقب واغتيال قادة المعارضة اليسارية في الخارج.

[24] تيركول أنتون (1892- 1957) جنرال في الجيش الأبيض، صار عميلا لمخابرات ستالين ونفذ العديد من العمليات ضد المعارضة اليسارية وتروتسكي.

[25] ن. ف. سكوبلين (1885- 1938) جنرال في الجيش الأبيض أثناء الحرب الأهلية، ثم صار عميلا للغيبيو قبل أ "يختفي" بدوره في ظروف غامضة.

[26] Pierre Broué , Op cit. p : 868.

[27] Pierre Broué , Op cit. p 826.

[28] Ted Grant : Rusia de la revolución a la contrarrevolución. P :167.

[29] Rusia de la revolución a la contrarrevolución. P :169

[30] تروتسكي، نقلا عن كتاب تيد غرانت: Rusia de la revolución a la contrarrevolución. P :164

[31] Pierre Broué , Op cit. p 173.

[32] الحركة الماركسية اللينينية المغربية

[33] "سقطت الأقنعة، فلنفتح الطريق الثوري"

[34] (الأعمال الكاملة –بالانجليزية- المجلد 09، ص: 98؛ نقلا عن كتاب: لينين وتروتسكي ما هي مواقفهما الحقيقية، ص: 69)

[35] كما أثبتت بما لا يدع مجالا للشك صحة توقع تروتسكي حول مسألة ديمومة الثورة.

[36] تنقسم بدورها إلى فئات متعددة، فئات عليا أقرب من حيث وضعها الاجتماعي وطريقة عيشها وتفكيرها من البرجوازية، وفئات دنيا أقرب إلى البروليتاريا، أو ربما تعيش ظروفا أسوء من البروليتاريا.

[37] Ted Grant: Rusia de la revolución a la contrarrevolución, un análisis marxista ; p: 197.

[38] إنجلز فريدريك: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. دار التقدم. ص: 407.

[39] إنجلز: نفسه. ص: 409. خط التشديد في الأصل.

[40] إنجلز: نفسه. ص: 409- 410.

[41] ماركس، استشهاد ساقه العفيف الأخضر، في ترجمته للبيان الشيوعي، منشورات الجمل، طبعة 2015. هامش 25، ص: 68- 69.

[42] Ted Grant: Rusia de la revolución a la contrarrevolución, un análisis marxista p: 198.

[43] Ibid., p: 199.

[44] "من أجل بناء خط ماركسي لينيني لحزب البروليتاريا المغربية"

[45] Alan Woods: Reformismo o Revolucion – Marxismo y Socialismo del siglo XXI, Respuesta a Heinz Dieterich-. P: 104.

[46] رغم أن ذلك لا يشفع لهم في شيء، لأن روسيا بدورها كانت أغلبية سكانها، خلال بداية القرن العشرين، من الفلاحين ورغم ذلك أكد الماركسيون على أن الطبقة العاملة والمدن هي حقل اشتغالهم.