الماركسية: هل يمكن تجاوزها؟ (الجزء الأول)

مصطفى عمران
2016 / 11 / 5 - 10:29     

لا تنقضي الأحاديث اليومية في مصر هذه الأيام دون أن تتطرق للسياسة والاقتصاد؛ سواء كانت هذه الأحاديث عن الغلاء وتناقص الأجور أو عن عجرفة الشرطة والقمع أو عن مدى نجاح السيسي وفرصة بقاء نظامه. ولمَ لا ومصر تشهد تباينًا طبقيًا غير مسبوق وقمعًا وإجرامًا من جانب نظام السيسي الذي لم يقدم لهذا الشعب سوى الفقر والموت في كل صورة ممكنة؟

لكن أكثر ما يُلاحظ في هذه الأحاديث اليومية هو أنها تأتي مفتقدة للرؤية السياسية بقدر ما تكون محملة بالسخط على الدولة. وبمعنى آخر فإن التجريف السياسي والإفقار الفكري الممنهجين اللذين مارستهما الأنظمة الحاكمة المصرية المتتابعة على شعبها طوال العقود الماضية والمتبوعين بثورة عظيمة في 2011 التف عليها الانتهازيون والثورة المضادة؛ قد ترك ذلك كله أثره على المواطن البسيط الذي يعاني ويلات عهد الديكتاتور الرديء لكن يحتاج لبلورة هذه المعاناة وهذا الغضب في رؤية سياسية تمكنه من النضال لتحسين ظروفه، وهذا هو ما يحاول هذا المقال مناقشته وإثباته؛ وهو الماركسية كنظرية للتحليل السياسي والاقتصادي ورؤية المجتمع، كدليل عمل للنضال من أجل تغيير المجتمع.

إن مقالة، بل وكتابًا، لا تتسع للحديث عن الماركسية، لكن للتحديد والاختصار قدر الممكن سيذكر هذا المقال قليلًا عن موضوعات رئيسية ثلاثة تمثل منابع رئيسية للماركسية، وهي على الترتيب: المادية الجدلية (الجزء الأول)، والمادية التاريخية (في الجزء الثاني)، ونقد الاقتصاد السياسي (في الجزء الثالث). ولنرَ مدى ارتباط وصلاحية كل من الموضوعات الثلاثة لمصر في عام 2016 لنجيب عن السؤال عنوان المقال “هل يمكن تجاوز الماركسية؟”.

المادية الجدلية
سبق وذكرت أن مقالة واحدة لا تتسع لإيضاح الماركسية بشكل وافٍ، والأمر نفسه بالنسبة للمادية الجدلية. لكن حتى يحقق هذا المقال هدفه ينبغي لنا أن نفكك مصطلح (المادية الجدلية) وأن نتحدث عن المادية وعن الجدل لنحاول فهم إسهام كارل ماركس الفلسفي بشكل عام.

إن ماركس بالطبع فيلسوف مادي؛ أي أنه ينطلق مما انطلق منه الفلاسفة الماديون قبله من مقدمات خمسة لخصها الاشتراكي الثوري البريطاني جون مولينو في كتابه “المهمة هي تغييره – The point is to change it” كالتالي: أولًا أن العالم المادي موجود، ثانيًا أن هذا العالم المادي موجود بشكل مستقل عن الوعي البشري، ثالثًا أن المعرفة الإجمالية بهذا العالم المادي هي أمر ممكن، رابعًا أن الإنسان هو جزء من الطبيعة ولو كان جزءًا مميزًا، خامسًا أن الواقع المادي لا يُشتق من الفكر الإنسان وإنما فكر الإنسان يُشتق من الواقع المادي. ويعلق مولينو أن المقدمات الثلاثة الأولى هي مسائل ثابتة بالتجربة وأن شخصا ما لا يمكنه أن يعد لنفسه وجبة طعام خارج إطار هذه المقدمات الثلاثة. أما عن المقدمة الرابعة فإن الكشوفات ونظريات العلم الحديث تثبت أن الإنسان جزء من الطبيعة. أما المقدمة الخامسة فهي ما تحتاج لمزيد من التفصيل.

قديمًا كان يُنظر لحركة التاريخ على أنها انعكاسٌ لأفكار القادة “العظماء”؛ أي أن أفكار هؤلاء هي المحرك الرئيسي للتاريخ، وحتى الآن يتم ذلك. فبينما يفكر الكثيرون على أساس مادي على أرضية المقدمات الأربعة الأوائل سواء بقصد أو دون قصد، فإن التوجه نحو المثالية يبدأ حين يتطرق الحوار إلى الحديث عن المجتمع والتاريخ والسياسة، ولنضرب مثالًا يوضح ذلك.

يسهل النقاش حول ويلات الحروب وآثار الإمبريالية المدمرة؛ لكن عند تفسير صعود الإمبريالية وفرض السيطرة على العالم من جانب القوى العظمى ينقسم المحللون إلى جانبين: جانب يرى أن القوة الدافعة لذلك هي العقلية العنصرية المتمركزة حول تميز الفرد الغربي، بينما على الجانب الآخر يقف الماديون ومعهم ماركس ليخبرونا أن القوة الدافعة للإمبريالية هي التنافسية الرأسمالية حول الأرباح وتراكمها وبالتالي تنافسها حول المواد الخام ومصادر الطاقة، وأن العنصرية والتمركز حول ما هو غربي إنما هو انعكاس إديولوجي وتبرير لتلك التنافسية. وهذا يمكن ملاحظته في كثير من الحالات مثل احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان وتدخل الناتو في ليبيا وسوريا والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

إذن هذا باختصار هو المقصود من أن الواقع المادي لا يُشتق من فكر الإنسان بل إن فكر الإنسان يُشتق من الواقع المادي. لكن ذلك ليس كل شيء في مادية ماركس الذي لو توقف عند ذلك ما كان ليثير كل النقاش والانتباه حتى وقتنا هذا.

يقول ماركس في الأطروحة الأولى من “أطروحات حول فيورباخ” والتي ينتقد فيها مادية الفيلسوف الألماني لودفيج فيورباخ الميكانيكية ما يلي: “الخطأ الأساسي لكل نزعة مادية سابقة هو أن الواقع والعالم المادي يُنظر إليهما فقط على شكل موضوع للتأمل وليس كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل”. بمعنى آخر فإن ماركس يؤكد على أن ما سبقه من فلسفات مادية تجعل الإنسان يقف من الواقع موقف المشاهد لا المشارك وهذا ما ترفضه الماركسية ويعلق عليه جون مولينو في كتابه “ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟” كالتالي: “إذن فالفعل مستحيل على هذا الأساس؛ وبالتالي فإن المادية الميكانيكية تحوي فقرة استثنائية لنفسها تعيد بشكل ما دخول المثالية من باب خلفي في هيئة معرفة أو إرادة نخبوية”. وكذلك إذن تقطع الماركسية مع المادية الميكانيكية وترفض إغفال النشاط البشري ومعاملة البشر على كونهم سلبيين ومجرد نتاج للظروف المادية. وهذا أهم ما يجب إيضاحه بخصوص مادية ماركس واختلافها مع غيرها من الاتجاهات الفلسفية المادية.

ومثلما اختلفت مادية ماركس مع سابقاتها من الماديات؛ يختلف أيضًا ماركس عن سابقه بخصوص الجدل؛ والمقصود بسابقه هنا هو جورج هيجل الفيلسوف المثالي الألماني.

لا يمكن الحديث عن الجدل وماركس دون الحديث عن هيجل. ويقول هيجل:”يقع التناقض في أصل كل حركة وحياة، فكل ما ينبض يحمل تناقضًا وتغيرًا”. أي أن كل شيء يتغير ويتطور ويتبدل، حتى وإن أظهرت الأشياء سكونا؛ فإن هذه اللحظة الظاهرة ما هي إلا لحظة محددة من عملية تغيير أطول تكون فيها القوى المتناقضة في حالة اتزان.

حتى يتضح مفهوم الجدل أكثر؛ نقارنه بالمنهج الذي اتبعه كل مهتم وباحث في المعرفة العلمية قبل هيجل وهو أسلوب التصنيف والطريقة التجريبية، والتي تميل إلى تفكيك الأشياء إلى أجزائها الأساسية وتصنيفها حسب خواصها الذاتية ومن ثم النظر إلى التفاعلات بين الأشياء كتفاعل بين كيانات منفصلة بشكل خارجي ليس له علاقة بالكل الذي يجمع تلك المتفاعلات مع بعضها.

يختلف هيجل مع المنهج التجريبي والتصنيف لإغفالهما التغيير والتناقض الكامنين في الأشياء نفسها والموجودين في الكل الذي يربط تلك الأشياء ببعضها، وبالتالي فإن المنهج الجدلي يهدف للوصول لأبعد مما وصل إليه المنهج التقليدي ليبحث الجدل في التغيير ويخلله ومن ثم يقوم بتحليل النظم الاجتماعية باعتبار المجتمع كلًا واحدًا متطورا يتكون من أفراد في حالة تغير مستمرة وجوهرية؛ أي أن التغيير يقع في جوهر الأشياء وليس فعلًا خارجيًا. ويتضمن المنهج الجدلي ثلاثة مبادئ رئيسية نحاول عرضها بشكل مختصر في الفقرة التالية.

إن أول مبادئ الجدل هو التحول الكمي إلى كيفي؛ ويعني أنه في كل عملية هناك تراكم تدريجي للتغيرات (تغيرات الأجزاء) وأنه عند نقطة ما من هذا التراكم تتحول طبيعة الكل إلى حالة جديدة معدلة، وأشهر الأمثلة على ذلك هو تسخين الماء الذي تكتسب أجزاؤه (ذرات الماء) طاقة بالتسخين حتى يصل هذا التراكم في اكتساب الطاقة إلى 100 درجة مئوية وعندها يتحول الماء (وهو الكل في هذه العملية) إلى حالة بخارية (جديدة ومعدلة عن الحالة السائلة).

أما المبدأ الثاني من مبادئ الجدل فهو وحدة الأضداد والمقصود به هو عدم تجانس الكل الواحد وأن كل شيء يحوي بداخله أضداده (قواه المتناقضة)، فالذرة تحوي شحنات موجبة وسالبة والجبل بين نحر وترسيب والنظام العالمي نفسه بين قوى متصارعة طوال الوقت.

أما ثالث هذه المبادئ فهو سلب السلب، والسلب هو التغيير، والمراد به ببساطة هو الآتي: عندما تتغير حالة ما؛ فإن قوى التغيير نفسها تتغير وناتج ذلك التغيير يتضمن أمرين: الأول هو بعض من عناصر من الحالة السابقة، والثاني هو حالة جديدة تختلف عن سابقاتها. ومثالٌ على ذلك هو التحول من الرأسمالية للاشتراكية؛ فالحالة التي تغيرت هي الرأسمالية كنظام مجتمعي وهذا النظام المجتمعي يحوي قوتين متصارعتين وهما البرجوازية والبروليتاريا. والقوة المغيرة في هذه الحالة هي البروليتاريا. إذن فالبروليتاريا هي سلب الرأسمالية، والحالة الجديدة هي مجتمع جديد يحمل بعضًا من أفكار المجتمع الرأسمالي السابق له (عناصر من الحالة السابقة) وتكون البروليتاريا فيه طبقة حاكمة تؤسس لمجتمع لا طبقي وهنا البروليتاريا تتوقف عن كونها طبقة؛ أي أن البروليتاريا (سلب الرأسمالية) قد تغيرت هي الأخرى وهذا هو سلب السلب.

إذن فالمنهج الجدلي الجدلي يمثل قفزة لما طُرح سابقًا. وقد سعى هيجل إلى تفسير التناقضات كجزء من كل شامل وعاقل (وهو ما أسماه هيجل بالفكرة المطلقة) أي أن هيجل يرى أن الأفكار هي محرك التاريخ ولذلك ظل محدودًا بمثاليته في عالم الأفكار، وقد انعكس ذلك في رؤيته للدولة البرجوازية كحل للتناقض المجتمعي لما تمثله من ممارسة بشرية للفكرة المطلقة التي تحل التناقض عنده. وهنا يمكننا إيضاح كيف اختلف ماركس مع هيجل.

اتفق ماركس بالفعل مع هيجل في النظر للمجتمع ككل متطور دائمًا وأن التغيير الدائم هو سمة جوهرية وليس التغيير فعلًا خارجيًا. لكن اختلف مع هيجل في أن الصراعات والتناقضات تتم فقط على مستوى الأفكار، فقد رأى ماركس أن هذه التناقضات متجذرة في العالم المادي ويمكن للنشاط البشري (والذي يشمل أيضًا الأفكار) أن يتفاعل ليحوّل الظرف المادي. بمعنى آخر؛ فقد قدم ماركس أساسا ماديا للجدل انطلاقا من حاجة البشر للمأكل والملبس والمأوى قبل الفلسفة والسياسة والفن.

اختلف ماركس إذن مع المادية الميكانيكية في سلبيتها التي لا مكان فيها لفعل الإنسان (الذي يشمل الأفكار)، واختلف مع هيجل في إغفاله للأساس المادي المتناقض وحصر للتناقض في مجال الأفكار؛ لترتكز المادية الجدلية في منهجها على ركيزتي الظرف الموضوعي (الواقع الذي يعيشه الناس) والعنصر الذاتي (وهو النشاط البشري بما يحويه من أفكار) وأن هم المادية الجدلية هو البحث الدائم عن إمكانية التغيير؛ باختصار المادية الجدلية هي فلسفة فعل الإنسان.

حتى نجمل كل ما سبق حول المادية الجدلية؛ يمكننا استعادة رسالة رفيق كارل ماركس، فريدريك إنجلز، معلقًا على المادية الجدلية ونافيًا أنها تختزل النظرة للتاريخ والمجتمع في العنصر المادي وحده، وقد جاء في هذه الرسالة: “إن العنصر المحدد نهائيًا في التاريخ هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الحقيقية، وما عدا ذلك هو ما لم يؤكده ماركس ولا أؤكده أنا. وبالتالي إذا حرَّف أحدهم هذا الذي ذكرته ليقول أن العنصر الاقتصادي فقط هو المحدد؛ فإنه يحوِّل ما نصصنا عليه إلى عبارة مجردة لا معنى لها. نعم، إن الظرف الاقتصادي هو الأساس لكن العناصر المختلفة للبنى الفوقية (من صيغ سياسية للنضال الطبقي ودساتير وقوانين وانعكاسات النضالات في أذهان من شاركوا فيها فلسفيًا ودينيًا وسياسيًا) تمارس أيضًا هذه البنى الفوقية تأثيرها ضمن سياق النضالات التاريخية وتهيمن في كثير من الحالات في تحديد صيغ هذه النضالات”. انتهت كلمات إنجلز ولنضع هذا الاقتباس نصب أعيننا أثناء انتقالنا للفقرات التالية.

لماذا إذن نهتم بالمادية الجدلية؟ وهل يحتاج النضال في مصر من أجل مجتمع أفضل لكل هذا العناء الفلسفي؟ لنبحث هذه الأسئلة ونحاول التلامس مع الواقع المصري لنرى إلى أي مدى تصلح الماركسية لمصر عام 2016.

إن مجتمعًا كالمجتمع المصري تسوده الرأسمالية ويحكمه السعي نحو تعظيم الأرباح وما يتبع ذلك من استغلال؛ لابد له وأن ينقسم إلى طبقتين رئيسيتين: البرجوازية التي تحكم وتستغل الجماهير في منافسة رأسمالية، والطبقة العاملة المستغَلة التي تنتج ما لا تستطيع الحصول عليه وتختبر الممارسات القمعية بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة حتى تظل أسيرة البرجوازية وتبقى مضطرة لبيع قوة عملها صبيحة كل يوم بأبخس الأثمان، وإلى جانب هاتين الطبقتين الرئيسيتين توجد طبقات أخرى (الطبقة الوسطى بشرائحها مثلا).

إن أول ما ينبغي الإشارة له في نموذج مجتمعنا المصري (شأنه شأن المجتمع الرأسمالي بصفة عامة) هو التناقض بين الطبقتين الرئيسيتين والذي لا تسلم منه باقي الطبقات التي تحيا بين صعود وهبوط في كل لحظة داخل هذا المجتمع، وهذا التناقض في المصالح بين مستغِل ومستغَل وفي الأداء بين طبقة حاكمة تملك وطبقة عاملة محكومة لا تملك وسائل الإنتاج، وأن هذا التناقض تبدأ جذوره من السوق (الأساس المادي أو الظرف الاقتصادي حسب تعبير إنجلز)؛ فالسوق هو أمر مركزي بالنسبة لمجتمعنا إذ نسعى إليه لسد احتياجاتنا مما أنتجته الطبقة العاملة مقابل نقود نحصل عليها نتيجة بيع قوة عملنا مقابل أجر.

الأمر الثاني هو نظرة الماركسية للمجتمع ككل يتكون من طبقات غير متجانسة ثم النظر للطبقة البرجوازية ككل يتفق في المصالح ويتنافس في الأرباح (سواء رفعت شعارات المدنية أو العسكرية أو القومية أو حتى رفعت جميعها)، وفي الوقت نفسه النظر للطبقة العاملة طبقة واحدة تمتد عبر القطاعات المختلفة وتعمل على إنتاج مختلف السلع والخدمات.

ومثلما أشار إنجلز فإن الأمر لا يتوقف عند هذا التناقض بين متقابلين في مجتمعٍ واحد؛ لكن السياق التاريخي لتكوين هذا المجتمع وما يحمله من أفكار وقوانين وتصورات فلسفية ودينية يلقي بآثاره على حركة وتطور المجتمع فيسبب تنافرًا يصل للمواجهة والقتال في الشوارع تارةً أو يسبب تجاذبًا مشروطًا وموقوتًا قد يقنع أحد المتقابلين بأن الصراع انتهى في بعض الأحيان.

قبل يناير 2011 بأعوام بدأت وتيرة الإضرابات العمالية والتظاهرات السياسية في التصاعد تحت وطأة الصراع بين الطبقتين الرئيسيتين إلى أن وصلنا في يناير 2011 إلى درجة من احتدام الصراع دفعت بالملايين من أبناء الطبقة العاملة والطبقة الوسطى المتذبذبة غالبا إلى الشوارع للمطالبة بسقوط النظام، ثم أثبتت الأعوام التالية للعام 2011 صحة عبارة إنجلز، حيث لعبت البنى الفوقية دورها في نجاح جماعة الإخوان ثم الالتفاف على الثورة لتطفو الأزمة الاقتصادية من جديد (أو لنقل لتستمر الأزمة في التعمق) ليعيد النظام القديم ترتيب صفوفه والعودة بشكل تام تحت دعاوي الوطنية وإنقاذ الشعب (وهي من عناصر البنى الفوقية المصرية). واليوم وتحت الظروف الاقتصادية والحكم السياسي الفاشل؛ تُفتح آفاق جديدة لرفض أفكار قديمة واستقبال أفكار جديدة تنتج جميعها من واقع النضالات الجماهيرية اليومية المتفرقة.

يقودنا ما سبق إلى الحديث عن اتخاذ الماركسية للطبقة العاملة كنقطة انطلاق. وذلك ليس لتعاطف الماركسيين وحده مع العمال، وإن كان هذا صحيحًا، لكن أيضًا لأن الماركسية ترى أن الإنسان يحتاج لأن يأكل ويلبس ويأوي قبل أن يمارس السياسة والفلسفة والفن؛ وفي نظام رأسمالي يتمركز حول السوق فإن الطبقة العاملة هي بالفعل المنتج الحقيقي والوحيد للثروة وهي أيضًا الطبقة الوحيدة التي لديها أولا قدرة على تمثيل نفسها سياسيًا طالما أن العمال منتظمون فعليًا في أماكن عملهم (بعكس الفلاحين الذين برغم عيشتهم في ظروف مشابهة للعمال لكن دون علاقات متشعبة بين بعضهم البعض)، وثانيًا فإن انتصار الطبقة العاملة يُنتج شكلا جديدا للمجتمع لا طبقات فيه ولا استغلال وهذا لا يتوفر إلا في الطبقة العاملة وحدها التي تنتج بشكل جماعي ما تحتاجه (إذا ما سيطرت على وسائل الإنتاج).

يقودنا الحديث عن انتصار الطبقة العاملة ونجاحها في امتلاك وسائل الإنتاج، وبمعنى آخر الاستيلاء على الحكم ومن ثم إلغاء الطبقات، إلى الحديث عن أهمية الحزب الثوري. ونشير هنا إلى الحزب الثوري، في سياق الحديث عن المادية الجدلية، كأداة تمثل عنصرًا ذاتيًا جامعًا للطبقة العاملة. فالحزب هو بمثابة النشاط البشري المعبر عن مصلحة الطبقة ككل والذي يؤثر في الظرف الموضوعي ويسعى لتغييره. وبشكل أبسط في مصر لابد وأن تجتمع جهود العمال المناضلين في أماكن أعمالهم المختلفة ليتحدوا معًا في مواجهة أصحاب الأعمال ليتحوَّل الصراع من معارك صغيرة متفرقة إلى صراع الطبقة العاملة كلها ضد الطبقة البرجوازية كلها.

يتبقى أمر أخير لنطرحه وهو الموقف من الإسلاميين. فقد دارت مناقشات وصلت لحد الهجوم على حركة الاشتراكيين الثوريين بشأن بيانها وتحليل موقفها من الإسلاميين في فترة تصاعد وانتصار الثورة المضادة. ولا يسعى هذا المقال إلى إعادة فتح النقاش، وإن كان مطلوبًا، وإنما يسعى للفت الانتباه إلى تناول الإسلاميين وتحليلهم.

باختصار كنا قد تحدثنا عن مبادئ الجدل؛ وقد نسى الماركسيون الذي كالوا الاتهامات أن الإسلاميين هم جزءٌ من مجتمع متناقض وأن هذا الجزء يحمل في جوهره التغيير والتطور والتبدل وأن أزمة كتلك التي مرت بها البلاد عمومًا، والإسلاميين خصوصًا منذ عام 2013، تمثل أساسًا ماديًا لتناقض تنطبق عليه مبادئ الجدل المذكورة سابقًا والتي تحمل إمكانيات للتغيير داخل صفوف الإسلاميين بين الانشقاق أو المزيد من الرجعية أو تغيير الموقف السابق من الدولة أو غير ذلك من احتمالات لا يغفلها أي طامح للتغيير. لكن للأسف لجأ البعض إلى معادلات خطية لحل مشكلة مليئة بالتعقيدات أو لعلهم استساغوا الحل الأسهل غير عابئين بالعواقب.

تابعونا في الجزء الثاني من المقال نناقش المادية التاريخية.