جدل الحريّة و الضرورة - 5


علي عامر
2016 / 10 / 13 - 12:58     

{القفزة الحيوّية في الفلسفة}

يقول انجلس في كتابه "ضد دوهرنغ" :" إنّ هيجل أوّل من تفهّم بشكل صحيح العلاقة بين الحريّة والضرورة . فالحريّة بنظره هي معرفة الضرورة . "إنّ الضرورة عمياء مادامت غير مفهومة" . فليس في الإستقلال الموهوم عن قوانين الطبيعة تتجسّد الحريّة, بل في معرفة هذه القوانين وفي الإمكانيّة المرتكزة على هذه المعرفة لإجبار قوانين الطبيعة بصورة منهاجية على أنْ تفعل فعلها من أجل أهداف معيّنة. وهذا ينطبق سواء على قوانين الطبيعة الخارجيّة , أم على القوانين التي توجّه الوجود الجسدي والروحي للإنسان نفسه , وهاتان فئتان من القوانين نستطيع أن نفصل إحداهما عن الأخرى في تصوّرنا فقط , ولا نستيطع فصلهما في الواقع أبداً.
وبالتالي لا تعني حريّة الإرادة سوى القدرة على اتخاذ القرارات عن معرفة بالأمر (يقصد قرارات واعية) . وهكذا , كلما كانت محاكمة الانسان بصدد مسألة ما أوفر حريّة , كلما تقرر مضمون هذه المحاكمة بقدر أوفر من الضرورة... إنّ الحريّة تتجسّد في السيادة على أنفسنا بالذات وعلى الطبيعة الخارجية , هذه السيادة المرتكزة على معرفة ضرورات الطبيعة ".

كنت في سلسلة جدل الحريّة والضرورة المنشورة على الحوار المتمدن , قد عالجت في المقالات الأربع الماضية , حقيقة مفهوم الحريّة الماركسي , وعلاقتها بالواقع والضرورة , على ضوء فقرة انجلس أعلاه , كما عرضت لمقولة "الشيء في ذاته و الشيء من أجلنا" وأثبت نقد هيجل ثم انجلس لأفكار هيوم و كانط وكل أشكال اللاأدريّة والتشكيكيّة مرّة واحدة وللأبد , كما أوردت ملاحظات لينين على فقرة انجلس أعلاه , والتي عرضها بصدد فضحه لأخطاء الماخيين الفلسفيّة التي انعكست في أخطاء سياسية وانقسامات خطيرة.
هنا أعرض الملاحظة الأخيرة للينين على فقرة انجلس أعلاه والتي عنونها لينين نفسه ب(القفزة الحيويّة في الفلسفة).

{كل ما هو بين مزدوجين منقول حرفياً عن لينين}

"يطبق انجلس بكل وضوح في المحاكمة المذكورة , طريقة القفزة الحيويّة في الفلسفة أيْ أنّه يقوم بقفزة من النظرية إلى التطبيق" .
"في حين أنّه ما من بروفسور من أولئك البروفسرات العلماء (والحمقى) في الفلسفة الذين يسير أصحابنا الماخيّون وراءهم , يسمح لنفسه أبداً بمثل هذه القفزات" فهي تعتبر عيباً لممثلي العلم الخالص والبحت.
"فنظرية المعرفة هي بنظرهم شيء ... بينما التطبيق شيء آخر تماماً" , في إشارة إلى الفصل الميتافيزيقي الأجوف بين النظرية والتطبيق.
"أمّا عند انجلس , فإنّ التطبيق البشري الحي كلّه يقتحم نظرية المعرفة بالذات , مقدماً المعيار الموضوعي للحقيقة : فما دمنا لا نعرف قانون الطبيعة , فإنّ هذا القانون الموجود والذي يفعل فعله في معزل عن إدراكنا , خارج إدراكنا , يجعلنا عبيداً للضرورة العمياء (راجع المقال الثالث والرابع من جدل الحريّة و الضرورة على الحوار المتمدن- علي عامر)."
"ومتى عرفنا هذا القانون الذي يفعل فعله (كما كرّر ماركس آلاف المرّات) بصورة مستقلة عن إرادتنا وإدراكنا , فإننا نصبح أسياد الطبيعة . إنّ السيادة على الطبيعة , هذه السيادة التي تتجلّى في نشاط البشر العملي , هي نتيجة لانعكاس ظاهرات الطبيعة وعمليّاتها انعكاساً صحيحاً موضوعياً في رأس الانسان , هي دليل على أنّ هذا الانعكاس في حدود ما يبيّنه لنا الواقع العملي , هو حقيقة موضوعيّة , مطلقة , خالدة" .

هذا يعني:

1- العلاقة عضويّة جدليّة بين النظريّة والتطبيق , فالنظريّة هي التطبيق في طوْر الإمكان (التطبيق في ذاته) , والتطبيق هو النظريّة وقد تحققت (النظريّة في الآخر-الواقع). والرفض القاطع لأي صيغة أخرى.
2- الانتقال من النظري إلى العملي هو التحدّي الأصعب على الفلسفة , واحتاجت الفلسفة لآلاف السنين حتى تمتلك هذه القدرة بطريقة علميّة على يد ماركس ورفيقه انجلس , والتي تكثفت في العبارة الشهيرة (اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم , أمّا المهم هو تغييره).
3- جهلنا بقانون الطبيعة , يجعلنا عبيداً لها , فيما طريق السيادة على الطبيعة تكون من خلال معرفة قانون الطبيعة , فالسيادة هي الحريّة , والحريّة هي معرفة الواقع بقوانينه لتسخيره لنا.
4- ومن هنا فالفرق بين الاشتراكيّة الطوباويّة الخياليّة الطفوليّة والاشتراكيّة العلميّة المتينة الصحيحة , هو في كوْن الأخيرة قد حللت الرأسمالية وكشفت عن قوانين حركتها , ولم تكتفِ بمجرّد كيل الاتهامات والسباب والشتائم والتجييش والتحشيد ضدّها.
5- وهذا بالتحديد هو جوهر مشروع ماركس في كتاب رأس المال : تحليل الرأسماليّة والكشف عن قوانين حركتها الداخليّة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مراجع سلسلة جدل الحريّة و الضرورة (مراجع للمقالات الخمس):

1- الماديّة والمذهب النقدي التجريبي – لينين , خصوصاً الفصل الثاني الباب الأوّل : "الشيء في ذاته" , والفصل الثالث الباب السادس : "الحريّة و الضرورة".
2- لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية – انجلس.
3- ضد دوهرنغ – انجلس.
4- Philosophy of Right – Hegel.
5- Science of Logic – Hegel , the Cambridge Hegel Translation.
6- المنهج الجدلي عند هيجل , دراسة لمنطق هيجل – إمام عبد الفتاح إمام.
7- موسوعة العلوم الفلسفية – هيجل , ترجمة وتقديم وشرح إمام عبدالفتاح إمام.