تطوير ماو تسى تونغ للجدلية : التناقض هو القانون الجوهري للديالكتيك و التغيير الكمى الى الكيفي و العكس تناقض و نفي النفي ليس قانونا مادياّ جدليا


ناظم الماوي
2016 / 10 / 12 - 23:46     

تطوير ماو تسى تونغ للجدلية : التناقض هو القانون الجوهري للديالكتيك و التغيير الكمى الى الكيفي و العكس تناقض و نفي النفي ليس قانونا مادياّ جدليا

عند تناول الديالكتيك ، من نافل القول ، أنه من الضرورة بمكان العودة قبل كل شيء الى الفيلسوف الألماني الشهير الذى على يديه تتلمذ كارل ماركس فى بداياته ، و ذلك لأن هيغل هو أول من صاغ بصورة جليّة قوانين الجدلية و حاول تطبيقها على الفكر بإعتبارها قانونا له فقط ، وفق رؤيته . و قد عرض أفكاره أساسا فى مؤلفه القيّم تاريخيّا ألا وهو "علم المنطق " فحدّد قوانين الديالكتيك دون مفاضلة على النحو التالي :

1- تحول الكم الى كيف.
2- وحدة الأضداد.
3- نفي النفي.

و لئن تبنى كلّ من ماركس و إنجلز هذه القوانين التى تسمح بفهم العالم فى بنيته و فى حركته فإنّهما حدّدا نقاط تمايز ذات بال مع منظور هيغل للمسائل نفسها. فبالنسبة لهيغل تعمل هذه القوانين فى الفكر، هي قوانين خاصة بالفكر فحسب أمّا بالنسبة للماركسيّة فهي قوانين على وجه الضبط لا تحكم الفكر و حسب كإنعكاس للواقع الموضوعي ، بل تحكم كذلك الأشياء و الظواهر و السيرورات الموضوعيّة بما أنّها كامنة فيها ، الطبيعيّة منها و الإجتماعية إضافة إلى الفكريّة. و هكذا بينما يقصر هيغل الديالكتيك على الفكر، يؤكد الماركسيّون أن تلك القوانين ذات طابع شمولي كامن فى الأشياء و الظواهر و السيرورات الذاتية و الموضوعية . و يتبيّن بهذا كيف أن الهيغليّة رأت الى الديالكتيك بنظرة مثاليّة فى حين كان ماركس يربطه بالماديّة. و البون شاسع .

فى صيغة تهكّمية ناقدة لمثاليّة هيغل صاغ ماركس جملة أضحت معروفة لدى القاصى و الداني من دارسى الفلسفة وهي تلخص إختلافاته مع المنظومة الفكرية الهيغلية فى هذا الصدد : " إن الديالكتيك عند هيغل يقف منتكسا على رأسه ، و يجب إيقافه على رجليه لكي يتسنى إكتشاف النواة العقلانيّة تحت القشرة الصوفيّة "( كارل ماركس، " رأس المال "، ذكره إنجلز فى " ديالكتيك الطبيعة " ص52 ، طبعة دار الفرابي ، بيروت ).

فى " أنتى دوهرينغ " ، متحدثا عن الديالكتيك و الحركة الديالكتيكية التى تتمّ فى الطبيعة و المجتمع و الفكر و تحوّل الكم الى كيف و نفي النفي ، حدّد إنجلز التناقض كسبب باطني لكلّ تحوّل قائلا : " إن الحركة نفسها هي تناقض ". ( ص 144، دار دمشق للطباعة و النشر، الطبعة الخامسة 1981) و " إن النشوء المتواصل لهذا التناقض و حلّه ... هما بالضبط ماهية الحركة ". (ص145) .

و بالرغم من هذا الفهم العميق آنذاك ، بقي ترتيب أهمّية قوانين الجدلية على حاله أي كما إقترحه هيغل. لا إنجلز ولا ماركس تعرّضا بالنقد للترتيب إيّاه. و أتى لينين و طرح سؤال أيّ القوانين الثلاثة تلك هو القانون الجوهريّ ؟ و تقدّم بإرهاصات جواب فى غاية الدلالة .

إثر بحثه هذا الإشكال الفلسفي الديالكتيكي ، توصّل لينين إلى أطروحات أوّلية تستدعي مزيد التحليل و التعميق بإعترافه هو عينه كما سنرى. إن لينين الذى أبي على نفسه إلاّ أن يتفحّص برؤية نقدية التراث الماركسي ساعيا بذلك لتطبيق مقولة إنجلز " الماركسية تتطوّر بنقد نفسها "، صاغ أطروحات مفادها أن القانون الجوهري للديالكتيك هو قانون وحدة الأضداد أو التناقض و من هذه الأطروحات نقتطف لكم التالية :

1) " التطور هو " نضال " الأضداد ." (ذكره ستالين فى " المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية " ، طبعة دار دمشق للطباعة و النشر).

2) " إن إزدواج ما هو واحد و معرفة جزئيه المتناقضين... يشكلان جوهر الديالكتيك (أحد " جواهره "، إحدى خصائصه أو ميزاته الرئيسية ، إن لم تكن خاصته الرئيسية "( " حول الديالكتيك " ، ملحق " المادية و المذهب النقدى التجريبي ").

3) و " لأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث " حركتها الذاتية " ، من حيث تطوّرها العفوي ، من حيث واقعها الحي ، ينبغى إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد ".(" حول الديالكتيك "- التسطير من وضع لينين ).

4) " إن مفهومي ...التطوّر الأساسيّين هما : التطوّر بوصفه نقصانا و زيادة ، بوصفه تكرارا، و التطور بوصفه وحدة الأضداد ". ( المرجع السابق ) .

5) " إن الديالكتيك ، بالمعنى الخاص للكلمة ، هو درس التناقضات فى ماهية الأشياء نفسها ". ( ذكره ستالين فى " المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية "، ص 20 وذكره ماو تسى تونغ بالمجلد الأول من " مؤلفات ماوتسى تونغ المختارة " ، ص 453 ،الطبعة العربية ) .

6) " إن الديالكتيك هو النظرية التى تدرس كيف يمكن لضدّين أن يكونا متّحدين، و كيف يصيران متّحدين ( يتبدّلان فيصيران متّحدين ) - فى أيّة ظروف يكونان متّحدين ، و يتحوّل أحدهما الى نقيضه "( "الدفاتر الفلسفية " المجلد 38 ، ص107 و ذكره ماو بالمجلد الأول ، ص 489).

7) " يمكن تلخيص الديالكتيك و تعريفه بأنّه نظرية وحدة الضدّين . وبذلك نستطيع الإمساك بلب الديالكتيك ،غير أن هذا يتطلّب إيضاحا و تطويرا ." ( " الدفاتر الفلسفية " المجلد 38، ص 211 وذكره ماو بالمجلد الأول ، الملاحظة الثانية، التسطير مضاف).

و هكذا بخلاف ماركس و إنجلز وضع لينين إصبعه على جوهرية قانون التناقض/ وحدة الأضداد. أمّا ماو فسيوضح ذلك و يطوّره و يطبّقه فى تحليل الأشياء و الظواهر و السيرورات و من ذلك تطبيقاته على الإشتراكية و على الحزب و ما إلى ذلك ؛ فيعدّه كافة التحريفيين المعاصرين و الخوجيين المفضوحين منهم و المتستّرين مارقا و إنتهازيا و قس على ذلك من النعوت التى تنطبق عليهم هم حقّا و فعلا.

عقب وفاة لينين ، عند نقاش أي قانون من قوانين الجدلية هو الجوهري ، بالإتّحاد السوفياتي فى عهد ستالين ، عوض الإنطلاق من رؤية لينين و أطروحاته لتعميق البحث و وضع الأمر بصورة جليّة ، وقعت إعادة تقديم قوانين الجدليّة كما وردت لدى إنجلز الذى أخذها بدوره عن هيغل . فكان الترتيب فى الأوساط الفلسفية السوفياتية و بنوع طفيف من الإختلافات بشكل غير تفاضلي : 1- قانون وحدة الأضداد و 2- قانون التغيّرات الكمّية و النوعيّة و 3- قانون نفي النفي ، علما أنّه لم تقع الإشارة الى أنّ قانون التناقض هو الجوهري.

و تأتي سنة 1938 ، لنسجّل عرض ستالين لرؤيته للجدليّة و قوانينها . فى " المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية " حيث سعى ستالين الى تلخيص الفلسفة الماركسية ، و مع تطبيقه الصحيح و السليم لبعض مبادئ الديالكتيك على الطبيعة و المجتمع ، فإنّه فيما يتّصل بالمحور الذى نتفحّص ، لم يركز على الموقع الجوهري لقانون التناقض / وحدة الأضداد. و لو أنّه فى البداية إفتتح الحديث عن الجدليّة بالكلام عن التناقض ، فإنّه لم يقدّم التناقض كقانون جوهريّ للديالكتيك كما قدّمه لينين فى الأطروحات التى ذكرنا أعلاه . و إكتفى بترتيب غير تفاضلي لأربع ميزات للجدليّة وضع منها التناقض فى المصاف الأخير، النقطة الرابعة . علاوة على ذلك ، لم يلق الضوء على العلاقة أو الخيط الرابط بين هذه الميزات الأربع و الذى هو دون أدنى شك التناقض بما هو جوهر الديالكتيك إذ أن كلّ تطوّر سواء فى علاقته ( جانب خارجي ) أو فى تحوّله من الكميّ الى الكيفيّ أو نفيه النفي هو وحدة أضداد / تناقض كما قال لينين ف" لأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث حركتها الذاتية ، من حيث تطوّرها العفويّ ، من حيث واقعها الحي ، ينبغى إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد ". و بالتالي لم يمسك ستالين ذاته اللينيني الحقيقي فى صراعاته ضد التروتسكية وضد فلسفة ديبورين كما يجب قمة ما توصل إليه لينين .

إنتهت إذا النقاشات التى دارت إثر وفاة لينين ، فى الإتحاد السوفياتي ، داخل الحزب الشيوعي و خارجه ، إنتهت الى مجانبة الرؤية اللينينيّة فى " حول الديالكتيك " و فى " الدفاتر الفلسفية " مبقية على نفس قدم المساواة قوانين الجدلية و جاعلة من قانون التناقض قانونا كسائر القوانين الأخرى بدل إبرازه على أنّه القانون الجوهري كما أشار لينين و كما سيؤكد و يعمّق ماوتسى تونغ خلال الفترة ذاتها و بعدها ناهضا بالمهمّة التى ظلّت عالقة.

عندما ألّف ماو تسى تونغ كتيبه الشهير " فى التناقض " كان ستالين يقود الحزب الشيوعي السوفياتي و لم يتعرّض للكتيّب بالنقد بل بالعكس رحّب به هو و ماركسيون - لينينيون آخرون و فيما بعد نشروا النص بأكمله فى المجلّة النظريّة للحركة الشيوعية العالمية . و تم النشر فى " كرّاسات الشيوعيّة " عدد 7-8 من شهر آب ، سنة 1952 (ص 127و129 من " أصول الفلسفة الماركسية " جورج بوليتزار ، مكتبة المنشورات العصرية ، صيدا، بيروت).

إضافة الى الإستجابة للنهوض بمهمّة شرح و تعميق جوهريّة التناقض بالنسبة للديالكتيك ، جاء كتيّب ماو شأنه فى ذلك شأن " فى الممارسة العملية " إستجابة لمتطلّبات مكافحة الجمود العقائدي فى الحزب الشيوعي الصيني لمن " ظلّوا فترة طويلة من الزمن يرفضون تجربة الثورة الصينية ، منكرين الحقيقة التالية : " الماركسية ليست عقيدة جامدة بل هي مرشد عمل " من جهة ؛ و لمكافحة ذوى النزعة التجريبيّة الذين ظلّوا خلال فترة طويلة من الزمن يحصرون أنفسهم فى محيط تجاربهم الشخصيّة الجزئية فكانوا لا يدركون ما للنظرية من أهمّية بالنسبة الى الممارسة العمليّة الثوريّة ، و لا يرون الوضع العام للثورة ، و بالتالي كانوا يعملون على غير هدى رغم أنّهم يبذلون فى العمل الجهود المضنية. و قد سببت الأفكار الخاطئة لهذين الفريقين من الرفاق و لا سيما أفكار أصحاب الجمود العقائدي خسائر جسيمة للثورة الصينية خلال أعوام 1931- 1934، و لكن أصحاب الجمود العقائدي كانوا يرتدون معطف الماركسية ، لذلك إستطاعوا أن يضلّلوا كثيرا من الرفاق . " ( ماو ، م1 ، ص 431 و432 ) و بإختصار " كتب الرفيق ماو تسى تونغ هذا البحث الفلسفي [ " فى التناقض" ] بعد بحثه السابق ، " فى الممارسة العملية "، وللغرض نفسه : تصحيح التفكير المتّسم بالجمود العقائدي الذى كان رائجا فى الحزب بشكل خطير ". ( المصدر السابق ،ص 453 ) وذلك فى أغسطس - آب 1937.

فى " فى التناقض " ، يقدّم ماو تسى الإيضاح و التطوير المطلوب حول التناقض / وحدة الضدين ( لنتذكر لينين : "...غير أن هذا يتطلّب إيضاحا و تطويرا ") و التناقض ما عاد " أحد جواهر "( لينين) الديالكتيك بل بصراحة و بالوضوح كلّه و كامله بات جوهر الديالكتيك بلا منازع : " إن قانون التناقض فى الأشياء ، أي قانون وحدة الضدين هو القانون الأساسي الأوّل فى الديالكتيك المادي". هذا هو التحديد الأوّل فى " فى التناقض " و فى الخاتمة نقرأ: " إن قانون التناقض فى الأشياء أي قانون وحدة الضدين هو القانون الأساسي فى الطبيعة و المجتمع وهو بالتالي القانون الأساسي للتفكير."

وفى 1957 ، ضمن " حول المعالجة الصحيحية للتناقضات بين صفوف الشعب " ، يؤكد ماوتسى تونغ :

" تعتبر الفلسفة الماركسية أن قانون وحدة الأضداد هو القانون الأساسي للكون. وهو مطلق الوجود سواء فى الطبيعة أو فى المجتمع البشري أو فى تفكير الإنسان. فبين الضدين فى تناقض توجد وحدة و صراع فى آن واحد، و هذا ما يبعث الحركة و التغير فى الأشياء. إذ التناقضات موجودة فى كل شيئ، إلا أن طبيعتها تختلف بإختلاف طبيعة الأشياء. فالوحدة بين الضدين فى التناقض الكائن فى كل شيئ محدد هي ظاهرة مقيدة ، مؤقتة ، و إنتقالية ، وهي لذلك نسبية ، أما الصراع بينهما فإنه يبقى مطلقا دون تقييد."( " مقتطفات من أقوال الرئيس ماو تسى تونغ"، ص 225-226).

فى الكتاب الذى أفرده للتناقض، ما تناول ماو جوهرية التناقض نسبة الى الديالكتيك فحسب ، و إنّما عمّق النظر فى وحدة الضدّين معالجا بنفاذ رؤية :

1/ نظرتان الى العالم ( الميتافيزيقية و الديالكتيكية ).
2/ عمومية [ شمولية ] التناقض.
3/ خاصية التناقض.
4/ التناقض الرئيسي و الطرف الرئيسي للتناقض.
5/ الوحدة و الصراع بين طرفي التناقض.
6/ مركز التعادي فى التناقض.

و مثلما أن القانون الجوهري للماديّة هو أولوية المادة على التفكير حسب ما ورد على لسان إنجلز فى" فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " ، فإن التناقض هو القانون الجوهري الأساسي للجدلية وهو شامل للطبيعة والمجتمع و الفكر.

مثّل هذا الفهم الماركسي - اللينيني - الماوي المتقدّم للجدليّة إحدى أهمّ ركائز تطوّر الحزب الشيوعي الصيني و الثورة الصينية الديمقراطية الجديدة و تحقيقها الظفر فى سنة 1949 و تحوّلها منذ بدايات الخمسينات الى ثورة إشتراكية مهّدت لها الديمقراطية الجديدة . و إذا أمكن لنا عقد مقارنة بين أهمّية " فى التناقض " و " فى الممارسة العملية " بالنسبة للثورة الصينية بكتابات لينينية ، فإنّنا سنقارن أهمّيتها بأهمّية كتاب لينين " المادية و مذهب النقد التجريبي " بالنسبة للثورة البلشفية.

------------------------------------

ثم أتت الهزيمة الثقيلة التى لحقت بالخطّ الثوري داخل الحزب الشيوعي السوفياتي ، فى الخمسينات ، بعد وفاة ستالين ، وإعتلاء التحريفية و على رأسها خروتشوف سدّة السلطة فى الحزب و الدولة التى باتت بعد سنوات برجوازية إمبريالية إشتراكية ، إمبريالية فعلا و إشتراكية قناعا. و شهدت الصين فى تلك الأثناء و بعدها صراعات طبقيّة محتدمة بين الخط البروليتاري فى الحزب من جهة و الخط التحريفي البرجوازي الذى كان يرمى الى إعادة تركيز الرأسمالية من جهة أخرى.

متسلّحين بالفهم الجدلي المتقدّم ، خاض الماويّون الصراعات المتعدّدة بين الخطّين داخل الحزب الشيوعي الصيني و داخل الحركة الشيوعية العالمية بصرامة ثورية و بدورها عزّزت تلك المحطات النضالية إستيعاب ماو تسى تونغ و الثوريين للجدليّة فكان أن لخّص ماو تسى تونغ التجربة ، تجربة عقود بعد وفاة لينين ، ليرتقي مرّة أخرى بالفهم البروليتاري للديالكتيك الى مرحلة أعلى خدمة من جديد لصراعات الثورة البروليتارية العالمية.

ففى خضم معارك ضارية على الجبهة الفلسفية ضد التحريفيين الصينيّين و على رأسهم يانغ ممثّل ليوتشاوشى فى هذا المجال ، فى خطاب له مؤرخ فى 18 أوت 1964 تحت عنوان " حول مسائل فلسفية " و الوارد بكتاب لستوارد شرام " ماو يتحّدث الى الشعب " (ص 214 ، نشرته الصحافة الجامعية الفرنسية ، سنة 1977، نشر بالإنقليزية بلندن سنة 1974) يصرّح ماو تسى تونغ : " تحدّث إنجلز عن ثلاث ميزات [ قوانين الجدلية ] لكن بالنسبة لى لا أعتقد فى إثنتين منها " يتعلّق الأمر هنا بنفي النفي و التغيّر الكمّى الى النوعي اللذان عرضهما إنجلز مع وحدة الأضداد كثلاث قوانين أساسية للديالكتيك ، فى الجزء الخاص بالفلسفة من " أنتى دوهرينغ ".

وعن التحوّل الكمّى الى النوعيّ أضاف ماو شارحا موقفه : " تحوّل النوعي و الكمىّ كلّ الى نقيضه ليس سوى وحدة أضداد نوعي كميّ " و فيما يتّصل بنفي النفي قطع بأنّ : " نفي النفي لا يوجد بالمرة " و إسترسل بالضبط إثر ذلك : " وضع التحوّل النوعي الكمي كلّ إلى نقيضه و نفي النفي فى نفس مستوى قانون وحدة الأضداد هو " تثليثا " و ليس توحيدا ، ذلك أن القانون الأكثر جوهرية هو وحدة الأضداد ".[ وحدة الأضداد / تناقض ].

و بكلمات أخرى ، يعنى هذا أنّ القوانين الثلاثة كما سبق و أن لاحظ لينين و كما عرض وطوّر وعمّق ماو ليست متساوية فى أهمّيتها و أساسيّتها و جوهريّتها بالنسبة للديالكتيك . وحدة الأضداد / التناقض هي الجوهر، هي القانون الجوهري للديالكتيك. أما تحوّل الكمي الى النوعي و النوعي الى الكمي فلا يعدو أن يكون هو ذاته تناقض بين الكمي و النوعي ( كمي / نوعي مظهرا التناقض أو وحدة ضدين ) و الحركة و التحوّل الحاصل ناجم عن وحدة و صراع طرفا التناقض كمي و نوعي . بالتالي لماو الحق ، الحق كلّه فى إعتبار التحوّل الكميّ و النوعي كلّ الى نقيضه تناقض كمي / نوعي و ليس قانونا مستقلاّ بذاته له ذات قيمة وحدة الأضداد التى هي الأشمل و الأكثر جوهريّة جدليّا . هذا تطوير ثوري للجدليّة الماركسية – اللينينية .

ما من أحد من معلّمي البروليتاريا قبل ماو صاغ الأمر بهذه الدقّة و هذا الوضوح المتناهي ، لا لأن إنجلز و ماركس و لينين و ستالين غير قادرين نظريّا على إتّخاذ مثل هذا الموقف بل لأن تجاربهم التاريخية لم تسمح لهم بإستنتاج بيّن لا تشوبه شائبة بجوهريّة التناقض بالنسبة للديالكتيك و بأنّ التغيّر الكميّ الى نوعي و العكس بالعكس تناقض / وحدة ضدّين و ليس قانونا جدليّا يضاهي التناقض فى أهمّيته . فإنجلز عرض التناقض و التحوّل الكمي و الكيفي و نفي النفي و لينين لاحظ مدى أهمّية وحدة الأضداد و إن لم يمكن له شرح الأمر و تطويره مؤكدا أن التناقض جوهر، أحد جواهر أو ميزات الجدلية و فى " الدفاتر الفلسفية " ، مع ذلك عدّد ستة عشر عنصرا للديالكتيك (ص 209-210 ،المجلد 38 من أعماله الكاملة بالفرنسية ، دار التقدم). و ستالين فى " المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية " تفحص " الخطوط الأساسية وهي : أ/الترابط ب/الحركة و التغير الدائمين ج/" من تغيرات كمّية ضئيلة و خفية الى تغيّرات ظاهرة و أساسية " ( و لم يتفطّن الى نقيض ذلك " تحوّل النوعي الى كميّ ) ، د/ " تناقضات داخلية ".

على أنّه يتعيّن علينا أن نشير الى أنّ كلاّ من إنجلز و لينين تفطّنا الى تحوّل الكميّ إلى النوعي و نقيضه تحوّل النوعي الى الكمي و إن لم يعتبرا ذلك بصريح العبارة تناقضا فإنجلز فى " ضد دوهرينغ " ، فى معرض كلامه عن " الجدلية : الكمية و الكيفية " كتب :" الكمية تتحوّل فيها الى كيفية و العكس بالعكس " (ص 151 ، دار دمشق للطباعة و النشر ، الطبعة الخامسة 1981) و لينين فى المصدر المذكور أعلاه ( " الدفاتر الفلسفية " ) خط النقطة 16: " تحول الكمي الى النوعي و العكس بالعكس ".
----------------------------------------------------

يبقى لنا أن نفسّر الآن لماذا لا وجود لقانون ديالكتيكي إسمه " نفي النفي ".

نشرع فى المعالجة بإعطاء الكلمة لقائد البروليتاريا الصينية و أحد معلّمي البروليتاريا العالميّة ليقدّم تعليله هو . و هاكم ما نعثر عليه إثر ما سبق من الإستشهادات من " حول مسائل فلسفية " :

"... تأكيد ، نفي ، تأكيد ، نفي ... فى تطوّر الأشياء ، كل علاقة فى سلسلة الأحداث هي فى آن تأكيد و نفي. المجتمع العبودي نفي للمجتمع البدائي و لكنّه نسبة للمجتمع الإقطاعي مثّل بالعكس تأكيدا. و مثّل المجتمع الإقطاعي نفي علاقات المجتمع العبودي لكنه كان فى المقابل تأكيدا بالنسبة للمجتمع الرأسمالي. و المجتمع الرأسمالي كان نفي المجتمع الإقطاعي لكنّه فى المقابل تأكيد بالنسبة للمجتمع الإشتراكي ".

و نتدخّل فى الحال بالشرح . ماو هنا لا يفعل سوى تطبيق التناقض / وحدة الأضداد فى معالجة " نفي النفي" ذاته فيحرز تقدّما خلاّقا فى الجدلية. " إزدواج ما هو واحد " هو جوهر الديالكتيك لينينيا و ماويا و مطبّقا على نفي النفي كعلاقة تطوّر أعطى بكلمات ماو " كل علاقة فى سلسلة الأحداث هي فى آن تأكيد و نفي" ( و لنتذكر : " الشيء هو فى كلّ لحظة ذاته و شيئ مختلف أيضا "( إنجلز ،" أنتى دوهرينغ "، دار دمشق1981، ص 145).

مظهرا التناقض هنا هما التأكيد والنفي . وبهذا ، مجدّدا ، نرى أن قانون التناقض هو الأكثر جوهرية و أساسيّة و هو الأكثر شمولية والذى يتعيّن وضعه فى المقدّمة و ربط التحوّل الكمّي الى نوعي و العكس بالعكس بقانون التناقض فيتم بذلك ما أسماه ماو ب" التوحيد " و نبتعد عن" التثليث "( فى إشارة مجازية الى الديانات التوحيدية و تثليث المسيحية : الأب و الإبن و الروح القدس ).

أضف الى ذلك أن " نفي النفي" لا يحدّد مطلقا كيف تتحوّل الأشياء و الظواهر و السيرورات بمعنى السبب الباطني للتحوّل بما هو محدّد وجوهريّ فالتطوّر و الحركة و النموّ يحصلون لا بفعل " نفي النفي "، بل بفعل التناقض / وحدة الضدين ، القانون الجوهري للديالكتيك. و تبعا لذلك " نفي النفي" ليس إلاّ شكلا ظاهريّا تتّخذه الحركة الناجمة عن التناقض و النابعة منه ، بسببه و من جراءه .

و " نفي النفي " لا ينسحب على عديد الأشياء . إنّه ليس قانونا عاما و شاملا. فإذا كانت الإقطاعية قد نفتها الرأسمالية و إذا نفت الإشتراكية الرأسمالية تكون الإشتراكية " نفي النفي " لكن ما هي العناصر الإقطاعية التى ستعاد على مستوى أرقى ضمن الإشتراكية لو قبلنا جدلا بمثال إنجلز فى " ضد دوهرينغ " حول الملكية الخاصة الإقطاعية التى تنفيها الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج التى بدورها تنفيها الملكية الإشتراكية لوسائل الإنتاج ؟ على حد ّمعرفتنا بالشيوعية وتجاربها التاريخية هذا لا يستقيم .

و من جهة أخرى ، إعتبر إنجلز " نفي النفي" مشاعية بدائية ثم مجتمع طبقي فشيوعية كمجتمع خال من الطبقات. و يثور هنا سؤال : هل ستنفى الشيوعية بمجتمع طبقي أرقي محتويا على عناصر هامة من المجتمع الطبقي السابق؟ نلمس هنا لمس اليد كيف أن " نفي النفي" يغلق طريق المستقبل و التغيّرات النوعية التى ستشهدها الشيوعية .

و لن يتم تطوّر الماركسية و تحديدا المادية الجدلية كقاعدتها الفلسفية بالطبع بنفي الماركسية بشكل أرقي من الميتافيزيقا و المثالية و إنما بتعميق المنهج المادي الجدلي و تاريخيّا هذا ما حصل منذ ماركس و إنجلز ،على أيدي لينين ثم ماو تسى تونغ و بالضبط فى صراع مع المثالية و الميتافيزيقية . و المحاججة بعكس هذا تسقط حتما فى تعزيز توجه نحو تطوّر خطي (1-2- 3 /" نفي النفي" ) يناهض التطوّر الديالكتيكي اللولبي و القفزات و ما يقف وراءهما : التناقض / وحدة الضدين سببا و علّة .

----------------------------------------------------------

وعن إستغلال التحريفيّين المعادين للثورة ل" نفي النفي" ، ننقل لكم بإقتضاب ما حدث فى الصين فى إحدى المعارك على الجبهة الفلسفية . ففى بداية الستّينات ، دافع التحريفيّون و على رأسهم ليوتشاوشى و رأس حربتهم فلسفيّا يانغ هسيان تشان ، دافعوا بصورة سافرة عن أن عملية الخلاصة- التأليفsynthèse /
فى التطوّر عملية تعيد إنتاج الشيء على سابق حاله : أطروحة ، نقض أطروحة و تأليف يساوى نفي النفي . إذا كانت الأطروحة تنفيها نقض الأطروحة ، فإن التأليف ، بالنسبة لهم ، يكون العودة الى الجمع بين الإثنين . و ما يفرزه ذلك هو النتاج النهائي لعمليّة التطوّر هذه .

بصيغة أخرى، زعم التحريفيّون أنّ المرور من المشاعية البدائية الى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و منها الى الشيوعية هو تطبيق لنفي النفي المحرّك للتطوّر، من منظورهم ، و أن الإشتراكية ، التى لا يجدون بينها و بين الشيوعية إختلافات، هي الحصيلة النهائية للتطوّر ينتفى فيها الصراع الطبقي بإعتبارها تأليفا بمعنى " جمع الإثنين فى واحد ". و من هناك بذلوا قصارى جهدهم للحيلولة دون تطوير مواصلة الثورة فى ظلّ دكتاتورية البروليتاريا ، إعدادا منهم لقلب لون الحزب و الدولة و إعادة تركيز الرأسمالية .

وعلى النقيض من ذلك ، يرى الماويون أنّ الخلاصة / التأليف هي عملية إلتهام مظهر أو طرف من مظهري أو طرفي التناقض للمظهر أو الطرف الآخر مولدا شيئا جديدا نوعيا . يقول ماو فى 18 أوت 1964 :

" ما هي الخلاصة ؟ لقد كنتم جميعا شهود عيان على كيف تمّت عملية تلخيص النقيضين ، الكومنتنغ و الحزب الشيوعي، على أراضي القارة . لقد حصل التلخيص على النحو التالي : كانت جيوشهم تتقدّم و كنّا نحن نلتهمها ، كنّا نلتهمها قطعة قطعة . ليس لهذا أيّة علاقة ب " جمع الإثنين فى واحد " على الشاكلة التى يعرضه بها يانغ هسيان تشان ، لم يكن تلخيص نقيضين يتعايشان سلميّا . إنّهم ما كانوا يودّون التعايش السلمي ، بل كانوا يودّون إلتهامنا ." (ص 212 من " ماو يتحدث الى الشعب " إستوارد شرام ، نشر الصحافة الجامعية الفرنسية ،1977، بالفرنسية ).

و بالفعل عمليّة تلخيص الحزب الشيوعي للكومنتنغ ولدت دولة الديمقراطية الجديدة منذ 1949 و تناقضا جديدا ثم حلّ التناقض عبر الثورة الإشتراكية ودولة دكتاتورية البروليتاريا منذ أواسط الخمسينات ليحلّ تناقض جديد رئيسي بين البروليتاريا من جهة و البرجوازية الجديدة منها بالأساس تحلّه الماركسية – اللينينية - الماوية عبر الثورات الثقافية البروليتارية الكبرى مواصلة للثورة فى ظلّ الإشتراكية بغرض أن " تلتهم " الشيوعية فى النهاية و عالميّا كافة الطبقات و المجتمعات الطبقية ... مثلما يعلمنا الرئيس ماو : " الطبقات تتصارع فبعضها ينتصر و البعض الآخر يقضى عليه . ذلك هو التاريخ ، تاريخ الحضارة منذ آلاف السنين . و تفسير التاريخ حسب وجهة النظر هذه هو المادية التاريخية ، ونقيض وجهة النظر هذه هو المثالية التاريخية ".( ماو تسى تونغ ، " أنبذوا الأوهام و إستعدّوا للنضال " ).

و مطبّقة ذلك الفهم على الصراع الطبقي ، تقرّ الماركسية - اللينينية - الماويّة بأنّ محرّك التاريخ ليس " نفي النفي " كما يطبّل له التحريفيّون : من المشاعية البدائية الى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الى الشيوعية ، و إنّما المحرّك الباطني و الجوهري فى المجتمع الطبقي ( و الإشتراكية مجتمع طبقي أيضا ) هو قانون التناقض / وحدة الضدّين أي صراع الطبقات . خطيرة جدّا و حتى قاتلة هي النظرة التحريفية المعتبرة " نفي النفي " محرّكا للتاريخ سيما حين تطبّق على فهم الإشتراكية و تطوّرها على غرار ما شهدته الصين من قبل ليوتشاوشى و يانغ هسيان تشان . فالحركة و النموّ و التطوّر فى الإشتراكية ، من منظورهما ، مصدرهم " نفي النفي" كقوّة محرّكة للمجتمع بينما يؤكد الواقع ويؤكد الماركسيون- اللينينيون - الماويون بمبدئية أنّ الحركة و النموّ و التطوّر يتمخّضوا عن التناقض الداخلي و على وجه الضبط الصراع الطبقي بين البروليتاريا و البرجوازية الجديدة بالأساس ( أتباع الطريق الرأسمالي داخل الحزب و الدولة ) و أنّ طريقة و وسيلة مواصلة الثورة فى ظلّ دكتاتورية البروليتاريا الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى .

هذا جانب أساسي من تطوير ماو تسى تونغ للجدلية و الفلسفة الماركسية إنطلاقا من ممارسة عملية ، صراعات خاضها على رأس الحزب الشيوعي الصيني ، فى الثورة الديمقراطية الجديدة و الثورة الإشتراكية و الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى و عالميّا ضد التحريفية المعاصرة و إنطلاقا من تلخيص التجربة التاريخية للبروليتاريا العالمية و الإستفادة من الدروس الإيجابية منها و السلبية المستخلصة . فكان و لا زال هذا التطوير سلاحا بتّارا فى وجه التحريفية و البرجوازية و الرجعيّة عموما و من أجل دفع النضال البروليتاري العالمي فى سبيل تحقيق الشيوعية ، الهدف السامي النبيل للشيوعيين و الشيوعيات و الكفيل الوحيد بتحرير الإنسانية جمعاء من كافة أشكال الإضطهاد و الإستغلال الجندري و الطبقي و القومي . "