إصلاحات وثورة


إرنست ماندل
2013 / 1 / 15 - 00:20     

الفصل التاسع من كتاب "مدخل الى الاشتراكية العلمية"

إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.
***

1- التطور والثورة عبر التاريخ

أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..
إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.
إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.
إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [35]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.
هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.

2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة

لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.
لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.
إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.
فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.
أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.

3- تطور الحركة العمالية الحديثة

إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.
إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.
تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).
لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.
إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.
كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.

4- الانتهازية الإصلاحية

لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.
تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.
لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).
ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.

5- ضرورة بناء حزب طليعي

تثبت التجربة هكذا العناصر الأساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة. إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاتها في نضالات طبقية بالغة الاتساع حول أهداف فورية، وإذا كان بإمكانها أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي، فلا يمكنها أن تصل تلقائيا إلى الأشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي، التي لا غنى عنها من أجل توقع المنعطفات المفاجئة للوضع الموضوعي للتمكن من إنجاز مهام الحركة العمالية التي تترتب عليها، والتي لا غنى عنها كذلك للانتصار على المناورات البورجوازية وعلى كل التأثيرات التي يمكن أن تمارسها الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة على الجماهير الكادحة.
زد على ذلك أن الحركة الجماهيرية تمر حتما بحاولات متفاوتة فالجماهير الواسعة لا تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي. إن منظمة جماهيرية تسعى للتكيف مع المستوى المتوسط من نشاط تلك الجماهير ووعيها سوف تلعب إذا دورا كابحا لتفتح النشاط الثوري الذي لا يتم إلا في فترات محددة.
لهذه الأسباب جميعا لا غنى عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة، لا غنى عن بناء حزب ثوري. هذا الحزب سوف يبقى أقليا في الأزمنة العادية، إلاّ أنه سيبقى على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم. سوف يسمح بالحفاظ على مكاسب التجربة النضالية وبنشرها في الطبقة، ويظل مشدودا نحو نضالات ثورية قادمة، ويرى في تهيئة تلك النضالات رسالته الأساسية، وهو سيسهل هكذا إلى حد بعيد حدوث الانعطافات في ذهنية الشغيلة المنظمين والجماهير الكادحة الواسعة وفي سلوكها، وهي الانعطافات التي تتطلبها التبدلات المفاجئة للوضع الموضوعي.
طبعا،لا يمكن لأحزاب طليعية كهذه أن تحل محل الجماهير للسعي وراء تحقيق ثورة اجتماعية بالنيابة عنها. «لا يمكن لتحرير الشغيلة أن يكون إلاّ على أيدي الشغيلة أنفسهم». إن كسب أغلبية الشغيلة إلى جانب برنامج الحزب الثوري واستراتيجيته وتكتيكه هو الشرط المسبق الذي لا بد منه لكي يتمكن حزب طليعي من لعب دوره بالكامل.
لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إلاّ في لحظات «حارة» من الأزمنة ما قبل الثورية أو الثورية «يشير إليها» إنفجار حركات جماهيرية عفوية ضخمة. لذا ليس من تعارض مطلق بين عفوية الجماهير وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية، فهذه الأخيرة تستند إلى تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح لها بالانتصار عن طريق تركيز كل طاقتها على النقطة الحساسة، المتمثلة بقلب السلطة السياسية والاقتصادية لرأس المال.

6- الثوريون إزاء النضال من أجل الإصلاحات

لقد تطورت، داخل شرائح أقلية في الحركة العمالية والطبقة العاملة، مواقف يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل تحقيق الإصلاحات، وذلك كرد فعل تجاه الانتهازية الإصلاحية.
إن النزعة الإصلاحية لا تتماثل إطلاقا مع النضال من أجل الإصلاحات، في نظر الماركسيين الثوريين، فالإصلاحية هي وهم إلغاء الرأسمالية تدريجيا، عن طريق مراكمة الإصلاحات. إلاّ أنه يمكن دمج المساهمة في نضالات لتحقيق إصلاحات فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضالات مناهضة لرأس المال يصل حجمها إلى حد التسبب بأزمة ثورية في المجتمع.
إن الرفض الجذري لكل نضال من أجل إنجاز إصلاحات يستتبع القبول السلبي بتردي وضع الطبقة العاملة، إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه على قلب النظام الرأسمالي بضربة واحدة. هذا الموقف هو في الوقت ذاته طوباوي ورجعي.
هو طوباوي لأنه يتجاهل أن الشغيلة المنقسمين على أنفسهم وفاقدي المعنويات، يوما بعد يوم، بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم، وعن عملهم وحرياتهم وحقوقهم الأولية، ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال طبقة اجتماعية تمتلك الثروة والتجربة السياسية، هي البورجوازية الحديثة. وهو رجعي لأنه يخدم موضوعيا قضية رأس المال وأرباب العمل الذين لهم مصلحة في خفض الأجور والإبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق الإضراب فيما لو ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إلى عبيد مكتوفي الأيدي.
يرى الماركسيون الثوريون في تحرر الشغيلة وقلب الرأسمالية نهاية مطاف حقبة من القوة التنظيمية المتزايدة لدى البروليتاريا، والتماسك والتضامن الطبقي المضاعف، والثقة المتنامية بقواها الخاصة. ولا يمكن لهذه التحولات الذاتية أن تنجم عن الدعاية وحدها أو التربية الفكرية. إنها حاصل نجاحات متراكمة إبان نضالات يومية هي النضالات من أجل الإصلاحات.
ليست الإصلاحية الناتج الآلي لتلك النضالات أو النجاحات. إنها نتيجتها في حالة واحدة تتحقق حين تمتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة إطاحة النظام، حين تمتنع عن مكافحة تأثير الأيديولوجيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية داخل الطبقة العاملة، وعن الانخراط عمليا في نضالات جماهيرية غير برلمانية معادية لرأس المال تستهدف تجاوز طور الإصلاحات.
لابد للأسباب ذاتها من أن ينشط الثوريون في النقابات الجماهيرية ويناضلوا لتقوية المنظمات النقابية لا لإضعافها.
طبعا، تكون النقابات عاجزة عادة عن الإعداد لمعارك ثورية وعن تنظيمها، فليست تلك وظيفتها، إلاّ أنها ضرورية للدفاع عن مصالح الشغيلة يوما بيوم في وجه مصالح رأس المال. إن النضال الطبقي اليومي لا يختفي، حتى في عصر انحطاط الرأسمالية، فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة، يتمتع أرباب العمل بفرص كبيرة للخروج منتصرين من تلك المناوشات اليومية. إن التشكك والحذر، من جانب الجماهير العمالية الواسعة حيال قواها الخاصة بها، اللذين ينتجان عن تجارب بائسة كهذه، يضران إلى حد بعيد بنمو وعي طبقي رفيع لدى تلك الجماهير.
يضاف إلى ذلك أن العمل النقابي لم يعد يتقوقع حتما في دائرة النضال من أجل رفع الأجور، ومن أجل خفض عدد ساعات العمل، في عصر الرأسمالية الحديثة، إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكلات اقتصادية شاملة تؤثر على مستوى حياتهم، من مثل التضخم وإغلاق المعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل ومحاولات الدولة للحد من ممارسة حق الإضراب والتفاوض الحر بخصوص الأجور، الخ… هكذا تجد النقابة نفسها مجبرة على اتخاذ موقف، عاجلا أو آجلا، من كل تلك المسائل، فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بين ما تتناول مشكلات شاملة تطرحها الرأسمالية والاشتراكية. تصبح حلبة تتواجه فيها اتجاهات مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم، لا بل لدمج النقابات في الدولة البورجوازية، واتجاهات نضال طبقي ترفض إلحاق مصالح الشغيلة بـ«مصلحة عامة» مزعومة، ليست سوى مصلحة رأس المال وقد تم تمويهها قليلا. وبما أن الثوريين المنخرطين في اتجاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن المصالح المباشرة للجمهور الكبير، في وجه محاولات حرف النقابات عن وظيفتها الأساسية، فإن لديهم حظا بالتأثير المتنامي داخل النقابات، شريطة أن يعملوا بصبر ومثابرة وألا يتخلوا عن حقل العمل الجماهيري هذا للبيروقراطيين والإصلاحيين واليمينيين من كل الأنواع.
يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيين أي لكي يضغطوا باتجاه تبني النقابات وأعضائها للاقتراحات المتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم النضالات، تلك الاقتراحات الأكثر توافقا مع المصالح الطبقية الفورية للشغيلة. إنهم لا يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك المصالح الفورية، في حين يطورون بلا انقطاع دعايتهم العامة لصالح الثورة الاشتراكية التي لا يمكن بدونها توطيد أي مكسب عمالي، ولا تقديم حل نهائي لأي مشكلة حيوية تخص الطبقة العاملة.
زد على ذلك أن البيروقراطية النقابية الأكثر فأكثر اندماجا في الدولة البورجوازية، والتي تعمد أكثر فأكثر إلى إحلال سياسة مصالحة طبقية و«سلام اجتماعي» محل مهمتها الأصلية المتمثلة بالدفاع الذي لا يلين عن مصالح أعضاء النقابات، تتولى إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل وقناعات المنتسبين إليها. إن النضال من أجل الديموقراطية النقابية والنضال من أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكاملان هكذا بصورة منطقية، في خضم المعارك اليومية.
******
المراجع:
لينين، ما العمل؟
لينين، «اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي.
روزا لوكسمبورغ، إصلاح أم ثورة؟
روزا لوكسمبورغ، الإضراب الجماهيري.
ل. تروتسكي، النقابات في مرحلة انحطاط الرأسمالية.
ج. لوكاش، لينين.