الحرب مع اليابان - الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية


آلان وودز
2016 / 9 / 18 - 22:25     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

الحرب مع اليابان


آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

لم يكن قرار لينين القطع مع المناشفة في هذه المرحلة من قبيل الصدفة. لقد كان النقاش الأساسي، حتى ذلك الوقت، مركزا على المسائل التنظيمية، لكن الآن بدأت الأمور تأخذ طابعا جديدا تماما، وهو ما يعكس بدوره تحولا مفاجئا وحادا في الوضع السياسي. كانت المظاهرات الطلابية، وما تلاها من الإضرابات السياسية والمظاهرات العمالية في عام 1902، مؤشرات عن تطور سريع لوضع قبل- ثوري. اندلع إضراب عام سياسي في شهري يوليوز وغشت 1903، أعقبته فترة هدوء قصيرة، لتندلع موجة إضرابات جديدة في صيف عام 1904. واندلعت سلسلة من الإضرابات في بيترسبورغ وإيفانوفو- فوزنيسينسك ونيجني نوفغورود، والقوقاز حيث هز إضراب كبير مركز النفط في باكو خلال شهر دجنبر. وتحت ضغط الطبقة العاملة، بدأ الليبراليون البرجوازيون يطرحون مطالبهم بطرح دستور. النظام الذي شعر بالأرض تهتز تحت قدميه أصيب بالذعر. وبكلبية كتب وزير الداخلية، بليهف، رسالة إلى وزير الدفاع، الجنرال كيروباتكين، قال له فيها: "إن ما نحتاج إليه، من أجل درء الثورة، هو حرب صغيرة منتصرة".






جنود روس يقفون فوق خندق مليء بالقتلى يابانيين أثناء حصار پورت آرثر سنة 1905

كانت روسيا القيصرية، على الرغم من تخلفها وطابعها شبه الإقطاعي، واعتمادها على العواصم الغربية، واحدة من الدول الإمبريالية الرئيسية في مطلع هذا القرن. وجنبا إلى جنب مع القوى الامبريالية الأخرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، شاركت روسيا القيصرية في عملية تقسيم العالم إلى مستعمرات ومناطق النفوذ. وكانت بولندا ودول البلطيق وفنلندا والقوقاز وأراضي الشرق الأقصى وآسيا الوسطى، في واقع الأمر، مستعمرات للدولة القيصرية. لكن الطموحات التوسعية للقيصرية كانت بدون حدود. كانت عيون سان بيترسبورغ النهمة مركزة على تركيا وبلاد فارس، وقبل كل شيء على الصين حيث كانت أسرة المانشو المتحللة غير قادرة على منع تقسيم الصين من قبل قطاع الطرق الإمبرياليين، وخاصة بعد هزيمة ما يسمى بانتفاضة بوكسر عام 1900، عندما احتلت روسيا منشوريا كلها. هذا التوسع الجشع في اتجاه الشرق الأقصى دفع بروسيا إلى الاصطدام بالقوة اليابانية الصاعدة الشابة. فسر الامبرياليون اليابانيون ما قامت به روسيا على أنه محاولة لمنع تقدمهم في آسيا. وفي صيف عام 1903، فاز حزب الحرب في طوكيو. في جوف ليل فبراير 1904، هاجم اليابانيون الأسطول الروسي في بورت آرثر، باستخدام نفس التكتيكات التي لجئوا إليها في بيرل هاربور عام 1941. وهكذا ضمنت اليابان السيطرة على البحار وبدأ صراع دموي أدى إلى سقوط بورت آرثر بعد 11 شهرا مع فقدان 28.200 جندي روسي، أي نصف الحامية. وبعد ثلاثة أسابيع انطلقت الثورة الروسية الأولى.

صحيفة الإيسكرا الجديدة، تحت سيطرة المناشفة، اتخذت في البداية موقفا غامضا من الحرب، وحصرت نفسها في الدعوة إلى السلام. وجه لينين نقدا صارما ضد هذه الفكرة، موضحا أن نصر القيصرية في الحرب من شأنه أن يعزز النظام لفترة من الزمن، في حين أن الهزيمة العسكرية لروسيا ستعني حتما اندلاع الثورة. وجه انتقاد لاذعا للحملة العسكرية الروسية واستخدمها وسيلة لفضح طبيعة النظام المنحطة والفاسدة. لا علاقة لنزعة لينين الأممية الثورية مع النزعة المسالمة، فقد كانت تقوم على تحليل طبقي للحرب باعتبارها استمرارا للسياسة بوسائل أخرى.

وقد كتب في مقاله "سقوط بورت آرثر":


«إن قضية الحرية الروسية وكفاح البروليتاريا الروسية (والعالمية) من أجل الاشتراكية يعتمد إلى حد كبير على الهزائم العسكرية للحكم المطلق. لقد تقدمت هذه القضية كثيرا بفعل الكارثة العسكرية التي ألقت الرعب في قلوب جميع حراس النظام القائم الأوروبيين. على البروليتاريا الثورية أن تقوم بالتحريض المتواصل ضد الحرب، لكن دون أن تنسى، في الوقت نفسه، أن الحروب حتمية طالما بقي النظام الطبقي. إن العبارات المبتذلة عن السلام على طريقة جوريس [جان جوريس، 1859-1914، القيادي البارز في الجناح الإصلاحي داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي] لا تفيد الطبقة المضطهَدة التي هي ليست مسؤولة عن الحرب البرجوازية بين الدول البرجوازية، والتي تبذل كل ما في وسعها لإسقاط جميع البرجوازيين، والتي تعرف فداحة معاناة الشعب حتى في زمن الاستغلال الرأسمالي "السلمي".»[1]

كان هدف الحكم المطلق هو تخفيض حدة الصراع الطبقي من خلال خلق تكتل على أساس الوحدة الوطنية. أما الليبراليون فقد كشفوا بشكل نهائي عن طبيعتهم الرجعية. لقد تعارضت كراهيتهم للنظام الاستبدادي، الذي كان يمنعهم من اقتسام كعكة الدولة، مع طمعهم في احتمال تحقيق أرباح كبيرة الآن بفضل الحرب والاستيلاء على مستعمرات جديدة في الشرق. وقد حث الماركسي السابق ستروفه الطلاب على دعم سياسة الحرب. لكن الحرب التي كانت قد أدت في البداية إلى إضعاف الحركة الثورية، سرعان ما أعطتها دفعة قوية. وقد فضح منظر الجيش الروسي، الذي كان يزعم أنه لا يقهر، وهو ينهار مثل بيت من ورق في أول اختبار جدي، الطبيعة المتعفنة للنظام القيصري. وبدأت التصدعات تظهر في قمة النظام.

وجد استياء الشباب الطلاب تعبيرا عنه في انتشار النزعة الإرهابية. في 15 يوليوز تعرض وزير الداخلية القمعي، فيكتور بليهف، لعملية اغتيال على يد الاشتراكي الثوري إيجور سيتونوف. بعد أربعين عاما على ذلك كتب القيادي اللبرالي، ب. ن. ميليوكوف، يصف المزاج الذي كان سائدا في المجتمع في ذلك الوقت: "لقد فرح الجميع بخبر اغتياله"[2]. قرر النظام المذعور من مد الثورة المتزايد تقديم بعض التنازلات. تم استبدال بليهف بالأمير سفياتوبولسك ميرسكي، كما قرر النظام القيام ببعض الإصلاحات الليبرالية لتلافي حدوث الثورة. تسببت الهزائم العسكرية المهينة في فقدان الحرب للشعبية بشكل مطلق، ليس فقط بين صفوف الجماهير، بل أيضا بين صفوف الليبراليين البرجوازيين، الذين تحولوا بمهارة من النزعة الوطنية إلى الانهزامية. بدأ النظام، المرعوب من خطر ثورة من تحت، في تقديم تنازلات لليبراليين البرجوازيين. وبدأ سفياتوبولسك ميرسكي يخلق ضجة حول "الحقبة الجديدة".

في شهر نوفمبر سمح للزيمستفوات بعقد مؤتمر في سان بيترسبورغ. كان لتيار أوسفوبوجيدني الليبرالي آنذاك تأثير كبير داخل الزيمستفوات وكان القوة الرئيسية وراء حملة الدعاية لها. اقترحت إيسكرا المناشفة المشاركة في حملة الزيمستفوات ودعم الليبراليين بقدر ما كانوا مستعدين للنضال ضد الحكم المطلق. قالت إنه لأجل ذلك يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين تخفيف مطالبهم حتى لا يخيفوا حليفهم السياسي، ويجب عليهم تعديل برنامجهم لأجل تحقيق الوحدة ضد الرجعية. لم يكد المناشفة يعلنون دعمهم لليبراليين حتى شن لينين هجوما عنيفا عليهم. في مقالته "حملة الزيمستفو وخطة الإيسكرا"، شن لينين هجوما صارما ضد دعاة التعاون الطبقي ودافع عن سياسة طبقية ثورية مستقلة:


«إن السادة اللبراليين الذين يخافون من المنشورات ويخافون من كل شيء يتخطى دستور الامتيازات المشروطة، سيخافون دائما من شعار "جمهورية ديمقراطية" ومن الدعوة إلى انتفاضة شعبية مسلحة. لكن البروليتاريا الواعية طبقيا سترفض بسخط فكرة أن نتنكر لهذا الشعار وتلك الدعوة، أو أن ننقاد عموما في نضالنا بهلع ومخاوف البرجوازية».[3]

أصبحت الموقف من الليبراليين على الفور السؤال الأساسي الذي حددت من خلاله جميع التيارات الاشتراكية الديمقراطية موقفها. قال زينوفييف بحق:


«برزت مسألة موقف الطبقة العاملة من البرجوازية مرة أخرى بحدة، وهو نفس السؤال الأساسي الذي اصطدمنا به في كل مرحلة من مراحل تاريخ الحزب والذي يمكننا أن نرجع إليه، في نهاية المطاف، كل خلافاتنا مع المناشفة».[4]

في الخريف، أصدرت المنظمة اللبرالية سويوز أوسفوبوجدينيا (رابطة الحرية) دعوة لتنظيم حملة مأدبات للضغط على الحكومة للقيام بإصلاحات. نظم المحامون والأطباء وأساتذة الجامعات والصحفيون اجتماعات شبه شرعية على شكل مأدبات عشاء حيث تلقى الخطب ويتم تبادل الأنخاب لصالح إصلاح دستوري معتدل. ومع ذلك فإن جبن الليبراليين البرجوازيين يظهر في حقيقة أنهم لم يرفعوا حتى مطلب جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع العام، بل اكتفوا فقط بمطالب غامضة حول تمثيل الشعب على أساس ديمقراطي واسع.

تحت ضغط الليبراليين البرجوازيين بدأ قادة المناشفة يبتعدون في الواقع عن المواقف الماركسية الثورية. توصيفهم الغامض وشبه السلمي للحرب كان ربما أول تعبير علني عن هذه الحقيقة. بدأت الخلافات مع المناشفة تنتقل بشكل واضح من مجرد خلافات تنظيمية إلى خلافات سياسية. وبدأ المناشفة اليمينيون مثل فيدور دان يحصلون على اليد العليا داخل صفوف الأقلية. قلص المناشفة دور البروليتاريا إلى مجرد تابع للقادة الليبراليين. وبهذه الطريقة كان المناشفة يأملون إقامة "جبهة واسعة" من أجل الديمقراطية، تضم جميع "القوى التقدمية". كانت نفسية المناشفة مشبعة بعدم الثقة في الإمكانيات الثورية للطبقة العاملة. كان من المفروض على العمال عدم رفع مطالب أكثر من اللازم، أو التعبير عن مواقف جذرية جدا قد تخيف الليبراليين. وقد نشرت الإيسكرا بيانات من هذا القبيل:


«إذا ألقينا نظرة على ساحة النضال في روسيا، ماذا نرى؟ لا نرى سوى قوتين اثنتين: الاستبداد القيصري والبرجوازية الليبرالية، التي هي الآن منظمة وتمتلك وزنا نوعيا هائلا. بينما جماهير الشغيلة في المقابل مذررة ولا يمكنها أن تفعل شيئا؛ نحن لا وجود لنا كقوة مستقلة؛ وبالتالي فإن مهمتنا تتمثل في دعم القوة الثانية، أي البرجوازية الليبرالية، وتشجيعها وعدم التسبب، في أي حال من الأحوال، في إخافتها عبر طرح مطالبنا البروليتارية المستقلة الخاصة».[5]

في عدد نوفمبر 1904 اقترحت إيسكرا المناشفة المشاركة في حملة مأدبات الزيمستفو. في الواقع اقترحت الإيسكرا دعم ما يسمى بالجناح الليبرالي اليساري داخل أوسفوبوجيدني:


«في ما يتعلق بالزيمستفوات الليبرالية والدوما نحن نتعامل مع أعداء عدونا، على الرغم من أنهم لا يرغبون أو لا يستطيعون المضي بعيدا حتى الآن في صراعهم معه بالشكل الذي تتطلبه مصالح البروليتاريا؛ لكنهم من خلال حديثهم العلني ضد الحكم المطلق ومواجهتهم له بمطالب تهدف إلى القضاء عليه (!) يشكلون في الحقيقة حلفاء لنا [بمعنى نسبي للغاية طبعا] حتى ولو [أنهم] غير حازمين بما فيه الكفاية في تطلعاتهم...

وأضافوا: «لكن في حدود النضال ضد الحكم المطلق وخصوصا في المرحلة الحالية، يتمثل موقفنا من البرجوازية الليبرالية في تشجيعها أكثر ودفعها إلى الانضمام إلى المطالب التي سترفعها البروليتاريا، بقيادة الاشتراكية الديمقراطية. سنرتكب خطأ فادحا إذا ما نحن وضعنا لأنفسنا هدف إجبار الزيمستفوات أو غيرها من مؤسسات المعارضة البرجوازية من خلال تدابير التخويف؛ وتحت تأثير الذعر من إعطائنا الآن وعدا رسميا بتقديم مطالبنا للحكومة. ومن شأن مثل هذا التكتيك أن يضر بالاشتراكية الديمقراطية لأنه سيحول حملتنا السياسية إلى وسيلة للضغط في يد الرجعية».[6]

ما معنى هذا الاقتباس؟ إنه يعني في جوهره:

أ) دعم البرجوازية الليبرالية ( بقدر ما ).

ب) على الطبقة العاملة أن تلعب دورا ثانويا وراء الليبراليين.

ج) يجب ألا نخيف البرجوازية (وبعبارة أخرى: تلطيف اللهجة والتخلي عن المبادئ والاستسلام).

د) كل هذا بزعم عدم دعم الرجعية وباسم "النضال ضد الرجعية".

رد لينين على الفور على الإيسكرا في منشور مؤرخ بـ 20 نوفمبر (حسب التقويم الجديد). لم تكن لديه جريدة آنذاك، حيث أن فبريود لم تبدأ في الصدور إلا في يناير عام 1905. لينين الذي ندد باقتراح المناشفة تشكيل كتلة مع الليبراليين، اقترح الاستفادة من حملة الزيمستفو لتنظيم مظاهرات عمالية كفاحية ضد كل من القيصرية والليبراليين المخادعين الجبناء. إن الفارق الحقيقي بين البلشفية والمنشفية هو الفرق بين الاستقلال الطبقي والتعاون الطبقي، بين الماركسية والتحريفية، بين الثورة والإصلاحية. لكن الأمر استغرق عدة سنوات وتجربة الحرب والثورة والثورة المضادة، لكي تصبح الطبيعة الحقيقية لهذه الاختلافات واضحة تماما.

غريزة العمال الطبقية تمردت ضد فكرة التحالف مع البرجوازية. كانت هناك مناقشات حادة في صفوف المناشفة. وفي جنيف وروسيا تبنى العديد من العمال المناشفة بشكل غريزي موقفا متناقضا تماما مع موقف محرري الإيسكرا وقريبا من موقف البلاشفة. في ظل الظروف الصعبة للغاية للنضال ضد الدكتاتورية القيصرية، لا يمكن للمرء، بطبيعة الحال، أن يستبعد إقامة اتفاقات عرضية ومؤقتة حتى مع الليبراليين البرجوازيين. لكن الشرط الأول لمثل هذه الاتفاقات بالنسبة للينين كان دائما الاستقلال الكامل للطبقة العاملة وحزبها: لا لخلط الرايات، لا للتكتلات السياسية مع البرجوازية، لا للمساومات على البرنامج أو المبادئ. بالطبع لا يمكن للعمال أن يتجاهلوا أي فرصة لطرح مطالبهم. وقد دافع لينين على أنه يجب على العمال أن يذهبوا إلى تلك التجمعات الشرعية ويحاولوا تحويلها إلى مظاهرات كفاحية.

وضح سوموف، وهو مؤيد سابق لرابوتشييه ديلو تحول لاحقا إلى المناشفة، أن «جميع الخطب التي ألقيت في المأدبات كانت تنتقد بشدة كلا من مبادئ وتكتيكات الليبراليين الانتهازيين وتسخر من قرارات المأدبات الضعيفة ومشاريع العرائض» . وتبين الحادثة التالية، التي وقعت في يكاتيرينوسلاف، كيف اختار العمال الاشتراكيون الديمقراطيون التدخل في مأدبات الليبراليين:


«في اللحظة المناسبة، ظهرت مجموعة من العمال أمام طاولة أعضاء مجلس البلدة، وبدء أحد أعضاء المجموعة في الكلام. حاول الرئيس منعه، لكنه استسلم أمام إصرار العمال، واختتم كلمته وسط اهتمام واسع من طرف الحضور بالقول: "أنتم ونحن نمثل طبقات اجتماعية متناقضة، لكن يمكن أن توحدنا الكراهية لنفس العدو، أي النظام الاستبدادي. يمكن أن نكون حلفاء في نضالنا السياسي. لهذا يجب عليكم التخلي عن طريق الليونة السابق، عليكم أن تنضموا بجرأة وعلنا إلى مطلبنا: فليسقط الاستبداد! من أجل جمعية تأسيسية منتخبة من قبل الشعب بأكمله! من أجل الاقتراع العام المباشر والمتساوي والسري!".

بعد الخطاب، تناثرت في القاعة بيانات لجنة كوبان لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. في اليوم التالي، أصدرت اللجنة منشورا (من ألف نسخة) تصف فيه أحداث الاجتماع وتنشر خطاب الاشتراكية الديمقراطية بالكامل».[7]

في أماكن أخرى أدت تدخلات مماثلة من قبل هؤلاء الضيوف غير المدعوين إلى مشاجرات مع الشرطة والقوزاق. أفشلت تدخلات هؤلاء "الصغار المجانين" خطط الليبراليين، الذين حاولوا إبقاء العمال بعيدين عن الاجتماعات. وفي لقاء لحوالي 400 طبيب في سان بيترسبورغ، تم رفض حضور نحو 50 عامل، لكن ضغط المندوبين أدى إلى التراجع عن القرار. أدى تدخل العمال للمطالبة بالحق في الإضراب إلى خلق استقطاب قوي بين الأطباء تسبب في انفضاض الاجتماع وسط حالة من الفوضى. وكان هناك العديد من مثل هذه الحالات. في مقاله "مظاهرات جيدة من طرف البروليتاريين وحجج سيئة لبعض المثقفين"، التي ظهرت في العدد الأول من الصحيفة البلشفية فبريود[8]، أشاد لينين بهذه التكتيكات بوصفها مظهرا من مظاهر الروح القتالية والقدرة على الإبداع عند الطبقة العاملة. أما المناشفة، فعلى النقيض من ذلك، كانوا مستعدين لتخفيف مطالبهم حتى لا يخيفوا الليبراليين، والتضحية باستقلال الحزب من أجل الوحدة معهم، وباختصار إخضاع الطبقة العاملة لما يسمى بالجناح التقدمي للرأسماليين. وقد تبنى هذه السياسة في وقت لاحق ستالين تحت شعار "الجبهة الشعبية". صب لينين جام نقده على الفكرة قائلا:


«هل يمكن بشكل عام أن يتم الاعتراف من حيث المبدأ بصحة تبني حزب العمال لمهمة تقديم مطالب سياسية للديمقراطيين الليبراليين أو الزيمستفويين العمال، "والتي عليهم أن يدعموها إذا كان لهم أي حق في التحدث باسم الشعب؟" كلا، هذا النهج خاطئ من حيث المبدأ، ولن يؤد إلا إلى الإضرار بالوعي الطبقي للبروليتاريا وسيؤدي إلى السفسطة الأكثر عقما».[9]

كون أن الأساس الحقيقي لانقسام البلاشفة والمناشفة لم يظهر واضحا إلا بعد المؤتمر الثاني، هي مسألة أكدها العديد من الكتاب، بدءا من لينين الذي كتب أن «البلشفية باعتبارها تيارا أخذت شكلا واضحا في ربيع وصيف 1905»[10]. لم تبدأ الخلافات السياسية في الظهور إلا خلال عام 1904. وكتب سليمان شوارتز ما يلي: «وراء الاتهامات المتبادلة، بقيت الخلافات السياسية العميقة خفية. ولأن تلك الخلافات لم تكن واعية تماما فقد أقحمت العاطفة أكثر في النزاع، الذي بدا وكأنه مشاحنات داخل الحزب بالنسبة للأجانب والأعضاء الأقل تطورا داخل الحركتين. لم تظهر الخلافات السياسية إلى العلن إلا في أواخر 1904».[11]

قال فيدور دان، أحد أهم قادة المناشفة:


«اليوم، وبعد فوات الأوان من وجهة النظر التاريخية، صار من النافل التأكيد أن الخلافات التنظيمية التي قسمت صفوف الإيسكرا، في المؤتمر الثاني، إلى بلاشفة ومناشفة كانت مجرد غطاء للفروقات الفكرية والسياسية الوليدة، التي كانت أكثر عمقا، وفوق كل شيء، أكثر ثباتا من الخلافات بين الاقتصادويين والإيسكرا، والتي صارت جزءا من الماضي وجرت تصفيتها تماما من طرف المؤتمر. لم تكن خلافات تنظيمية بل سياسية تلك التي قسمت بسرعة كبيرة صفوف الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية إلى تيارين تقاربا أحيانا ثم اصطدما مع بعضهما البعض أحيانا أخرى، لكنهما بقيا من حيث الجوهر حزبين مستقلين استمرا في الصراع مع بعضهما البعض حتى في الوقت الذي كانا فيه اسميا في إطار حزب وحدوي... لكن في ذلك الوقت، في بداية القرن، كان الطابع السياسي للانقسام بعيدا عن الوضوح، ليس فقط بالنسبة للمتتبعين على الهامش، بل حتى للمشاركين في النضال التكتلي أنفسهم».[12]

هوامش:

[1] LCW, vol. 8, p. 53.

[2] S.S. Schwarz, The Russian Revolution of 1905, the Workers’ Movement and the Formation of Bolshevism and Menshevism, p. 32.

[3] LCW, Zemstvo Campaign and Iskra’s Plan, vol. 7, p. 503.

[4] Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p. 108 (التشديد من عندي - آلان وودز -).

[5] Quoted in Zinoviev, History of the Bolshevik Party, pp. 107-8.

[6] Quoted in S.S. Schwarz, op. cit., p.38.

[7] Ibid., pp. 41 and 48.

[8] LCW, vol. 8, pp. 29-34.

[9] Ibid., p. 508.

[10] LCW, vol. 16, p. 380.

[11] Schwarz, op. cit., p. 32.

[12] F. Dan, op. cit., p. 250.