الستالينية أعلي مراحل التروتسكية (الفصل الاول)


أحمد محمد منتصر
2016 / 8 / 19 - 22:03     

لن أكون مخطئاً حين أقول أن ثورة علي الطريقة الروسية بظرفها الموضوعي بحزبها البلشفي المتغلغل في صلب الحركة العمالية , لن تُنجب أفضل من ستالين .
نعم إستخلاص كهذا قاسٍ جداً ولكن الأشد منه قساوة عندما نري المقاتلين يتحوّلون لقاتلين ممنهجين , حينما يأفل نجم الثورة في أحلك الأوقات عتمة وقت أن سنحت الفرصة ولعبت لعبة القدر لصالح حزب الطبقة العاملة آنذاك أن يتصدر ثورة ويعمل علي إنتصارها , حينما تكون الثورة هي السوط الذي يثقل كاهل الكادحين وحينما تحولت الثورة لكابح أو لجام فوق أبواق المستائين .
دعوني بدايةً أوضح بل وأقرّ حقيقة بأن ما من أعظم وما من أقدس حدث في تاريخ المضطهَدين أجل ّمن ثورة أكتوبر الروسية 1917 , تلك اللحظة التي تلعب دور مهم في تغيير مجري التاريخ , تغييره لمن ؟
تغييره لأولئك الجموع من الطبقة العاملة , لحظة أكتوبر 1917 هي فرقان البشرية وبرهان التاريخ علي قدرة الطبقة العاملة علي إنتزاع السُلطة وقدرتها علي مواجهة الجيوش النظامية بجيوش جرارة من الكادحين والجوعي .
وأيضاً من المُجحف أن لا نُحيي كتائب المقاتلين الحزبية البلشفية التي أفنت أعوام في العمل السري والنفي والإغتراب وعادت من جديد بآمالها تجني مع الجماهير ثمار الأعوام العجاف في ظل الأوتوقراط , تلك الكتائب التي استندت لأقرب الشعارات الثورية إلي جموع الفقراء - الخبز الأرض السلام - ثلاث كلمات كانوا بمثابة حياة آخرة للشعب الروسي الواقع تحت نار الفقر المُجحف والتسلّط القيصري و نار الحرب الإمبريالية والقتل علي الجبهات , وبالفعل تسنّت اللحظة الحاسمة وتمكن البلاشفة مع قيادة الجماهير بإنتزاع السُلطة في 25 أكتوبر 1917 وتشكّلت أول حكومة عمالية منتخبة مستندة دستورياً علي سوفييتات العمال والجنود والفلاحين , ولعب البلاشفة دور المُخلّصين ولعب قاداتها أدوار النبوّة الثورية .
نخلُص إلي هنا لأهم اسمين ترددا آنذاك , أهم اسمين تواجدا علي ساحة القتال والنضال والعمل السياسي في روسيا القيصرية و روسيا الثورة , هؤلاء هم أنبياء ثورة أكتوبر المخلصين بالفعل , فلاديمير لينين وليون تروتسكي .
إذا توغلنا في صفحات العمل السري وفتشنا عن لينين و تروتسكي بمواقفهم المتباينة التي لن تؤخذ عليهم بمحمل من المحاسبة بقدر ما هي في النهاية مواقف مناضلين ومقاومين يضطلعون إلي تغيير جذري لمجتمع , لكن ما يهمني في هذه السلسلة هو التوغل في عقيدة المناضلين ومبادئهم بعد أن أصبحوا قادة روسيا من الكرملين وليس خلف متاريس الثورة , ما يهمني هو تتبع سيرورة غرق المناضلين في شبح الطوباوية و إعتقادهم الكامل بأنهم أنبياء مُبشّرين بالإشتراكية , وفي التتبع اللاحق سنكتشف حقيقة أن الرجل الأول في روسيا الثورة وروسيا السوفياتية هو ليون تروتسكي وليس فلاديمير لينين كما سنتابع , بسرد المشاهد ستتكشف كيف لعب تروتسكي محور البطولة , وكيف كانت افكار وأطروحات تروتسكي هي حجر الأساس الفعلي لروسيا السوفياتية والستالينية لاحقاً , وكيف اتخدت كل المفاهيم الزائلة مع القيصرية أشكالاً جديدة في ظل روسيا السوفياتية بقيادة الحزب الثوري البشلفي , كيف لعبت البيروقراطية والعسكرة والديكتاتورية أدوارها تحت مظلة الثورة , كيف تحول القائد الثوري المنخرط منذ نعومة أصابعه حتي أبيّض شعره إلي سفّاح تارة وديكتاتور تارة وكل هذا بمباركة الثورة , كيف اكتسب ليون تروتسكي لقب " بطريرك البيروقراطيين " ويا للعجب فمن لقبّه بهذا هو جوزيف ستالين !
كيف لعبت الأفكار التروتسكية دوراً في السطوة الستالينية لنخلص إلي أن الستالينية أعلي مراحل التروتسكية :
سأبدأ السلسلة من حيث أفول نجم الثوري المثقل بآمال وأحلام الروس الذين عززوا ثقتهم به مرتين كرئيس لسوفييت بتروغراد 1905 و 1917 , سأبدأ خاصةَ من تلك اللحظة في مساء يوم الإنتفاضة عشية 25 أكتوبر , تلك الليلة التي كان يقبع فيها تروتسكي أرضاً في حجرة مظلمة ليستريح من مشقة عمل اللجنة العسكرية الثورية و ليهيء نفسه للتكلم هو ورفيقه لينين بعد قليل أمام مؤتمر السوفييتات , سيعلنون أن هذا المؤتمر هو مصدر السلطة الوحيد , وأن الأرض للفلاحين , وسيقدمون سلاماً فورياً لروسيا والعالم , وفي الصباح سيقدمون للعالم أجمع أول حكومة ثورية عمالية , كان يفكر هو ولينين أنه من غير اللائق أن يتخذ هو ورفاقه لقب " وزير " وكانت ذكريات الثورة الفرنسية الكبري تحلق برأس تروتسكي آنذاك , فاقترح تروتسكي أن يأخذ المُكلف بمهام لقب " مفوض الشعب " , حتي الآن ما زال القادة البلاشفة يمارسوا آخر لحظاتهم بالعنفوان الثوري , حالمين بروسيا الإشتراكية القائمة علي أنقاض المجتمع الزائل , حتي لقب وزير لا يروقهم لأنه من نتاج المجتمع الزائل .
وزع البلاشفة الأرض علي الفلاحين أو بالأحري صادقوا علي التوزيع الذي أجراه الفلاحون أنفسهم , فروسيا الريفية كانت قد تقسّمت إلي 25 مليون ملكية صغيرة , وهذا يعني مع طول الزمن الركود الإقتصادي والإجتماعي وهو ما كان يعرفه البلاشفة , وشعار الخبز بالنسبة لعمال المدينة يعني تنمية الصناعة وتطوريها , وكان يعني ذلك أيضاً إزالة الرقابة الخاصة والملكية الخاصة في الصناعة , وكانت الصناعة فقيرة جدأ كما وجدها البلاشفة ولاسيما ستنال قسط آخر من التدمير بعد الحرب الأهلية , أما بخصوص السلام فكانت الجيوش الألمانية تعسكر علي الأراضي المقتطعة من الإمبراطورية الروسية وطالما لم تُكنس هذه الجيوش فسيجد البلاشفة أنفسهم أمام حرب ثورية من أجل سلام عادل لكنهم تعهدوا أيضاً وبصورة أعمق في الذهن الشعبي بعقد سلام فوري لم يكن يمكن أن يكون عادلاً ولا ديمقراطياً وكان ذلك هو مأزقهم الأول , أما حله فسيمليه عليهم إنهاك الجنود الفلاحين الذين كانوا مستعجلين للتخلّي عن بنادقهم من أجل المحاريث , ولاسيما أن الأراضي أصبحت ملكهم , إلا أن السلم سريع العطب المعقود بضغط منهم لن يخلص روسيا من التجربة الطويلة المتمثلة في التدخل الأجنبي والحرب الأهلية .
كان أمل مماثل يحرك مفاهيمهم علي صعيد الحكم فقد كانوا يعتقدون بقدرتهم علي الوفاء بوعودهم الثلاثة الكبيرة تلك الوعود التي كانوا يدينون لها بإنتصاراتهم , كانوا يتخيلوا دولة من دون جيش دائم أو شرطة أو بيروقراطية , كانت تلك الدولة المثالية لا الدولة الروسية 1917 التي ستشهد كيف تميزت بالجيش النظامي الدائم والشرطة البوليسية والبيروقراطية في أعتي صورها , تلك الدولة ستشهد أيضاً كل تراجع عن حق اكتسبه بل انتزعه الشعب بفعل الثورة , سنُصدم حين نعرف كيف كانت تجمع السوفييتات بين يديها السلطتين التنفيذية والتشريعية بينما تكون الحكومة مسئولة أمامها فقط , وكان من حق الناخبين أن يُقصوا نوابهم ويستبدلوهم بآخرين في أي لحظة , بل في إمكانية مؤتمر السوفييتات أن يُقيل الحكومة بسحب الثقة منها , وكان وجود معارضة ومواصلة الجدال السياسي بين الأحزاب الممثلة في السوفييتات أمرين مضمونين , ولم يكن قد تبادر إلي ذهن أحد أن الحزب القائد سيكون مخولاً وحده تكوين الرأي العام , بل سيحتكر الثورة لحسابه وستتحول الديمقراطية البروليتارية المستمدة سلطتها ودستوريتها من السوفييتات لديكتاتورية عسكرية تقمع الطبقة العاملة وكل الأصوات المعارضة من داخل البلاشفة قبل خارجها بقيادة من ؟ نبي الثورة المسلح , قائد الجيش الأحمر , ليون تروتسكي .
إلي ذلك الحين كان القادة مقتنعين تماماً بأن الجمهور الروسي كان يشاركهم تطلعاتهم ويقاسمهم فيها , وظلوا يتساءلون لمدة طويلة من الزمن ما الذي يمكن أن يفعلوه إذا ظهر أن هذه الرؤية المتفائلة خاطئة , كانوا يعتبرون من البديهي أن يُحكم عليهم بالموت والزوال , هم وحزبهم وثورتهم , لو حدث أن أصبحوا في صراع مع غالبية الأمة , وأن لا يبقي لهم إلا أن يضمحلوا بشرف , ويا للعجب فخلال شهور قليلة لو فكر أحد هؤلاء القادة للحظة واحدة لتمني الموت بشرف بدلاً من أن يُرفق تاريخه الثوري بتاريخ آخر مشؤوم .
نعم من الإنصاف أن يُقترح علي تروتسكي رئاسة الحكومة نظراً لإنه قاد الإنتفاضة التي انبثقت عنها الحكومة لكنه رفض ذلك مراعاة لأقدمية لينين السياسية والأدبية , وحين عُرض عليه أن يكون مفوضاً للداخلية وكانت مهمتها قمع الثورة المضادة , لكنه رفض لخشيته أن أصله اليهودي يدفع الثورة المضادة للجوء إلي اللاسامية واستخدامها ضد البلاشفة , كما كان له رأي أخلاقي ثوري بأنه يأبي أن يكون جلاداً بسم الثورة , و للمفارقة بعد أيام قليلة سيصبح تروتسكي جلاد الحرب والسلم وسيصبح هو الشرطي الأول لقمع الثورة المضادة ثم قمع الطبقة العاملة .
سنتطرق الآن لأحد المباديء الثورية المهمة والتكتيكات التي من الممكن أن تكون مقبولة طوعاً وموضوعاً ومن الممكن أن تُرفض عندما تتعلق بنزعة وأخلاق الثوري , رؤية مصير الثورة وقد عُهد به لوصوليين ذوي شهرة بتلك الكراهة , هل تُسقط جرائم القتل بالتقادم ؟ هل يقبل الثوري مشاركة قامع وجلاد بسم الثورة ؟ الكولونيل مورافييف قائد عمليات القمع المعادية للبلاشفة في يوليو 1917 أصبح الآن يقود عمليات الجيش الأحمر ولعب دوراً مهماً في المرحلة الأولي من الحرب الأهلية , ولكن تروتسكي كان له تبريره بدعم لينين حيث أنه لم يكن في الحزب من هم مضطلعين لقيادة إنتفاضة , ولم يكن هناك من هم علي كفاءة شديدة لقيادة حرب نظامية , بل كان تروتسكي مستعداً ليعقد صفقة مع الشيطان لو تمكن من القبض عليه وتطويعه رغماً لخدمة الثورة , من المرجح أن هذا تبرير موضوعي مناسب لكن عندما يتعلق الأمر بالنزعة والعقيدة الثورية وعقد مقارنات بين المُثل الثورية والمُثل المنتهجة من قبيل الأنظمة البوليسية الحاكمة ورجالاتها الذين يخدمون السادة , فهذا نفس المنطلق فلقد خدم الكولونيل مورافييف سادة روسيا الآن البلاشفة مثلما خدم سابقاً ساداتها حكومة كيرنسكي .
وبعد أن تم تشكيل أول حكومة برئاسة لينين كانت حكومة بلشفية خالصة , إلا أنها لم تلقي القبول من حيث الإستحواذ التشكيلي عند عديد من البلاشفة قبل سابقيهم من المناشفة والإشتراكيين الثوريين , وتم طرح إقتراح حكومة بلشفية من قِبل البلاشفة و وافق المناشفة والإشتراكيون الثوريون الدخول في الإتلاف ولكن بشروط اعتبرها مُجحفة بالنسبة لهؤلاء المنهزمين والمعاونين لحكومة الأمير لفوف وكيرنسكي قبل ثورة أكتوبر وشروطهم كالتالي : مسئولية الحكومة ليست أمام السوفييتات بل أمام الدوائر الديمقراطية الواسعة الثورية , نزع سلاح الأفواج البلشفية , رحيل لينين وتروتسكي .
ويمكن إختزال هذه الشروط في ثلاث كلمات " إلغاء ثورة أوكتوبر " , وجدد البلاشفة طرحهم بحكومة إئتلافية ولكن تمسّك المناشفة والإشتراكيين الثوريين بشروطهم فما كان للينين إلا أن رأي أنه من غير المفيد مواصلة المفاوضات , ووقع البلاشفة في مأزق حين صوّت المعتدلون ضد الحزب لرغبتهم في حكومة إئتلافية وكان المأزق يكمن أن علي رأس المصوتين " كامينيف " الذي جري إنتخابه رئيساً للهيئة التنفيذية للسوفييتات وهي وظيفة تعادل رئيس الجمهورية , وبإختصار كان الرئيس البلشفي يطالب علناً بإقصاء الحكومة البلشفية وإستبادلها بأخري إئتلافية , فقامت اللجنة المركزية للحزب بتوجيه إنذاراً يدعوا للإنصياع والإنضباط ويهدد بمؤتمر إستثنائي للحزب يكون عليه إما أن يؤيد سياسة المصالحين – الراغبين في حكومة إئتلافية – أو أن يطردهم , وعلي أثره إستقال المصالحون من اللجنة المركزية والحكومة .
ولكن بعد هذا السجال داخل أروقة الحزب استوقفني تعليق أحد البلاشفة " نوغين " حينما قال : إن حكومة من هذا النوع لا يمكن أن تبقي في السلطة إلا عن طريق الإرهاب السياسي وهي ستؤدي إلي نظام غير مسئول وتزيل من قيادة الحياة السياسية المنظمات الجماهيرية الخاصة بالبروليتاريا .
ومن هنا كان الصحيح والخطأ يختلطان بطريقة معقدة , فمن وجهة نظر البلشفية كانت الحجج التي قدمها لينين وتروتسكي لتبرير سياساتهما غير قابلة للدحض , فمن السخافة التفاوض لتشكيل إئتلاف واسع إذ كان المناشفة والإشتراكيون الثوريون اليمينيون يحاولون بكل بساطة ان ينتزعوا السلطة من البلاشفة بطريقة مداورة لا أن يشاركوهم .
إلا أن معارضي لينين وتروتسكي لم يكونوا مخطئين بقدر ما غدوا يعترفون بذلك الآن , فلقد توقعوا ألا تتمكن حكومة بلشفية خالصة من البقاء إلا عبر الإرهاب السياسي وأنه سينجم عن ذلك نظام غير مسئول وسوف يبين المستقبل أن هذا الإدعاء كان علي حق .
لا شك أنه كان في نية لينين وتروتسكي والقادة البلاشفة الآخرين أن يحكموا البلاد بروح مسئولية اصيلة أمام السوفيتات , لكن لما كان حزبهم هو الحزب الوحيد الذي يوافق من دون تحفظ علي الأساس الدستوري الذي تمثله السوفييتات , تواصلوا إلي مماثلة سياسة الحزب مع الدستورية السوفياتية ثم إعتبار رغبات الحزب وتمنياته بمثابة مباديء لتلك الدستورية , فبما أن البلاشفة غدا حزب الثورة , دفعهم ذلك في البدء لمماثلة الثورة مع الحزب , و سُحقاً للقدر الذي لا يُمهل البلاشفة فمن حليفهم في أوج ريعانهم حين استولوا علي السُلطة إلي مطاردهم , فبعد ذلك التاريخ بإحدي عشرة سنة يتحدث " بوخارين " متعجباً وهو يتأمل تعاقب الأحداث التي أدت إلي إفساد الديمقراطية السوفياتية وصعود ستالين : أن أصل تلك الكوارث يكمن في خطأ واحد هو مماثلة الحزب مع الدولة , لكن لم يكن أحد يتخيل يومئذٍ كم ستكون تلك الطريق طويلة وما سيكون إتجاهها وطابعها المأساوي .
يُتبع ...