الدياليكتيك والإنتقائية (2)


حاتم بشر
2016 / 8 / 10 - 00:28     

الدياليكتيك والإنتقائية.
”المدرسة“ و”الجهاز“

ضمن سمات الرفيق بوخارين الكثيرة الثمينة للغاية، كفاءته النظرية، وحرصه على البحث في ثنايا كل مسألة عن جذورها النظرية. وهذه صفة قيمة جدا، لأنه من المحال على المرء أن يستجلي أي خطأ كان، بما في ذلك الخطأ السياسي، ما لم ينبش، حتى النهاية، عن الجذور النظرية للخطأ عند من وقع فيه بادئا من لدن موضوعات محددة يؤيدها عن معرفة ووعي.
إن الرفيق بوخارين، اتساقا مع سعيه هذا الى تعميق المسألة نظريا، ينقل الجدل الى النطاق المشار إليه على وجه الدقة، ابتداء من النقاش في 30 ديسمبر/ كانون الأول، ما لم يكن قبل ذلك.
ففي 30 ديسمبر، قال الرفيق بوخارين: ”إنني أرى من الضروري بصورة مطلقة_وفى هذا يتركز الجوهر النظري لما يدعى ههنا بـ(الكتلة الصادة) أو بأيديولوجيتها، _ ويلوح لي مما لا ريب فيه أنه ليس بالمستطاع لا طرح هذا العنصر السياسي ولا طرح هذا العنصر الإقتصادي“..(صـ47ـ).
إن الجوهر النظري لذلك الخطأ الذي يتردى إليه ههنا الرفيق بوخارين يتمثل في كونه يستعيض عن الصلة الدياليكتيكية القائمة بين السياسة والإقتصاد (تلك الصلة التى تعلمنا الماركسية إياها) بالإنتقائية. ”هذا وذاك“، ”من جهة، ومن جهة أخرى“، هذا هو موقف بوخارين النظري. وهذا هو الإنتقائية بالذات. أما الدياليكتيك فإنه يستوجب مراعاة العلائق من كافة النواحى خلال تطورها الملموس، لا اقتطاع مزقة هنا ومزقة هناك. ولقد سبق لي وبرهنت على ذلك بمثال السياسة والإقتصاد.
لا شك كذلك في هذا من مثال ”المصدة“. فالمصدة ذات نفع وضرورية إذا ما خرج القطار الحزبي وجنح عن مساره. ولا جدال. عدا أن بوخارين طرح المهمة ”الصادة“ بشكل انتقائي، آخذا قطعة من عند زينوفييف، وقطعة من لدى تروتسكي. غير أنه كان يتعين على بوخارين بصفته ”صادا“ أن يحدد من تلقاء ذاته أين ومتى وبما يقترف هذا أو ذاك، هؤلاء أو أؤلئك، خطأ، خطأ نظريا أو خطأ نشأ جراء انعدام اللباقة السياسية، أو خطأ يتصل بتكتلية في الخطابات والمساعي أو خطأ استعظام، وغيره، وأن ينقض بكل قوة على سائر هذه الأخطاء. عدا أن بوخارين لم يع مهمته تلك بصفته "صادا". ومن الأدلة الساطعة على ذلك:
كتلة الشيوعيين في مكتب بتروغراد للجنة النقل المركزية(اللجنة المركزية لنقابة شغيلة السكك الحديدية والنقل النهري)_ وهي منظمة تظهر عطفا تجاه تروتسكي وتعلن صراحة انها ترى ” أن موقفي الرفيقين تروتسكي وبوخارين بخصوص المسألة الأساسية، مسألة الدور الإنتاجي للنقابات ليسا إلا نوعان من وجهة النظر عينها“، _ صدرت في بتروغراد على هيئة كراس التقرير الإضافي الذي ألقاه بوخارين في بتروغراد في 3 يناير/ كانون الثاني 1921 (ن. بوخارين: حول مهام النقابات ). بتروغراد، 1921). وفي هذا التقرير الإضافي نقرأ التالي:
”باديء ذي بدء، قال الرفيق تروتسكي أنه يتعين تغيير قيادة النقابات، يجب اختيار رفقاء مناسبين، وخلافه، وقبل ذلك أيد وجهة نظر ”النفض“ التى تخلى عنها الآن، ولهذا فإنه لمن السخف سخفا مطلقا اتخاذ ”النفض“ ذريعة ضد الرفيق تروتسكي“(صـ5ـ).

لن أقف عند الأخطاء العديدة التي تتكنف هذا السرد للأحداث. (إن مفردة "النفض" قد استخدمها تروتسكي خلال مجلس النقابات العام الخامس لعامة روسيا، 2-6 نوفمبر). وحول "اختيار الذاتية القيادية"، تكلم تروتسكي ضمن الفقرة 5 من موضوعاته التي قام بعرضها على اللجنة المركزية في 8 نوفمبر، والتي أصدرها، والشيء بالشيء يذكر، أحد أتباع تروتسكي على هيئة منشور. إن كراس تروتسكي بأكمله:"دور النقابات ومهامها"، مضمخ تماما بطريقة التفكير عينها، بالروح نفسها التى أشرت إليها فيما تقدم. أما أين وفيما تجسد "التخلي"، فهذا غير معلوم قط. وموضوعي الآن مختلف. إذا كانت "المصدة" انتقائية، غضت طرفها عن بعض الأخطاء بينما أوردت بعضها الآخر، التزمت الصمت حيال الأخطاء في30 ديسمبر 1920 في موسكو في حضرة الآلاف من موظفي الحزب الشيوعي الروسي من عامة روسيا، فيما تحدثت عن الأخطاء في بتروغراد في 3 يناير 1921. لكن لو كانت "المصدة" دياليكتيكية، لكانت انقضت بكل قوة على كل خطأ تراه عند كلا الطرفين أو عند جميع الأطراف. وذلك بالتحديد على وجه الدقة ما لا يفعله بوخارين. فضلا عن كونه لا يحاول أن يتناول كراس تروتسكي من منظور سياسة النفض. فهو بكل بساطة يلتزم حياله الصمت. فلا عجب إذا كان اضطلاع المصدة بدورها، بهذه الصورة، يبعث الجميع على الضحك.
وبعد، في نفس الخطاب الذي قام بوخارين بالقائه في بتروغراد، نطالع في الصفحة السابعة: "إن خطأ الرفيق تروتسكي يكمن في كونه يدافع بشكل غير كاف عن عنصر مدرسة الشيوعية".
وفي مناقشة 30 ديسمبر، يحاكم بوخارين على النحو الآتي:
"قال الرفيق زينوفييف ان النقابات مدرسة للشيوعية، بينما قال تروتسكي انها جهاز اداري تكنيكي لإدارة الإنتاج. إنني لا أرى أي اسس منطقية في سعتها أن تبرهن لا على صحة الموضوعة الأولى ولا على صحة الموضوعة الثانية؛ إذ أن كلا من هاتين الموضوعتين صحيحة، وكذلك دمج هاتين الموضوعتين معا".(ص48).
ونفس ذات الفكرة في الموضوعة السادسة لبوخارين و"فرقته" أو"كتلته": ......"هي(النقابات)، من جهة مدرسة للشيوعية....ومن جهة أخرى، وعلاوة عن ذلك بصورة أكبر، جزء عضوي من اجزاء الجهاز الاقتصادي وجهاز سلطة الدولة بوجه عام". (البرافدا، 16 يناير).
هنا، بالذات، يتركز الخطأ النظري الأساسي: الإستعاضة عن دياليكتيك الماركسية بالإنتقائية(المنبثة بصفة خاصة بين أصحاب شتى الأنساق الفلسفية "الدارجة" والرجعية).
الرفيق بوخارين يتحدث عن الأسس "المنطقية". ومحاكمته بأسره تظهر أنه يتبنى هنا-ربما بلا وعي- وجهة نظر المنطق الصوري أو الكلامي، لا وجهة نظر المنطق الدياليكتيكي أو الماركسي. وفي سبيل تبيان هذا، ابدأ بمثال غاية في البساطة تقدم به الرفيق بوخارين نفسه. قال في مناقشة 30 ديسمبر:
"يا أيها الرفاق، إن الجدالات التي تدور رحاها هنا تخلف في نفوس الكثيرين منكم انطباعا يتسم على وجه التقريب بالسمة التالية: يتقابل رجلان فيسأل أحدهما الآخر ما هي الكأس الموجودة على الطاولة؟
يقول أحدهما:"هذه اسطوانة زجاجية، ولتنزل اللعنة على كل من يقول خلاف ذلك".
فيقول الثاني:"إن الكأس هي أداة للشرب، ولتنزل اللعنة على كل من يقول خلاف ذلك" (ص46).
عن طريق هذا المثال، كما يبصر القاريء، أراد بوخارين أن يبين لي بصورة مبسطة ضرر أحادية الطرف. إني أتقبل هذا الشرح بالشكر والإمتنان، وكيما أبرهن عمليا على شكري وإمتناني، أجيب موضحا بأسلوب مبسط ما هي الإنتقائية المعاكسة للدياليكتيك.

لا شك في أن الكأس هي اسطوانة زجاجية واداة للشرب. بيد أن الكأس لا تتوفر على هاتين الخصيصتين أو الصفتين أو الجانبين وحسب، بل إنها تتوفر كذلك على عدد لا يحصى من الخواص، الصفات والجوانب الأخرى ومن العلائق و"الاستدلالات" مع بقية العالم بأسره. إن الكأس شيء ثقيل من الممكن أن يكون أداة للقذف. وبالمستطاع استخدام الكأس كمكبس للورق، وكآنية لحفظ الفراشة اللقيطة، ومن الممكن أن تكون للكأس قيمة بصفتها سلعة مزركشة بنقش فني أو رسم فني، بغض الطرف كلية عما إذا كانت صالحة للشرب، عما إذا كانت مصنوعة من الزجاج، عما إذا كانت ذات شكل اسطواني تماما أم لا، وهكذا دواليك الخ.
وبعد. اذا كنت الحين أحتاج الى كأس بصفتها أداة للشرب، فإني لا أكترث البتة بمعرفة ما إذا كان شكلها اسطوانيا تماما وما إذا كانت مصنوعة من زجاج، ولكن ما يهم بالمقابل ألا تكون متشققة القعر، وأن لا تنجرج الشفتان جراء استعمال هذه الكأس، وما إلى ذلك.
وأما إذا كنت أحتاج الى الكأس ليس من أجل الشرب بل من أجل استعمالها على غرار كل اسطوانة زجاجية، فعندئذ تنفعني كذلك كأس متشققة القعر أو حتى بلا قعر من أصله، وهكذا وهكذا.
إن المنطق الشكلاني الذي يكتفون به في المدارس(ولا بد أن يكتفوا به-مع التعديلات- لأجل الصفوف الدنيا في المدارس) يأخذ التعريفات الشكلية متوقفا عند حدود العادي أو ما يفقأ العين بتكراره الدائم، ويقنع بهذا. فإذا تناولنا في هذه الحال تعريفين مختلفين، أو أكثر، وركبناهما على نحو عرضي تماما(اسطوانة زجاجية واداة من أجل الشرب)، لم نحصل إلا على تعريف انتقائي يصف مختلف جوانب الشيء ولا أكثر.
أما المنطق الدياليكتيكي فإنه يقتضينا أن نمضي إلى أبعد من ذلك. فمن أجل أن نعرف الشيء حقا، فإنه يتعين علينا أن نتناول وندرس جوانبه جميعا، كل علاقته و"استدلالاته". ونحن لن نبلغ هذا أبدا بصورة كاملة، عدا أن اشتراط الإحاطة بجميع الجوانب يحمينا من الإنزلاق في الأخطاء، والخمود. هذا أولا. ثانيا، يقتضي المنطق الدياليكتيكي تناول الشيء في تطوره، في"حركته الذاتية"(مثلما يقول هيغل أحيانا)، في تغيره. إن هذا ليبدو غير مفهوم لدى الوهلة الأولى فيما يتصل بالكأس، عدا أن الكأس هي الأخرى لا تظل دون تغير، بل تتغير على وجه الخصوس الغاية من الكأس، استعمالها، علاقتها مع العالم الذي يحيط بها. ثالثا، يتعين أن تدمج الممارسة الإنسانية بأسرها في "تعريف" الشيء تعريفا شاملا سواء بوصفها مقياس الحقيقة أم بوصفها دالة عملية لعلاقة الشيء مع ما يحتاج إليه الإنسان. رابعا، يفيد المنطق الدياليكتيكي بأنه "لا وجود للحقيقة المجردة، إذ أن الحقيقة ملموسة على الدوام"، كما كان يطيب للمرحوم بليخانوف أن يردد وراء هيغل. (يلوح لي أنه من المناسب أن أسوق ملاحظة بين قوسين، من أجل أعضاء الحزب الشبان، انه يستحيل على المرء أن يصير شيوعيا واعيا حقيقيا، ما لم يدرس-وبالتحديد ما لم يدرس-كل ما كتبه بليخانوف في الفلسفة لأن هذا ما جرى كتابته في الأدب الماركسي العالمي بأسره*)

وبديهي أنني لم أستنفد مفهوم المنطق الدياليكتيكي. ولكن حتى هذا يكفي الآن. ويمكن الإنتقال من الكأس الى النقابات والى منهج تروتسكي.
يقول بوخارين ويكتب في موضوعاته: "من جهة مدرسة، ومن جهة أخرى جهاز". وخطأ تروتسكي في أنه "يدافع بشكل غير كاف عن عنصر المدرسة".. ولدى زينوفييف نقص فيما يختص ب"عنصر"الجهاز.
لماذا كانت محاكمة بوخارين هذي انتقائية ميتة وفارغة من المعنى؟
لأنه لا يوجد عند بوخارين ولو مجرد ظل محاولة كيما يحلل بصورة مستقلة، من وجهة نظره، سواء كل تاريخ هذا الجدال(الماركسية، أي المنطق الدياليكتيكي، تحتم ذلك بكل تأكيد) أم كل الموقف من المسألة،- كل وضع المسألة، أو إذا شئتم كل اتجاه وضع المسألة-، في الوقت الحاضر، في الظروف الملموسة الراهنة. لا يوجد عند بوخارين أي ظل لمحاولة القيام بذلك! إنه يتناول المسألة بلا أدنى دراسة ملموسة، وضمن تجريدات صرف، آخذا قطعة من عند زينوفييف وقطعة من عند تروتسكي. وهذه هي الإنتقائية.

وبغية ايضاح هذا بجلاء أكثر، اضرب مثلا. انني لا اعرف شيئا عن المنتفضين والثوريييين في الصين الجنوبية (فيما عدا مقالين او ثلاثة لصن يات صن، وبعض الكتب، وبعض المقالات الصحفية التي قرأتها منذ سنوات كثيرة). وحيث ان الانتفاضات تندلع هناك، فإن المجادلات تندلع كذلك، اكبر الظن، بين صيني رقم 1 يرى ان الإنتفاضة هي نتاج صراع طبقي بلغ اقصاه من التأزم وعم الأمة بأسرها، وبين صيني رقم 2 يرى ان الانتفاضة فن. وفي طوعي انا ان اكتب موضوعات على غرار موضوعات بوخارين، بغير ان اعرف شيئا اكثر: "من جهة..ومن جهة اخرى". احدهما وضع بالإعتبار بصفة غير كافية"عنصر" الفن، وأما الثاني ف"عنصر التأزم"، الخ..
ان هذا سيغدو انتقائية ميتة فارغة من المعنى، لأنه لا توجد دراسة ملموسة للجدال المعين، للمسألة المعينة، للموقف المعين تجاهها، الخ..
النقابات من جهة مدرسة، ومن جهة اخرى جهاز، ومن جهة ثالثة منظمة للشغيلة، ومن رابعة منظمة للعمال الصناعيين وحدهم على التقريب، ومن خامسة منظمة حسب قطاعات الإنتاج**، الخ،الخ. ولا يظهر عند بوخارين اي طيف لتفسير، اي ظل لتحليل مستقل، من أجل ايضاح الاسباب القاضية بأخذ "الجهتين" الأوليين من المسألة، لا الجهة الثالثة او الرابعة او الخامسة، الخ...ولهذا كانت موضوعات الكتلة البوخارينية ايضا سخافة انتقائية بحتة. وعلى نحو غير صحيح اساسا وبشكل انتقائي، يطرح بوخارين كل مسألة الصلة بين "المدرسة" و"الجهاز".

يتعين الإنتقال من التجريدات الفارغة الى الجدال الملموس، اي الى الجدال المعين، من أجل طرح هذه المسألة بصورة صحيحة. تناولوا هذا الجدال، كيفما تشاؤون، كما اشتعل في مجلس النقابات العام الخامس لعامة روسيا، او كما طرحه ووجهه تروتسكي نفسه في كراسه-المنهج في 25 كانون الاول، تروا ان موقف تروتسكي كله، ان اتجاهه كله غير صحيح. فهو لم يفهم انه يتعين ويمكن اعتبار النقابات كمدرسة، سواء عندما تتحدث عن الدعاية الإنتاجية على وجه العموم، او عندما تطرح مسألة "الإلتحام"، مسألة اشتراك النقابات في ادارة الانتاج، كما طرحها تروتسكي. وفي هذه المسألة الأخيرة على نحو ما معروضة على امتداد كراس-منهج تروتسكي، يتركز الخطأ في عدم فهم ان النقابات هي مدرسة لقيادة الانتاج اداريا وتكنيكيا. فالنقابات ليست"من جهة مدرسة، ومن جهة اخرى شيء اخر"، بل النقابات هي، من جميع الجهات، في الجدال المعني، ونظرا للطريقة المعينة التي طرح بها تروتسكي المسألة: مدرسة، مدرسة للإتحاد، مدرسة للتضامن، مدرسة للذود عن مصالحها، مدرسة لتسيير الإقتصاد، مدرسة للإدارة. وبدلا من ان يتفهم الرفيق بوخارين ويصلح هذا الخطأ الجذري الذي انزلق اليه الرفيق تروتسكي، يقدم تحليلا مضحكا: "من جهة، ومن جهة اخرى".

لنتناول المسألة بشكل أكثر ملموسية. حتى نقف على ما هي النقابات الحالية بصفتها"جهازا"لادارة الانتاج. لقد رأينا في ضوء معطيات غير كاملة أن نحوا من 900 عامل من اعضاء ومندوبي النقابات يديرون الإنتاج. اضربوا هذا العدد اذا شئتم وان بعشرة، وان حتى بمائة-ولنفترض من باب التنازل بهدف تبيان خطئكم الجذري، سرعة لا تصدق "في الحركة صوب الأمام" في المستقبل القريب- نحصل، مع هذا، على جزء تافه لا يذكر ممن يديرون بشكل مباشر بالقياس الى مجموع اعضاء النقابات البالغ 6 ملايين. ومن هنا يتضح بمزيد من السطوع ان صرف كل الإنتباه الى "الفئة القيادية"، كما يفعل تروتسكي، والتحدث عن دور النقابات الانتاجي وعن ادارة الانتاج دون اعتبار ان ½98٪ يتعلمون (6000000-90000=5910000=½98٪ من المجموع) ويتعين أن يتعلموا زمنا طويلا، انما يعني ارتكاب خطأ جذري. لا مدرسة و إدارة، بل مدرسة للإدارة.***

وعندما جادل الرفيق تروتسكي زينوفييف في 30 ديسمبر ورماه، بلا وجه حق أو مبرر مطلقا وعلى نحو غير صحيح على الإطلاق، بإنكار "التعيينية"، يعنى بإنكار حق وواجب اللجنة المركزية في التعيين، زل لسانه بمعارضة لها دلالتها، حيث قال:
"ان زينوفييف يقف من كل مسألة عملية تطبيقية موقفا مبالغا بطابعه الدعائي، ويفوته ان ان المسألة المعنية ليست مادة للتحريض فقط، بل، ايضا، مسألة يتعين حلها بطريقة ادارية"(ص27).
سوف اشرح الان تفصيليا أي موقف اداري من المسألة المعنية يمكن ان يكون. الا ان الخطأ الجذري الذي وقع فيه الرفيق تروتسكي يكمن بالتحديد في أنه تناول (أو بالأدق اندفع) كإدراي تلك المسائل التي عينها بنفسه في كراسه-المنهج، بينما كان يمكنه ويجب عليه ان يتناول هذه المسائل كدعائي على وجه الحصر.
وبالفعل، ما هو الجيد عند تروتسكي؟ لا شك ان الدعاية الانتاجية هي الشيء الجيد والنافع، ليس في موضوعاته، بل في خطاباته، لاسيما عندما ينسى مناظرته الفاشلة مع ما يدعي أنه جناح النقابيين"المحافظ". ولا شك ان الرفيق تروتسكي يقدر ان يعود (ولا شك انه سيعود) بنفع ليس بالقليل للقضية في حال قيامه بنشاط "اقتصادي" عملي، في اللجنة النقابية، في حال قيامه باعمال خطابية او ادبية، بصفته مشتركا وعاملا في مكتب الدعاية الانتاجية لعامة روسيا. اما الخطأ فهو"الموضوعات-المنهج". فكمثل خيط أحمر، يتجلى خلالها موقف الإداري من "الأزمة" في المنظمة النقابية، من الإتجاهين الاثنين في النقابات، من تفسير برنامج الحزب الشيوعي الروسي، من التريديونيونية السوفيياتية، من جميع التربية الانتاجية، من الالتحام. ها لقد تناولت الآن جميع المحاور الرئيسية في "منهج" تروتسكي، والموقف الصحيح منها بالضبط في اللحظة الراهنة ومن استخدام المادة الموجودة عند تروتسكي لا يمكن ان يكون الا موقفا دعائيا بوجه الحصر.

إن الدولة هي حقل الإكراه. ومن الجنون الإمتناع عن الإكراه وخاصة في عهد ديكتاتورية البروليتاريا. ان "الادارية" والموقف الاداري من القضية الزاميان ههنا. الحزب هو طليعة البروليتاريا، طليعتها الحاكمة مباشرة، هو القائد. والطرد من الحزب، وليس الإكراه، هو الوسيلة المعتبرة للتأثير، الوسيلة لتطهير الطليعة وتقوية عودها. والنقابات هي خزان لسلطة الدولة، مدرسة للشيوعية، مدرسة لتسيير الإقتصاد. والشيء المميز الأساسي في هذا المجال ليس الإدارة، بل "العلاقة" "بين الادارة الحكومية المركزية" (والمحلية بالطبع) "والاقتصاد الوطني وبين الجماهير الواسعة من الشغيلة"(كما يقول برنامج حزبنا، المقطع الخامس من القسم الاقتصادي المخصص للنقابات).
ان خطأ سائر الطريقة المتبعة في عرض هذه المسألة وعدم فهم هذه العلاقة يتبديان كخيط أحمر على امتداد كل كراس-منهج تروتسكي.***

هامش من لينين:
*بالمناسبة نقول أنه لا يسعنا سوى أن نتمنى، أولا، أن تجمع الطبعة التي تصدر الآن لمصنفات بليخانوف كل مقالاته الفلسفية في مجلد أو مجلدات خاص/ة، مشفوعة بدليل تفصيلي للغاية وما إلى ذلك. لأنه يتعين أن يدخل هذا في عداد الكتب الدراسية الإلزامية في الشيوعية. ثانيا، في إعتقادي، أنه يتعين على الدولة العمالية أن تطالب اساتذة الفلسفة بأن يحيطوا علما بعرض بليخانوف للفلسفة الماركسية، وأن يعرفوا كيف ينقلون تلك المعرفة الى التلاميذ. ولكن هذا كله انما هو انصراف عن "الدعاية"صوب"الإدارة".
**ونقول بالمناسبة ان تروتسكي ارتكب خطأ في هذا الصدد ايضا. اذ انه يعتقد أن الاتحاد الانتاجي يعنى اتحادا لاجل التحكم في الإنتاج. هذا غير صحيح. فالإتحاد الانتاجي يعني اتحادا ينظم العمال بحسب قطاعات الإنتاج، وهذا امر محتم ولا بد منه بالنظر إلى المستوى المعين الذي بلغه التكنيك والثقافة(سواء في روسيا وفي العالم كله).
***أكتفي بهذا القدر من الفصل الذي أراه قد أوفى الغاية المنشودة. وأثبت هنا الخاتمة حيث يستل لينين بإختصار لباب الخلاف وفحواه:
"..اما عند تروتسكي وبوخارين، فقد نتجت سلسلة من الأخطاء السياسية في الموقف، ومن انقطاع صلة الوصل، انقطاع الأحزمة البينية النقالة، ومن الاندفاع او الهجوم على الادارية الفارغة، بحركة باطلة". ان المصدر النظري للخطأ-طالما أن بوخارين قد طرح مسألة المصدر النظري" بكأسه"- جلي. فإن خطأ بوخارين النظري-الأبستيمولوجي في هذه الحالة- يتمثل في الإستعاضة عن الدياليكتيك بالإنتقائية. وبطرح المسألة بطريقة انتقائية، تلبك بوخارين تماما وتطرف في اقواله الى حد القول بالسندكالية. وعند تروتسكي خطأ: أحــــــاديــــــة الطـــــــرف، الإنسياق، الإستكبار، العناد. ومنهج تروتسكي يــتـــلــخــص في كون الكأس أداة للشرب بينما ثبت أنه لا قاع لهذه الكأس المعنية.