ماركس اليوم*


عبد المجيد السخيري
2016 / 8 / 1 - 21:03     

يذكر كاتب فرنسي أنه سأل ذات مرة رايمون آرون، وهو المفكر والسوسيولوجي الليبرالي الأكثرة شهرة بين أقرانه وأبناء جيله من مثقفي اليمين الفرنسي، حول ما راج لمدة طويلة عن "موت ماركس" في كل مكان وما يعتقده بهذا الشأن، فأجابه هذا الأخير بأنه يجدر بالذين ينعون ماركس ويسارعون إلى دفنه أن يقرأوه أولا وقبل كل شيء.
والحال أن نعي ماركس لم يتوقف من حينها، بل وتصاعد الخطاب المأتمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي متوجا ولادة نظام عالمي جديد، واحتفى مثقفو وسياسيو المعسكر الرأسمالي بالنصر المظفر على شبح هذا الرجل الذي ظل يطاردهم منذ نهاية القرن التاسع عشر ويوسوس أفكارهم ويعكر صفو أيامهم. فقد نجحوا أخيرا في طرد هذا الشبح بعيدا وتحويل الصورة المرعبة لماركس المُسيَس والمتيم بحب الثورة والطبقة العاملة، إلى مجرد تذكار عظيم من تذكارات القرن التاسع عشر إلى جنب عظماءه الآخرين. بل ولسخرية الأقدار، صار ماركس صديقا لبعض الرأسماليين الذين رأوا فيه أخيرا، وقد تحرر من الوصاية الإيديولوجية الماركسية-اللينينية كما تخيلوها، حكيم الرأسمالية وعبقريَُها الذي لا يضاهى، فيما يلجأ اليوم آخرون إلى طلب وصفاته العلاجية لتجاوز الأزمة الراهنة التي تضرب النظام الرأسمالي في كل مكان وتخليصهم من الورطة التي أوقعتهم فيها الأسواق المالية المنفلتة من عقالها.
البعض ممن عملوا بنصيحة آرون وجدوا في قراءة ماركس لذة النص التي يجدها القارئ المتحرر من أعباء الالتزام السياسي ووصاية الحزب وسقوفه، ولم يروا في هذا العلم الكبير للفكر والفلسفة الألمانيين أكثر من مفكر عظيم وفيلسوف عميق واقتصادي لامع وناقد سياسي يقظ وبالغ الذكاء، فضلا عن الثوري الحالم بإنسانية جديدة. وكما قال أحدهم فإن "ماركس ليس بهرمس ترمجيست، وهو ليس كذلك بالسلف الأسطوري الذي يتوجب أن ننسب له اكتشاف النار وإبادة الوحوش. إنه شخصية تاريخية وجدت بالفعل، ويجب أن نأخذها كما هي ودراستها بنفس الطريقة التي ندرس بها كانط وديكارت".
البعض الآخر قرأ ماركس بمنتهى الجدية في غضون العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي تحت ثقل الأسئلة المعقدة المتداخلة، ما بين زمني بداية بروز علامات الانحطاط الذي برزت على سطح التجارب الستالينية في الحركة الشيوعية العالمية نهاية السبعينيات، والمناخ العام الذي أعقب إعلان تفكك وانهيار المنظومة السوفياتية بداية العقد التسعيني من القرن العشرين، كنتيجة طبيعية لتعفن البيروقراطية التي تسلطت على الأحزاب الشيوعية وعاثت فيها فسادا، وحولتها في أغلب الحالات إلى أدوات للقمع وخنق الثورات بدلا من تحرير الإنسان وسيرورات التغيير كما حلم بذلك ماركس. وهي أسئلة لا شك تباينت من حيث الأهمية والرهانات، لكنها ظلت في جزء أساسي منها تتردد في جل المحطات والمنعطفات الكبرى لهذه الحركة، وكلما لاحت في الأفق أزمة جديدة داخلها. صحيح أن الذين جربوا قراءة ماركس في وقت تصاعد الأزمة داخل الأحزاب الشيوعية المرتبطة بالمركز السوفياتي، أو في أعقاب الإعلان عن انتهاء الحقبة الماوية بالصين بعد الثورة الثقافية، وتحت ضغطهما وحاجياتهما الخاصة، لم يواجهوا الأسئلة إياها التي وجد آخرون أنفسهم في مواجهتها وقد تحرروا من سلطة الحزبية والدولة عقب سقوط جداري برلين ويالطا، وانفتح أمامهم ما كان آخرون يعتقدون أنها أبوابا كان مغلقة في وجههم، ما أدى إلى حرمانهم بالتأكيد من تجريب مداخل ممكنة لقراءة ماركس بعيدا عن الوصاية الحزبية أو منطق الدولة. غير أنه مع ذلك تقاسم الاتجاهان معا الخوض في الأسئلة الاستراتيجية نفسها لمصير الحركة ويوتوبيا الاشتراكية. بينما وُجد بين هذين الاتجاهين مسلك ثالث لم يتردد أصحابه في المحاولة انطلاقا من إيمان عميق بأن قراءة ماركس، وتجديد هذه القراءة باستمرار، ليست رهينة ظرفيات تلقي بظلالها على القراءة وتسيجها بإكراهات الزمن ومطالبه الملحة، وتجعلها سجينة أفق انتظارات متضاربة، ولا معنية بشكل مباشر بالقضايا السياسية والاستراتيجية للحركة الشيوعية، بقدر ما سعت إلى اجتراح قراءة أخرى تنظر إلى عمل ماركس كوحدة وكمنجز علمي وتاريخي جدير بالتقدير، بقدر ما هو قابل للنقد والتقويم والمراجعة، بل وانتزاعه من السياسة وتخليصه من ضغوط الإيديولوجيا. ولعل هذا الاتجاه وجد ضالته أخيرا في الحدث الذي هز الفكرة الشيوعية من الأساس، ليعلن تحرير ماركس من قبضة الماركسية أو مما يحلو لأصحابه وصفه بقفص الماركسية اللينينية، ويندفع بالتالي لممارسة فعل القراءة العلمية المزعومة التي تنزع عن عمل ماركس هويته السياسية، وتخرجه من سياقه السوسيو- تاريخي والطبقي الذي يستمد منه جوهره، ومن ثم أيضا شيوع القراءات المتخيلة التي تطلق العنان للأهواء بحثا عن ماركس بارد مسالم ومساوم، هادئ ورومانسي يليق بالثورات القزحية التي ذاع صيتها.
وبين هذه القراءة وتلك، ثمَ أسئلة ظلت تعاود طرح نفسها بإصرار في كل مرة يُلوَح فيه شبح ماركس إلى أزمة هنا أو مأزق هناك في الشرط الإنساني: هل لا يزال العالم بحاجة إلى ماركس؟
وبأي معنى يمكن أن نتحدث عن راهنية ماركس بعد كل ما راج عن موته الأخير؟
كيف يمكننا اليوم تصور العودة إلى ماركس، وما طبيعة هذه العودة إذا كانت ممكنة؟

وأي علاقة لا يزال ماركس يقيمها مع الماركسية، وكيف أصبح ماركس ماركسيا؟
كيف ننظر اليوم إلى العلاقة بين النظرية والممارسة؟
وأي مسؤولية للفيلسوف فيما حدث من انحرافات وانزلاقات إلى التسلطية في التجربة الاشتراكية المنهارة؟
ما الذي يمكن إنقاذه عند ماركس من كل ما أُعلن كفشل في وجهه: الاقتصاد أم الفلسفة أم السياسة أم أشياء أخرى؟
وهل لا يزال ممكنا أن نُشغَل ماركس كمحلل للحاضر بعد ضمور الدور الثوري للبروليتاريا؟
هذا غيض من فيض أسئلة يبدو لنا اليوم أيضا من المشروع أن نعيد طرحها للاستئناس في مقاربة راهنية ماركس.

--------
* نص الورقة التقديمية للعدد الخاص حول "راهنية كارل ماركس"، مجلة نوافذ(فصلية مغربية)، العدد 61-62، يناير 2016، المغرب، ص ص 7_9.