الماركسية والديموقراطية - نظرة تاريخية نقدية


شاهر أحمد نصر
2005 / 12 / 18 - 11:24     

نشكر لكم حضوركم، ونشكر الدكتور يعقوب جرجس على دعوته الكريمة وإتاحته الفرصة لنا لهذا اللقاء، كما نشكر الأستاذ عياد عيد على تقديمه النبيل.
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ الماركسية ولدت في كنف الديموقراطية.
عانت المجتمعات الأوروبية من تبعات الرأسمالية منذ القرن السادس عشر، مما أدى إلى ظهور الفكر الاشتراكي الذي يرفض الملكية الخاصة، ويدعو إلى أن يحل محلها تنظيمٌ آخر للمجتمع.. وحظيت فكرة التعاون بشعبية حقيقية بين العمال في ذلك الوقت. لكن تحقيقها ـ من وجهة نظر العديد من المفكرين الاشتراكيين ـ لم يكن ممكناً ما لم يسيطر العمال على الدولة ويستخدموها لخدمة أغراضهم، من هنا اعتبر المفكرون الثوريون الجمهورية الديموقراطية شرطاً لا غنى عنه للاشتراكية. وهكذا أخذت تتشكل الأحزاب التي تسمي نفسها بـ الاشتراكية ـ الديموقراطية.. للتعبير عن الأهمية التي تحتلها المسألة الاجتماعية، والطموح نحو الديموقراطية السياسية...ولقد ولدت الماركسية في هذه الظروف عبر نضال الطبقة العاملة في سبيل نيل حقوقها بالوسائل الديموقراطية، وأخذ موقف الماركسية من الديموقراطية أشكالاً عدة في مختلف المراحل التي مرّت بها:
في المرحلة الأولى، مرحلة نشوء الفكر الماركسي، أو مرحلة الماركسية الديموقراطية: كان مفهوم كارلماركس، وفريدرك إنجلز، للديموقراطية منسجماً مع المفهوم السائد في أوروبا الذي يربط الديموقراطية بإسقاط الحكومة الرأسمالية، وهذا ما عبرا عنه في البيان الشيوعي عام 1848، حيث جاء: "رأينا أنّ الخطوة الأولى في الثورة العالمية هي صعود البروليتاريا إلى طبقة سائدة وإحراز الديموقراطية...."
كما حرص ماركس وانجلز على وحدة القوى الديموقراطية عشية ثورة 1848 في فرنسا فلم يريا ضرورة لمحاولة تأسيس حزب شيوعي خاص خلال الثورة القادمة بل دعيا لانضمام الشيوعيين إلى الحزب الديموقراطي ـ الاشتراكي.. وأدرك ماركس وانجلز أنّ الشرط الضروري لنجاح الأممية الديموقراطية هو العمل المشترك بين الديموقراطيين في فرنسا وانجلترا.. بالتمهيد لتحالف بين الحزب الديموقراطي ـ الاشتراكي الفرنسي والشارتيين الإنجليز..
ويمكن إضافة موقف لينين من الديموقراطية في المراحل الأولى والمتقدمة من نشاطه السياسي والفكري حتى عام 1916 إلى هذه المرحلة...
يرى لينين في مهمة التحرر من النير الأجنبي مسألة ديموقراطية من الدرجة الأولى...(1)
وفي عام 1916 كتب يقول: ".. يستحيل انتصار الاشتراكية إذا لم تحقق الديموقراطية الكاملة."
ويؤكد لينين أنّ تطوير الديموقراطية حتى النهاية والبحث عن أشكال هذا التطوير والتحقق منها فعلاً الخ.. كل هذا هو مهمة من مهام النضال من أجل الثورة الاجتماعية...
كما بين أنّ الإمبريالية هي إنكار للديموقراطية عن طريق السيطرة وانتهاك حق الأمم في تقرير مصيرها."(2)
وفي المرحلة الثانية تغير موقف الماركسية جزئياً من الديموقراطية مع تغير المسار الذي اتبعته في أوروبا وموقفها من مسائل الإصلاح الاجتماعي.. عبر إنجلز عن ذلك بوضوح في إحدى رسائله: ".. أما بخصوص الديموقراطية البحتة ودورها في المستقبل، فإني أرى أنّها تلعب في ألمانيا دوراً أصغر بكثير من دورها في البلدان ذات التطور الصناعي الأقدم".
من الملفت هنا أنّ انجلز لا يتحدث هنا عن الديموقراطية، وإنما عن "الديموقراطية البحتة"، وهو يقصد بذلك، وبصورة واضحة، دولة برجوازية تأخذ بحق الاقتراع العام، وتحافظ على الملكية الفردية.. إنّه يتخوف من إمكانية تحول الديموقراطية البحتة إلى جدار حصين يحمي سائر الاتجاهات البرجوازية، وحتى الإقطاعية، من سيطرة البروليتاريا..
وظهرت المرحلة الثالثة في موقف الماركسية من الديموقراطية إبان الحرب العالمية الأولى، عندما زعمت القوى المتحالفة أنها تحارب من أجل انتصار الديموقراطية. كان الناس قد اعتادوا آنذاك ومنذ فترة طويلة، على فهم الدولة الديموقراطية كدولة برجوازية تحكم بطريقة الاقتراع العام.
"في محاكمة هامبورغ عام 1923 بعد انتفاضة العمال الشيوعيين ضد نظام الجمهورية البرجوازية ـ الديموقراطية في ألمانيا، قال سكرتير الحزب الشيوعي أوربان إلى المحكمة: "من الأحسن أن نحترق بنار الثورة، على أن نموت فوق مزابل الديموقراطية"
جلب موقف التيارات الماركسية بعد الحرب العالمية الأولى من الديموقراطية كوارث فاجعة مازالت تترك أثراً سلبياً كبيراً على تطور البشرية..
بدأت القطيعة بين الماركسيين البلاشفة، والأحزاب التي اتبعت نهجها، ومفهوم الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، مع إعداد حزب البلاشفة للثورة في روسيا، ووضع لينين أسس ما سمي لاحقاً الديموقراطية الشعبية..
ويستشهد لينين بانجلس لفضح حقيقة الديموقراطية البرجوازية مؤكداً: "أنّ الجمهورية الديموقراطية لا تعرف رسمياً أي شيء عن الفوارق "( بين المواطنين )" من حيث الثروة. ففي ظلها تمارس الثروة سلطتها بصورة غير مباشرة، ولكن بضمان أكبر. فمن ناحية، بشكل رشوة الموظفين مباشرة. ومن ناحية أخرى بشكل تحالف الحكومة مع البورصة.."(3)
ويأخذ فهم لينين للديموقراطية منحىً جديداً في كتاب " الدولة والثورة " الصادر عام 1917 إذ يرى أنّ الجمهورية الديموقراطية هي أحسن غلاف سياسي ممكن للرأسمالية.(4)
الديموقراطية وديكتاتورية الطبقات الكادحة:
وترى الماركسية أنّ التطور إلى أمام، من الديموقراطية الرأسمالية ـ الضيقة حتماً والتي تبعد الفقراء خلسة والتي هي، بسبب ذلك، نفاق وكذب كلها ـ لا يجري ببساطة، مباشرة ودون عقبات في اتجاه "ديموقراطية أوفى فأوفى"... إلا إنّ التطور إلى الأمام أي نحو الاشتراكية، يمر عبر ديكتاتورية الطبقات الكادحة، ولا طريق له غير هذا الطريق، لأنّه ما من طبقة أخرى أو طريق آخر لتحطيم مقاومة المستثمرين الرأسماليين، من وجهة النظر الماركسية.
وتبين النظرة الموضوعية أنّ ديكتاتورية الطبقات الكادحة، أي تنظيم طليعة المظلومين في طبقة سائدة لقمع الظالمين، لا يمكنها أن تعطي مجرد توسيع للديموقراطية. فديكتاتورية الطبقات الكادحة، إلى جانب التوسيع الهائل للديموقراطية التي تصبح لأول مرة ديموقراطية للفقراء، ديموقراطية للشعب، لا ديموقراطية للأغنياء، تفرض في الوقت نفسه جملة من التقييدات على الحرية حيال الظالمين، المستثمرين الرأسماليين. يتوجب قمعهم لكيما تتخلص البشرية من عبودية العمل المأجور، وينبغي تحطيم مقاومتهم بالقوة، وواضح أنّه حيثما يكون القمع ويكون العنف، فلا حرية ولا ديموقراطية.
وهكذا ـ وحسب الماركسية ـ في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يظل القمع أمراً ضرورياً، ولكنه يغدو قمعاً للأقلية المستثمِرة من قبل الأكثرية المستثمَرة، ويبقى الجهاز الخاص الآلة الخاصة للقمع، أي الدولة أمراً ضرورياً، ولكنها دولة انتقالية...
ومن نافل القول إنّ هذه النظرة الدكتاتورية إلى الديموقراطية قد أثبتت إفلاسها، ولم تعد تنسجم مع متطلبات العصر...
الماركسية والبرلمانية
لا تخلو النظرة الماركسية إلى البرلمانية من التناقض... فمن جهة ترى الماركسية أنّ الجمهورية البرجوازية والبرلمان والحق الانتخابي العام هي كلها، من وجهة نظر التطور العالمي للمجتمع، تقدم هائل.
ومن جهة ثانية تؤكد الماركسية أنّ الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية ـ كما قال ماركس ـ يكمن في: البت مرة كل عدة سنوات في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة السائدة سيقوم بقمع وسحق الشعب في البرلمان، و الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية هذا، لا يسم فقط المَلكيات البرلمانية الدستورية، بل كذلك في الجمهوريات الأوسع ديموقراطية.
"إنّ انتقاد البرلمانية ـ حسب لينين ـ ليس مشروعاً وضرورياً وحسب، بوصفه تعليلاً للانتقال إلى السلطة السوفيتية، بل هو أيضاً صحيح تماماً بوصفه إدراكاً لكون البرلمانية مرتبطة بظروف معينة ومحددة تاريخياً، وإدراكاً لصلتها بالرأسمالية وبالرأسمالية وحدها، ولطابعها التقدمي بالنسبة للقرون الوسطى، وطابعها الرجعي بالنسبة للسلطة السوفيتية".
إذا كانت النظرة الماركسية ترى في البرلمانية مؤسسة من مؤسسات الدولة البرجوازية، فأين المخرج من البرلمانية؟ وكيف يمكن الاستغناء عنها؟
في رأي لينين إنّ النظام السوفيتي هو الحد الأقصى من الديموقراطية للعمال والفلاحين؛ وهو يعني في الوقت نفسه القطيعة مع الديموقراطية البرجوازية وظهور طراز جديد من الديموقراطية في التاريخ العالمي، سميت الديموقراطية البروليتارية أو ديكتاتورية الطبقات الكادحة.
ويظهر تناقض لينين مع آرائه السابقة في دعوته إلى عقد "الجمعية التأسيسية"، مع قبض السوفيتات بيدها على كامل سلطة الدولة... "حينئذ فقط كان يمكن للثورة أن تكون ثورة شعبية حقاً وديموقراطية حقاً". أي ربط لينين مشروعية السلطة السياسية بوجود "الجمعية التاسيسية" أي البرلمان في روسيا..
الجمعية التأسيسية نموذج البرلمانية في روسيا إبان الثورة :
على الرغم من انتقاداته للبرلمانية، حدد لينين إذن نموذج الدولة الديموقراطية الجديد التي تنشأ في الثورة الاشتراكية ، ألا وهو السوفيتات المترافقة مع "الجمعية التأسيسية".. وفي رأي لينين إنّ دولة من هذا النموذج بالضبط بدأت الثورة الروسية تنشئها في 1905 و 1917. وأطلق عليها اسم جمهورية سوفيتات نواب العمال والجنود والفلاحين وغيرهم، المتحدة في جمعية تأسيسية لممثلي الشعب في عامة روسيا..
وينتصب سؤال هام: لماذا فشل النموذج البرلماني، متمثلاً بالجمعية التأسيسية ـ في روسيا بعد الثورة البلشفية؟!
لا بد من الإقرار بأنّ انتصار الثورة المسلحة، أسهل بما لا يقاس مع انتصارها على صعيد البناء التنظيمي والإداري. هذا ما أثبته تطور الأحداث...
لعب الإرهاب الأبيض دوراً في ذلك، إذ ترافقت نشاطات الثورة المضادة مع إبادة الكثير من الشيوعيين، والقضاء على مناضلي السوفييتات النشطاء، وإزالة تلك السوفييتات. إلاّ أن الأمر الملفت للانتباه و الغريب أن السوفييتات كانت ضحية "التشيكا (المخابرات)" – هكذا اضطرت السوفييتات إلى الامحّاء.. وقبل فرض إرادة "التشيكا" على السوفييتات وتقويض صلاحياتها كانت قد حلّت الجمعية التأسيسية.
كان انعقاد الجمعية التأسيسية ماثلاً في برامج كل الأحزاب اليسارية في روسيا وبوجه خاص في برنامج الحزب الاشتراكي - الديموقراطي، بما فيه جناحه البلشفي، كما بيّنا. كان البلاشفه في الفترة ما بين شباط (فبراير) وتشرين الأول (أكتوبر) 1917 قد صّوروا دعوة الجمعية التأسيسية للانعقاد، كواحد من أهداف عملهم..
جرى تنظيم الانتخابات قبل انتصار ثورة أكتوبر وجرت بدءاً من 12 تشرين الثاني (نوفمبر ) 1917. وتشكلت الجمعية التأسيسية
كانت الأغلبية في الجمعية التأسيسية من نصيب خصوم النظام السوفييتي.
وقررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الروسي العام للسوفييتات أن يتم انعقاد الجمعية التأسيسية في 5 كانون الثاني ( يناير ) 1918.
إلاّ أن لينين كان حذراً حيال الجمعية التأسيسية، و أصدر موضوعات حول الجمعية التأسيسية نشرتها صحيفة البرافدا في 26 كانون الأول ( ديسمبر ) 1917، مؤكدً أ نّ تصادم الجمعية التأسيسية والسوفييتات يعكس المواجهة بين الطبقات، إذ تتجابه المؤسسة البروليتارية مع المؤسسة البرجوازية..
في الاجتماع اليتيم للجمعية التأسيسية الذي عقد في 5 كانون الثاني (يناير) 1918 دعت الكتلة البلشفية الجمعية التي يرئسها البلشفي الثوري تشيرنوف للموافقة على القرارات الرئيسية للسلطة السوفيتية أي الاعتراف بشرعيتها. إلاّ أ نّ هذا الاقتراح سقط بأغلبية 237 صوتاً مقابل 138 صوتاً، مما دفع المندوبين البلاشفة إلى مغادرة الجلسة يصحبهم مؤيدوهم من البلشفيين الثوريين اليساريين، و لم يعودوا..
لقد حرمت عملية حل الجمعية التأسيسية، وحظر نشاط الأحزاب السياسية في روسيا ـ على الرغم من جميع المبررات التي قدمها البلاشفة والتي كان أهمها النشاط المضاد للثورة ـ وهيمنة "التشيكا" على السوفييتات لحد امحائها، حرم ذلك النظام الجديد من الرئة السليمة للتنفس، ومن الدم المتجدد للحياة السليمة، وخلق الممهدات للحكم الفردي، الذي لا ينسجم مع التطور الصحي للمجتمع الاشتراكي، الذي تعد الديموقراطية المناخ الوحيد الملائم لتقدمه.
إنّ النظام الذي استبعد أو اضطر على استبعاد التعامل الديموقراطي مع مناؤيه. لم يفكر بالعودة إلى الأساليب الديموقراطية مع تغير الظروف والقضاء على (العدو الداخلي).. هكذا انسحب أسلوب التعامل القمعي ليطال الكوادر التي قامت بالثورة. فغياب الديموقراطية يحمل في طياته الهلاك حتى للأداة القمعية ذاتها.
ولاستكمال الصورة، ومقاربة الآثار التي تركها موقف البلاشفة الذين عدوا أنفسهم الممثل الشرعي للماركسية على البلدان النامية التي حاولت نهج الطريق (اللارأسمالي) ومنها بلداننا، من الضروري التعرف على ما سمي بالأنظمة الديموقراطية الشعبية...

بعد انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، ومساهمته في تحرير دول أوروبا الشرقية، عمل مع الأحزاب الشيوعية وحلفائها، في تلك البلدان، على إقامة أنظمة حكم فيها، تعتمد أسلوب حكم مشابهاً للنظام السوفيتي، عرفت باسم أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية...
ومع تنامي حركات التحرر في العالم، وحصول العديد من الدول والشعوب على الاستقلال عن الدول المستعمِرة، وتأثرها بالتجربة الجديدة في دول المعسكر الشرقي، تبنى قادة العديد من الأنظمة، التي استولت على الحكم في هذه الدول حديثة الاستقلال، صيغة الحكم المعروفة بالديموقراطية الشعبية. التي تعد صيغة وشكلاً ملطفاً من أشكال ديكتاتورية البروليتاريا في الحكم.
سمات أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية:
بينت التجربة التاريخية أنّ أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية، تؤسس لما يعرف بالأنظمة الشمولية التي ترى أنّها تمثل الكمال في كل زمان ومكان، حيث الحاكم ينوب عن الشعب، الذي يعبأ في بنى لا حول لها ولا قوة.. وتقود آلية الحكم هذه إلى تغييب ليس المعارضة فحسب، بل والشعوب أيضاً.. وتتسم هذه الأنظمة بالسمات التالية:
ـ هيمنة دستور يحدد قيادة المجتمع والبلاد من قبل حزب واحد، وقد تنوه بعض الدساتير على وجود أحزاب أخرى، بشرط أن تعمل تحت قيادة الحزب الحاكم، ولا يسمح بوجود أية قوى أو أحزاب سياسية أخرى.. أي يتم تحديد نشاط القوى السياسية سلفاً. وكأن فلسفة هذه الأنظمة تلغي مسيرة التاريخ المتغيرة والمتجددة باستمرار، وتعمل على كبح عملية التطور، وجعلها ومستقبل الشعوب والمجتمعات رهينة تصور حزب واحد.. مما يعمل على سد الأفق أمام تطور وتقدم المجتمع..
ـ إلغاء مؤسسات المجتمع المدني، وسن العديد من القوانين التي تكبل النشاط الاجتماعي بكافة أشكاله، وحصره في المؤسسات التابعة للحكومة، والمقيدة من قبل الأجهزة البوليسية، وعدم السماح لأي نشاط خارج إطارها..
ـ تطبيق أحكام تعسفية وقمعية بحق من يفكر بأية نشاطات، أو فعاليات خارج الأطر الجامدة التي تحددها السلطة.
ـ ونتيجة لهذه البنية الجامدة، والمغلقة، والقمعية تسود الاقتصاد والمجتمع حالة من السبات، والتشوه، والتخلف، يدعوها المستفيدون منها بالاستقرار. فتتجمد البنى الاجتماعية، والاقتصادية، وتنشأ الظروف المناسبة لصيرورة طبقة بيروقراطية طفيلية تغتني على حساب المنتجين، وتفقد أية إمكانية للتجاوب مع متطلبات التقدم والتطور، وتصبح السمة العامة للمجتمع في مجمل مناحيه الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية، هي الركود والتخلف.. فضلاً عن تفاقم مشاكل الأقليات القومية، والتهرب من استحقاقات معالجتها، كما تتراكم مشاكل النعرات الدينية، وتزداد حدة التفاوت والفروقات الاجتماعية، والطبقية، والتي لا يمكن معالجتها إلاّ في أجواء الحرية والديموقراطية الحقيقية..
هكذا ألقت الأنظمة الاشتراكية والديموقراطية الشعبية، بأهم سلاحين ضروريين للتطور السليم: الديموقراطية، والمنهج الدياليكتيكي في التفكير، الذي لا يعترف بالجمود والثبات، بل بالتغيير والتطور المتجدد، الذي يحتم وجود قوى سياسية متجددة، وليس قوة أو حزباً واحداً، وحتمية وضرورة تداول السلطة بين الأحزاب والقوى السياسية في المجتمع، المتساوية الحقوق والواجبات أمام القانون.. وهذا ما لم تعه تلك الأنظمة.. وعلى الرغم من بعض الإيجابيات التي امتازت هذه الأنظمة بها، فإنها وصلت وأوصلت شعوبها إلى مأزق لا يمكن تجاوزه، إلاّ من خلال أنظمة ديموقراطية متجددة بعيدة عن أسلوب الحكم البوليسي القمعي، وتأخذ بإيجابيات جميع التجارب الديموقراطية التي عرفتها الشعوب.
مقاربات نقدية:
* لعل هذه النظرة التاريخية السريعة تفيدنا في فتح حوار نقدي حول العلاقة بين مفاهيم الديموقراطية، والسلطة، والدولة من جهة، والماركسية من جهة ثانية... والآثار السلبية التي تركها تطابق مفهومي السلطة والدولة عند الماركسيين... مع التأكيد على ضرورة إيلاء الاهتمام الكبير لأهمية الفكر الاشتراكي في الأنظمة الديموقراطية، مع العلم أنّ الفكر الاشتراكي ليس حكراً على الماركسية، بل هو نتيجة تطور الفكر الإنساني عبر العصور، والفكر الإنساني في غياب المفاهيم والقيم الاشتراكية يعاني من التشويش... ولكي تعود الإنسانية إلى وعيها لا بد من إعادة الاعتبار إلى الفكر الاشتراكي...
* تتطلب النظرة النقدية رفع القداسة عن الفكر بشكل عام بما فيه الفكر الماركسي، والنظر إليه في سياقه التاريخي؛ أين أخطأ؟ وأين أصاب؟ ما هي الجوانب التي مازالت حية فيه، وما هي الجوانب التي أصبحت لا تنسجم مع ضرورات التطور؟..
مما لا شك فيه أنّ هذه المهمة تتطلب جهداً مؤسساتياً متكاملاً... لكن غياب العمل المؤسساتي لا يمنع المبادرات المختلفة... ولا بد بداية من الإقرار بالدور التاريخي الهام الذي لعبته الماركسية... مع التنويه إلى أنّ النقد هو حجر الزاوية في منهج التفكير الماركسي...
* للإنصاف لا بد من التنويه إلى الإيجابيات الكبيرة التي اتصفت بها هذه النظرة إلى الديموقراطية، وأهمها: تعريتها التناقض الكامن في الحرية والديموقراطية البرجوازية، وطابعها الشكلي الخادع... كما إنّ الماركسية كانت سباقة في التأكيد على ضرورة تأمين المساواة في حقوق الانتخاب للجماهير الكادحة، وحقوق المرأة والأقليات القومية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها... وأكدت على ضرورة ربط الديموقراطية والحقوق السياسية بالعدالة الاجتماعية...
* لقد أقامت الماركسية وخاصة في تطبيقها البلشفي والمدارس اللاحقة والتابعة لها (أقامت) عند معالجتها لمسألة الديموقراطية تماهياً بين السلطة والدولة... وجعلت السلطة تطغى على مؤسسات الدولة، وقصرت الدولة والديموقراطية على إقامة مؤسسات محددة تعبر حسب رأيها عن مصالح الطبقات الكادحة فقط... وبررت القمع والاستبداد، وألغت أية ضرورة أو إمكانية لوجود مؤسسات المجتمع المدني، التي أثبتت الحياة ضرورتها في المجتمعات المتحضرة لمساعدة الدولة والفرد والمجتمع في معالجة كثير من القضايا التي لا تستطيع السلطة معالجتها وحدها... كما أنّها لم تعر الاهتمام الكافي إلى أهمية وضرورة وجود المعارضة السياسية في المجتمع باعتبارها أحد المكونات الأساسية في المجتمع السياسي السليم، ومصدر مراقبة للسلطة وقوة للدولة... بل ألغت المعارضة وصنفتها في صفوف الأعداء، مما أفقد المجتمع السياسي حيويته وأصابه بالركود والتعفن... ومن هنا تأتي أهمية وضرورة إعادة الاعتبار إلى مفاهيم العمل السياسي السليم والمعارضة والبرلمانية... مع الاستفادة من الموضوعات الماركسية لتلافي التناقضات والنواقص في العمل البرلماني...
* أفقد منهج التعامل مع الماركسية كمقدس جامد أفقدها إمكانية استيعاب معطيات التطور العصري خاصة في عصر الاتصالات والمعلوماتية، الذي أفرز معطيات ومفاهيم جديدة تتطلب منهجاً فكرياً قد يتأسس على بعض الأسس الماركسية، إنما لا بد له أيضاً من أن يتجاوزها لاستيعاب هذه المعطيات الجديدة...
* نظراً لحدة طرح المسالة الديموقراطية كأحد سبل الخروج من الوضع المتأزم الذي تعيشه مجتمعاتنا على كافة الأصعدة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، من الضروري التمعن جيداً في هذه المسألة وعدم الخلط بينها وبين مفاهيم رافقتها في المجتمع الغربي خاصة مفهوم الليبرالية...
* الديموقراطية أداة ضرورية للجماهير الكادحة لتدافع عن مصالحها في مجتمع يسوده اقتصاد السوق... في ظل الديموقراطية يمكن اعتماد الأسس الضرورية للحد من الآثار السلبية لنشاط الرساميل والاحتكارات على الطبقات الكادحة، تلك النشاطات التي لا حدود لها مع سيادة الليبرالية... ومن أفضل المفكرين العرب الذين كتبوا في موضوع التمييز بين الليبرالية والديموقراطية، حسب علمنا ـ المفكر برهان غليون، الذي تمتاز كتاباته بالنضج وسعة الأفق... ومن المفيد التعرف بعمق على كتاباته، وفي هذه المناسبة ندعو الجميع وفي مقدمتهم دعاة الليبرالية الجدد خاصة الماركسيين منهم إلى التروي وإعمال العقل والفكر ملياً قبل تبني أي فكر جديد أو قديم... يقول برهان غليون: "... في العالم العربي المعاصر لا تبرز فلسفة الليبرالية، كتعبير عن ولادة روح فردية قوية ومستقلة بالفعل ومبادرة، بقدر ما تعبر عن خيبة أمل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم... ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة أوسع من الديموقراطية، ولكن كتيار فكري مكمل لها أو كالجناح الراديكالي في الحركة الديموقراطية".
"تنطوي الليبرالية على اعتقادات ثابتة أساسية لا تستقيم من دونها:
أولها، مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بأن لا يتناقض بحث الفرد الحر عن مصالحه الخاصة، مع تحقيق المصلحة العامة للجميع... ويعني ذلك انه إذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة، سنصل إلى انسجام حقيقي في المصالح أكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام أو لاختراعه.
ثانيها، إن حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية...
وثالثها، إن الديموقراطية والليبرالية متطابقتان تماما فلا ديموقراطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديموقراطية..."
وفي إطار نقده لهذه الأفكار يرى المفكر برهان غليون أن الفكر الديموقراطي المعاصر لا يقبل بالمسلمة القائلة بأن احترام الحريات الفردية يقود حتماً إلى تحقيق القيم الإنسانية المطلوبة، وينتج تلقائياً العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد...
لا بد أن تترافق الحرية مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حداً أدنى من استقلال الأفراد بما يمكنهم من ممارسة حرياتهم "الشكلية".
ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الأوروبية التقليدية مع الزمن سياسات اجتماعية أساسية لتجاوز هذا التناقض إلى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع أصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع وتقضي على الديموقراطية باسم الحرية.. ".(5)
* عند الحديث عن الديموقراطية لا بد من التأكيد على أنّها لا تتعارض بتاتاً مع المهام الاجتماعية والوطنية... بل هي أداة مساعدة لمعالجة هذه المهام، وتساهم في حشد طاقات المجتمع بشكل سليم للدفاع عن المصالح الوطنية، على عكس قوانين الطوارئ والأحكام العرفية التي تضعف المجتمع وتخدم أعداءه... والديموقراطية تتطلب التعددية السياسية، وتداول السلطة ووجود معارضة لها الحق في التحول إلى أغلبية... مع التنويه إلى أنّ غياب الديموقراطية في المجتمع يساهم في خلق بعض المعارضات المشوهة التي يكون بعضها صورة مشوهة عن السلطات التي تنتقدها... من الضروري أن تنظر المعارضة باستمرار إلى نشاطها وممارساتها وفكرها نظرة نقدية، كيلا تقع في المسالب التي تنتقد السلطات بسببها...
* من الضروري التأكيد دائماً على أنّ الحرية والديموقراطية مسائل تنبع من ذات وداخل المجتمعات البشرية... ومع إيلاء الانتباه إلى أهمية العوامل الموضوعية والخارجية، من الهام التوقف عند موضوعة هيغل التي تقول: إن فرض الحرية والديموقراطية من الخارج هو تقييد للحرية...
* نظراً لأنّ المجتمع يتكون من مختلف الشرائح الاقتصادية والاجتماعية والطبقات، فمن المنطقي أن يضم مختلف التيارات والاتجاهات السياسية... وللمحافظة على سلامة المجتمع من الضروري سن القوانين الصحيحة من قوانين أحزاب وانتخابات وغيرها التي تضمن التفاعل السلمي اللاتناحري بين هذه المكونات الاجتماعية، حفاظاً على أمن وسلامة المجتمع، والوطن.
المتشى 16/12/2005
المراجع
(1) لينين ـ المختارات ـ المجلد /6/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص195
(2) لينين ـ المختارات ـ المجلد /6/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص94
(3) ف. انجلس . أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة . ص178
(4) لينين ـ المختارات ـ المجلد /7/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص24
(5) برهان غليون ـ لماذا يخلط المثقفون العرب بين الليبرالية والديموقراطية ـ موقع الرأي 31 أكتوبر 2005 نقلاً عن صحيفة النهار.
(الخطوط العريضة لنص المحاضرة التي ألقيت في بلدة المشتى بتاريخ الجمعة 16/12/2005