نحو قراءةٍ للولايات المتحدة ككيان -استيطاني – إبادي- لماذا تعنينا؟ وماذا تعني لنا؟ (الجزء الثالث والأخير)


مسعد عربيد
2016 / 7 / 31 - 23:10     

في نقد الخطاب

(1)
خطابهم وتواطؤ المثقف

للوهلة الأولى، يبدو الخطاب الأميركي في روايته لتاريخ بلاده، وكأنه منسجم مع ذاته وقادر على نسج ماضيه بما يفسر ويخلق عناصر تكوين الأمة والهوية الأميركيتين، وتكوين مجتمع ذي "خصائص متميزة" له تراثه وقصصه وأساطيره ونتاجه الفكري والثقافي والسياسي وحتى الثوري (شعارات وإرهاصات "الثورة الأميركية" على بريطانيا منذ بدايات القرن الثامن عشر). غير أن هذا المجتمع في حقيقته وجود مادي قسري إبادي قام على تدمير الوجود المادي والروحي والحضاري والإنساني للشعوب الهندية الأصلانية وسعى إلى محوها، ثم جاء ليملأ "الفراغ" الناتج عن تلك الإبادة وليقيم على ركامه كياناً أوروبياً أبيضاً قاطعاً علاقة هذ الشعوب مع تطورها وتراكم معارفها وتاريخها.
في مقابل هذه الحقائق التاريخية، يدّعي الخطاب الأميركي أن الولايات المتحدة تكونت كنتاج لتطورها التاريخي الطبيعي وثمرة لثورة شعبها على الإمبراطوية البريطانية ونيل الحرية والاستقلال.
تلك هي بعض ملامح الخطاب الأميركي السائد وصورة أميركا المُتخيلة التي يقدمها للعالم الخارجي، مقابل حقيقة علاقته بالشعوب الهندية الأصلانية. وقد روّج لهذا الخطاب مثقفون وأكاديميون ومؤرخون وكتّاب وإعلاميون في شتى الدوائر والمؤسسات الإعلامية والثقافية والأكاديمية، بما فيهم بعض المؤرخين من الهنود الأصلانين أنفسهم، سواء على مستوى تدريس التاريخ الأميركي وتلقينه للشعب الأميركي أو الثقافة الشعبية الرائجة والإعلام والبروباغندا.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن القوى السياسية والحكومات الأميركية المتلاحقة تمكنت من اختراق المجتمعات الهندية الأصلانية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وخلق التبعية وتعميق الدونية الثقافية وتدمير الوعي واستدخال الخنوع والاستسلام لهيمنة الأوروبي الأبيض، ومن ثَم محاولة دمج هذه الشعوب ضمن دوائر نفوذها والسيطرة عليها بشكل مباشر أو ك"محميات"، ناهيك عن استخدام عوامل أخرى مثل الإرساليات المسيحية وتشجيع الإدمان على الكحول بين الهنود الأميركيين.
لا يخفى أن هذا السرد السائد والخطاب الذي يتبناه ويعززه، يقوم على القبول بالاستعمار- الاستيطاني وإبادة السكان الأصليين وتزييف التاريخ وطمس حقائقه ووتمرير ما يسرده من حقائق ووقائع، كما لا يخفى أن أسباب ذلك لا تعود إلى الفقر المعرفي أو نقص في المعلومات والمعطيات أو تعذر الوصول إليها، ولا في التضييق على حرية التعبير عن الرأي، بل إن جوهر المشكلة يكمن في موقف المثقف وإشكالياته ومصالحه وارتباطاته، وفي غياب الدافع للبحث واثارة الأسئلة وتحدي جوهر التاريخ المدوّن والرواية المُرّوجة لنشأة الولايات المتحدة.
فحتى الخطاب المعادي للإمبريالية في الداخل الأميركي ذاته، كثيراً ما يتجاهل مسالة الاستيطان الأوروبي الأبيض لأراضي الهنود الأصلانيين وقتل الملايين منهم ومطاردة مزارعيهم واقصائهم عن حقولهم وحرق قراهم. وحين يغض الخطاب الطرف عن الأساس المادي للرأسمالية الأميركية - ألا وهو اغتصاب أراضي القارة الأميركية واستيطانها - فإنه في الحقيقة يضرب بعرض الحائط حقائق التاريخ التي تقول بأن التوسع الإمبريالي خارج القارة الأميركية ومشروع الهيمنة الأميركية على العالم ليس سوى نتيجة منطقية للنهج الذي تبنته الولايات المتحدة منذ ولادتها.
من هنا فإن إشكالية المثقف والمؤرخ والمناضل السياسي تكمن في عجز بعضهم عن فهم طبيعة تاريخ الولايات المتحدة، وتواطؤ ورفض البعض الآخر لاتخاذ الموقف السليم والوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ حفاظاً على مصالحهم وامتيازاتهم وأهوائهم. كل هذا أدى في المحصلة إلى غياب وتغييب الطبيعة الاستيطانيه - الإبادية لتاريخ الولايات المتحدة. (لاحظ جوانب التماثل العديدة مع المثقف الفلسطيني والعربي حيال الكيان الصهيوني واستدخال قبوله والتطبيع معه وحيال مشروع الهيمنة والتطبيع مع العدو الرأسمالي في بلادنا).
الخطاب والداخل الأميركي
هل تقتصر تداعيات ونتائج هذا الخطاب على السياسات الإمبريالية الخارجية للولايات المتحدة؟
بالطبع لا.
ففي الداخل الأميركي يتجلى الإرث الاستيطاني - الإبادي للولايات المتحدة في العديد من الظواهر والأعراض التي نرصدها اليوم في المجتمع الأميركي:
- الحروب الطبقية الدائمة على الفقراء والمعوزين من الطبقات الشعبية في أميركا؛
- بناء أعتى ترسانة عسكرية في التاريخ البشري وهدر تريليونات الدولارات في تحديث الأسلحة النووية على حساب الاحتياجات الأساسية للشعب الأميركي من رعاية صحية وتعليم والعناية بالمرضى والمسنين والمتقاعدين وغيرها؛
- ازدياد الأرباح الطائلة التي تجنيها الشركات الكبرى والتي تضرب النضالات العمالية أينما كان وفي كل مكان، وتحارب الطبقة العاملة وأجور العمال ومصالحهم الأساسية والحيوية، تلك الشركات التي تدفع الحد الأدنى من الضرائب ولا تساهم في كلفة الخدمات الاجتماعية والإنسانية الأساسية للناس؛
- بناء المزيد من السجون التي يملؤها الشبان من السود واللاتينو وفقراء البيض وتدمير مستقبلهم وإنسانيتهم من أجل المزيد من الأرباح لشركات صناعة السجون؛
- تشجيع المزاحمة والمنافسة والأنانية والاستهلاكية والفردانية المتوحشة في المجتمع الأميركي؛
- تفشي ظاهرة الإدمان على الكحول والمخدرات إلى جانب العنف المستشري ضد المرأة والأطفال والمسنين؛
- تفاقم تعداد المشردين وعديمي المأوى homelessness في شوارع وأزقة المدن الأميركية الكبرى والغنية؛
- أعمال القتل الجماعي بالأسلحة النارية في العقدين الأخيرين في المدارس والجامعات والمسارح والأماكن العامة وازدياد بيع قطع هذه الأسلحة بالملايين بين الأميركيين.

(2)
لماذا تعنينا سردية "الكيان الاستيطاني - الإبادي"؟
ولماذا تعرية الخطاب؟

نصل في هذا الجزء، بعد تعرية ما تم طمسه من الطبيعة الاستيطانية - الإبادية لنشأة وتطور الدولة الأميركية، وبعد الكشف عن المستور في خفايا الخطاب الأميركي السائد، نصل إلى السؤال الأساس: وما علاقة كل هذا بنا كعرب؟
ولماذا يهمنا أن نفهم حقيقة التاريخ الأميركي من منظور كونه كياناً استيطانياً إبادياً؟
وماذا يعني هذا في فهم واقعنا ورسم معالم مستقبلنا وترشيد سياساتنا، بل ماذا يعني لمشروعنا في مقاومة الإمبريالية والهيمنة الأميركية؟
ربّ قائل بإن هذا كله قد أضحى جزءًا من الماضي ولم يعد بالإمكان تغييره أو منح الأميركيين الأصلانيين أراضيهم من جديد. أليس الأجدر بنا أن ننسى وأن نمشى قُدُماً إلى الأمام؟
الحقيقة أن هذا القول يتجاهل، في الحد الأدنى وربما ليس عن براءة، الوقوف أمام المسؤولية التاريخية والأخلاقية والسياسية والمادية عن الإبادة، كما أنه يتماشى مع الأكاذيب التي تغلغلت في الثقافة السائدة وتفاصيل الحياة اليومية الأميركية.
غير أن هذا لا يفي بالاجابة على سؤال: لماذا يعنينا هذا الشأن؟
أ) الطابع الاستيطاني: إن تعرية الأكاذيب والوعي بالطبيعة الاستيطانية الإبادية وفهم السياق الاستيطاني لتاريخ الولايات المتحدة ضروري لأنه يفيدنا في
- ادراك حقيقة أن تدمير الكيانات والتشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية التي تواجدت في القارة الأميركية حين استوطنها الأوروبي الأبيض، كان خياراً مقصوداً لتدمير حياة هذه الشعوب بيولوجياً من أجل خلق القاعدة المادية للرأسمالية الأميركية وشق درب تطورها الذي سلكته لاحقاً؛
- وهذا يعيننا على فهم سياساتها ومشروعها الإمبريالي الساعي للهيمنة واستغلال الشعوب؛
- بعبارة أخرى، إن هذا الاستعمار كان منذ بدايته مشروعاً لتوسع الشركات الأوروبية (بالطبع بدعم حكوماتها وجيوشها) إلى أجزاء أخرى من العالم بغية الاستيلاء على أراضٍ جديدة وبحثاً عن أسواق وموارد طبيعية، ما يعني، أن هذا الاستعمار لا يختلف في طبيعته وغاياته عن الاستعمار الأوروبي الذي غزا بلدان آسيا وإفريقيا.
- كل هذا يسعفنا على التخلص من الأوهام والخرافات بإن نشأة الولايات المتحدة جاءت نتيجة "نظرية الاكتشاف" دون سابق تخطيط أو مجرد "مصادفة المصير" الذي أودت بسفن كولومبس الى الشواطئ الأميركية.
- وأخيراً يكشف لنا هذا دور الأساطير والمفاهيم الغيبية والخرافات التافهة التي تهيمن على الخطاب والجمهور الأميركيين، ما يُبقي هذا الأخير في غيبوبة الجهل وهو ما يضمن تواطؤهما (الخطاب والجمهور المصفق) وتماشيهما مع سياسات حكومتهم بالطبع مع استثناء قلة من المناضلين والشرفاء.
ب) الطابع الإبادي: لا يتسنى فهم تاريخ الولايات المتحدة وطبيعة الدولة الأميركية ولا معاناة الشعوب الهندية الأصلانية والأضرار التي لحقت بها، دون التعاطي مع الإبادة الممنهجة التي ارتكبها المستوطنون الأوروبيون الأوائل وحكومة الولايات المتحدة لاحقاً (كدولة وجيش ومؤسسات) بحق هذه الشعوب، وبمعزل عن تدمير حضارات النصف الغربي من الكرة الأرضية وتوقف التقدم الإنساني وبتر التواصل الحضاري على هذا الجزء من العالم، لأن هذا كله ساهم في تشكيل المقدمة التاريخية والمادية لنشأة الرأسمالية الأميركية.
راهنية الإبادة الممنهجة: لقد استمرت هذه الإبادة منذ الغزو الأوروبي لأميركا الشمالية، مروراً بتاسيس دولة الولايات المتحدة وصولاً الى القرن الحادي والعشرين، واتخذت أشكالاً متعددة من الإرهاب والمجازر والغزوات العسكرية المتواصلة والمنظمة وتشريد الشعوب الأصلانية عن ارض أجدادهم واحتجاز أطفالهم في مدارس داخلية أشبه بالمنعزلات المغلقة وغيرها من وسائل التدمير والإبادة. غير أن هذا لم يتوقف عند ذلك الحد، فما زلنا نشهد أشكال الاضطهاد والقمع، وما زال العنف والقتل والتوحش وكراهية الآخر يتجلى في المجتمع الأميركي حتى يومنا هذا، لا ضد الهنود الأصلانيين وحسب، بل ضد السود والأقليات الملونة (غير البيضاء) وغيرها من الإثنيات والقوميات وحتى الديانات (الإسلام مثالاً)، وهو ما يفسر، ولو جزئياً، دوافع انتشار اقتناء الأسلحة النارية وضمان القانون للحق في امتلاكها وحملها وأعمال القتل العشوائية والمتكررة في المدارس والجامعات والأماكن العامة.
بالرغم من كل هذه المعاناة يحتفل الأميركيون في كل سنة بمناسباتٍ أصبحت أعياداً وعطلاً رسمية مثل "يوم الاستقلال" و"يوم كولومبس" و"عيد الشكر"، دون أدنى إشارة او اعتذار عن مثل هذه الجرائم.
الحروب الأميركية: استنساخ تجارب الإبادة
على هذه الأرضية يستطيع المرء أن يفهم جذور السياسات والحروب الأميركية التي نشهدها اليوم والتي بدأت على أرض الشعوب الأصلانية وضد سكانها، وهي حروب تهدف الى إفناء الآخر وتشير إلى سطوة الأسطورة واستخدام الأكاذيب في التعمية على الحقيقة كما حصل في طمس التاريخ الأميركي وحقيقة مصالح الرأسمالية الأميركية التي هي الهدف الرئيس لهذه الحروب.
لقد صاغ الأميركيون الأوروبيون البيض دور وموقع وتاريخ الشعوب الأصلانية في رواية التاريخ الأميركي على نحو يخدم الأكاذيب التي نسجتها الإمبريالية الأميركية حول ذاتها وسياساتها، وهي تعيد اليوم استنساخ هذه التجربة والأكاذيب مدّعية الدفاع عن حريات الشعوب والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، إاضافة الى الكذبة الكبرى التي تدّعى أن صون هذه الحريات لا يتسنى، إلا ب"الدعم الأميركي"، وهو ما يعني بالترجمة العملية مشروع الهيمنة الأميركية: أي أن أميركا "مفوضة" بتكليف ربّاني ورعاية إلهية بمهمة إنسانية وهي فرض الرأسمالية والاستغلال والهيمنة على شعوب العالم بالعنف تحت شعارات وادعاءات رفع شأنهم وتحريرهم وعونهم على التقدم والرقي وتحقيق الديمقراطية ... إلى آخر هذا الهراء.
نخلص مما جاء أعلاه إلى:
أ) أن الاستيطان والإبادة، كما سبق وذكرت، كانا القاعدة الأساسية لتطور الولايات المتحدة كقوة إمبريالية، وما الإمبراطورية التي نراها اليوم ممتدة إلى كافة أصقاع المعمورة، سوى النتيجة المنطقية لذات النهج الذي انتهجته الولايات المتحدة منذ تأسيسها.
ب) وأن أحد الدوافع والأسباب الرئيسية التي توجب تعرية حقائق التاريخ الأميركي هو أن السياسات الأميركية جوهريا لم تتغير، بالرغم من تغير الأساليب والآليات، لأن المصالح لم تتغير ونظرة الأميركي الأبيض إلى الآخر لم تتغير. فالبوصلة الثابتة هي مصلحة رأس المال وكل ما عداها فهو تفصيل ثانوي، لذا فالآخر متغير ومتبدل. وقد رأينا عبر قرون من عمر الرأسمالية الأميركية كيف تغير الآخر وتنقل من الهنود الأصلانيين إلى العبيد السود، مروراً ب"الشيوعي الأحمر" في غضون الحرب الباردة وصراع المعسكرين، وصولاً إلى العرب والمسلمين وشعوب العالم الثالث في الحقبة الراهنة. لهذا، ولغيره من الأسباب، لا زلنا نرى مشاهد الوحشية والتنكيل والجرائم البربرية التي تتكرر في الحروب الأميركية من فيتنام مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية.
في هذا كله، تكمن راهنية وأهمية فهم الخطاب الأميركي من هذا المنظور لأنه يعيننا على فهم السياسات الإمبريالية الأميركية وحروبها التي لا تتوقف والتي تهدف الى تدمير وتفكيك وإفناء شعوب وكيانات في اجزاء عدة في هذا العالم وعلى رأسها الشعوب العربية من أجل بسط هيمنتها الرأسمالية وضمانة أرباح شركاتها الكبرى.
وفي هذا تكمن أيضاً، أهمية وضرورة تعريف الوعي الإنساني الإنسانية بضرورة التمييز بين أكاذيب وشعارات الإمبريالية من جهة، وواقع الإمبريالية - الرأسمالية الوحشي والدموي والمناقض لقيم الإنسان وأخلاقه، من جهة أخرى.

(3)
خطابنا: رؤية قاصرة

لا شك أن الكثير من الكتّاب والمحللين العرب يعتمد خطاباً يتسم بمناهضة السياسات الإمبريالية والعدوانية الأميركية، غير أنه خطاب لا ينم، في كثير من الأحوال مهما علت نبرته، عن فهم موضوعي ومادي للعدو الإمبريالي، ولا يستند إلى تجليس هذه السياسات في سياق علاقتها وارتباطها بالرأسمالية العالمية والأميركية بشكل خاص. ولا نغالي إذا قلنا إن تطوير مثل هذه الرؤية لم يعد بالمهمة الشاقة ولا يعتبر اكتشافاً كبيراً أمام هذا القدر من المعطيات من تاريخ الرأسمالية الحافل بالدلائل والوقائع الدامغة على استهداف النظام الرأسمالي لشعوبنا وأوطاننا، وأمام ما رأيناه وما نراه اليوم من حروب ودمار في بلادنا وفي العالم.
ربّ قائلٍ بأننا دوماً نصدّر أزماتنا إلى الخارج، ونحيل مشاكلنا إلى العوامل الخارجية، ونتهرب من تحمل مسؤوليتنا ونلوم الآخر على فشلنا وما يحل بنا من نكبات وكوارث، دون أن نلتفت إلى الأسباب في واقعنا وداخلنا ومباطن ضعفنا، وهي مقولة صحيحة إلى حدٍ كبير. ولكن العوامل الداخلية ليست بمعزل عن الدور التاريخي للاستعمار وما خلفه من إرث وتبعية في بلادنا، وفي البلاد المستعمَرة عموماً، والذي يتمثل في خلق البنى والمؤسسات التي تضمن، بعد رحيله (الاستعمار) تبعية الأنظمة والقوى الطبقية الحاكمة والنخب السياسية والثقافية للغرب الاستعماري وربط عجلة تطورنا بمصالحه الإمبريالية.
كما أن العوامل الذاتية، على أهميتها وضرورة دراستها ومعالجتها، لا ينبغي أن تنفي أو تقلل من دور ومسؤولية الإمبريالية والرأسمالية في الكوارث التي حلّت ببلادنا وبأجزاء عديدة من العالم، بل، على العكس، كثيراً ما يؤكد هذه العوامل الذايتة/الداخلية على دور ومسؤولية الاستعمار في بلادنا وعلى الترابط الوثيق بين الداخلي والخارجي:
- فمّنْ منا يستطيع أن ينكر أن الغرب الرأسمالي قد نجح، وما زال، ببراعة وتخطيط، لما يقارب القرنين من الزمن، في استخدام وتوظيف الأدوات والقوى العربية وتسخيرها في خدمة أهدافه وتحقيق غاياته؟ (أي توظيف القوى المحلية من أنظمة وقوى طبقية وملوكٍ ورؤساء وأحزاب سياسية ونخب ومثقفين متواطئين وإعلام مأجور ومنظمات تُسمى نفسها "غير حكومية" وجمعيات أهلية ومدنية...).
- وهل كانت تجزئة المشرق العربي، على سبيل المثال لا الحصر، وفق حدود سايكس - بيكو (1916)، وما تلاها من استعمار بلادنا وتدمير كياناتنا، واقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، هل كانت خيار شعوبنا أم كانت نتيجة مؤامرة استعمارية مدروسة بالطبع بالتحالف مع عملائها المحليين؟
- وهل كانت اقامة كيانات قطرية هزيلة في سورية والعراق والأردن ولبنان، على سبيل المثال، تحكمها أنظمة ونخب عميلة تابعة للغرب الرأسمالي، وما جرّته على شعوبنا من ويلات، هل كانت خيار شعوبنا أم سياسات استعمارية لتحقيق مصالح طبقاتها الحاكمة وأرباح شركاتها الكبرى؟
أين الخلل؟
في خطابنا كثيراً ما تسود مقولات سطحية ومتناقضة وغبية، وأخرى دونية ومتخاذلة وخائنة لقضايا ومصالح شعوبنا، وتتناقض حتى مع دلالات الواقع والمنطق، نذكر منها على سبيل المثال: "أميركا صاحبة النوايا الطيبة" و"العراب النزيه" و"الممسكة ب 99% من الحل" و"النموذج الباهر للديمقراطية" و"الدولة الحامية للحريات وحقوق الإنسان" وغيرها من المقولات التي لم يعد يصدقها حتى أصحابها.
لأسباب عدة، ليس هنا مجال مناقشتها رغم أهيمتها، لم يعتني الكثيرون من كتّابنا ومثقفينا بالجذور والأسباب التي تقف وراء السياسات الإمبريالية، ولم يقدموا قراءة دقيقة وأمينة لواقعنا وأزماتنا، ما شكّل نهجاً هشاً فضفاضاً لا يصمد أمام تحديات "الزمن الأميركي" وخبث العدو وقدراته العلمية في البحث والدراسة والتخطيط، وإمكانياته الهائلة في السيطرة على الإعلام والتكنولوجيا ووسائل الثورة المعلوماتية وصناعة الرأي العام والتأثير الكبير على صنّاع القرار. أضف الى ذلك، أن قصور خطابنا يمتد بالمنطق وللسبب ذاته إلى العجز عن التصدي لمهام المرحلة وصياغة مشروعنا في المقاومة والنهضة، وإلى انسداد آفاق المرحلة التي نعيشها.
بعض سمات خطابنا
1) هوس الخطاب الإعلامي والسياسي في اللهاث وراء الحدث وتعبئة المواطن العربي بما هو آني ويومي على حساب الإستراتيجي، ما يحول دون التأسسي لوعي شعبي جذري. فعلى سبيل المثال، يلاحظ تجاهل الخطاب الإعلامي العربي، على ما في هذا من تعميم، لمسالة الرأسمالية والبعد الرأسمالي وعلاقته بالإمبريالية، ويتعامل مع السياسات العدوانية الأميركية كحالة آنية وكأنها معزولة عن النظام الرأسمالي الذي يسيّرها ويضعها في خدمة أهدافه ومصالحه. ففي حين يغرق خطابنا الإعلامي والسياسي بنقل الجانب الاخباري من سياسات الغرب الرأسمالي، فإن كتابنا ومفكرينا ينشغلون بتحليل الحدث ولا يولي الكثيرون منهم الاهتمام لفهم الحدث والتطورات في سياق استراتيجية الرأسمالية - الإمبريالية. بعد هذا، يطلق إعلاميونا وكتابنا أحكامهم على تداعيات الحدث ونتائجه المباشرة، ثم يتوقفون عند هذا الحد وكأن عقلنا قد أصابه العطل، ليعيدوا الكرة في اليوم التالي ومع كل يوم.
2) تفشي المفردات والمصطلحات الفضفاضة والقابلة للتأويل وتعدد التفسيرات والخالية من الدقة والموضوعية والعلمية.
3) لعل السؤال الذي يكثف هذه الإشكاليات هو: لماذا لا نتقن الغوص إلى جذور مشاكلنا رغم تكرارها وتكرار زعمنا بالافادة من العبر والمراجعات، ورغم الوضوح الذي يتسم به العدو الذي يعلن عن نفسه أينما كان؟
سؤال يحتاج بلا شك إلى وقفة أخرى طويلة ليس هنا مكانها.
كان من نتائج هذا الخطاب القاصر:
1) خلل في فهم الرأسمالية، وتجليس الإمبريالية في سياقها، كنظام عالمي يسعى للهيمنة على العالم لما ينوف عن خمسة قرون، ويشن من أجل هذه المسعى حروب الدمار على شعوب الأرض. بعبارة أخرى، ظل الالتباس والغموض سمة الخطاب العامة، ما أدّى إلى تغييب الطبيعة الرأسمالية - الإمبريالية للسياسات الأميركية وسعيها المحموم نحو الهيمنة لضمان أرباح الشركات الرأسمالية الكبرى فيما يشبه فك الارتباط بين السياسات الأميركية من جهة، والنظام الرأسمالي وزعيمته الولايات المتحدة، من جهة أخرى.
2) أما النتيجة الثانية، والتي لا تقل أهمية، فهي العجز عن فهم أن هذا النظام عنصري وإبادي في جوهره وطبيعته: يرفض الآخر ويعمل على إبادته فيزيائياً وتدمير بنيته المادية والبشرية ومحو تراثه وثقافته وموروثه المعرفي والحضاري، وأن هذه النزعة ليست أمراً عابراً من الماضي، بل هي سمة أصيلة ما زالت حاضرة، ولا تقتصر على العلاقة مع الشعوب الهندية الأصلانية أو السود أو الأقليات الإثنية والقومية في الولايات المتحدة، بل تستهدف كل ساحات الصراع في العالم وفي الوطن العربي خاصة.
3) هكذا يساهم خطابنا من حيث يدري أو لا يدري وعلى نحو شبه مستور في برمجة وعي الشعوب واعادة هندسته بتزييف الحقائق والعلاقة بين الرأسمالية والإمبريالية.
"ما الذي جلب على شعبي هذا الويل"؟
يحرّض المشهد في بلادنا على سؤال: ما العمل؟ وأي مستقبل ينتظرنا؟ وإلى أين نحن ماضون؟ ولكنه يحرّض أيضاً، وربما أكثر من أي وقت مضى، على سؤال الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه: أي كيف وصلنا إلى هنا؟ سؤال طرحه كثيرون وعلى مدى عقودٍ طويلة في القرنين الماضيين، وربما عبّر عنه الشهيد أنطون سعادة أبلغ تعبير حين تساءل:"ما الذي جلب على شعبي هذا الويل"؟
منذ عقود ومحاولات الاجابة وتصورات الحلول تتوالى، وقد تجسدت في طيف من الحركات والتيارات والأحزاب ذات مشارب وتوجهات ومرجعيات فكرية وسياسية متنوعة (قومية عربية، قومية سورية، حركات إسلامية وأخرى شيوعية/اشتراكية). تعددت الرؤى، كل على هواه.
صحيح أن عقود القرن العشرين حملت لنا العديد من الانجازات والانتصارات، ولكننا ابتلينا أيضاً بالكثير من الاخفاقات والهزائم. وبالرغم من عِبَر التاريخ التي كثيراً ما ندّعي أننا "راجعناها" وفهمناها وتعلمنا منها، ما زلنا نداور العقل حائرين في الاجابة على السؤال المركزي: مَن هو عدو شعوبنا؟
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مع النهوض القومي العربي الذي رافق نهوضاً عظيماً لحركات التحرر والأحزاب اليسارية والمناهضة للاستعمار والإمبريالية بين شعوب العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، في تلك المرحلة الخصبة بالتغيرات السياسية والاجتماعية العميقة، كان لنا دور وموقع فكتبنا العديد من شعارات المرحلة ورسمنا تصوراتنا لمعسكر الأعداء وكذلك معسكر الحلفاء والأصدقاء. غير أننا توقفنا عند لفظية الشعارات دون أن ننتج لها وعياً لدى الحاضنة الشعبية ودون أن نسندها بفهم للعدو ومكوناته بما هو أبعد من الشعارات النارية التي تروق لآذان الجمهور المصفق، ودون أن نصيغ مشروعاً للتغيير وبرامج نضالية لترجمة هذه الشعارات وتطبيقها على أرض الواقع، والأخطر دون أن نعدّ وننظم الرافعة الاجتماعية لمشروع الثورة والتغيير (اسوةً بثورات القرن العشرين التي أنجزت التغيير والتي اعتدنا التغني بها مثل ثورات الصين وفيتنام وكوبا وغيرها).

خاتمة
نحو تحديد واضح للعدو الرئيس

في معاداته للإمبريالية، ورغم صراخه العالي منذ ستينيات القرن الماضي، ما زال خطابنا يحرث في البحر، ولم نتمكن من تكوين الفهم ولا صقل الوعي الشعبي، بأن الرأسمالية هي العدو الرئيس. وما زال خطابنا يصر على تجاهل المسألة الرأسمالية ويتعامل مع سياسات الغرب الراسمالي (حتى حين يسميها "إمبريالية") وكأنها أمر منفصل عن النظام الرأسمالي ومصالحه ومخططاته، هذا النظام بشموليته وتجلياته وأشكاله وآلياته وأدواته المختلفة خلال حقباته المتوالية من الكولونيالية الكلاسيكية إلى الإمبريالية وحقبة العولمة الرأسمالية التي نعيشها اليوم. فمهمة الخطاب لا تكمن في توصيف الحدث واللهاث خلفه، ولا في البكائيات أمام الكوارث، بل تتمثل في (1) فهم السياسات الإمبريالية وربطها بطبيعة النظام الرأسمالي وبأهداف ومصالح القوى الطبقية الحاكمة والشركات الرأسمالية في بلدان المركز الرأسمالي وزعيمته الولايات المتحدة. هذا، من جهة، و(2) تحديد الصراع مع هذا النظام وآلياته ك"تناقض تناحري" ذي الأولويه بين الصراعات والتناقضات المحتدمة في بلادنا، من جهة أخرى.
هكذا يتبلور الخطاب المعادي للرأسمالية والإمبريالية معاً ولكافة قوى ومكونات الثورة المضادة التي تنطوي تحت مظلتها. وحينها، حينها فقط، تتوجه بوصلة الصراع بدقة ضد الثورة المضادة حيث يتم تحديد مكوناتها من القوى والأنظمة العربية التابعة والعميلة والكيان الصهيوني والرأسمالية - الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وعندها نكون قد كسبنا معركة الوعي والتي بدونها لن نحرز النصر، وبدونها لن نتقدم في مشروع المقاومة والنهوض العربي لأن الوعي يسبق السلاح، والفهم يكون قبل اللهاث وراء الخبر.
تلك هي المهمة الملحة التي تقع على أصحاب صناعة الوعي من المثقفين والمفكرين والكتاب العضويين الملتزمين بمصالح الطبقات الشعبية التي لم يعد أمامها متسعاً من الوقت أمام هذا الخراب والدمار الذي حلّ ببلادنا ... وبعقولنا.

بعض المراجع والقراءات

1) مسعد عربيد: "الرأسمالية الأميركية ومحو الآخر"، موقع "كنعان" على الرابط التالي:
https://kanaanonline.org/ebulletin-ar/?p=23917
2) مسعد عربيد: "أميركا: مشروع هيمنة (قراءة تاريخية)"، موقع "كنعان" على الرابط التالي:
https://kanaanonline.org/ebulletin-ar/?p=23915
3) مسعد عربيد: “أميركا الأخرى: أميركا في عيون مغترب عربي”، دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة، عمّان، الأردن، ديسمبر 2013
4) Roxanne Dunbar-Ortiz: An Indigenous Peoples’ History of the United States, Beacon press, Boston, 2014
5) Charles C. Mann, 1491: New Revelation ot the Americas before Columbus, Vintage Books, New York, Second edition, 2013.
6) Charles C. Mann, 1493: Uncovering the New World Columbus Created,Vintage Books, New York, First Edition, 2012.