نحو قراءةٍ للولايات المتحدة ككيان -استيطاني – إبادي- لماذا تعنينا؟ وماذا تعني لنا؟ (الجزء الأول)


مسعد عربيد
2016 / 7 / 29 - 02:50     

مقدمة
ما دفعني إلى هذه الكتابة هو ما نشهده من تخبط في الخطاب العربي المعادي للإمبريالية والشعارات الساخنة التي يطلقها منذ عقود، والذي يعمد من حيث يدري أو لا يدري وعلى نحو عنيد، إلى تغييب وتهميش البعد الرأسمالي في فهم الإمبريالية ومعركتنا معها وموقفنا منها.
تنطلق هذه الدراسة من ركيزتين أساسيتين:
الأولى، إن الرأسمالية، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، هي العدو الرئيسي للشعوب العربية وللإنسانية جمعاء؛ ما لا يعني بالطبع أنها العدو الوحيد ولا ينفي تعدد الأعداء وتكاثر أدواتهم وحلفائهم الإقليميين والمحليين، بل وتنوع أدوارهم وتخصصاتهم.
والثانية، إن الخطاب المعادي للإمبريالية الأميركية ووكلائها في مركز رأس المال العالمي والإقليم والمنطقة العربية، أو الخطاب الذي يزعم ذلك، يظل قاصراً لا يكتمل دون تجليسه ضمن الخطاب الأشمل وهو معادة الرأسمالية. وهذا يعني أن مناهضة العدوانية والإمبريالية الأميركية، يظل حراثاً في البحر، إن لم يحارب الرأسمالية. وفي هذا تكمن احدى إشكاليات الخطاب العربي السائد والتي سنناقشها لاحقاً.
لهذه الأسباب، فإن هذه الدراسة تعنى أساساً ببناء فهم للولايات المتحدة (منذ نشأتها وعبر حقبات تطورها السياسي والاقتصادي والعسكري كزعيمة للرأسمالية والإمبريالية)، كمشروع هيمنة وككيان استعماري - استيطاني - إبادي. ويتطلب هذا الفهم تناول حقائق التاريخ الأميركي في الاستيلاء على الأرض وإبادة السكان الأصلانيين واستعباد الأفارقة وغيرها من عوامل النمو والتوسع في التأسيس للتراكم الرأسمالي ونشأة الرأسمالية الأميركية.
لقد وزعت هذه الدراسة على ثلاثة أجزاء:
1) قدمت في الجزء الأول إضاءات على المستور من حقائق التاريخ الأميركي ونشأة الدولة الأميركية وتبيان كيف نسج الأوروبي الأبيض أسطورة أميركا وكشف عملية تزييفه الممنهج لتاريخها. وقد حاولت ذلك من خلال تقديم قراءة مختلفة للحقبة المبكرة من التاريخ الأميركي من منظور كونها حالة استعمار- استيطاني - إبادي.
2) تناولت في الجزء الثاني دور الأسطورة وتوظيفها في بناء "الخطاب الأميركي" حول "أميركا" وموقع الشعوب الهندية الأصلانية في هذا الخطاب، وصولاً إلى التأسيس للتراكم الرأسمالي الأولي (عبر نهب الأراضي وإبادة السكان الأصلانيين وتدمير كياناتهم واستعباد الأفارقة لاحقاً...)، والذي لعب (أي التراكم) دوراً مركزياً في نشوء الدولة الأميركية وبناء القاعدة المادية الرأسمالية الأميركية وتطورها وتوحشها، ما يتجلى اليوم في مرحلة الإمبريالية.
وبما لا يقل أهمية نافشت كيف استنسخت الإمبريالية الأميركية خبرتها في الإبادة الوحشية للشعوب الأصلانية، في حروبها اللاحقة على الشعوب الأخرى والتي أصاب الشعوب العربية قسطاً وفيراً منها في العقود الأخيرة.
3) يتضمن الجزء الأخير قراءة نقدية "لخطابهم" وأيضا "لخطابنا" ومواطن الخلل فيه خصوصا في رؤيته القاصرة والغبية التي لا تربط، بل تصر على الفصل، بين "معاداة" الإمبريالية والعدوانية الأميركية من جهة، وطمس البعد الرأسمالي الأميركي والغربي وعلاقة الرأسمالية البنيوية بالعدوانية والإمبريالية الأميركية، بل خطابنا كثيراً ما يرفض تحديد الرأسمالية في موقع العدو الرئيس لشعوبنا وللإنسانية باسرها.
قراءة في "سرديات" نشأة أميركا والرأسمالية الأميركية
التاريخ... مقلوباً رأساً على عقب
يبدأ التاريخ الأميركي، في عقول الملايين في الولايات المتحدة وخارجها، مع اطلالة القرن الثامن عشر وإرهاصات الثورة الأميركية وصولاً الى استقلالها عن بريطانيا عام 1776. وتستمر الكذبة لتتجلى في أن أغلبية الشعب الأميركي، ومعه أكثرية سكّان العالم، تظن أن استقلال الولايات المتحدة يعني استقلال الدولة الأميركية بمساحتها الجغرافية كما نعرفها اليوم والممتدة في عرض القارة الأميركية الشمالية بين المحيطين الأطلسي والهادئ. غير أن حقائق التاريخ والجفرافيا تخالف هذا الاعتقاد السائد، إذ أن الأراضي التي تم استقلالها في ذلك العام 1776 تقتصر على المستعمرات الثلاث عشر المحاذية للمحيط الأطلسي، أما بقية المساحة الجغرافية الأميركية فقد تمت اضافتها لتلك المستعمرات في العقود اللاحقة وبعد ما يقارب قرن من تاريخ يوم الاستقلال المذكور، لتُشكّل ما يُسمى اليوم الولايات المتحدة الأميركية.
تختزل هاتان الكذبتان فبركة لتاريخ الولايات المتحدة لتصيغ الأسطورة التأسيسية للدولة الأميركية في جانبين هامين:
الأول، طمس تاريخ القارة الأميركية الشمالية قبل نشوء واستقلال ما يُسمى اليوم ب"الولايات المتحدة الأميركية"، اي تغييب تاريخ الشعوب التي عاشت على هذه الأراضي قروناً مديدة وطمس تاريخها الذي يعود إلى آلاف السنين قبل وصول كريستوفر كولومبس.
أما الكذبة الثانية، والتي تنبثق من الأولى وتتستر بها، هي أن الأرض التي قامت عليها الدولة الأميركية كانت "أرضاً بدون شعب" Terra Nullius قبل وصول المستوطنين الأوروبيين البيض وكأنها كانت خالية من السكّان.
كيف نسج الأوروبي الأبيض أسطورة أميركا؟
للتدليل على مقدار التزوير الذي لحق بتاريخ الولايات المتحدة، نناقش فيما يلي هاتين الكذبتين بتقديم بعض الإضاءات على حقائق جغرافيا الولايات المتحدة وتاريخها وديمغرافيتها:
الأولى: كذبة الجغرافيا
لقد تم زرع المعلومة الخاطئة عن نشأة واستقلال الولايات المتحدة، كما ذكرنا، والتي تقوم على أن أميركا التي أعلنت استقلالها عن بريطانيا عام 1776 (1) قامت على المساحة الجغرافية المعروفة اليوم ب"الولايات المتحدة الأميركية"، بالإضافة إلى (2) ترسيخ فكرة "ارض بدون شعب" وكأن الشعوب الهندية أي الأميركية الأصلانية لم توجد يوماً على هذه الأرض.
وبدون الدخول في تفاصيل التاريخ، يحسن بنا أن نشير إلى بعض وأهم وقائع التوسع الجغرافي التي تلت اقامة الكيان الاستيطاني الذي تأسس على إبادة الهنود الأصلانيين ونهب أراضيهم، هذا التوسع الذي أضاف للمستعمرات الثلاث عشر أجزءًا شاسعة من مساحة الولايات المتحدة الراهنة:
(أ) شراء لويزيانا من فرنسا: تبلغ مساحة لويزيانا 828 مليون ميل مربع وقد تمّ شراؤها من فرنسا عام 1803، وبضمها تضاعفت مساحة الدولة الأميركية الجديدة عن تلك التي استلقت عام 1776. ويعتقد المؤرخون أن الأسباب الرئيسية التي دفعت نابليون للتنازل عن لويزيانا وبيعها للولايات المتحدة تكمن في:
▪ انتصار "ثورة العبيد" في هايتي (1791- 1804) وعجز فرنسا عن قمعها؛
▪ احتمال نشوب الحرب مع بريطانيا وتخوف نابليون من محاصرة الأسطول البريطاني لفرنسا؛
▪ الصعوبات الاقتصادية التي كانت تواجهها فرنسا آنذاك.
(ب) الاستيلاء على ما يقارب 52% من أراضي المكسيك في الحرب المكسيكية ـ الأميركية (1846 ـ 1848)، وما تلاها من ضم مساحات واسعة من أراضي تكساس. وبالإضافة الى ضم هذه الأراضي، فقد تم ضم سكانها أيضاً إلى الولايات المتحدة. وهكذا، أصبح المكسيكي، صاحب الأرض، دخيلاً في وطنه.
(ج) شراء ألاسكا: أما ولاية ألاسكا فقد تمّ شراؤها من الإمبراطورية الروسية عام 1867حيث قام الإمبراطور الروسي ببيعها تحت وطأة ضغوطٍ اقتصادية كبيرة، بالإضافة الى تخوفه من أن يفقدها في حربة مع بريطانيا التي كانت متفوقة على روسيا عسكرياً. وتبلغ مساحة ولاية ألاسكا ما يفوق المليون ونصف كيلومتر مربع 1,518,800) ).
الثانية: كذبة الديمغرافيا
يُقدَم التاريخُ الأميركي، أو لنقل على الأقل هكذا تعلمه وقرأه الكثيرون، وكأنه خالياً من تاريخ الهنود الأصلانيين الذي استمر على الأراضي الأميركية آلاف السنين قبل وصول الأوروبيين البيض وقيام الولايات المتحدة.
- هكذا يتم تغييب ومسخ قرونٍ طويلة سبقت استقلال الولايات المتحدة ونشأة الدولة وفق الرواية الرسمية، ومعه يختفي تاريخ من الاستعمار الاستيطاني والإبادة الذي سبق نشأة الدولة واستمر بعدها حتى يومنا هذا.
- هذا يعني غياب الفهم والوعي بنهب أراضي السكان الأصلانيين في أميركا الشمالية وإفناء حضاراتهم وكياناتهم الاجتماعية، وكذلك تغييب مقاومتهم لغزوة الأوروبي الأبيض ومحاولات إبادتهم وكفاحهم من أجل الحفاظ على الذات والسيادة وحقوقهم الإنسانية.
- هذه القرون الضائعة تمثل الحقبة التي شهدت الاستيلاء على أراضي القارة الأميركية الشمالية وإبادة سكانها الأصليين ونهب مواردها تمهيداً للتراكم المادي الذي شكّل الأساس الاقتصادي للرأسمالية الأميركية وتشكيلتها الاجتماعية كما نعرفها اليوم.
- وعليه، فإن ثنائية الاستعمار الاستيطاني وإبادة الهنود قبل وصول العبيد من شواطئ إفريقيا، تشكّل الأرضية التأسيسية للولايات المتحدة.
لعل أخطر ما في تغييب البعد الاستيطاني - الإبادي هو طمس التراكم البدائي الذي شكّل الأساس المادي لنشـأة الرأسمالية الأميركية وتطورها الهائل فيما بعد، ذلك التراكم الذي حصده الرأسماليون الأوائل في المراحل المبكرة واتصف باقتلاع الإنسان عنوة عن أرضه، والفلاح عن مصدر إنتاجه (الأرض)، وطرد السكّان الأصلانيين عن أوطانهم وإبادتهم إبادة ممنهجة بعد نهب أراضيهم وسرقة الأراضي المشاعة وصولاً الى عبودية الأفارثة واستحضارهم إلى أميركا اشمالية وغيرها من آليات وأشكال الاستغلال الاستعماري.
السمة الاستيطانية والإبادية للكيان الأميركي
لعقود عديدة، شاع في سرديات التاريخ الأميركي توصيف العلاقة مع الهنود الأصلانيين بمفردات مثل التشريد والاغتصاب والقتل وسلخ جلدة الرأس وغيرها، إلى أن ظهر مصطلح "الإبادة" في سبعينيات القرن الماضي خصوصاً في الأوساط السياسية والأكاديمية الأميركية والدولية. فإذا حكّمنا المعايير الدولية لمفهوم الإبادة، فإننا نجد أنها تنطبق على الإبادة العرقية للهنود الأصلانيين في أميركا. فالأمم المتحدة تعرف الإبادة في المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1949، ك"أي فعل من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه"، ومن هذه الأفعال القتل، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم، إخضاع عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا وغيرها.
هذا من حيث البعد الإبادي، أمّا من حيث الاستعمارالذي وقعت تحته الشعوب الأصلانية في أميركا الشمالية، فهي تتطابق مع مقومات الاستعمار الاستيطاني بمفهومه الحديث: غزو المستوطنين الأوروبيين البيض لأراضٍ أجنبية وإبادة السكان الأصلانيين ونهب الأراضي والموارد وما تبع ذلك من توسع الشركات الأوروبية وأرباحها ونموها الاقتصادي. فالاستعمار - الاستيطاني بكل أشكاله هو في جوهره إبادة أو محاولة إبادة شعب آخر. غير أن ما يميّز الاستعمار في أميركا الشمالية، بالإضافة الى جرائم الإفناء والإبادة، هو محو تاريخ هذه الشعوب وحقيقة وجودها وهو ما يُعاد إنتاجه حتى يومنا هذا ويتجسد في السردية التي ما فتأت تتكرر في التاريخ المدوّن لأميركا. فالتاريخ الأميركي لا يتنكر ولا يخجل، وفق تصريحات العديد من مسؤولية، حول إبادة الهنود الأصلانيين، بل هي حقيقة موثقة. ونسوق على سبيل المثال ما كتبه عام 1836 الجنرال توماس جيسوب Thomas Jesup :"لا يستطيع هذا البلد التخلص منهم [يقصد الهنود الأصلانيين] إلاّ بافنائهم". إضافة ألى أن سلخ جلدة رأس الهندي الأميركي (ومن هنا جاءت مفردة "الهنود الحمر") والتجارة بها أصبح سلاحاً في الحرب ضد الهنود الأصلانيين منذ أواسط القرن الثامن عشر، وأضحى القائمون بهذه الأعمال "أبطالاً وطنيين". وقد أخذت تجارة جلدة رأس الهندي الأميركي تدر أرباحاً كبيرة، لا في زمن الحرب وحسب، بل وفي زمن السلم أيضاً، وأصبح لها "سوق سوداء" أيضاً.
مركزية الأرض في المشروع الاستيطاني - الإبادي
□ لقد شكّلت الأرض على الدوام محور ومحرك التاريخ الأميركي وجوهره. ويتضمن معنى الأرض هنا كلَ ما عليها وما في باطنها ومَن يملكها ومَن يفلحها ويتحكم بمياهها وغاباتها وثرواتها، وبالمعنى ذاته ايضاّ، من منظور الاستعمار الاستيطاني، مَن يغزوها وينهبها ويحولها الى سلعة عقارية تبادلية تُباع وتُشترى.
فعبر تاريخ طويل من اغتصاب الأرض تقلصت مساحة الأراضي التي يقيم عليها أو يمتلكها الهنود الأصلانيون الى 5و2% من مساحتها الأصلية. وقد تم ذلك عبر عمليات مستمرة وممنهجة لسرقة الأراضي وشرائها وإغواء السكّان المحليين و"خصخصة" الحكومة واقتطاعها لأجزاء كبيرة منها.
هكذا أضحت الأرض السلعة الرئيسة والأولية في سياسة الاستعمار - الاستيطاني في الولايات المتحدة، وهي سياسات تعود، كما هو واضح، إلى بدايات نشأة الكيان الأميركي على الرغم من اختبائه تحت عباءة "التنقل والهجرة بين الولايات المختلفة" و"تنظيم الحدود" وغيرها من العبارات المنمقة الخادعة.
□ إن السمة المميزة للاستعمار الاستيطاني هي إبادة السكّان الأصلانيين من أجل الاستيلاء على الأرض، غير أن هذه الإبادة لم تقتصر على السياسات الحكومية بل شاركت فيها ميليشيات مسلحة تطوعية مكونة من المستوطنين أنفسهم.
كان من المنطقي نتيجة هذا الفصل بين الشعوب الأصلانية وأضها وتاريخها وتطور وجودها المادي والمكاني، أن ينفي الخطاب الأميركي حضارات هذه الشعوب وثقافاتها ومعارفها التي راكمتها عبر قرون طويلة في سعيها لتأمين احتياجاتها والحفاظ على بقائها وأمنها وذلك من خلال دراسة قوانين الطبيعة وفهمها وتطويعها لخدمة أنشتطهم واحتياجاتهم الحياتية.
بعبارة أخرى، إن ما فعله المستوطنون الأوروبيون هو القطع مع الأساس المادي للتاريخ وحركته والمخزون المعرفي والحضاري لهذه الشعوب، ما يعني بتر تاريخها وتطوره والإبقاء على بعض القصص والأساطير والتأويلات الغيبية عن الهنود الأصلانيين. وهكذا يتحقق ما سعوا إليه وهو إنتاج الوهم بأن تاريخ أميركا قد جاء طفرة دون سابقة وانبثق من الفراغ والعدم، ومن ثَمّ تأسيس أسطورة نشأة الولايات المتحدة وتنحية العوامل والأهداف الموضوعية للتوسع الاستعماري الغربي في هذا الجزء من العالم.
التمييز العنصري ودوره في تغييب البعد الاستيطاني
عاشت أميركا خلال عقد ستينيات القرن الماضي حقبة النضال من أجل الحقوق المدنية التي تزعمتها حركة تحرر السود الأميركيين، وهو النضال الذي سلّط الضوء على حقيقة الواقع والتاريخ الأميركيين. بعد عقد الستينيات أخذ المؤرخون والأكاديميون يشيرون إلى دور ومساهمات السود والمرأة والمهاجرين والأقليات، وكان من حصيلة هذه التطورات أن ساد خطاب "أميركا أمة المهاجرين" A nation of Immigrants (حسب القول المشهور للرئيس الأميركي الراحل جون كنيدي) والذي أدى، وربما عن قصد، إلى طمس الممارسات الاستعمارية - الاستيطانية في الولايات المتحدة من خلال دمج المهاجرين في المدن الأميركية خلال وفي أعقاب الثورة الصناعية. وفي سياق هذه العملية وتطوراتها المتلاحقة تمّ تغيير اسم الهنود الأصلانيين الى "الأميركيين الأوائل" The First Americans.
غلَبَت، في تلك الآونة، سمة العنصرية والتمييز العنصري على الجدل الدائر في الفضاء السياسي والإعلامي والأكاديمي في الولايات المتحدة لعقود طويلة وما زال حتى يومنا هذا. في ظل هذا الخطاب، كثيراً ما تُوصف سياسات الولايات المتحدة والأوروبيين البيض تجاه الشعوب الهندية الأصلانية بأنها عنصرية، وهكذا يتم وضع هذه الشعوب إلى جانب السود الأميركيين في سلة واحدة مع غيرهم من الأعراق والإثنيات التي استولت الولايات المتحدة على أراضيهم بعد استقلالها عام 1776 فاصبحت أميركا وطناً لهم كما هو حال المكسيكيين والبوتوريكيين على سبيل المثال، هذا بالطبع بالإضافة الى ملايين المهاجرين من كافة أرجاء العالم الثالث.
ينجم عن هذا، أن غَلَبة التمييز العنصري كسمة رئيسة في التاريخ والخطاب الأميركيين، عل الرغم من أهميتها وبشاعتها، تُغيّب حقيقة ما فعله الأوروبيون البيض حيال الشعوب الهندية الأصلانية أي الاستعمار- الاستيطاني- الإبادي لأوطانهم. فالعنصرية والجدل فيها، يجب ألاّ يغيّب عن بالنا أن الأوروبيين البيض المؤسسين للولايات المتحدة، وقبل أن يتجهوا نحو شواطئ إفريقيا الغربية لاستحضار العبيد، كانوا قد شنوّا حروب إبادة جماعية شاملة لعقود طويلة ضد الشعوب الهندية الأميركية الأصلانية واستوطنوا أراضيهم ونهبوا ثرواتهم ودمروا كياناتهم كشعوب وأوطان كان تعدادها بالمئات. بكلمات أخرى، ينبغي النظر إلى الولايات المتحدة ككيان عنصري - إبادي وصياغة خطاب أبعد من التمييز العنصري وعبودية الأفارقة، خطاب يتناول جذور الدولة الأميركية الذي قام على ركام أوطان الشعوب الهندية الأصلانية وإبادتها واستيطان أراضيها.
هنا يكمن التزييف المتأصل في التاريخ الأميركي، فالنظام ليس عنصرياً وحسب، بل هو إباديّ ضد الشعوب الأصلانية قبل أن يكون عنصرياً ضد الأفارقة السود وغيرهم. فلا فصل بين مسألة الإبادة من جهة، والاستعمار الاستيطاني من جهة أخرى، فالأرض هي الحياة وهي ضمانة البقاء.
كل هذا يفضي بنا الى الاستنتاج بأن العلاقة التي حكمت الأبيض الأوروبي بالشعب صاحب الأرض هي حالة كلاسيكية لعلاقة إمبريالية وشكل من اشكال الاستعمار الاستيطاني، وليست مجرد تمييز عنصري.
أما العالم الخارجي فلا زال ينظر إلى أميركا منبهراً بالصورة التي قدمتها عن نفسها وأتقنت أخراجها وتخريجها: البلد الديمقراطي الذي يعترف بنقائصه ومشاكله (الجدل الأزلي حول التمييز العنصري في أميركا مثالاً) ويناقشها بحرية مطلقة يشارك فيها المجتمع بأسره بما فيه رؤساء وسياسيو الدولة فيما يشبه حالة من النقد الذاتي ولحظة الصدق والتصالح مع الذات ومع التاريخ.
مقاومة الشعوب الأصلانية
لا يذكر التاريخ شعباً تنازل طوعاً للمستعمرين عن أرضه وثرواته ومستقبله وسلّم وطنه دون مقاومة المحتل الذي يرد دوماً مستخدماً وسائل العنف والقتل. غير أن الكذبة الأولى تولّد الأخرى، فبعد طمس تاريهخم، عمد الخطاب الأميركي السائد الى طمس مقاومة الشعوب الهندية الأصلانية للاستيطان الأوروبي البيض في أراضيهم. والحقيقة ان هذا الاستعمار لم يمرّ دون مقاومة هذه الشعوب التي أدركت أن هدف المستعمِر هو محوها من الوجود وإبادتها الجماعية كشعب لا كافراد. وهو ما يمثل جوهر الإبادة. لذا كافحت هذه الشعوب منذ البداية دفاعاً عن هويتها وقيمها ووجودها الجمعي، واستخدمت في ذلك أشكالاً ووسائل متعددة، دفاعية وهجومية، بما فيها الكفاح المسلح كما هي الحال في حركات التحرير الوطني والذي يُسمى اليوم "إرهاباً". وعلى خلاف ما يظن الكثيرون، فإن هذه الشعوب لم تكن سلبية ولا مستكينة بل صمدت وقاومت الاستعمار بديناميكة مستمرة. وليس الحفاظ على الذات، رغم قرونٍ من عمليات الإبادة المستمرة حتى يومنا هذا، سوى ثمرة لهذه المقاومة.