لا يمكن إصلاح العملية السياسية في العراق دون التخلص منها / 3 و الأخيرة


حسين علوان حسين
2016 / 7 / 19 - 16:42     

ء. مفهوم الشريحة الطبقية
يمكن للطبقة الاجتماعية الواحدة أن تتشكل من عدة أجزاء ؛ بل أنه من الناحيتين العملية و الجدلية يصعب تصور وجود طبقة اجتماعية واحدة متراصة الصفوف دون وجود شكل من أشكال الصراع الداخلي الخفي أو الواضح بين مكوناتها ؛ أي بين "شرائحها" حسب المصطلح المستخدم في مقالتي . و لذا فقد استخدم ماركس و انجلز مصطلح "البرجوازية الصغيرة" تمييزاً لها عن "البرجوازية الكبيرة" ، و كلاُ منهما يمثل شريحة مكونة لنفس الطبقة الأم . و يمكن أن يكون الصراع القائم بين الأقسام (أو الاجزاء أو الشرائح أو الفئات المؤلفة للطبقة الواحدة ، إن شت) تنافسياً أو تكاملياً أو حتى تناحرياً ؛ نابعاً ليس فقط من تضارب المصالح ، بل و كذلك بسبب تقسيم العمل بينها . يشرح ماركس و انجلز في الأيديولوجيا الألمانية كيف يمكن أن ينشأ الصراع الفكري بسبب تقسيم العمل بين الشريحتين المكونتين للطبقة الحاكمة الواحدة .
"يُظهِر تقسيم العمل – الذي رأيناه آنفاً كأحد القوى الرئيسة للتاريخ حتى الآن – نفسه كذلك في الطبقة الحاكمة بهيئة التقسيم الذهني و المادي للعمل بحيث يبزغ جزءً من داخل الطبقة الحاكمة كمفكرين لها (مؤدلجيها الناشطين فكرياً ممن جعلوا من استكمال الصورة الوهمية لطبقتهم عن ذاتها مصدر عيشهم الرئيسي) في حين أن موقف الجزء الآخر تجاه هذه الأفكار و الأوهام يكون سلبياً و متلقياً لكون أفراده في الواقع هم الأعضاء الناشطين في هذه الطبقة ممن لا وقت لديهم لتأليف الأوهام و الأفكار عن أنفسهم . و يمكن لهذا الصدع داخل الطبقة الواحدة أن يتطور إلى تعارض أو تناحر معين بين جزئيها ، و هو الأمر الذي سيؤدي عند التصادم الفعلي بينهما إلى تعريض الطبقة ذاتها للخطر ، و لكنه لن يسفر عن أي شيء ذاتياُ . و في هذه الحالة سيتلاشى الخداع المظهري بكون الأفكار الحاكمة ليست هي الأفكار للطبقة الحاكمة لعامي أن لها سلطة مستقلة عن سلطة الطبقة الحاكمة ."
رابعاً / ألية توزيع إيرادات العراق النفطية
تنتج شريحة عمال النفط العراقيين بمساعدة الفنيين و المهندسين النفط الخام الذي يُصدَّر إما رسمياُ أو بالتهريب ، و يتم توزيع صافي إيراداته حسب التخصيصات المقررة لأبواب الصرف في الموازنات السنوية العامة المقررة للوزارات . عند صرف هذه التخصيصات تقوم شرائح البرجوازية الطفيلية بالاستيلاء لنفسها على الجزء الأكبر من أموال تلك التخصيصات المصروفة على شكل رواتب ضخمة جداُ و مخصصات خرافية و كومشنات فلكية ، و مشاريع وهمية . كما تستحوذ لنفسها على إيرادات التهريب و بيع ممتلكات المواطنين المهجرين أو المهددين بالهجرة و بيع ممتلكات الدولة و موجوداتها و فرض الإتاوات وو . الدورة هنا تأخذ شكل (نفط - نقد- سرقة) ؛ و / أو حتى مجرد (نقد – سرقة) و تشمل حتى القروض الخارجية للعراق . و تتجدد هذه الدورة تلقائياُ كل سنة مدعومة بارتفاع أسعار برميل النفط الخام من 60 دولاراً عام 2005 ، إلى 100 دولار عام 2007 ، إلى 140 دولار عام 2008 ، و 100 دولار لعامي 2011/2 ، و 110 دولار عام 2013 و ما بعده قبل انخفاضه عام 2015 إلى أقل من 50 دولار . و حتى عند انخفاض أسعار النفط الخام ، فقد حافظت البرجوازية الطفيلية على نفس إيراداتها من السرقة بل و حتى زادت في ذلك عبر سرقة رواتب الموظفين و المتقاعدين و أيقاف صرف مستحقات آلاف المقاولين و سرقة مليارات القروض و المساعدات الخارجية . هذا الشكل من الاقتصاد فريد و لم يعرف له التاريخ مثيلاً لكونه يجمع بين عناصر الاقتصاد المافيوي و عناصر الاقتصاد الريعي الاستخراجي . . و هو مغطى قانونياً حسب الأصول و يتم "حسب مواد الدستور" .
خامساً / شكل نظام الحكم في العراق 2005-2016
نأتي الآن على توصيف شكل نظام الحكم في العراق الذي تمخض أخيراً عن التحالف الكردي-الشيعي الكارثي منذ حكومة الجعفري الأولى في 28 نيسان ، 2005 . لدينا الآن طبقة حاكمة تزداد تجذراً يومياً قوامها السياسيون المحترفون الفاسدون من قادة عشرات الأحزاب القومجية و الدينجية و محاسيبهم و شللهم و مللهم الذين يتقاسمون فيما بينهم أعلى المناصب في كل أجهزة الدولة و شركات القطاع الخاص ، و يتولون لحسابهم بيع المناصب الرفيعة و المقاولات الضخمة و عقارات الدولة بمعاونة المليشيات المتعددة المرتبطة بنفس هذه الأحزاب الحاكمة التي تتولى تهريب النفط و غيره من الثروات الطبيعية و تفرض الإتاوات على الأهليين العزل و السلع الواردة من شمال العراق إلى جنوبه . كما و تعمل هذه المليشيات ككلاب حراسة لضمان ديمومة شكل نظام الحكم القائم هذا و مصالح رجالاته بالترغيب و الرشا و دغدغة المشاعر و بالترهيب و إثارة النعرات و الأراجيف الطائفية و القومجية .
و لما كان أفراد هذه الطبقة الحاكمة من أمراء الحرب و رؤساء العصابات و الرعاع قد أمسوا الآن متنعّمين متسلطنين بحلاوة الكراسي ، يسرقون سنوياً لأنفسهم و لبطاناتهم مليارات الدولارات من موارد الشعب العراقي و يحولونها لحساباتهم الشخصية في الخارج بموافقة البنك المركزي العراقي ، و يحتفظون تحت إمرتهم بأقوى المليشيات التي تتولى الدولة دفع رواتبهم و أثمان أسلحتهم و تكاليف تدريبهم بالإضافة إلى حكومات إيران و تركيا و السعودية و قطر و غيرها ، لذا فإن من السذاجة تصور امكانية تغيير العملية السياسية القائمة في العراق بدون اندلاع الثورة الاجتماعية العارمة أو الإضراب العام ، و ذلك بسبب تمسك كل قادة الكتل السياسية بغنائمهم ، و استقتالهم لضمان ديمومة امتيازاتهم (يلاحظ ، على سبيل المثال ، مدى تشبث الدينجية المستشيعين بمنصب رئيس الوزراء و الزعماء الاكراد الفاشيين برئاسة العراق و اقليم كردستان وووو ) ؛ و من هنا جاء عنوان هذه السلسلة .
سادساً / مشاركة حشع في مجلس الحكم العراقي المؤقت
نأتي الآن الى تقييم مشاركة حشع بمجلس الحكم الموقت (تموز/ 2003 - حزيران / 2004) . طبعاً أنا لست مخولاً مطلقاً بالتكلم نيابة عن حشع الذي يمتلك ناطقين فصحاء و مقتدرين باسمه ، لذا فإن ما سيأتي من الكلام يخصني أنا لوحدي حصراً كمراقب عراقي مستقل و ليس كشيوعي ملتزم .
من المعروف أن حشع – على العكس من عديد الأحزاب السياسية العراقية الأخرى – كان أحد أشد المعارضين علناً و على رؤوس الاشهاد للاحتلال الامريكي للعراق و ذلك قبل الاحتلال و بعده ، و لكن ما باليد حيلة . علماً بأن سلطة الاحتلال الأمريكي لم تقرر تأسيس مجلس الحكم العراقي المؤقت الا بعدما أدركت أن ذلك الإجراء هو الخيار الوحيد المقبول من طرف كل القوى السياسية المعارضة لنظام صدام و دول العالم المناهضة للاحتلال . و لم يكن لرضى أو معارضة حشع للمشاركة فيه ليؤثر بأي شكل من الأشكال في قرار سلطة الاحتلال تشكيله أو في شرعيته من عدمها . و هكذا ، فقد جاءت مشاركة حشع فيه اضطراراً بدافع الحرص على المساهمة الفاعلة ما أمكن ذلك من داخله في رسم مستقبل واعد للعراق مع بقية الأحزاب الوطنية الديمقراطية . و من داخل أروقة مجلس الحكم المؤقت نفسه كاد حشع أن يصبح الصوت الوحيد المعارض علناً لكل القرارات غير المسؤولة لسلطة الاحتلال الأمريكي بضمنها قرارات حل الجيش العراقي و اجتثاث البعث ... و في حينها ، لاح في الآفاق الأمل المبرر تماماً بوجود الإمكانية لتحقيق هدف الحزب في بناء عراق ديمقراطي فدرالي موحد و مستقل (أسوة بتجربة ألمانيا و اليابان ، بعد الحرب العالمية الثانية ، مثلا) . و لم يكن حشع وحده هو الذي استشرف وجود مثل هذه الإمكانية في حينها ، حيث شاركته في ذلك عديد الاحزاب السياسية العريقة التي لا يُشك في إخلاصها للديمقراطية و التقدم ، مثلتها في مجلس الحكم العراقي المؤقت شخصيات وطنية معروفة منهم السادة وائل عبد اللطيف و يونادم كنا و محمود عثمان و دارا نور الدين و إياد علاوي و نصير الجادرجي و عدنان الباججي و سمير الصميدعي . و لم يتم سد الأبواب أمام هذا الخيار تماماً إلا بعد مضي أكثر من عام على حل مجلس الحكم المؤقت نهائياً ، و بعد انتهاء فترة وزارة إياد علاوي ، و بعد تشكل حكومة الجعفري الأولى التي ثبتت من جانبها و لأول مرة في تاريخ العراق الحديث مبدأ المحاصصة الطائفية كسياسة رسمية للتحالف الكردي-الشيعي سيء الصيت الذي تأسس أصلاً لمنع تجذر قواعد الديمقراطية و الدولة المدنية و لإقصاء المعارضة السنية .
و برأيي المتواضع فإن التقييم المنصف لمواقف أي حزب سياسي لا يجوز له أبداً أن يقفز على الواقع و الوقائع التي تصرخ مؤكدة ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أولاً و آخراً شكل التوازن الاقتصاجتماسي القائم للأحزاب السياسية العاملة في الساحة و مدى الفرق المنظور في الخيارات المتاحة . لقد كان الانحسار المتواصل لقوة حشع السياسية – و هو الانحسار الذي تم فُرضه عليه فرضاً "بقوة السلاح و المقصلة" طوال ربع قرن متواصل ( منذ عام 1978 و لغاية 2003 ) – قد قلص كثيراً جداً من مديات تأثيره الاجتماعي ، ليتحول من قوة حاضرة بهذا الشكل أو ذاك في كل زقاق و مدرسة و قرية في عموم العراق إلى نخبة ضيقة المجال التبشيري و التأثيري . زد على ذلك استقواء القوى السياسية المنافسة المستغلة للمد الدينجي و القومجي المتعاظم التأثير بالدول الخارجية التي كانت و ما تزال تدفع لهذه القوى بسخاء و بغير حساب ، في حين لا يعتمد حشع إلا على التبرعات المالية البسيطة جداً لأعضائه و اصدقائه و مؤازريه . كل هذا و غيره فرض و يفرض على حشع ضرورة اقتناص كل فرصة تتاح أمامه لاستعادة ما يمكن استعادته من تأثيره الجماهيري الذي لا يستطيع بدونه أبداً تقديم اي خدمة للشعب العراقي بكل طوائفه . و اليوم نجد أن الحراك الديمقراطي الذي ساهم حشع بتأسيسه و إدامته بقوة قد أصبح الآن هو المنبر الشعبي الأقوى جذباً للحراك السياسي و للتغيير . و هذا يثبت صحة سياسة السعي الحثيث بعد الاحتلال لتطوير و توسيع القاعدة الشعبية لحشع داخل العراق في ظروف صعبة جداً فرضها الزمن الرديء و التدني الرهيب للوعي الوطني و الثقافي و اضمحلال الطبقة العاملة و الفلاحية و الوسطى و تفشي البطالة و الجهل و الفقر و ارهاب المليشيات .
انتهت .