ديمومة المقاومة الجنوب أفريقية

ديفد وايتهاوس
2016 / 6 / 17 - 09:58     

مالعمل - فريق الترجمة


تصدرت جنوب أفريقيا الأخبار العالمية في يوم 16 أغسطس/آب لعام 2012 بسبب ارتكاب الشرطة مجزرة قتلوا فيها 34 عاملًا من عمال مناجم البلاتين. كان أولئك العمال يقومون بإضراب غير مصرّح به في مدينة ماريكانا الشمالية. تسبب هجوم الشرطة، علاوة على ذلك، بإصابة 78 عامل آخرين.

استحضرت تلك المجزرة ذكرى مجازر شهيرة أخرى سابقة في التاريخ الجنوب أفريقي، وإن تلك الهجمات كانت هجمات الحكّام البِيْض العنصريين دفاعًا عن امتيازاتهم في ظل الأبارتهايد (نظام الفصل العنصري)، في هذه المرة، صدرت الأوامر من أناسٍ سود، وكانوا سودًا من ضغطوا الزناد.

صمد عمّال المناجم في كفاحهم وكسبوا زيادة في الأجر قدرها 22 بالمئة، وهو أجر أعلى بكثير مما يستلمه عمال مناجم البلاتين الآخرين في ظل النقابة القديمة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحزب الحاكم في جنوب أفريقيا، حزب المؤتمر الوطني الأفريقي.

لم يكن إضراب ماريكانا أول إضراب في مناجم جنوب أفريقيا عام 2012، ولكنه أدى لإشعال طفرة في الإضرابات التي انتشرت في قطاعات استخراج الذهب وغيرها من القطاعات، مثل النقل بالشاحنات. وفي سياقٍ أوسع، ليست إضرابات جنوب أفريقيا سوى جزء من موجة أوسع من الصراعات حول الأجور في أفريقيا، مما يشمل بلدانًا أخرى تقع في الجنوب الأفريقي مثل مالاوي وناميبيا وسوازيلاند، ومعهم أيضًا مصر وكينيا شمالًا.

سأتطرق لسياسات الصراعات الحالية في جنوب أفريقيا في آخر هذا المقال، وسيركز أغلب هذا المقال على إعطاء صورة مرجعية لتاريخ النضال في هذا البلد، وهذا تاريخ يحوي جدائل عديدة لمقاومة أنظمة المضطِهدين البِيْض، مقاومةٌ حققت أخيرًا حكم الأكثرية السود قبل اثنين وعشرين عامًا، أي في عام 1994.

وفقط عن طريق النظر لهذه الخلفية بإمكاننا إجابة مسألة مركزية حول جنوب أفريقيا اليوم: كيف بالإمكان تواجد صعود سياسي للأغلبية السوداء جنبًا إلى جنب مع مستويات تفاوت اجتماعي مُعادِلة للمستويات الضخمة التي تواجدت في ظل الأبارتهايد؟ هذه الخلفية ضرورية أيضًا لفهم دينامية الصراع الحالية.

الأوضاع التي انبثق عنها الأبارتهايد

كي نبدأ بفهم تاريخ جنوب أفريقيا، من المفيد أن نطلع على بعض الأمور التي جعلت لهذه البلاد خصوصية في أفريقيا. أولًا: استُعمِرت البلاد منذ زمن مضى. وثانيًا: إنها غنية جدًا بالمعادن. ثالثًا: هذه المعادن ضرورية لتفسير كيفية احتلال الطبقة العاملة مكانةً رئيسية في مقاومة حكم البِيْض.

أولًا، وفيما يتعلق بالاستعمار، وصل الهولنديون عام 1652 إلى قرب ما هو الآن كيب تاون، في غرب جنوب أفريقيا حاليًا. هيمن على تلك المنطقة في ذلك الوقت الشعب الخوسي، واستوطن الهولنديون في المكان ليصبحوا مزارعين، وسُمّوا لاحقًا بالبوير، و«بوير» تعني «مزارع» باللغة الهولندية. استورد البوير عبيدًا من المستعمرات الأخرى واستحوذوا على أراضي الخوسيين قسرًا. يترتب على ذلك أن حالة جنوب أفريقيا استثنائية في القارة، حيث أغلب بلدانها لم يستعمرها الأوروبيون حتى أواخر القرن التاسع عشر، وحتى في تلك الحالات لم يكن ذلك على صورة مشاريع استيطانية.

تراخت روابط المستوطنين مع بلدهم الأم مع مرور الوقت، وطوّروا شكلًا مختلفًا خاص بهم من اللغة الهولندية، اللغة الأفريقانية، حيث احتوت كلمات جديدة وقواعد جديدة أيضًا، ومع تغيّر معتبر في النطق. الأفريقانية اليوم هي أكثر اللغات انتشارًا في جنوب أفريقيا؛ يتحدث بها أغلب البِيْض، ومعهم مزدوجو العرق المعروفون بمسمى «الملونين» (Coloured).

كانت كيب تاون منطقة استراتيجية عالميًا على الطرف الجنوبي للقارة الأفريقية. استحوذت عليها بريطانيا 1806، وبذلك انتشر البوير شمالًا وشرقًا، وكسبوا معاقل جديدة عن طريق شقّ طريقهم عبر أراضٍ تحكم بها شعب الزولو وعن طريق قِتال الزولو.

إذًا، هذه أول نقطة: أتى مستعمرون متسلّحون جيدًا طامحون للاستقلال على المدى الطويل، أولًا البوير ومن ثم الإنجليز. استوطن كلاهما الأرض وأصبحوا من سكانها، مع أن البريطانيين حافظوا على علاقات أوثق مع بلادهم الأم من البوير.

وبعد ذلك قدم اكتشاف الألماس في عام 1867 والذهب في عام 1884. كان ذلك في مناطق هيمن عليها شعبا الزولو والبوير. وقعت أغنى الرواسب قرب ما أصبح حاليًا جوهانسبرغ وسُوْيتو، ممتدة شمالًا إلى نهر ليمبوبو، إذ تقع ماريكانا قُربه.

أدى اكتشاف المعادن لحصول عدة أحداث مهما، أحدها كان تزايد هجرة البِيْض إلى جنوب أفريقيا، وآخر هو الاندفاعة الجديدة نجو إزاحة الأفريقيين من على أكثر الأراضي غنًا، وحدث ثالث هو حروب بين البريطانيين والبوير، حيث فاز البريطانيون أخيرًا في تلك الحروب بعد مطلع القرن العشرين.

إذًا، فهذان اثنان من سمتين جنوب أفريقيا الخاصتين: حجم معتبر من المستوطنين البِيْض، ومصدر لثروة معدنية ضخمة.

انبثق عن هذين العاملين سمة رئيسية ثالثة لجنوب أفريقيا: نحو طبقة عاملة سوداء.

لم يكن الذهب ولا الألماس سيستخرج ذاته بذاته من الأرض، ولن يقوم البِيْض باستخراجهما طالما امتلكوا الأسلحة. كان هنالك بعض العمليات التي استفرد بها البِيْض أثناء فترة التهافت على اكتناز الذهب، ولكن فيما يتعلق بالعمليات الكبيرة، استُخدِم السود، وبذلك تعود اليد العاملة السوداء المأجورة الصناعية في جنوب أفريقيا لما يقارب 130 عامًا. (وعملهم المأجور في مزارع البِيْض يعود لمدة أطول من ذلك).

ومن أجل خلق يد عاملة مأجورة، توجب على البِيْض جذب الأفريقيين السود إلى الاقتصاد النقدي، وإلا فقد كانوا سيستمرون بالعيش عن طريق الصيد ورعاية المواشي والزراعة. ولم تكن القوة الوحشية هي فقط ما أزاح الأفريقيين عن أراضيهم، فالبِيْض بدأوا بفرض ضرائب على الأفريقيين، مما أجبرهم على بيع محاصيلهم للحصول على أموال. والعديد ذهبوا للعمل المؤقت في المناجم وفي مزارع البِيْض من أجل دفع الضرائب.

كان هذا هو أصل ممارسة فصل الرجال وإبعادهم عن عوائلهم للقيام بالعمل المأجور، وهو أيضًا أصل قانون المرور، في ظله أُلزم السود على حمل أوراق تبين حقهم في أن يكونوا في مكانهم، كما لو كانوا مهاجرين. ومع قانون المرور أتت فكرة أن السود ينتمون فعلًا للمناطق الريفية، إذ بالإمكان طردهم تجاهها متى ما قلت الوظائف. عُرِفت هذه المناطق لاحقًا في ظل نظام الأبارتهايد الرسمي بـ«أوطان القبائل»، أو، وبصورة ساخرة، «البانتوستانات» (والبانتو مجموعة لغوية تتضمن أغلب اللغات الأفريقية المتحدثة في جنوب أفريقيا).

والسابقة القانونية للبانتوستانات كانت «محميات» السود التي أُنشِئت في ظل «قانون أراضي السكان الأصليين» لعام 1913، أي قبل 35 عامًا من بزوغ نظام الأبارتهايد. لم تشكل المحميات سوى 7 بالمئة من أراضي البلاد الزراعي، على الرغم من أن السود شكّلوا حوالي ثلثي السكان. منع القانون الجديد الأفريقيين السود من امتلاك أراضٍ في مناطق البِيْض أو السكن في هذه المناطق دون إثبات توظيف لدى شخص أبِيْض، وهذ البند حوّل المؤاكرين السود فعليًا لعمّال مأجورين. وأما دولة البرتقال الحرة التي حكمها البوير فقد طبقت قيودًا قانونية مشابهة مسبقًا في عام 1876.

شابهت هذه المحميات محميات الهنود التي أُسست في أمريكا الشمالية في الفترة ذاتها، ولكن هنالك فارق. أزيح السكان الأصليون في أمريكا من أفضل الأراضي وهُمِّشوا اقتصاديا وسياسيا أيضا. وأما السود الجنوب أفريقيين فقد أُزيحوا من على أراضٍ مختارة وهُمّشوا سياسيا، ولكن، كونهم عمّالا مأجورين، فقد احتلوا منصبا في وسط الاقتصاد الجنوب أفريقي. وبذلك دائما ما كان لديهم قوة في مجتمع البِيْض لم يملكها السكان الأصليون الأمريكيون.

والأهم من ذلك هو أن المسألة كانت مسألة أرقام نسبية. في أمريكا الشمالية، أهلكت الحروب والأمراض السكان الأصليين، بينما السكان الأصليون لجنوب أفريقيا كانت صحتهم أفضل وظلوا أكثرية. ولذلك كان العمال المأجورون في أمريكا الشمالية بِيْضا، بينما كان العبيد سودًا، بينما، نظرًا لأعداد السود في جنوب أفريقيا، كان أغلب العمال المأجورين منهم، بينما أتى العبيد بألوان جلد مختلفة ومتنوعة.

سأستطرد هنا لأذكر التركيبة السكانية لوقتنا الحاضر. ازداد عدد السكان من حوالي 5 مليون نسمة في عام 1904 حتى 50 مليون نسمة في وقتنا الحاضر، ولكن الحصص العرقية تعادل اليوم ما كانت عليه حينها: 70 بالمئة سود، ويقل البِيْض عن 20 بالمئة بقليل، بينما مزدوجو العرق أو «الملونون» يشكلون أقل بقليل من 10 بالمئة من السكان. يشكّل الآسيويون من هؤلاء 3 بالمئة تقريبًا، أغلبهم هنود، متركزون في ديربان، وهي مدينة ساحلية مطلة على المحيط الهندي.

إذًا، فقد مررنا عبر بعض المراحل الرئيسية التي مهدت الطريق لنظام عنصري عرقي نعرفه اليوم بنظام الأبارتهايد: نظام يهيمن فيه سكان بِيْض مستوطنون على غالبية سوداء، ونمت فيه الثروة بسبب اكتشاف المعادن وخُلِقت طبقة عاملة سوداء مهمشة سياسية.

سأتعرض سريعًا لنقطة معينة حول العلاقات الاستعماري قبل أن أتوجه لطبيعة المقاومة الأفريقية. حصلت جنوب أفريقيا على رتبة دومينيون[*] بريطاني في عام 1910 وكان ذلك خطوة نحو استقلال كامل في عام 1931.

إن المستعمرات قواعد خارجية تُعدّ لانتزاع ثورة بلاد ما وإرسالها إلى البلد المستعمِر. ولذلك كمنت الأهمية الاقتصادية للانفصال المتزايد في أن مقدارًا متزايد من الأرباح من جنوب أفريقيا بدأ بالبقاء في جنوب أفريقيا. شكّلت هذه الأرباح أساس مَصْنَعَة (industrialization) متنوعة ونمو متزايد للطبقة العاملة، واستمر هذا المنحنى منذ 1890 وحتى 1940.

وفي الوقت ذاته، بينما كدّس بِيْض جنوب أفريقيا الرساميل، لم يتمكنوا من الاكتفاء الذاتي، فهم لم يملكوا وقتها مقدارا كافيا من الرساميل، وكانت جودة الاستثمار غالبا منخفضة. أتت التقنيات المتقدمة غالبا من الاستثمار الخارجي، وقد كان ذلك عاملا مهما في النضال ضد نظام الأبارتهايد وظل كذلك حتى بعد نهايته في عام 1994.

المقاومة الأفريقية

والآن دعنا نتجه للمقاومة. في أوائل القرن التاسع عشر، أسس شاكا (1787-1828) مملكة الزولو عن طريق الإلحاق العسكري للشعوب المجاورة. أثناء حياة شاكا، لم يتعدى البِيْض على الأراضي الواقعة تحت سيطرة مملكة الزولو كثيرا، إذ وقعت هذه الأراضي شمال شرق مناطق الخوسا ومناطق البِيْض حوالي كيب تاون. ولكن في العقود التالية لموت شاكا، تحرك البِيْض بعدائية داخل الأراضي الشمال شرقية. في مواجهة اجتياح قوات البِيْض، قاوم شعب الزولو مقاومةً مسلحة مهولة، وإن كانت قد آلت للفشل.
shaka-zulu-1824
شاكا زولو في عام 1824، الرسم الوحيد المعروف

أدى احتلال أراضي الزولو، الذي تضمن تهجيرا إجباريا وعدة مذابح، لإرباك البنى القبلية في المنطقة. بنيت الروابط القبلية حول علاقات القرابة، ولا يشمل ذلك فقط العلاقات البيولوجية بل بتصنيفات قرابة مصطنعة اجتماعيا تحدد مكان كل شخص في النسيج الاجتماعي. ومع هزيمة الزولو، سببت هيمنة البِيْض مضاعفة الاضطرابات في العلاقات ما بين الأفريقيين وذلك بسبب استمرار المذابح والتهجير الإجباري. وعلى مر السنين، لعب الاندفاع نحو سيادة العمل المأجور دورا أيضا وذلك لأن الانتماءات القبلية بإمكانها أن تتفكك حين يهاجر الناس إلى مراكز العمل المأجور ويصبحون أجزاء من يد عاملة متعددة الإثنيات.



ولكن البِيْض حاولوا بالطبع تحريض القبائل على بعضها البعض، في كل من الحروب وأماكن العمل، وبذلك وجد الحكام البِيْض في آخر المطاف مصلحة في الحفاظ على التمايزات القبلية وتصليبها.

كانت إحدى الطرق هي دعم ورشوة القادة التقليديين في أمل أنهم سيدفعون القبيلة أو المجموعة الإثنية المعنية تجاه التصالح مع البِيْض، وفي حال لم يجدوا عملاء مناسبين لهم ضمن زعماء ووجهاء القبائل المتواجدين، اخترع البِيْض زعماء «تقليديين» جدد ليكونوا عملاء جدد لهم، مقوّمين إياهم بأموال كافية لتأسيس شبكة أنصار مبنية على المحسوبية. أنشأ البِيْض هذه الاستراتيجية وصقلوها، بالخصوص في القرن العشرين، حين حكم عملاء نظام الأبارتهايد «القَبَليون» البانتوستانات.

كان البِيْض إذا هم من حاول منهجة العلاقات والفروق القبلية. أحد الجزئيات الأيدولوجية التي دسوها لدى الأفريقيين هي فكرة تحدث شخص واحد نيابة عن كل القبيلة، حيث لم تكن هذه طريقة سير العلاقات القبلية الداخلية، وإحدى الجزيئات الأخرى كانت أن القبائل مجموعات عرقية الانتماء له ثابت ومحدد، وكل مجموعة لها قدرات وطباع مختلفة ناتجة عن طبيعتها البيولوجية. غيّر زحف علاقات الملكية الرأسمالية أيضا روابط القبائل مع الأرض، حيث خُصِّص لكل «قبيلة» منطقتها المحددة الثابتة. لم تماثل أي من هذه الأمور كيفية سير العلاقات القبلية قبل الاستعمار الأوروبي. حيث حكمت فيها العلاقات القبلية، بإمكان القبائل أن تهاجر وتتداخل وتلتحم مع بعضها البعض وتنفصل وتتطور تقنيا وثقافيا.

ولكن في الواقع، استمرت الروابط «القبلية» بالتطور في ظل حكم البِيْض وعلى الرغم من محاولتهم تجميدها، إذ أن الأفريقيين السود أقلموا علاقاتهم المتبادلة تحت ضغوطات الأوضاع الاجتماعية الجديدة. كانت تلك «سيرورة»، كما أشار مايكل تشيغ، «كان الأفريقيون فيها خلاق هوياتهم الجديدة، ولم يكونوا أدواتٍ بائسة للاستغلال الاستعماري». مما يعني أن نتيجة تكوّن هذه «القبائل» الجديدة لم تكن أمرا مفروغا منه، إذ لم يُعلم ما إذا كانت ستؤدي لجعل الأفريقيين السود محافظين أو ستعمل كنقطة استقطاب للمقاومة. غير أن النمو الرأسمالي والتمدن وحكم الأقلية البيضاء كلها حثت على تعريف الهويات الذاتية باستخدام الأصناف الأوسع كالطبقة أو «اللون» أو الأمة، حتى مع ديمومة ما يسمى زعما بالانتماءات القبلية.

كانت الروابط «القبلية» أكثر ضعفا لدى الطبقة الوسطى المتمدنة، ولكن هذه كانت فئة صغيرة، أغلبها محامون وحرفيون وموظفون متعلمون. كثيرا ما كانت روابط وثيقة مع المجتمع الأبِيْض رغم عدم ترحيب هذا المجتمع بهم. وهذا العزل العرقي عزز تعريفهم ذواتهم ضمن الأغلبية السوداء. وهذه الفئة هي التي شكلت المؤتمر الوطني الهندي عام 1885، والتي أسست ذاتها حينها كجماعة ضغط من أجل الإدماج الديموقراطي، ونظر المؤتمر الوطني الهندي لذاته كحكومة مترقبة، لشعور أعضائه أنهم النخب الطبيعية للمجتمع.

وقبل أكثر من مئة عام، في عام 1912، أسس أعضاء هذه الفئة النخبوية نوعا ما المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي للسكان الأصليين (South African Native National Congress)، وهو سلف المؤتمر الوطني الأفريقي[†]. سُمّي المؤتمر الوطني الأفريقي بذلك الاسم تيمنا بالمؤتمر الوطني الهندي، وشاركوا معه أفكارا مشابهة وعنصريات اجتماعية مماثلة أيضا. ولكن المؤتمر الوطني الأفريقي شكل بالفعل تقدما من ناحيتين، أولا عن طريق تأكيده إمكانية الأفريقيين إعادة تأسيس حكم السود، وثانيا، أنهم لا يمكن لهم أن ينجحوا إلا بالتنظيم كقوة وطنية، وليس كقوى قبلية منفصلة.

في العقود الأولى، نمى المؤتمر الوطني الأفريقي بتواز مع نمو نضال الطبقة العاملة ونمو التنظيم العمالي وبانعزال نسبي أيضا عنهما. كانت هنالك طبقة عاملة بيضاء صغيرة أيضا في ذلك الوقت، ومنذ عشرينات القرن الماضي حتى أربعيناته، اشتد عود كل من العمال السود والبِيْض في أماكن العمل، على الرغم من أنهم كانوا معزولين في قوى عاملة مختلفة.

وفي العشرينات، أُسِّس الحزب الشيوعي كمنظمة بيضاء تحمل شعار «فلنتحد ونكافح من أجل جنوب أفريقيا بيضاء». ترك الحزب الشيوعي عنصريته لاحقا وأصبح القوة متعددة الأعراق الرائدة على اليسار الجنوب أفريقي.

شهدت جنوب أفريقيا قفزة ضخمة في المصنعة خلال العقدين التاليين للاستقلال التام لعام 1931. كانت استراتيجية التنمية الخاصة بالطبقة الحاكمة هي ما يُعرف بالتصنيع لاستبدال الواردات، حيث تقوم الدولة بتشجيع الصناعة المحلية وحمايتها من التنافس الأجنبي بأساليب مثل الدعم والتعريفات الجمركية والأسعار المضمونة والحصول على مدخلات رخيصة.

هذه الفترة، الثلاثينات والأربعينات، هي الفترة التي شهدت تدفقا معتبرا للسود إلى المجال الصناعي مع توسع المناجم أيضا. تنامى عدد السود المتمدنين بنسبة تتجاوز الثلاثين بالمئة ما بين 1936 و1946. وإن نظرنا للعقود اللاحقة، سنرى أن حجم القوة العاملة الصناعية السوداء نمى إلى 800 ألف نسمة بحلول 1951 وإلى مليون و600 ألف نسمة بحلول 1976.

بزوغ الأبارتهايد كنظام

اتخذت سياسات البِيْض نقلة نوعية في عام 1948 مع فوز الحزب الوطني (National Party)، المعروفين أيضا بمسمى «الناتز» (Nats)، وتَقارُب نطق المسمى مع كلمة «نازي» لم يكن محض مصادفة.[‡] كانت القاعدة الشعبية للحزب الوطني هم الأفريكان، وهو المسمى الجديد للبوير، وشن الحزب حملة تهدف لمنهجة الفصل العرقي والتمييز عن طريق كتابتها في تشريعات شاملة، بل أنهم في الواقع استعاروا ببساطة قطعا كاملة من القوانين النازية المتعلقة بالعرق.

سُمي النظام لاحقا بشعار حملة الحزب الوطني: «التنمية المنفصلة»، أو «أبارتهايد» باللغة الأفريقانية. وكما رأينا لم يُؤسس نظام الأبارتهايد دفعة واحدة، فالعديد من سماته بنيت خلال المساعي السابقة للتحكم بالسكان السود، وبالخصوص، لتنظيم العمال السود. تضمن ذلك فكرة أن السود ينتمون لأوطان قبلية متفرقة ومنفصلة ولذلك بالإمكان معاملتهم كأجانب بحاجة لجوازات للعمل في أي مكان آخر. وتضمن أيضا نظام سلطات قبلية تدين بسلطتها وثرواتها للدولة الواقعة تحت حكم البِيْض.

بعد عام 1948، وسع برنامج الأبارتهايد الممارسات المحلية وفرضها على المستوى الوطني واستمر بابتكار سمات جديدة للتعامل مع التحديات الجديدة. وبعضها كان، ببساطة، غريبا جدا. فرضت قوانين الأبارتهايد دورات مياه ونوافير شرب منفصلة، كما فعل نظام جيم كرو الأمريكي، ولكن الأبارتهايد أضاف على ذلك وفصل إمدادات الدم كي لا تتخالط دماء الأعراق المختلفة.

ولكن التفصيل الأهم من ذلك كان ضمان حصول مدارس البِيْض تمويلا يعادل عشرة أضعاف تمويل مدارس السود، وكان ذلك عنصرا حفز نضالا طلابيا. كان الفارق في التعليم جزءا من مخطط أوسع لضمان ولاء الطبقة العاملة البيضاء عن طريق تأمين مستوى معيشي عالي لهم. عاش عمال المناجم السود في نُزل بائسة خارج المناجم، بينما عاش العمال السود الآخرون في أحياء صفيح مترامية الأطراف تقع على أطراف المدن (ولا يزال الملايين يعيشون فيها حتى وقتنا هذا). عاش العمال البِيْض في مدن بجوار غيرهم من الطبقات البيضاء، في منازل فيها مياه جارية وكهرباء.

كان هنالك إجراءان بالذات أثنيا العمال البِيْض عن التعاطف مع السود أو الاصطفاف والاتحاد معهم. أحدهما كان الفصل في الوظائف المجاور للفصل السكني. لم يعمل البِيْض والسود في ذات الوظائف، وفي حال عملوا بجوار بعضهما البعض، كان للرجل الأبِيْض المنصب الأعلى، مثل أن يقود الأبِيْض شاحنة القمامة، بينما يقوم العمال السود بجر براميل النفايات. والمكون الرئيسي الآخر للحفاظ على انقسام العمال البِيْض عن العمال السود هو الفارق في المستويات المعيشية. كانت أجور البِيْض أعلى بكثير من أجور السود لدرجة أن العمال البِيْض، وليس الطبقة الوسطى البيضاء وحسب، بإمكانهم تحمل نفقة توظيف خادم منزلي أسود.

هذه الدرجة من الاستقطاب العرقي استبعدت أي استراتيجية مناهضة للأبارتهايد دعت لاتحاد السود والبِيْض وقيامهم بكفاح مشترك. انشق بعض العمال البِيْض بالطبع وانضموا للمقاومة بصورة فردية، ولكن ذلك لم يكن أمرا يمكن توقع العمال البِيْض القيام به بأعداد كبيرة.

رصفت سمات نظام الأبارتهايد الرئيسية في السنوات الأولى، لكنه لم يكن نظاما راكدا، فالنظام احتاج للاستمرار في تغيير طرق إدارته القوة العاملة، وكان ذلك جزئيا استجابة لموجات جديدة من المقاومة.

مقاومة حكم البِيْض

في عام 1948، امتطى الحزب الوطني الجنوب أفريقي حصان النصر في الانتخابات بشعار «الأبارتهايد». اشتد عود الطبقة العاملة السوداء في ظل السنوات الماضية، ولعبت حملة الحزب الوطني الانتخابية على مخاوف جمهور الناخبين، إذ احتكر الانتخاب للبِيْض فقط. وكانت عشوائيات السود في تنامي على حواف المراكز المدنية البيضاء، وكان العمال السود يزدادون تنظيما، فقبل عامين من تلك الانتخابات، أضرب 60 ألف عاملا من نقابة عمال المناجم الأفريقية المؤسسة حديثا عن العمل في منطقة جوهانسبرغ. أخمدت قوات الأمن الإضراب خلال أسبوع، ولكنهم لم يقتلوا سوى تسعة من عمال المناجم وأصابوا أكثر من ألف ومئتين عامل.

وعد الناتز بفرض أشد لقوانين العبور، واقتاد الحزب، بالفعل، العمال السود بعد أن وصل للسلطة إلى مراكز قروية تبعد بمسافة «آمنة» عن مناطق البِيْض. أدى التهجير القسري لعدة مظاهرات في العقد التالي، وكان سبب ذلك جزئيا هو أن أكثر المساكن الجديدة كانت بعيدة عن أماكن عمل السود. وبالنسبة للعديد منهم، أصبح من المستحيل الذهب للعمل مشيا، ولذلك تمركز العديد من المظاهرات، من ضمنها مقاطعة الحافلات، حول خدمات النقل كونها غالية وغير مريحة.

استمرت الإضرابات في أوائل الخمسينات، وكانت حول مطالب مرتبطة بالعمل بصورة رئيسية: الأجور وأوضاع العمل. كانت الإضرابات ومظاهرات القرى مهمة في كونها تبرهن قوة الطبقة العاملة، ولكن الطبقة العاملة ذاتها لم تكن منظمةً كقوة سياسية.
mandela-1958
نيلسون مانديلا (يمين)

ولكن في المقابل، ازداد تنظيم المؤتمر الوطني الأفريقي. جلبت نهاية الحرب العالمية الثانية والمطلع الرسمي لنظام الأبارتهايد جيلا جديدا في عصبة شبيبة المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC Youth League). تكون هذا الجيل من قادة مستقبليون تجاوزت رؤيتهم إطار نشاط الطبقة الوسطى المنحصر في المرافعات الهادئة إلى النظم. هذا الجيل الجديد تضمن نيلسون مانديلا ووالتر سيسولو وأوليفر تامبو، كلهم قادوا لاحقا المؤتمر الوطني، وتضمن أيضا روبرت سوبوكوي، والذي سرعان ما أسس مؤتمر الوحدويون الأفريقيون (Pan Africanist Congress).



شهد هؤلاء القادة الشباب نمو نضال الطبقة العاملة، في كل من مقرات العمل والقرى، وألهمهم أيضا ما قام به غاندي لتوجيه المؤتمر الهندي نحو السياسات الشعبية. كانت الفكرة الجديدة هي أن المؤتمر الوطني الأفريقي سيحاول تحشيد القوى الشعبية الأوسع بزعامته. وفي عام 1952، شن المؤتمر الوطني ما عُرف لاحقا بمسمى «حملة التصدي»، وهي مقاومة لا عنفية لقوانين الأبارتهايد.

دشنت تلك الحركة العصر الحديث للسياسات الشعبية الجنوب أفريقية. فحتى ذلك الحين، اتكلت حركات المقاومة، مهما كانت شراستها، على القيادات المحلية وركزت على حزمة محددة من المطالب. كمنت مساهمة المتمر الوطني في رعايتها جهودا منسقة واستهدافها السمات الجوهرية لنظام الأبارتهايد، مثل قوانين العبور. وبذلك توسعت مواضيع النقاش لتتجاوز تكتيكات المقاومة، مع أهميتها، لتتضمن مسائل استراتيجية إسقاط النظام بأكمله.

مثلت حملة التصدي لآلاف الناس تجربتهم الأولى مع النشاط السياسي، ولكن عقد المقاومة ذاك انتهى فجأة في عام 1960 مع حصول عدة مجازر، أشهرها مجزرة شاربفيل في مارس/أذار لذلك العام. كانت المسيرة التظاهرية المناهضة لقوانين العبور، واقعا، تحت رعاية مؤتمر الوحدويون الأفريقيون الذي انفصل عن المؤتمر الوطني الأفريقي قبل عام من ذلك. قتلت قوات الأمن تسعة وستين شخصا رميا بالرصاص، أغلبهم أطلق عليهم الرصاص من الخلف أثناء هربهم.

سأستخلص نقطتين فيما يتعلق بمجزرة شاربفيل.

أولا: برهنت إمكانية وجود قوى سياسية متعددة إلى جانب المؤتمر الوطني تقوم بمبادرات ونشاطات وتتنافس على القيادة في الحركة. كان ذلك ممكنا لأن النشاط السياسي ظل ينبع من المستوى الشعبي، فبدون نشاط الناس العاديين، لن يكون لدى المنظمات المتنافسة حركة تتنافس على قيادتها، وستظل أفكار الاستراتيجيات المتنوعة مجرد أفكار لا تحمل آثارا معتبرة. ولذلك كان هنالك تناظر نشيط، وسبب ذلك بالفعل كان وجود آلاف الناس الباحثين عن أفكار يعملون وفقها.

ثانيا: بسبب أحداث شاربفيل أصبح بإمكان الناس أن يروا بوضوح فشل ثمان سنوات من النشاط وفق نموذج حملة التصدي لعام 1952 في زحزحة بنيان الأبارتهايد. الواقع هو أن الدولة كثفت قمعها بعد شاربفيل وعززت نظام الأبارتهايد بحزمة من القوانين القمعية الجديدة، و«حُظر» كل من المؤتمر الوطني والوحدويون الأفريقيون خلال أسابيع من المجزرة، وأما سوبوكوي فقد قضى الستينات في السجن. كان من اللازم على المقاومة الجديدة أن تنبع من أساس جديد.

sharpeville-flight-1
هربٌ من إطلاق النار في شاربفيل

خسر العديد روحهم المعنوية بعد شاربفيل، وأما قيادة المؤتمر الوطني، المتمركزة حينها حول مانديلا ورفاقه من عصبة الشبيبة، استنتجوا ضرورة المقاومة المسلحة لنظام الأبارتهايد، وأسسوا تنظيما سموه بـ«رمح الأمة»، أو «أومكهونتو ويه سيزويه» بلغة الزولو.



كانت الخطة هي الاضطلاع في سلسلة متصاعدة من الهجمات على الدولة، حيث يبدؤوا بمضايقات صغيرة استكشافية مثل التفجيرات الفردية ويبنوا قواهم لمواجهات أكبر. ظل تنظيم رمح الأمة نشطا حتى سقوط نظام الأبارتهايد، ولكن أنشطته لم تتجاوز هذه المضايقات بكثير.

في عام 1964، حوكم مانديلا وتسعة غيره من قيادات المؤتمر الوطني بتهمة القيام بمئتين واثنان وعشرون عمل تخريبي، وسُجن مانديلا حتى عام 1990. حُظِر المؤتمر الوطني، واتجهت أغلب قيادة التنظيم، من ضمنها قيادة رمح الأمة، إلى المنفى في بلدان أخرى في الجنوب الأفريقي. وأما في داخل البلاد، اتجهت كوادر المؤتمر الوطني إلى العمل السري ونشطت بصلة وثيقة مع الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، حيث نشط هذا الأخير أيضا نشاطا سريا وبنى سمعة في أوساط المقاومة لشجاعته وتضحياته.

استراتيجيات المقاومة

سأتطرق لفصائل المقاومة خلال لحظات، ولكن أولا، من الجدير بنا أن نأخذ لمحة على بعض الأفكار التي نمت داخل الحركة كإرشادات للنشاط.

سأبدأ أولا بسوبوكوي. أنشأ سوبوكوي مؤتمر الوحدويون الأفريقيون نتيجة شعوره بالإحباط تجاه اعتدال المؤتمر الوطني، والذي ربطه بانفتاح المؤتمر الوطني تجاه المساهمة متعددة الأعراق. كان بذلك مناصرا مبكرا لاستراتيجية التحرر الوحدوية الأفريقية التي لم تتضمن مساهمة البِيْض. فوفق سوبوكوي، بالإمكان اعتبار الشخص الأبِيْض أفريقيًا بإعلان ولائه لأفريقيا وحسب وقبوله الحكم الديموقراطي للأكثرية الأفريقية. على الرغم من هذه النظرية الطوعية (voluntarist) غير العرقية للهوية الأفريقية، قام مؤتمر الوحدويون الأفريقيون فعليا باستقصاء البِيْض.

تناغمت هذه النظرة مع تعريف البِيْض كطبقة مستعمرة مستوطنة. كان نضال السود، وفق هذه النظرة، إذا، نضالا مستقبلا، متوازيا مع النضالات الأخرى الحاصلة في القارة والهادفة إلى طرد الحكام الأوروبيين المستعمرين. أشرت مسبقا إلى إشكاليات النظر إلى الحكام البِيْض للقرن الشرين كمستعمرين، فهم لم يرسلوا أرباحهم إلى «الوطن الأم». علاوة على ذلك، إن أُسقِطوا من الحكم، فلن يكون لهم واقعا وطن يعودون له. لقد أصبحوا أفريقيين بِيْض.

شكلت آراء الوحدويون الأفريقيون هذه إلهاما لأحد شعارات جناحها العسكري في الثمانينات. كان ذلك الشعار تلاعبا بشعار «شخص واحد، صوت واحد»، إذ ناشد الشعار قائلا «مستوطن واحد، طلقة واحدة». وفي الستينات بدأ الوحدويون الأفريقيون بالانحياز بجانب النظام الصيني، بينما استمر الاتحاد السوفييتي بدعم الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي (ودعم ضمنيا حليفَ الحزب الشيوعي، المؤتمر الوطني).

توضح سياسات الوحدويون الأفريقيون أن السياسات القومية تكون أحيانا خطوة في اتجاه الراديكالية، وأن التأييد الباقي الأقلّوي لهذا التنظيم أتى من اشمئزاز الناس من بَلادة المؤتمر الوطني المتكررة. ونتج تأييد التنظيم أيضا من ملاحظة ما، وهي أنه في حال قبول حركة التحرر بعضوية الليبراليين البِيْض بالتحديد، نزحت نحو تفضيل التغيير التدريجي والتفاوض عوضا عن المواجهة. وعلاوة على ذلك، بإمكان البِيْض استخدام خلفيتهم الاجتماعية ذات الامتيازات لممارسة نفوذ أكبر من حجمهم حتى حين تكون أغلبية عضوية التنظيم من السود.

وهذه هي النقاط التي ألهمت حركة الوعي الأسود (Black Consciousness Movement) لأواخر الستينات وطوال السبعينات، بدأً بإنشاء منظمة الطلاب الجنوب أفريقيين (ساسو)، وعضويتها كانت للسود حصرا. لم يكن ستيف بيكو، مؤسس منظمة «ساسو»، معاديا لفكرة جنوب أفريقيا غير عرقية، ولكنه فضل إنشاء تنظيمات منفصلة لاعتقاده أن الليبراليين البِيْض أعاقوا نمو ثقة السود بذاتهم ونمو قيادتهم الذاتية. كانت حركة الوعي الأسود، إذا، مبنية على أفكار حول السيكولوجيا الاجتماعية للمقاومة بدلا عن نظرية محددة حول الأبارتهايد استراتيجية كبرى لإسقاطه.

والآن نتجه لأفكار المؤتمر الوطني.

إن المؤتمر الوطني خيمة كبيرة، وبذا ليس بإمكاني شمل كل تنوعات أفكاره. أول ما يقال هو أن على الرغم من تفضيل المؤتمر الوطني النضالَ المسلح نظريا، فقد كان دائما أمرا ثانويا في سياساتهم، وذلك لسببين. أولا: كان التفاوض والمصالحة موقفهم الافتراضي المبدئي، وأن تنظيم رمح الأمة كان تعبيرا عن خيبة القيادة لعدم نجاع ذلك الموقف. ثانيا: ظل بديلٌ آخر وهو النشاط الجماهيري من المستوى الشعبي ينبثق مرارا وتكرار خلال العشرين سنة التالية، وهو أمر لا يتوافق بشكل جيد مع أساليب التنظيم السري للنضال المسلح.

ولو كان بإمكان المؤتمر الوطني توظيف الضغط الشعبي كنقطة قوة ضد نظام الأبارتهايد أفضل مما يقدمه تنظيم رمح الأمة، فليكن. الأمر المهم هو أن القيادة الرئيسية للمؤتمر الوطني دائما ما فضلت نهايةً تفاوضية للأبارتهايد، إذ نظرت لكل من النضال المسلح والنشاط الشعبي كأمور يمكن توظيفها لمساعدة القيادة على استخلاص تنازلات من النظام.

هذا أمر واضح إن نظرنا له من وقتنا هذا. ولكن المؤتمر الوطني لم يكن دائما محافظا بهذا المقدار، وذلك لأنه جذب العديد من الثوريين إلى صفوفه، والحركة ذاتها برهنت مرارا وتكرارا إمكانية حصول ثورة اجتماعية احتمل غَمْرُها الأصوات الأكثر اعتدالا في المؤتمر الوطني. ولكن حزب المؤتمر كان دائما ذو تشكيلة متعددة الطبقات تتزعمه الطبقة الوسطى، حتى حين اكتسبت لاحقا قاعدة شعبية عمّالية.

وأما بالنسبة لنظريتهم حول الأبارتهايد، والاستراتيجية المقابلة لمقاومته، فقد استعار المؤتمر الوطني نظريته من الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي. حلل الحزب الشيوعي نظام الأبارتهايد «كاستعمار من نوع خاص»، أو كما وصفه مانديلا لاحقا، نوعٌ غريب من «الاستعمار الداخلي» (وليس ذلك المفهوم مع المعنى السيكولوجي لـ«الاستعمار الداخلي»، المفهوم المعروف لدى فرانز فانون والوحدويون الأفريقيون وحركة الوعي الأسود). أقرت نظرية الحزب الشيوعي حول «الاستعمار من نوع خاص» بالحقيقة الواضح القائل بأن البِيْض شكلوا طبقة حاكمة إنديجينية[§]، ولكن بالنسبة للحزب الشيوعي، لم تكن هذه هي النقطة الرئيسية. المقصد الحقيقي هو أن النضال لو كان ناضلا مناهضا للاستعمار، فالنظرية الستالينية تحدد أن الثروة ستنفصل إلى جزئين متميزين ستفصل بينهما أعوام عدة. أولا تأتي مرحلة التحرر الوطني (أو «الثورة الوطنية الديموقراطية») لإلغاء التمييز العرقي وتأسيس حكم الأغلبية السوداء. لربما يترتب على ذلك التحشيد الجماهيري للطبقة العاملة ولكنه لا يتضمن استحواذ الطبقة على السلطة أو بدايات الاشتراكية، بل على الاشتراكية أن تنتظر حتى يتطور النوع «العادي» للرأسمالية ويكون شكلها الأبارتهايدي الأعوج في الماضي البعيد نسبيا.

وأما الجناح الأكثر ليبرالية من المؤتمر الوطني فلم يناصر إلا الجزء الأول من الثورة ذات المرحلتين قائلا إن الهدف هو تأسيس رأسمالية غير العرقية، وأما الأمور الأخرى المرتبطة بالاشتراكية فما هي إلا خطاب غير مؤذية تكسب تأييد الجناح اليساري وترجئ ذلك النضال إلى أجل غير مسمى.

قد يجعل مثل هذا الحديث البعض للفظ كل من الحزب الشيوعي و، بالخصوص، المؤتمر الوطني، ولكن كما ذكرت سالفا، جذب خطاب المؤتمر حول الاشتراكية، بالفعل، أناسا رغبوا بإسقاط جميع أنواع الاضطهاد. و«ميثاق الحرية» الخاص بالمؤتمر قال، رغم كل ذلك، إن «الشعب سيحكم»، وإن ثروات البلاد الطبيعية يملكها الشعب كله. وهذا الميثاق، الذي مُرِّر في عام 1955 بوساطة مؤتمر حضره ثلاثة آلاف ممثل، لعب دورا ثنائيا في الحركة «المؤتمرية» أو «الميثاقية» الأوسع. أولا: عمل على جذب أكثر الناشطين/ات راديكالية، وكثيرا ما كان هؤلاء الأشجع والأكثر التزاما، وثانيا: وعمل كمقياس يستخدمه هؤلاء الراديكاليون/ات أنفسهم حين يقولون إن حركة المؤتمر لم تحقق مبادئها بما فيه الكفاية. وهذه النقاط لها أهمية اليوم لأن مجوعة من الناس تحمل هذه الطموحات لا تزال في المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي والنقابات المهنية المرتبطة بهم، حتى ولو أصبح هؤلاء متشائمين تجاه قيادات منظماتهم.

وهنالك نظرية أخرى للأبارتهايد، وهي النظرية التي أوصي بها، وصلت لذروة نموها في أوائل السبعينات. بعض أجزاء النظرية أتى من الأشخاص المحيطين بيسار الحزب الشيوعي (أنظر وولب، 1972)، ولكن التروتسكيين (مثل مارتن ليغاسيك) لعبوا دورا حيويا أيضا في تبيانها. تبدأ النظرية برفض فكرة أن هيمنة البِيْض في أواخر القرن العشرين كانت نوعا من الحكم الاستعماري وإدراك أن جنوب أفريقيا كانت دولة رأسمالية مستقلة. كل الدول الرأسمالية تضبط وتتحكم بعمالها وهجرتهم وحقوقهم القانونية وما إلى ذلك، وأما السمة الخاصة بنظام الأبارتهايد فهي أن التمايزات المستندة على العرق كانت رئيسية في تحديد الأدوار الاقتصادية.

هذه التشخيص لنظام الأبارتهايد يوحي بأن الطبقات الحاكمة الأخرى يمكنها التطرق لمشاكلها الخاصة المتعلقة بتنظيم وضبط العمال من خلال تصميم أشكال غير عرقية من الأبارتهايد، أو الفصل العنصري. تعرضت لهذا الموضوع في عامي 2006 و2009 في نقاشات حول نظام «الهوكو» الصيني، والذي يمنح مواطنة من الدرجة الثانية للعمال المهاجرين من الريف. وهذه المنزلة القانونية، مثلها مثل المكانة التي تُمنح بواسطة «العرق» في جنوب أفريقية الأبارتهايدية، متوارثة. أحد السمات المميزة لأنظمة الأبارتهايد بالأخص هي أن العمال يُسمح لهم بدخول المراكز السكانية، كمواطنين من الدرجة الثانية، طالما استلزم رأس المال عملهم، ولكن يتوجب عليهم العودة لـ«أوطانهم الحقيقية» في الريف متى ما سُرِّحوا من عملهم.

كانت نظرية التفوقية البيضاء وممارستها إذا مُلحقة إدماجا في أسلوب استخلاص الطبقة الحاكمة الجنوب أفريقية الأرباح وطريقة حكمهم السياسي، ولكن التفوقية البيضاء عملت كوسيلة للحكم الرأسمالي، ولم تكن غاية بحد ذاتها. أحد رؤساء وزراء جنوب أفريقيا لخص هذه الأمور بطريقته الخاصة قائلا: «نحن نحتاج السود لأنهم يعملون لدينا، ولكن حقيقة كونهم يعملون لدينا لا يمكن أن تعني ابدا استحقاقهم حقوقها سياسية».

وبذلك تشير النظرية التروتسكية بالتالي: وجود طبقة عاملة ضخمة الحجم، وتصادف الاضطهاد الطبقي مع الاضطهاد العرقي، معناهما أن حركة عمالية ثورية بإمكانها التصدي للأمرين في الوقت نفسه، بل ويلزمها التصدي للأمرين معا. تكون الاشتراكية في جدولة الأعمال في حال تمكنت الطبقة العاملة من تنظيم ذاتها باستقلالية وتتزعم سياسيا الحركة الاجتماعية الأوسع.

النشاط الجماهيري يعود إلى الواجهة

roadblock-june-76
طلاب يتظاهرون خلف حاجز طريق صنعوه

في أوائل السبعينات، ومع حظر المؤتمر الوطني والوحدويون الأفريقيون، خطت الطبقة العاملة خطوة إلى الأمام بعد أكثر من عقد من القمع. بدأت الإضرابات في عام 1973 على موانئ ديربان وانتشرت إلى مقرات العمل الأخرى في المدينة، متضمنة مئة ألف عامل وعاملة. أشعلت إضرابات ديربان هذه موجة إضرابات على المستوى الوطني.

منحت هذه الإضرابات تقديرا جديدا لقوة وأهمية نضالات أماكن العمل، وأصبح العديد من العمال ثوريين كنتيجة لذلك، إذ تضمن ذلك عددا معتبرا ميزوا ثوريتهم عن سياسات المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي. طمح تحالف المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي لتركيز اهتمام الحركة الواسعة على هدف حكم الأغلبية السوداء، وهو هدف من الممكن تحقيقه من خلال مفاوضات ودون إسقاط الرأسمالية، في حال وفرت الحركة ضغطا كافيا. ولكن المناضلين العمال الجدد ومناصروهم المثقفون طرحوا رؤية بديلة، أحيانا بعبارات مناهضة جليا للستالينية، تطمح لتدمير ثوري للأبارتهايد يقوده العمال أنفسهم.

وفي عام 1979، قامت هذه القوة، مستلهمة من انتفاضة ديربان، بتشكيل اتحاد النقابات الجنوب أفريقية (فوساتو)، وهو أول اتحاد نقابات مهنية ينشط على المستوى الوطني حقا. كان المؤتمر الجنوب أفريقي للنقابات المهنية (ساكتو)، والذي أُسّس في ذات العام الذي كُتِب فيه ميثاق الحرية (1955)، نشطا ضمن الحركة «الميثاقية» منذ إنشائه. اعتنق ساكتو، بقيادة مناضلين من الحزب الشيوعي، بنظرية «الثورة الوطنية الديموقراطية»، وبالتالي جلب على نفسه احتقارَ فوساتو.

لسوء الحظ، امتلك نشطاء فوساتو ومفكروهم نظرة ضيقة لما تحتاج الطبقة العاملة القيام به، إذ رأوا أن قوة العمال في نقطة الإنتاج ذاتها كالسمة المركزية لأي حركة ثورية، وإن كان ذلك تقدما في المنظور فهو أهمل النضال خارج مقرات العمل. وبدعوى الحفاظ على الاستقلال السياسي، أجلوا مسألة التنظيم السياسي الذي بإمكانه تنسيق نضالات الطبقة العاملة الأوسع، وحتى المنتمين للطبقة الوسطى الممكن إقناعهم بمشروعٍ اشتراكي ثوري. أطلق على هؤلاء المناضلين العمال لاحقا مسمى «العُمّالويون».

منظور العُمّالوية التنظيمي منظور مغلوط في أي مكان، ولكنه كان أسوء بالخصوص في السياق الجنوب أفريقيا، حيث حوالي ربع السكان الحضريين يعانون من البطالة والطلاب والشباب يتجهون للراديكالية وانبثقت منظمات نسائية. تاريخ جنوب أفريقيا، منذ وقت الأبارتهايد وحتى وقتنا هذا، هو تاريخ تفاعل ما بين النضالات داخل وخارج مقرات العمل. كانت المسألة النظرية والنشاطية لليسار متعلقة بأيّ أفكار وأشكال تنظيم سياسية بإمكانها تنسيق هذه النضالات بأقصى فعالية ممكنة. توجب على ناشطي فوساتو تطوير أفكارهم استجابة لتصعيدات إضافية في النضال.

ولكن حتى قبل تأسيس فوساتو، كان هنالك تصاعد ضخم ومفاجئ بُني على تفاعل نضالات مقرات العمل ونضالات الضواحي: انتفاضة سُوْيتو لعامي 1976 و1977. كانت راديكالية الشباب في السبعينات مرتبطة ارتباطا وثيقا بنضال العمال، وكما أشار بيتر دويير:


انتشرت موجة إضرابات جماهيري بين عام 1973 وعام 1976، خالقة مناخا ثوريا انتشر في أرجاء البلاد مع شروع الناشطين الطلاب في إقامة روابط مع العمال من خلال نقاشات حول مستويات الأجور والنصائح القانونية والتنظيم.

كانت سُوْيتو أكبر ضاحية سوداء في جنوب أفريقيا، إذ سكن فيها حوالي مليون شخص، وتقع على جنوب غرب أكبر مدينة في البلاد، جوهانسبرغ (ولذلك سُمّيت سُوْيتو (Soweto)، أي: South-West-Township، أو الضاحية الجنوب غربية). أتت شرارة الانتفاضة حين قررت الحكومة أن يكون تعليم الطلاب السود باللغة الأفريقانية، وهي مثابة اللغة الأجنبية للسود في تلك المنطقة.

الانتفاضة تحيي النضال التحرري

في عام 1976، افتتح الطلاب السود حقبة جديدة من مقاومة نظام الأبارتهايد العنصري العرقي حين نهضوا متظاهرين ضد الاضطهاد في المدارس.

تجمع حوالي اثنا عشر ألف طالب وطالبة في شوارع «ضاحية» سُوْيتو المقسّمة عنصريا في السادس عشر من يونيو/حزيران للتظاهر ضد تعليمهم باللغة الأفريقانية، وهي لغة الألقية البيضاء الحاكمة. وحين توجه المتظاهرون نحو مدرج رياضي قريب لعقد اجتماع جماهير، حاولت الشرطة إيقافهم بالغاز المسيل للدموع والكلاب. وحين لم ينفع ذلك، أطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، قاتلين ثلاثة وعشرين شخصا على الأقل.

قبل ستة عشر عاما، علّمت مجزرة في شاربفيل بداية حقبة قمعٍ وحشي أدت إلى نفي أو سجن قيادات النضال المناهض للأبارتهايد، من ضمنهم نيلسون مانديلا. ولكن هذه المرة، وعلى العكس من المرة السابقة، أشعلت المجزرة تقدما في النضال.
mbuyisa_makhubu
أحد أوائل القتلى: مبوييزا مخوبو حاملا القتيل ذو الثلاثة عشر عاما هيكتور بييتيرسون، وعلى يساره أخت هيكتور، أنطوانيت سيثول.

خرج طلاب عزّل أكثر في اليوم التالي، وقتلت الشرطة مئة منهم. بدأت الحركة بالتوسع إلى كل ضاحية جنوب أفريقية، والسود الأكبر سنا، من ضمنهم العمال، انضموا إلى الحركة. بعد ستة أيام من أول مظاهرة، قام أكثر من ألف طالب في مصنع كرايزلر بإضراب تضامنا مع الطلاب.



خطط المنظمون الطلاب السويتيون القيام بمسيرة يوم الرابع من أغسطس/آب متجهة إلى جوهانسبرغ، ألا وهي المدينة «البيضاء» المجاورة. واستعدادا للقيام بذلك، طرق الطلاب كل باب من أبواب مدينتهم وأقنعوا العمال السود بالقيام بإضراب عام سياسي استمر ثلاثة أيام.

استمرت الإضرابات حتى الخريف، ونوع الطلاب من تكتيكاتهم لتشمل اعتصامات ومقاطعات وهجمات ليلية دمرت مراكز الشرطة وغيرها من رموز قوة الأبارتهايد.

وفي الضواحي خارج كيب تاون، أقامت الحركة وحدة بين مجموعتين سعى الحكام البِيْض تقسيمها: الأفريقيون ذوو البشرة الداكنة ومختلطو الأعراق، أو ما يسمون بـ«الملوّنون». وكما حدث في غيرها من الأماكن، استخدم النشطاء في كيب تاون أفكار «الوعي الأسود» القومية، المرتبطة بالقائد الطلابي ستيف بيكو، قائلين إن الشعوب غير البيضاء يجب أن تتوحد لأنهم كلهم «سُود» في عين العدو الأبارتهايدي.

استمرت المقاومة على المستوى الوطني مدة طولها ثمانية عشر شهرا، وكلفت حياة أكثر من ألف شخص، قبل أن تتمكن السلطات من استعادة سيطرتها. أثناء القمع، قُتِل ستيف بيكو ذاته بوساطة الشرطة في سبتمبر/أيلول لعام 1977.

no-to-afrikaans
طلاب يحملون شعارات “لا نريد الأفريقانية” و”فلتذهب الأفريقانية إلى الجحيم”

ولكن الحركة حققت بعض الأرباح. أحدها كان إلغاء الأفريقانية كلغة تعليمية. وحققت انتصارا أكبر أيضا، وهو أن السود المدنيين، إذ عومِلوا حتى ذلك الوقت كـ«أجانب ذوي إقامة مؤقتة»، كسبوا حق السكن الدائم في المدن، رغم أنهم ظلوا مفصولين عنصريا.
ولكن أهم الانتصارات كان انبثاق جيل جديد من القيادات المتدربة في النضال الذي سيصل إلى مستويات جديدة خلال بضعة سنوات.



طبيعة الانتفاضة

صورة أحداث التي تحضر على بال الناس اليوم هي صورة أطفال ذوي شجاعة مبهرة يسيرون مرارا وتكرارا تجاه مجرى الرصاص. ولكن لماذا؟

تكمن جذور الانتفاضة في وحشية نظام الأبارتهايد ذاته، وهو أكثر الأنظمة العنصرية العرقية شمولا المبتدعة في التاريخ، وتكمن أيضا في هبّات المقاومة التي نشأت في السنوات السابقة.

عومِل السود، في موطنهم، كأجانب، تحاصرهم قيودٌ تحدد مناطق عيشهم وترحالهم وعملهم. فرض النظام فصلا من خلال نظام جوازات داخلية، مكّته شركات أمريكية شريكة في هذا الاضطهاد، إذ تضمن ذلك بطاقات هوية مصورة من شركة بولارويد وحواسيب من آي بي إم. كانت الحمامات والشواطئ ونوافير الشرب وعربات القطار والمدارس والخدمات الصحية، وحتى إمدادات الدم، كلها كان مفصولة عنصريا، وحصل السود على أسوء الأشياء.

كان الهدف هو توفير عمالة رخيصة وممكن التخلص منها للكدح في مزارع البِيْض الأغنياء ومصانعهم ومناجمهم. وكعمال زائرين دائمين، لم ينتمي السود، وفق سردية الطبقة الحاكمة، كما أسلفت، إلا إلى «الأوطان القَبَلية»، تلك الأراضي القاحلة المعزولة المعروفة باسم البانتوستانات، حيث يمكن طردهم إليها حتى يأتي اليوم الذي يحتاجهم فيه أرباب العمل البِيْض. وفي الضواحي التي خدمت المدن «البيضاء»، كانت نسبة البطالة حوالي 25 بالمئة. وأما في البانتوستانات، كان الرقم أقرب إلى 50 بالمئة.

ولكن بعد نكسات الستينات، بدأت المقاومة باستعادة صحتها. من ناحية، ازداد حجم الطبقة العاملة السوداء بمقدار الضعف منذ مجزرة شاربفيل. عنى ذلك أنه رغم ارتفاع نسبة البطالة، لعبت نضالات مقرات العمل دورا أكبر من أي وقت مضى في الكفاح ضد الهيمنة البيضاء، وفي عامي 1973 و1974، أقام 100 ألف عامل وعاملة في مدينة ديربان الساحلية إضرابا من أجل أجور أعلى، وأُجبِرت الدولة نتيجة لذلك على منح حقوق جديدة للنقابات.

ولاحقا، في عام 1974، أعطت الثورة في البرتغال حياة جديدة للنضالات التحررية في أنغولا وموزمبيق، مستعمرتان برتغاليتان على حدو الأراضي الجنوب أفريقية. تجاور موزمبيق جنوب أفريقيا من شرقها، بينما تقع أنغولا شمال ناميبيا الحديثة، حيث كانت وقتها واقعة تحت الحكم الجنوب أفريقي. في عام 1980، ومع مطلع حكم الأغلبية السود في زمبابوي (على الشمال الشرقي من جنوب أفريقيا) خُتِم الانبثاق الكامل لدول «الجبهة الأمامية» ذات الحكم الأسود، والتي مدّت يد العون ووفرت مأوىً للمحاربين ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.

في أوائل 1976، قبل عدة أشهر من انتفاضة سُوْيتو، اجتاح الجيش الجنوب أفريقي أنغولا في محاولة فاشلة لمنع الثوار من اليساريين من الإمساك بالسلطة. استلهم الجنوب أفريقيون السود من ذلك في نضالهم حين رأوا جيش الأبارتهايد «الهيّاب» مهزوما في أنغولا.

woman-fist-better

عبّر الطلاب عن روح مقاومة جديدة من خلال حركة الوعي الأسود المذكورة سالفا، والتي استلهمت جزئيا من حركات أمريكية مثل الفهود السود (Black Panthers). بُنيت تلك الحركة حول رابطة الطلاب الجنوب أفريقيين (ساسو) التي أسسها بيكو، حيث وصلت لأقصى نفوذها في حركة عامي 1976 و1977. ورُغم قتل بيكو والانحدار اللاحق لـ”ساسو”، حققت رسالة الحركة المتمحورة حول الفخر الأسود والاتكال على الذات تأثيرا متينا على الوعي الشعبي.

وفي فبراير، خرج الطلاب في مسيرة داعمة لمدرِّسَين سُوْيتوييَن طُرِدا لرفضهما التدريس باللغة الأفريقانية. قام الطلاب بإضرابات مدرسةً تلو الأخرى، وانبثقت منظمة جديدة، مجلس نواب الطلاب السُوْيتويين. دعا المجلس لإقامة مظاهرة السادس عشر من يونيو/حزيران، والتي وحّدت طلابا من ثلاث مدارس.

نشأت بقية الحركة بشكل مماثل، مع تكوين الشباب والعمال تنظيمات جديدة من العدم. أتت المبادرة من الشعب، وليس من التنظيمات الجماهيرية القديمة، مثل المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي، حيث تعرضا لنكسات بسبب القمع الأولي.

ومثل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مثّلت انتفاضة سُوْيتو عودة الناس العاديين إلى النضال الشعبي بعد فترة أجري فيها أغلب الكفاح بواسطة نشطاء مخضرمين شنّوه من منفاهم.

soweto-riot-2
انبثق النضال الجديد عن جذور شعبية

سيرورة الانتفاضة

دفع النضال مئات القادة الشباب للذهاب إلى ما هو أبعد من الوعي الأسود، ونحو استراتيجية طبقية لمحاربة الأبارتهايد.

في بادئ الأمر، أدار الضواحي والبانتوستانات سود و«ملونون» من الطبقة الوسطى استفادوا من تعاونهم مع الأبارتهايد. استنتج المناضلون الشباب وجوب رسم خط فاصل ضد هؤلاء المتواطئين، رغم كون هؤلاء المتواطئين «سود».

وبدأ العديد يدركون أن أكبر نقاط قوة الحركة كمنت في قدرة العمال على التنظيم والإضراب، وبعض هؤلاء أصبحوا لاحقا الجناح اليساري لمؤتمر النقابات الحرفية الجنوب أفريقية (كوساتو) حين أُسِّس عام 1985.

وساعدت الحركة أيضا على الإبقاء على تقليد الأممية، حيث أن كل اندلاع جديد للنضال استدعى جولة جديدة من التضامن والتوجه للراديكالية في أوساط الشباب والعمال في أرجاء العالم، بما فيهم دول الجبهة الأمامية في الجنوب الأفريقي.

ولكن، بصورة عامة، سُخِّرت قوة العمال السود الاجتماعية داخل البلاد لصالح الزعامة السياسية للمؤتمر الوطني والحزب الشيوعي. ساهم هذان التنظيمات في حركة عامي 1976 و1977 حيث تكمنا، وبسبب منظورهم الوطني وسُمعتهم كمحاربين، نمى كلٌ من هذين التنظيمين نموا ضخما.

حتى أواخر الثمانينات، كافح العمال الأفريقيون ضد نظام الأبارتهايد حتى وصلوا طريقا مسدودا. وحين أخلى النظام الأبِيْض عن سبيل نيلسون مانديلا في عام 1990، كان أمله في جعل الانتقال إلى حكم سياسي أسود سيبقي على القوة والهيمنة الاقتصادية للأقلية البيضاء.

طلب مانديلا من العمال أن يبقوا الضغط على النظام لكي ليتنحى جانبا، ولكن المؤتمر الوطني سعى لثني العمال عن كفاح سينزع قوة الرأسماليين في نقطة الإنتاج من جذوره.

كان وصول مانديلا إلى الرئاسة في عام 1994 انتصارا كبيرا لكونه إشارة لانهيار الأبارتهايد، ولكن المؤتمر الوطني تبوّأ الحكم واعدا بحماية ملكية البِيْض للأراضي والمصانع والمناجم. ولهذا السبب ظلّت اللا مساواة في جنوب أفريقيا رغم أن العنصرية العرقية لم تعد مكتوبة في كتب التشريعات.

ومع ذلك، فمبادرة الشباب وقوة العمال لا تزال باقية، فانتفاضة سُوْيتو كشفت عن هذه الإمكانيات، وهي إمكانيات لا زال الجنوب أفريقيون السود بحاجة لاستخراجها لتحقيق تحرّرٍ كامل.

التحدّي الجماهيري للأبارتهايد

في يونيو/حزيران لعام 1980، قام الجناح العسكري للمؤتمر الوطني، رمح الأمة، بتفجير معمل تحويل فحم إلى زيت مهم يقع 80 ميلا شرق جوهانسبرغ. كان ذلك «عملا خارجيا» نفذه عناصر من حزب الأمة مستقرون في منفاهم في موزمبيق.

اتهمت الشرطة الجنوب أفريقيا باتريك تشاموسو، وهو رئيس من أصول موزمبيقية، بالتجسس لصالح المفجِّرين، ولكن تشاموسو لم يكن متورطا معهم، بل هو واقعا تجنب السياسة حتى تلك اللحظة من حياته.

يحكي فيلم «Catch a Fire» قصة تعذيب تشاموسو الحقيقية بواسطة الشرطة، وتعذيب زوجته أيضا، وكيف أن ذلك دفعه للانضمام للمقاومة ضد نظام الأبارتهايد.

بُرّئ تشاموسو من تهمة الأعمال التخريبية، ولكنه هرب من البلاد لينضم إلى رمح الأمة، وهي رحلة أخذته أولا إلى موزمبيق ومن ثم إلى أنغولا. تأتي ذروة الفيلم حين يعود تشاموسو إلى جنوب أفريقيا ليُتمّ مهمة التخريب التي اتُّهِم زورا ببدئها.

يقدم هذا الفيلم صورة صادقة وأخاذة عن كيفية توجه شخص عادي للراديكالية بسبب معاناته من الوحشية العنصرية لنظام الأبارتهايد. وعلى ذلك النحو، كانت قصة تشاموسو قصة اعتيادية مر به آلاف، لا بل ملايين الجنوب أفريقيين في الثمانينات، حين وصلت مقاومة الأبارتهايد إلى ذروتها.

ولكن هنالك ناحية مهمة جعلت من قصته غير اعتيادية بتات، وبالتالي لا يمكن لها أن تقف كصورة دقيقة تمثل الكفاح ضد الأبارتهايد.

حدث توجهه للراديكالية بانعزال عن محيطه، أولا حين عزل نفسه من النشاط السياسي داخل جنوب أفريقيا، ولاحقا، حين تدخل من المنفى. ولكن المقاومة نشأت عن طريق نسج ملايين الخيوط المماثلة لتجربة تشاموسو لتخلق مقاومة جماهرية أسقطت النظام.

في وقت أول هجوم على المصنع الذي عمل فيه تشاموسو، كانت أغلب القيادات الوطنية للتنظيمات المناهضة للأبارتهايد إما في السجن أو في المنفى.

انبعثت مقاومة النظام حينها على المستوى الشعبي، أولا بسليلة من الإضرابات في ديربان عام 1973 وانتفاضة سُوْيتو المذكورة أعلاه. ومقارنة بانتفاضات كهذه، كانت هجمات رمح الأمة المستهدفة أهدافا اقتصادية أو عسكرية هجماتًا رمزية غالبا ضد النظام، وإن كانت مُلهِمة.

ومنذ السجن الجماعي والنفي الجماعي للجيل السابق، مر المجتمع والاقتصاد الجنوب أفريقي بتغيرات جذرية، وحين أرسل نيلسون مانديلا إلى سجن روبين آيلاند في عام 1961، كان تعداد السكان المدن أكثر بقليل من 3 مليون نسمة. بحلول عام 1980، وصل تعداد سكان المدن إلى 5،6 مليون نسمة.

كانت القوة المحرّكة للتوسع الحضري هو نمو الصناعة والطبقة العاملة السوداء التي عاشت في «الضواحي» السوداء التي أوت العمال الصناعيين وعوائلهم وغيرهم من القادمين بحثا عن العمل، وأحاطت تلك الضواحي بالمدن، إذ حوفظ على «بياض» هذه المدن. كانت الضواحي في المناطق المحيطة أصغر من سُوْيتو، ولكنها حملت طابعا صناعيا أكبر. على سبيل المثال، في منطقة راند الشرقية الممتدة بين جوهانسبرغ وسيكوندا، وهي المدينة التي عمل فيها تشاموسو، كانت 50 بالمئة من الوظائف تقريبا موجودة في قطاع التعدين والصناعة والعمران. وأما مدينة الصفيح مترامية الأطراف، سيكوندا ذاتها، فقد بُنيت من لا شيء في عام 1974 لتأوي عمال معمل تكرير الزيت ساسول المدعوم بواسطة الدولة.

كان لانتفاضة سُوْيتو التي بدأت بمظالم طلابية سرعان ما ركزت على مطالبة الدولة بالاعتراف بحق سكان الضواحي، إذ كانوا ذو أهمية حيوية للاقتصاد، في السكن الدائم. وبعد اكتسابهم ذلك الحق، تلا ذلك بعض سنوات من القمع الممزوج بالإصلاحات، حيث سعى نظام الأبارتهايد بعد أن أحكم السيطرة على الضواحي بالعنف لتحقيق الاستقرار فيها عن طريق بناء المنازل وتوفير الكهرباء والسماح بـ«حكم ذاتي» محدود من خلال مجالس للضواحي.

فيما يتعلق بوعود بناء المنازل وتوفير الكهرباء، فهي وعود لم توفى أبدا، وأما مجالس الضواحي ذاتها فقد أصبحت في محور الغضب الشعبي، إذ تحملت المجالس «المسؤولية» ولم تملك أي تمويل، وبالتالي لم يكن لديها سلطة، إذ أن الطريقة الوحيدة لتمويل ميزانية خدماتها كانت رفع الأجور. ونتيجة لذلك، سرعان ما أصبحت هذه المجالس في نظر الناس طريقة أخرى تقوم بها دولة الأبارتهايد بمهاجمة المستويات المعيشية للعمال السود.

توجهت خبرات الناشطين التي كُسِبت في انتفاضة سُوْيتو في ذلك الوقت بثلاثة اتجاهات.

في المدارس المفصولة عنصريا، حيث كان تمويل مدارس السود أقل بخمسة عشر مرة من مستوى تمويل مدارس البِيْض، استمر الطلاب السود بالتظاهر ضد الأوضاع المتدنية، وفي الأحياء، ضغطت «منظمات مدنية» مستقلة على مجالس الضواحي، حيث كانت مقاطعة الإيجارات سلاحا رئيسا، وأما في المصانع والمناجم، أسس العمال نقابات جديدة.

secunda-ctl
يعد مصنع ساسول للوقود الاصطناعي اليوم الأكبر في العالم.

أُجيز إنشاء نقابات السود في السبعينات نتيجة لإضرابات ديربان، وما بين عام 1980 وعام 1982، تضاعفت عضوية النقابات ثلاثة أضعاف، من 220 ألف حتى 670 ألف نقابي، حيث انتمى ربع هؤلاء إلى «النقابة الوطنية لعمال المناجم» المُنشأة حديثا بقيادة سيريل رامافوزا، والذي انضم بدوره لاحقا للمؤتمر الوطني كإداري. وفي معمل سيكوندا، انضم ثلاثة آلاف شخص إلى نقابة العمال الكيميائيين في السنوات التالية لهرب شاموسو.

وحتى عام 1984، أغلب هذه النضالات لم تسر إلى على المستوى المحلي، ولم تنتج سوى ومضاتٍ نضالية، ولكن التجربة الشعبية، التي تراكمت منذ انتفاضة سُوْيتو، أعدّت الطريق للمواجهة القادمة مع دولة الأبارتهايد على المستوى الوطني: انتفاضات الضواحي ما بين 1984 و1986.

خلال صيف 1984، ازدادت تظاهرات الطلاب ومقاطعات الإيجارات، ولاحقا في سبتمبر/أيلول، حدثت فورة في «مثلث نهر فال»، أي في مدن فيرنيجنج وفاندربيجلبارك وساسولبرغ. وفي هذه المنطقة الصناعية الواقعة جنوب جوهانسبرغ، هاجمت الشرطة جمهورا من مقاطعي الإيجارات والطلاب المناصرين لهم. صد الجمهور الهجوم وقاوموه، بل وهاجموا منزلي عضوين فاسدين من أعضاء مجلس الضاحية. وخلال أيام معدودة قتل الشرطة 50 من السكان، وقتل المتظاهرون أربعة من أعضاء مجلس الضاحية.

funeral-uitenhage-1985
يوتينهاغي في عام 1985: حين تقتل الشرطة متظاهرين، تتحول الجنازات إلى مظاهرات شعبية

وأما في منطقة جوهانسبرغ-بريتوريا، إذ يقطنها نصف سكان جنوب أفريقيا، بدأت الشرطة بمهاجمة كل التجمعات السياسية. أدّى هذا القمع لاندلاع تظاهرات في ضواحي البلاد. هُمِّش أعضاء مجالس الضواحي واُتّهِموا بالعمالة للأبارتهايد، واستجابت حكومة الأقلية البيضاء بالاحتلال العسكري.



انخرط العمال في المظاهرات إما بدورهم آباء أو أمهات أو كونهم مستأجِرين، ولكن في نوفمبر/تشرين الثاني، نهضوا بدورهم عمّالا، واندلع إضرابٌ عام سياسي تضمن 800 ألف عامل، يناصرهم 400 ألف طالب يتظاهرون ضد أوضاع المدارس، ولكن المطلب الرئيسي كان إخراج القوات الأمنية من الضواحي.

انتقاما لإضراب نوفمبر/تشرين الثاني، طرد معمل سيكوندا ستة آلاف عامل، ولكن نشاط النقابة داخل وخارج المعمل أعاد لسبعين بالمئة من هؤلاء وظائفهم، وأضف على ذلك أنه كسب اعترافا بممثلي النقابة أيضا لأول مرة. وبعد سنة كاملة، التقت أربعة وثلاثون نقابة في ديربان لتشكيل «كوساتو»، مؤتمر النقابات المهنية الجنوب أفريقية.

ومع تطور الحركة في عام 1985، أصبحت العديد من الضواحي أماكنا تخشى الشرطة دخولها، وبحلول نهاية العام، بدأت شبكات «لجان شوارع» بالتشكل على أساس حكم ذاتي حقيقي للضواحي، وتضمنت هذه الشبكات تقديم خدمات وحل نزاعات مستقلة عن نظام الأبارتهايد.

وعلى الرغم من أن نموذج الديموقراطية الشعبية هذا يثير الإلهام، فهو لم يتجاوز كونه حكما ذاتيا مؤقتا للعشوائيات الفقيرة. ولتدعيم حكم ذاتي حقيقي، كان العمال بحاجة للاستحواذ على مصادر الثروة، المصانع والمناجم، ولكن دولة الأبارتهايد لم تسمح للأمور بالوصول إلى تلك النقطة.

في ظل حالة طوارئ في عام 1986، سحب النظام وألغى الحقوق المدنية القليلة التي كُسِبت وأعاد احتلال الضواحي.

لم تلعب المنظمات الوطنية دورا معتبرا في اندلاع انتفاضات الضواحي، ولكن خلال عام واحد، بدأ تنظيم واسع اسمه «الجبهة الديموقراطية المتحدة» بتنسيقها.
udf-dont-vote
ملصق للجبهة الديموقراطية المتحدة يحمل شعار “لا تصوتوا في انتخابات الأبارتهايد” و”فلنسر نحو الحرية”.

كانت الجبهة الديموقراطية المتحدة مكونة من منظمات قانونية نائبة للمؤتمر الوطني الأفريقي المحظور، وشاركت معها كنائس ونقابات وغيرها من التنظيمات المستعدة للعمل مع المؤتمر الأفريقي. كان عمل الأول للجبهة، في عام 1983، هو القيام بمقاطعة ناجحة للانتخابات للفرعين «الهندي» و«الملون» الجديدين للبرلمان، حيث كانت هذه محاولة فاشلة لتقسيم المعارضة بواسطة حكام الأبارتهايد.



على الرغم من أن أغلب فروع الجبهة الديموقراطية المتحدة بدأت من غير أي جذور في الضواحي التي اندلعت فيها النضالات، فالجبهة اعتنقت الانتفاضات وساعدت على صقل تركيزها الوطني. توسعت حماسة هذا التنظيم الواسع ليشمل تجارب تضمنت لجان شوارع و«محاكم شعبية»، وهذه البنى الجديدة للسلطة، المبنية على أسس شعبية، سارت كلمحات للبديل الديموقراطي للسلطة القمعية لدولة الأبارتهايد.

ولكن مع اشتداد قمع الدولة في أواخر الثمانينات، بحث كل من حكام الأبارتهايد والقوى المنازة للمؤتمر الوطني عن «تسوية» المأزق الاجتماعي، وكلا الطرفين حملا رؤية مفاوضات، وناظما متجاوزا للأبارتهايد، تُهندسه النُخب، لا القوى الشعبية.

وبحلول هذا الوقت، قبل «كوساتو» بزعامة المؤتمر الوطني، مفوتا فرصة تشكيل بدايات حزب عمّالي مستقل. شكل نشطاء الحزب الشيوعي الغراء الرابط بين الإثنين، مُعلنا أن سلطة العمال والاشتراكية لا يمكن لهما أن يُحققا إلا بعد فترة ديموقراطية رأسمالية غير عرقية.

ومع تفاوض المؤتمر الوطني نيابة عن الحركة جمعاء، لم تقبل بأي مساومة حول إبقاء أي أثر للعنصرية المُقنّنة، وأما حكام الأبارتهايد فلم يتنازلوا عن الموقع الاقتصادي لمن ملكوا المناجم والمصانع والمزارع.

وفي آخر المطاف، حتى التسوية التي ولّت نيلسون مانديلا كرسي الرئاسة في عام 1994 لم تكن ممكنة لولا انتفاضات شعبية متكررة. وأهم تدخّلين شعبيين في أوائل التسعينات كانا إسقاط لوكاس مانغوب، حاكم «وطن» بوبوتتسوانا وعميلٌ للأبارتهايد، والمظاهرات الشعبية التي اندلعت بعد أن قام يمينيون متطرفون باغتيال قائد الحزب الشيوعي كريس هاني.

كانت نتيجة ذلك انتصارا على نظام عنصري بشع، ولكن ليس على اللا مساواة أو الفقر المنتشر. ففي فيلم «Catch a Fire» لم يكن هنالك حاجة لبناء مشاهد الصفوف اللا محصورة لبيوت الصفيح، فهي تعكس واقعا باقيا حتى يومنا هذا.

ولكن هنالك طريق لتجاوز هذا الواقع البائس. يلمح الفيلم لانبعاث نضال جماهيري ولكنه لا يتطرق له بالتفصيل. ولتحقيق انبعاث حكمٍ شعبي، يتوجب على العمال تنظيم أنفسهم باستقلالية كقوة سياسية للتحكم بمصادر ثروة جنوب أفريقيا.

انتفاضة عمال المناجم لعام 2012

Striking miners chant slogans outside a South African mine in Rustenburg

شهد السادس عشر من أغسطس/آب لعام 2012 مجزرة نفذتها قوات الشرطة غيّرت وجه الساحة السياسية الجنوب أفريقية.

أدت المجزرة لمقتل 34 عامل من عمال مناجم البلاتين وجرح أكثر من 75، مستحضرة لعقول الناس مجازر التفوقيين البِيْض أثناء فترة الأبارتهايد. كانت هذه المجزرة بحد ذاتها ستعمل على زعزعة الثقة الشعبية بالمؤتمر الوطني الأفريقي الذي قاد الكفاح ضد الأبارتهايد وحكم البلاد منذ عام 1994، حين سقط النظام العنصري.

ولكن الواقع هو أن نشاط عمال المناجم ذاته قد يفرض أكثر الآثار دواما. لم يأذن الفرع المحلي للنقابة الوطنية لعمال المناجم بالقيام بذلك الإضراب، مما جعل ذلك النشاط نشاطا غير شرعي، مما يبرهن أن عمال المناجم كانوا مستعدين للتحرّك نيابة عن أنفسهم، وما هو أهم من ذلك هو أن عمال المناجم أبقوا على إضرابهم دون دعم النقابة حتى بعد المجزرة وكسبوا زيادة في الأجور قدرها 22 بالمئة.

أطلق ذلك الانتصار، كما أسلفنا في بداية المقال، موجة من الإضرابات غير المأذون بها في «حزام البلاتين»، إذ انتشرت في آخر المطاف إلى مناجم الذهب. بحلول أكتوبر، شملت الإضرابات أكثر من 75 ألف عامل، أي 15 بالمئة من قطاع يشكل 6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد و20 بالمئة من صادراتها.

أحدثت موجة الإضرابات تلك أزمة لنقابة عمال المناجم، فقبل الإضرابات، كانت تلك النقابة أكبر عضو في «كوساتو»، وهو حليف للمؤتمر الوطني قوة رائدة في توفير الأصوات للحزب الحاكم. ولكن منذ مجزرة ماريكانا، خسرت النقابة ما بين 40 و45 ألف عضو، أي أكثر من 15 بالمئة من مجمل أعضائها.

وفي المقابل، دعمت «نقابة رابطة عمال المناجم والعمران» (آمكو) غير المنحازة سياسية إضراب ماريكانا والإضرابات التي تلته، وأصبح «آمكو» الآن النقابة المهيمنة في أكبر ثلاث شركات بلاتين في العالم، ويمثّل 17 بالمئة من عمال مناجم الذهب.

انتشرت الإضرابات في قطاع التعدين لتصل لقطاع المواصلات ووفرت إلهاما لإضراب عمال المزارع في كيب الغربية. عمال المناجم في ماركيانا، مثلهم مثل العديدين في زمن الأبارتهايد، مهاجرون من المناطق الريفية المعدمة لجنوب أفريقيا. وهنالك أيضا، إلى جانب تزايد الإضرابات، تصعيد في مظاهرات قطاع «توصيل الخدمات» الحضري، حيث تمركزت المطالب حول الماء والكهرباء والصرف الصحي وتوفير مواصلات بأسعار معقولة.

الأوضاع المسببة للأزمة الجديدة

كان السخط على «التحالف الثلاثي»، المؤتمر الوطني و«كوساتو» والحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، في تزايد منذ التسعينات.

مثّلت نهاية الأبارتهايد وانتخاب نيلسون مانديلا رئيسا في عام 1994 تقدما ضخما بالطبع، فقوانين الأبارتهايد العنصرية ألغيت والحكومة الجديدة أحدثت تحسينات مهمة، وإن كانت تدريجية، في خدمات مثل الماء والكهرباء والإسكان.

ولكن الإدارة الجديدة ورثت التفاوتات الاقتصادية لعصر الأبارتهايد وسارت وفق منطق الرأسمالية. ظلّت الأصول الإنتاجية، مثل المصانع والمناجم والأراضي في أيدي أقلية ضئيلة، رغم دخول حفنة من السود إلى صفوف النخبة. تضمن ذلك سيريل رامافوزا، المؤسس المناضل سابقا للنقابة الوطنية لعمال المناجم في الثمانينات، والذي حصل عن منصب رئاسي في شركة لونمين المالكة لمنجم ماريكانا.

أمسك المؤتمر الوطني الأفريقي بزمام السلطة في وقت أصبحت فيه خطط التنمية التي تقودها الدولة محط ازدراء دولي، ولذلك شرعت الحكومة الجديدة في خطة اقتصادية «نيوليبرالية» موجهة للسوق، وبها يكون النمو نتيجة قرارات استثمار خاصة، مُفترضةً أن الثروة «ستتسرب» من الطبقات العليا للمجتمع إلى سفلاها.

كانت نتيجة ذلك هي نمو اللا مساواة منذ نهاية عصر الأبارتهايد وفقر مخيم بائس في الريف واستمرار توسع ضواحي الصفيح خارج المراكز المدنية المزدهرة ومعها نسبة بطالة رسمية قدرها 25 بالمئة. والرقم هذا يزداد ليقترب من 38 بالمئة بعد الأخذ في الحسبان الناس الذين يأسوا من البحث عن عمل، وأما نسبة بطالة الشباب فتصل 65 بالمئة.

جلبت منهجية السوق الحرة «إدارة عِلمية» لقطاعات مثل قطاع الصلب، حيث تزايد معدل الإنتاج وتناقص معدل التوظيف. وإلغاء حماية الدولة لقطاع النسيج أدى لخسارة حوالي 70 ألف وظيفة خلال الست سنوات الماضية.

في أحيان ما، قاد «كوساتو» والحزب الشيوعي الجنوب أفريقي حملات تحسين المستويات المعيشية للعمال والفقراء، قائما بإضرابات في القطاع العام، على سبيل المثال، لاستخلاص تنازلات مَعاشية من شريكهم في الائتلاف، المؤتمر الوطني الأفريقي. وفي الأحيان ذاتها، حاولت هذه المنظمتان صد أي انشقاق سياسي من الشراكة الحاكم.

نتجت العديد من التحديات عن انشقاق أعضاء من التحالف الثلاثي، فحين اندلعت مظاهرات قطاع الخدمات بادئ الأمر في العقد الأول من الألفية الجديدة، كان تريفور نغواني أحد القادة الرئيسيين في جوهانسبرغ، وهو مستشار اشتراكي طُرِد من المؤتمر الوطني لانتقاده الصريح لأداء الحزب.

كانت «آمكو» ذاتها انشقاقا عن النقابة الوطنية لعمال المناجم. فكما يسرد الاشتراكي الجنوب أفريقي تيري بيل، كان جوزيف ماثنجوا، الرئيس الحالي لـ«آمكو»، رئيس الفرع المحلي لنقابة عمال المناجم في مبومالانغا، حيث طُرِد قبل 15 عام لدعمه إضرابًا «غير إجرائي»، أي غير مأذون به، أقامه أعضاء فرعه. ومنذ ذلك ذلك الحين، عقدت نقابة عمال المناجم اتفاقيات مع أرباب العمل من أجل تصعيب نشاطات «آمكو» وإمكانية ضمّه أعضاءً جدد، ذلك حتى فتحت شجاعة عمال المناجم ذاتها في ماركيانا المجال لهذه النقابة الجديدة كي تتوسع.

الحركة الاجتماعية الجديدة

كان لموجة نشاط التنظيم العمالي الذاتي أثر يتجاوز الحركة النقابية، حيث أنها ألهمت آلافا مؤلفة للنظر في بدائل سياسية خارج المؤتمر الوطني الأفريقي.

لدى اليسار الثوري فرصة للنمو، ولكن بداياته الصغيرة تعني عدم تمكنه من ملأ الفراغ الذي فتحته النضالات الجديدة، ولذا كان أول مستفيدين حقيقين من الروح النضالية الجديدة هم الوحدويون الأفريقيون، أي من يصبون جل اهتمامهم على استمرارية الإرث العنصري للأبارتهايد ويرون أن الحل يكمن في إعطاء كل ما تبقى من قوى لدى البِيْض في أيدي السود. بالطبع، ليس في الوحدوية الأفريقية سمة فطرية مناهضة للرأسمالية، إذ أن مقترح العديد من الوحدويين الأفريقيين لا يتجاوز تبديل الرأسماليين البِيْض برأسماليين سود.

وإن كان «آمكو» غير منحاز سياسي، فهو ينمتي لمجلس نقابات مهنية يتزعمه السكرتير العام للمؤتمر الوحدوي الأفريقي، حيث قدم الوحدوي الأفريقي بديلا ينظمه السود عن المؤتمر الوطني متعددة الأعراق، ولكن نفوذه انخفض انخاضا شديدا في أوائل التسعينات مع توجه المؤتمر الوطني نحو أن يصبح الحزب الحاكم في 1994.

قد يشهد الوحدوي الأفريقي انتعاشا في الشعبية، ولكن حصة الأسد من الاهتمام ذهبت إلى يوليوس ماليما، الرئيس السابق لعصبة الشباب للمؤتمر الوطني.

على الرغم من غنى ماليما وفساده، فهو حوكِم عام 2013 بتهمة الاحتيال وغسيل الأموال، فقد كسب بعض المصداقية لدى عمال المناجم لإصراره على زيارة ماريكانا بعد المجزرة، ولدى يوليوس تاريخ مناصرة تأميم المناجم والمصارف ومعها مصادرة المزارع التي يمكلها البِيْض دون تعويض وتوزيعها على السود.

على الرغم من امتلاك جنوب أفريقيا بنى تحتية عالية التطور، يعيش 30 بالمئة من السكان في الريف. وعدت الحكومة بتوزيع 30 بالمئة من المزارع الكبيرة على صغار المزارعين السود بحلول 2014، ولكن حتى وقت كتابة هذا المقال (2013) لم يُوزّع سوى أقل من 10 بالمئة.

وفي دعوته لتأميم الثورة المعدنية الجنوب أفريقيا، يتعمد ماليما تكرار صدى مطلب ميثاق الحرية، والذي يُعلن: «الثروة المعدنية في الأرض والمصارف والصناعات الاحتكارية ستُحوّل إلى ملكية الشعب أجمع».

ومنذ انهيار أعداد عضوية نقابة عمال المناجم في حزام البلاتين، أعادت النقابة تأكيدها على التزامها بالتأميم، وأما «نقابة عمال التعدين الوطنية الجنوب أفريقية» (نومسا)، وهي الآن أكبر نقابة في «كوساتو»، فقد أصرت دائما على مطلب تأميم المعادن، وأعلنت أيضا دعمها لمضربي ماريكانا حين تجنب بقية أعضاء «كوساتو» القيام بذلك.

وفي داخل التحالف الثلاثي، هنالك نقاش حول معنى مطلب ميثاق الحرية. البعض يقول إن التأميم أمرٌ مُحقّق بالفعل، لأن الدولة تسيطر على أراضي التعدين وتوفر تراخيص استغلالها للشركات الخاصة. ولكن الوحدويين الأفريقيين، مثل ماليما، يشيرون لكون أكبر شركات التعدين مسجّلةً خارج جنوب أفريقيا، من ضمنها أول وثالث أكبر شركات بلاتين، أمبلاتس ولونمين.

ماليما مُحق في إشارته للطبيعة الإمبريالية لهذه الشركات، حيث أن حصة كبيرة من الأرباح تذهب خارج البلاد، كما كان الأمر عليه في عصر الأبارتهايد. سيكون لدى الجنوب أفريقيين العاديين فرصة أفضل في مطالبتهم بحصة من أرباح استخراج المعادن لو كان لدى الدولة تحكم مباشر بمناجم البلاد، ولذلك ليس من المفاجئ أن مطالب التأميم تتمتع بتأييد شعبي واسع.

من المهم جدا أن النقاش حول مسألة التأميم، في داخل المؤتمر الوطني وفي خارجه، تسير بالإشارة إلى ميثاق الحرية، الذي نُظِر له دائما كبرنامج لأنسنة الرأسمالية، لا لإنهاء الاستغلال. في نظر الحزب الشيوعي، لا تزال جنوب أفريقيا تسعى جاهدة لتحقيق مكاسب «ثورة ديموقراطية وطنية»، فترة نمو رأسمالي «عادي» يفترضون أنها ضرورية قبل إمكانية الثورة الاشتراكية.

وأما التيار الرئيسي في المؤتمر الوطني، ومن ضمنهم نيلسون مانديلا والرؤساء الذين تلوه، أكّد دائما أن «الثورة الديموقراطية الوطنية» هي المغزى الكلي. حين يعرّف كلٌ من المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي المدى السياسي، من الواضح أن كلا من المفاهيم المحافظة و«الراديكالية» للتأميم تمثل استراتيجيات للتنمية الرأسمالية، استراتيجيات تستبعد الاستيلاء المباشر على الثروة المعدنية بواسطة العمال أنفسهم.

خاتمة

كانت جنوب أفريقيا في ظل الأبارتهايد مكانا بؤس وغضب للأغلبية، ونكرانٍ من البقية. ولا تزال كذلك.

منذ عام 1994، أدت سياسات السوق الحرة النيوليبرالية الصادرة عن المؤتمر الوطني لنشأة بورجوازية سوداء جديدة أعدادها تصل عشرات الآلاف، ولكن الأوضاع المادية للأغلبية لم تزدد إلى سوءً. ولذلك لا تزال البلاد تشهد سنوات انتفاضات وعصيان.

فعلى الرغم من امتلاكها أعلى معدل تطور تقني أفريقيا ما تحت الصحراء الكبرى، فالبلاد تحتل أعلى درجة لا مساواة في العالم. شمل ذلك الخدمات مثل الماء والكهرباء والتعليم أيضا، وحيث وفر قانون الأبارتهايد للطلاب البِيْض 15 ضعف التمويل الذي تلقاه الطلاب السود، نرى اليوم أن أوضاع الأبارتهايد لا تزال باقية لاعتماد المدارس على رسوم استخدام لا يمكن للفقراء تحمل نفقاتها.

انبثقت منظمات مقاومة مستقلة مرة أخرى، فعلى سبيل المثال، يحارب «المنتدى المناهض للخصخصة» في جوهانسبرغ قطع الماء والكهرباء وإخلاء الناس من مساكنهم ورفع رسوم المواصلات، وغيره نفّذوا احتلالات جماهيرية للأراضي الريفية والمدنية غير المستخدمة.

وعلى الرغم من أن هذه النضالات نضالاتٌ طبقية، فأغلبها حدث خارج مقرات العمل. يواجه العمال اليوم عائقين رئيسيين يمنعانهم من فرض قوتهم الكاملة، أحدهما هو خسارة الوظائف الصناعية رغم نمو الإنتاج. فكما في البلدان الأخرى، جاور النمو الاقتصادي النيوليبرالي خسارةٌ في الوظائف.

بالإمكان قلب هذا الأمر لو تمكن العمال من التغلب على مشكلتهم الكبيرة الثانية: أغلب القيادات العمالية مرتبطة بدولة تفرض سياسات اللا مساواة. والعديد من نقابات «كوساتو» تعمل بشكل رئيسي كمكائن انتخابية للمؤتمر الوظيفي، وأما قيادات الحزب الشيوعي في مقرات العمل فهم يحاولون صد تطور أي قيادة جديدة بإمكانها التوجه باتجاه مستقل.

ولكن هذا هو بالذات نوع القيادة المتوجب على العمال الجنوب أفريقيين صنعها من أجل الكفاح ضد الفقر.[**]

المصدر: ووركس إن ثيوري

——

ملاحظات فريق الترجمة:

[*] دومينيون: كيانات سياسية شبه مستقلة واقعة اسميا تحت حكم التاج البريطاني.

[†] غُيّر الاسم عام 1923.

[‡] النطق الألماني لكلمة «نازي» هو «ناتزي»، ومن هنا يأتي تقارب النطق.

[§] إنديجينية (indigenous): كلمة تعني أن أصل الشيء أو الشخص من المكان نفسه.

[**] هذا المقال عبارة عن دمج لسلسلة مقالات بواسطة الكاتب نفسه حول تاريخ المقاومة الجنوب أفريقية. تم التصرّف بعض الأجزاء لتنسيق المقال على نحو مناسب لشموليته الحالية.