مَن يجب أن يحاكم من؟ ردّ على كريم مروة: -يجب أن نحاكم لينين-

ألبر فرحات
2005 / 12 / 11 - 10:10     

"كنا نعتقد اننا نستعد للدخول في القرن الحادي والعشرين، فاذا بنا نكتشف اننا عدنا الى القرن التاسع عشر"
فرانسوا ميتران لدى سقوط جدار برلين

أنشأ الاستاذ كريم مروة مقالا تحت عنوان: "يجب ان نحاكم لينين" ("النهار" في 23/10/2005) تناول فيه مواقف الحركة الشيوعية العالمية من خلال اعمال المؤتمر السابع للاممية الثالثة (الكونترن)، والدور الذي لعبه خلاله القائد الشيوعي ديمتروف، كما تناول تجربة ثورة اكتوبر والتطورات التي انتهت بانهيار التجربة التي قادها لينين، خالصاً الى مجموعة من الافكار والمراجعات التي تتناول الماضي والحاضر.

واذا بدأنا بالمأخذ الذي اخذه الكاتب على لينين فهو انه، ورفاقه البلاشفة قد اخطأوا بسبب "اختيارهم صيغة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية في روسيا المتخلفة خلافاً لرأي ماركس". وفي حين اننا نعرف ان ماركس كان قدّر في زمانه ان البلدان الرأسمالية الاشد تطوراً هي المرشحة قبل غيرها للانتقال الى الاشتراكية، فإننا لا نعرف اين تحدث عن ظروف روسيا وعدم نضوجها لذلك الانتقال، أما الذي حصل بعد وفاة ماركس ومع تزايد انتقال الرأسمالية الى مرحلتها الامبريالية (التي اعتبرها لينين اعلى مراحلها)، ومع ازدياد الطابع غير المتكافىء لتطورها على الصعيد العالمي فهو ان العديد من الماركسيين طرحوا امكان توجيه الضربة اليها "في أضعف حلقاتها" (بالرغم من ان هذه الحلقة لم تكن مهيأة لذلك في المفهوم الكلاسيكي للماركسية) وذلك بهدف تعزيز وتسريع العملية الثورية في مجمل البلدان الرأسمالية المتطورة التي كانت حبلى بالثورة.

وفي الواقع فان قيام حكم السوفيات في روسيا قد تزامن مع قيام حكم مجالس السوفيات في كل من المانيا والنمسا والمجر. ولم يكن غائباً عن تصور لينين والبلاشفة ان قيام الاشتراكية في روسيا المتخلفة ليس سوى خطوة صغيرة جداً على طريق الاشتراكية الا انهم توقفوا عند تلك الطاقة الثورية والتنظيمية الهائلة التي عبرت عنها البروليتاريا الروسية خلال ثورة 1905 البورجوازية، وتشكيلها لمجالس السوفيات التي جسدت ثنائية السلطة آنذاك: فمن جهة تلك المجالس ومن جهة ثانية حكومة كيرينسكي التي بدت عاجزة عن تحقيق مهمات الثورة الديموقراطية البورجوازية، في تلك الفترة وصلت الامور الى حالة اصبحت فيها البلاد تعاني من وجود "دولة بدون حكومة" و"حكومة بدون دولة" على حد قول البلاشفة فرفع هؤلاء شعار: "كل السلطة لمجالس سوفيات العمال والجنود والفلاحين!".

اذن كان ما طمح اليه البلاشفة هو الاستيلاء على السلطة لكي تؤدي الطبقة العاملة دوراً مزدوجاً: تحقيق مهمات الثورة البورجوازية بقيادتها بدلا من قيادة البورجوازية التي بان عجزها، ثم الانتقال الى تحقيق مهمات الثورة الاشتراكية. وفي الوقت نفسه (ولم تكن موضوعة ستالين عن "الاشتراكية في بلد واحد" قد طرحت آنذاك) كان البلاشفة يطمحون الى ان يحصلوا على المقابل الذي يعينهم في تحقيق مهمتهم الشاقة اي ان يحصلوا على دعم الثورات التي كانت قد انطلقت في تلك البلدان الرأسمالية المتطورة الثلاثة في اوروبا. وقد أخذ البلاشفة في الاعتبار، وراهنوا، على وقوف الفلاحين، وصغار الملاكين الى جانبهم، لان العدو الذي يواجهه هؤلاء في اريافهم لم يكن البورجوازية، او أية شريحة من شرائحها، بل اقطاعية تدخل في عداد اشد الاقطاعيات ظلماً وتخلفاً.

ويطيب لنا ان نستشهد هنا بما قاله في هذا الصدد احد الماركسيين المعاصرين، وليس لينين والبلاشفة من ان التشكيلة الروسية كانت تمثل آنذاك "ما كان ممكناً في ذلك الوقت من تراكم وتفاقم لحدة كل التناقضات التاريخية في دولة واحدة" وانها كانت الحلقة الاضعف لانها "كانت في آن واحد متأخرة بقرن كامل على الاقل عن العالم الامبريالي، ولكنها كانت تقف في صفوفه الاولى" (لويس التوسير، "في سبيل ماركس"، باريس 1965، ص 94 – 95).

هل ان موقف لينين والبلاشفة ذاك هو فوق النقد؟ كلا، ولكننا لا نستطيع ان نحاكم التاريخ وان نختزل فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بذلك التصور. كما اننا لا نستطيع من موقع الماركسية الذي ندّعي، ان نتبنى باسم "الجديد" المقولات التي نادى بها المناشفة وكاوتسكي منذ زهاء قرن من الزمن في وجه البلاشفة، والتي استقرت حيث وجدت مكانها الطبيعي – أي في مزبلة التاريخ.

وعلى كل حال فإن ثورة اكتوبر لم تكن الثورة البروليتارية الاولى في التاريخ. فقد سبقتها "كرمونة باريس" لعام 1871. لقد اشار ماركس بتلك العامية قائلا ان ابطالها قد "طرقوا ابواب السماء". وتقدم تلك مثالاً على الطريقة التي كان ماركس يتجاوب بها مع الاحداث، وعلى التصحيح النظري للنظرية بالتجاوب مع التطورات، كان ماركس يقول في البدء ان اشعال نيران الثورة سيكون ضربا من الجنون، ولكن عندما اندلعت تلك الانتفاضة الشعبية الجماهيرية المتعاظمة فقد تابعها بأقصى الاهتمام وأيدها تأييدا مطلقا بالرغم من انتقاده لاستراتيجية رجالها عندما تسنّموا السلطة. فهو قال انها اثبتت ان الطبقة العاملة لا يمكنها ان تكتفي باستلام جهاز الدولة كما هو، وبادارة الدولة لحسابها الخاص، وانه لا ينبغي لها ان تقوم بمجرد "نقل الجهاز البيروقراطي – العسكري من يد الى اخرى بل عليها ان تدمره تدميرا" الخ... فهل علينا ان نحاكم ابطال الكومونة ايضا من منطلق الرفض للثورة؟

وعلى صعيد الديموقراطية فان الكاتب يأتي بنظرية لا نعرف لها مصدرا. فان التمييز لديه بين الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية الاشتراكية يستند الى أن الاولى سياسية في حين ان الثانية اقتصادية – اجتماعية. غير ان من المتفق عليه، ليس فقط ماركسيا، ان فيصل التفرقة بين الاثنين يكمن في المضمون الطبقي الذي يتحلى به كل منهما، وكذلك في موضوع السلطة القائمة على هذه او تلك.

وفي نقدهم للديموقراطية البورجوازية قال الماركسيون انها الادارة التي تتوسلها البورجوازية لإحكام هيمنتها على السياسة والمجتمع والاقتصاد سواء اتخذت شكل البرلمانية او الفاشية. وقالا ايضا بطبيعتها الشكلية باعتبار ان من يمتلك المصارف والبورصة والمصانع والارض والجيش ووسائل الاعلام والمدرسة والكنيسة والجامع هو من يمتلك السلطة الحقيقية على الواقع المادي وعلى الافكار والوعي والناس. واذ كان الماركسيون قد اقروا دوماً بأن الدولة البورجوازية قد وفّرت للكادحين وللطبقات الوسطى ظروف تطور ونمو وحريات افضل بكثير مما كانت عليه الحال في انظمة الحق الالهي وانظمة الحكم المطلق الاقطاعية، فانهم قالوا ايضا بأن تلك الدولة تحد من كل ذلك بمختلف الوسائل، بما في ذلك مفهوم "الشرعية" التي تحضن نفسها بها، والتي تستغلها بصورة بارعة لتغذية الاوهام حول تلك الشرعية ولتعميم الميول "الاصلاحية" والانتهازية لدى البورجوازية الصغيرة، ولدى الاريستوقراطية العمالية.

وبالرغم مما يبدو في الظاهر من ان الديموقراطية البورجوازية تتجه على الدوام نحو التوسع (الذي اذا ما حصل فانه يتم بفضل نضالات الجماهير الشعبية وهو معرض في كل لحظة للعودة الى الوراء) فان ما يحصل على ارض الواقع، وبرغم المظاهر هو العكس. وهنا يحضرنا قول د. لافارغ بهذا الصدد اذ يقول: "كلما ازداد حجم الملكية الاجتماعية في المجتمع البورجوازي كلما قل عدد الذين يحوزون عليها، ويحدث الشيء نفسه في ما يتعلق بالسلطة: فكلما زاد عدد المواطنين الذين يتمتعون بالحقوق السياسية، وزاد عدد الذين يتولون الحكم بالانتخاب، فان السلطة الفعلية تزداد تمركزا وتتحول الى احتكار بيد فئة من الشخصيات يتقلص عددها يوما بعد يوم". اليس هذا ما نشاهده بأم العين عندنا وفي الخارج؟

وفي تناوله لمسألة الفرد يقول الكاتب ان فكر ماركس: "يقوم في جوهره على اعتبار ان الانسان الفرد هو القيمة الانسانية المطلقة في الحياة. والمقصود عند ماركس في ان الانسان هو اعظم رأسمال هو تنبيه وتحذير للقوى المرتبطة بالفكرة الاشتراكية وبمشروعها لتغيير العالم من ان تتمادى باسم الجماعة وباسم مصالحها، في تحويل الانسان الى برغي في آلة"!

ليس لهذا الكلام اية صلة ويا للاسف لا بما قال ماركس، ولا بالافكار التي نادى بها. قبل كل شيء ستالين هو الذي اطلق ذلك الشعار البائس القائل بأن: "الانسان اثمن رأسمال في العالم". اما ماركس فما كان له ان يقع في هذه السطحية في تناول العلاقة بين الفرد والجماعة. وهو قد تناول هذه المسألة في مؤلفه الايديولوجيا الالمانية وفي مخطوطات 1844 مؤكدا بأن سحق الافراد من قبل التشكيلة الاجتماعية ناتج عن تعاملها مع الافراد بصفتهم ممتلكين لقوة عمل ولطاقات ووظائف في الانتاج قابلة للتداول، بحيث يصبح الفرد، والحالة هذه، مجرد "اداة لانتاج فائض القيمة"، وصولا الى القول بأن اشكالية العلاقة بين الفرد والجماعة لا يمكن ان تجد لها حلا نهائيا حتى في المجتمع الاشتراكي، بل ان ذلك يتطلب قيام المجتمع الشيوعي.

وقد انتقد ماركس ومن جاء بعده من الماركسيين فلسفة هيغل بصدد مقولاته "النبيلة" عن الفرد بصفتها "التعبير الايديولوجي لموقفه الاجتماعي(...) ان تمجيده (اي هيغل) للفرد انما يستجيب لحاجات عقلية البورجوازي الصغير، الذي، ومن خلال ادراكه لكونه ضعيفا ازاء الدولة والمجتمع، يختزل معارضته لهما في تمرد لفظي صرف، يحاول من خلاله اثبات استقلاليته المطلقة" (أ. كورنو – ماركس، انجلس – الجزء الرابع، ص 57). هذا في الوقت نفسه الذي سعى فيه ماركس في مؤلفه الايديولوجيا الالمانية الى ان يميز بين حياة كل فرد من حيث هو شخص، وحياته الاجتماعية من حيث كونها تابعة لهذا الفرع او ذاك من فروع الانتاج والعمل والعلاقات. يمكن ان نوافق على هذا التحليل او ان لا نوافق. ولكن لا يمكن لأي منا ان ينسب الى الغير اقوالا ومواقف لا تعنيه بشيء، ولم تصدر عنه بحال.

ومن ناحية اخرى فان كريم مروة لم يفصح عن المأخذ الذي اخذه على ديمتروف، وعلى المؤتمر السابع للكومنترن. فمن المعروف ان ذلك المؤتمر دعا الى قيام جبهات شعبية في مواجهة خطر الفاشية والنازية. وان ديمتروف قد لعب دورا مهماً في اعمال ذلك المؤتمر. ومن الثابت ايضا ان التحالفات التي نادى بها المؤتمر السابع كانت تحالفات طبقية اتسعت صفوفها لممثلي الفئات الوسطى وبعض القيادات الديموقراطية للبورجوازية. ولكن هذه التحالفات لم تكن "صلحا طبقيا" ولم تكن التوجهات التي اسست لها تتناقض مع تلك التي نادى بها المؤتمر السادس للكومنترن (عام 1926) تحت شعار: "طبقة ضد طبقة". ان الظروف الموضوعية التي كانت قائمة في الحالتين هي التي استدعت اعطاء الأولوية لهذا الشعار هنا، ولذلك الشعار هناك. ولا يوجد اي تناقض بين الشعارين. فإن التأكيد على الصراع الطبقي لا يتنافى مع التأكيد على سياسة التحالفات الطبقية إلا من ذلك المنظار الذي يرى في التحالفات الطبقية صلحاً بين الطبقات. وفي الواقع فإننا اذا عدنا الى التاريخ تبين لنا ان قيام الجبهات الشعبية المناهضة للفاشية قد ترافق مع نضال ديموقراطي خاضه الشغيلة في اوروبا، حققوا من خلاله مكاسب سياسية واجتماعية – اقتصادية مهمة على حساب "البروجوازية في حين كان رد الرجعية على ذلك هو رفعها شعار "هتلر، ولا الجبهة الشعبية". فهل كان على الشيوعيين ان يستسلموا لأوهام الصلح الطبقي؟

ولعلّ الدعوة الى هذا الصلح هي جوهر المحاكمة التي يدعو اليها الكاتب، وهو أمر بالغ الوضوح في الاقتراحات العملية التي ينهي بها مقاله. أولها تلك الكتلة التاريخية من نوع جديد على الصعيد العالمي التي تتميز بكونها تتألف من "كتل متعددة في مكوناتها السياسية والاجتماعية، ومتناقضة في الآن ذاته في المصالح الآنية والبعيدة المدى من أطرافها". اما هدف هذه الكتلة فهو: "التصدي للجانب المتوحش من الرأسمال المعولم" (أين جانبه الانساني؟) وتحرير بلداننا من الآثار المدمرة لسيادة أنظمة الاستبداد فيها" (أين التحرر الوطني، واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والتصدي لسياسة العدوان ولإرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه الولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي في المنطقة، والتصدي للنهب الواسع لثرواتنا الوطنية وللقمع الوحشي الذي لا يتعرض له الافراد فقط بل أمم وشعوب بكاملها؟).

ويطرح الكاتب هدفين: فعلى صعيد بلداننا: "بناء الدولة الديموقراطية الحديثة دولة المؤسسات والقوانين وتحرير بلداننا من الآثار المدمرة لسيادة أنظمة الاستبداد فيها" . وعلى الصعيد العالمي "جعل الحضارة العالمية المعاصرة حضارة انسانية يتوحد فيها العالم بكل شعوبه وأممه".

لقد كان من الضروري ربما، ان نتناول بالنقد هذه الاوهام القائمة على تمجيد المؤسسات والقوانين بصرف النظر عن مضمونها، وحصر مفهوم الاستبداد بالانظمة العربية وبعض بلدان العالم الثالث، وتصوير البلدان الرأسمالية المتطورة وكأنها "جنة الديموقراطية". نكتفي بالقول ان كل ما تتمتع به تلك البلدان من مؤسسات وقوانين ديموقراطية هي نتيجة لثورة البورجوازية على الاقطاع، ونضالات الطبقة العاملة والقوى الديموقراطية لانتزاع التنازل تلو التنازل من البورجوازية وان هذه المكاسب تبقى مهددة في كل آن كما يجري اليوم في تلك البلدان من تفريخ لمؤسسات وقوانين معادية للديموقراطية، ولحقوق الانسان تحت شعار "مكافحة الارهاب" ثم شعار "مكافحة التطرف" الذي استكمل به بوش شعاره الأول، والمعدّ لكي يشمل بالقمع سلسلة واسعة من الحقوق الديموقراطية وصولاً الى الحق في التغيير، بل الحق في المعارضة.

لقد وفّر علينا كريم مروة الكثير عندما تمخض مقاله بالقول ان "ليس ثمة بديل من تحقيق ذلك الهدف الكبير الا بالعودة الى الامم المتحدة، كمركز اممي متفق عليه (؟) يوازي بين القوى العالمية المختلفة في ما يشبه حكومة عالمية مهمتها ضبط الصراع بين المتناقضات، واحلال السلم العالمي، وتوحيد العالم..."!!!

لا يستطيع المرء ان يعرف اين يعيش من يكتب هذه الافكار، في أي زمن، وفي أي كوكب من كواكب الدنيا. فان من يتحكم بالأمم المتحدة هم موظفو وزارة الخارجية الاميركية من ابريل غلاسبي سابقاً الى جون بولتون اليوم، وموظفو المنظمة الدولية المأجورون لواشنطن من الذين يحوكون المؤامرات على الشعوب، ويتصرفون مع المنظمة الدولية وكأنها ممسحة لرذائلهم (انظر كتاب الامين العام السابق الدكتور بطرس غالي الصادر اخيراً)، والذين ينظرون بعين واحدة ويكيلون بكيلين ويزنون بميزانين. لا نعرف لبنانياً واحداً يجهل ان قرار مجلس الأمن الرقم/425/ قد طبق ببنادق أبطال المقاومة الوطنية والمقاومة الاسلامية وليس بجهود ذلك "المركز الأممي المتفق عليه" الذي يدعى اليوم الى "ضبط الصراعات" اي قمع الشعوب المناضلة في سبيل تحررها. اما تلك "الحكومة العالمية" المستقاة فكرتها من فكرة "الامبريالية – القصوى" التي توحد الامبرياليات وتضبط الصراعات بين اركانها، والتي لا مكان في سياساتها للشعوب الا من أجل نهبها فهي أفكار طالما نادت بها الفئات الأكثر تطرفاً في الرأسمال العالمي، وساعدها مثاليو البورجوازية الصغيرة على نشرها لتضليل وعي الشعوب – فانها قائمة اليوم وكتف الولايات المتحدة الاميركية على رأسها. غير انها لم تتمكن من طمس الصراعات داخلها، ولن تتمكن من اخضاع الشعوب، و"ضبط الصراعات".

ومن المؤسف جداً ان يعطي الكاتب فكرة مغلوطة عن دور الاكتشافات العلمية والعلم عموماً في تقدم البشرية. لا شك في ان جميع الاكتشافات قد ساهمت في تقدم الانسان، ابتداء من ذلك الاكتشاف الذي يضاهي اعظم الاكتشافات المعاصرة والذي تمثل في اكتشاف الانسان البدائي في اشعال النار من طريق الاحتكاك الحراري، مرورا باكتشاف العجلة. الا ان السؤال الذي ما زال مطروحا منذ ذلك الاكتشاف البدائي هو: هل ان بامكان الناس ان يوجهوا تطور العلم والتكنولوجيا، ام انهما يتطوران بشكل مستقل، ومن طريق الصدفة او الضرورة. ان "الحوارات حول الحضارات الرقمية" التي عقدت في غرينوبل يومي 6 و7 تشرين الاول الجاري قد حاولت الجواب عن السؤال المتعلق بكون هذه الحضارة هي فعلا حضارة؟ وهل انها تتسم بلون انساني؟ فالحال ان هذه التكنولوجيات المعاصرة تتلاقى وتتصادم سواء كان الامر متعلقا بـ:"الالكترو، والنانو، والبيو، والنورو والكونيو elector, nano, neuro, cagno. قال البروفيسور نيغل ثريفت (جامعة اوكسفورد): "ان عالم البضاعة يستحوذ على المشاعر" وان: "الارباح والمكاسب لا توزع بصورة عادلة. كما ان الكاتب جويل دي روسناي ابدى خشيته من ان يؤدي هذا التطور في التقنيات: "الى استئثار الخبراء او الحقوقيين بالشأن السياسي". فالقضية هي في جانب اساسي منها قضية الوجهة التي تسعى الامبريالية لاعطائها لتطور العلوم والاستهدافات العملية منها، وسياسة القروض والاستثمارات في مجال البحث العلمي وكيفية استفادتها من التطور العلمي والاكتشافات من اجل زيادة هيمنتها وتهميش الآخرين.

اما كلام كريم مروة عن "العمل على تفعيل الحوار بين الثقافات من اجل جعل الحضارة العالمية المعاصرة حضارة انسانية يتوحد فيها العالم بكل شعوبه واممه" فانه ليس في الواقع سوى انسياق مع طريق النفي مع اطروحة هنتنغتون عن "صراع الحضارات" غير الموجود في الواقع. اما ما هو موجود في الواقع فهو النضال من اجل الاقرار بالتعدد الثقافي (والحضاري اذا صح التعبير) في وجه سياسات الامبريالية المعولمة الهادفة الى فرض "نمط التفكير الوحيد" والى ضرب التنوع الثقافي. ولقد حققت القوى المعارضة لتلك الامبريالية – الثقافية انتصارا مهما في مؤتمر الاونيسكو الاخير الذي اقر "العهد الدولي حول حماية ودعم التنوع الثقافي". وقد صوت الى جانب هذا العهد 151 دولة من اصل 191 دولة التي تتألف منها "الاونيسكو" ضد دولتين فقط هما... الولايات المتحدة واسرائيل (الرجاء اقامة حوار معهما). لقد دافعت جميع الدول تقريبا، صغيرها وكبيرها بذلك عن الطابع النوعي لانشطتها وموروثاتها وانجازاتها الثقافية. ولمرة من المرات وجدت اكبر قوة ثقافية في العالم هي الولايات المتحدة الاميركية نفسها معزولة وعارية حتى من ورقة التين من خلال المعركة (نعم المعركة) البائسة التي خاضتها لادخال تعديلات على ذلك العهد الدولي من شأنها افراغه من مضمونه.

ليس من العبث ان يكون فرنسوا ميتران قد قال بعد سقوط جدار برلين، وتصاعد الاصوات التي اعتبرت ذلك الحدث مناسبة لاعادة الاعتبار للافكار التي طرحتها في القرن التاسع عشر: "كنا نعتقد اننا نستعد للدخول في القرن الحادي والعشرين، فاذا بنا نكتشف اننا قد عدنا الى القرن التاسع عشر". نعم يا سيد فخري كريم.

تبقى مسألة اخيرة تتعلق بستالين، كل نظرة احادية هي نظرة قاصرة. فالى جانب الجرائم التي ارتكبها فان التاريخ سوف يحفظ له انه كان واحدا من اكبر رجالات النصف الاول من القرن العشرين بصفته قائدا وزعيما لذلك البلد الذي قدم 20 مليون ضحية لتحرير البشرية من نير النازية وخطرها. ان هذا لا يبرر الجرائم التي ارتكبها هو ومعاونوه بحق الشعب السوفياتي والتي ينبغي ان يحاكمه عليها التاريخ. ولكن من اي موقع؟ من موقع الديموقراطية الاشتراكية والمثل العليا للشيوعية وليس من موقع تلك الليبرالية التي يخلط بعض المثقفين البورجوازيين بينها وبين الديموقراطية. من موقع الشعوب وليس من موقع الامبرياليين الذين القوا بقنابلهم النووية على رؤوس المدنيين والذين لا يزالون مستعدين لتكرار "تجربتهم" تلك اذا ما سنحت لهم الظروف.