نقد أحزاب اليسار بالمغرب


عبد الرحمان النوضة
2016 / 6 / 5 - 17:16     



تقديم : هل قوى اليسار بالمغرب راضية اليوم عن بعضها بعضًا؟ لاَ ٍ! هل قوى اليسار تتبادل النقد فيما بينها، بشكل مكتوب، وواضح، ومسئول ؟ لاَ ! هل قوى اليسار تناقش كتابيا، وعلنيا، خلافاتها السياسية والفكرية؟ لاَ ! وكيف تتفاعل إذن قوى اليسار بالمغرب فيما بينها ؟ إنها تتجاهل بعضها بعضًا، أو تحتقر بعضها بعضًا، ولا تبالي بما فيه الكفاية بالتواصل السياسي، والفكري فيما بينها. كل حزب من بين أحزاب اليسار يكتفي، ومن بعيد، بتأويل سلوك أحزاب اليسار الأخرى، بشكل سلبي، وقد يُفسّرها بنوايا مُغرضة، دون تحمّل عناء الاتصال بتلك الأحزاب المنافسة للتّأكّد من حقائق الأمور.



وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق ؟ ما هي الخطوات الأولى التي ستساعد قوى اليسار على تحقيق قفزة نوعية في مناهجها ؟ هذه الخطوات الأولى الضرورية تكمن في التزام مجمل قوى اليسار بالتواضع، والاحترام المتبادل، وبالتقارب فيما بينها، والحوار، والتشاور، والتنسيق، والتفاعل، والتعاون، والتكامل، والتضامن، وخوض النضال المشترك.

ما العمل إذن؟ ما تحتاجه قوى اليسار اليوم بالمغرب، ليس هو البدء بِبناء جبهة تقدمية أو اشتراكية، أو التوحّد في حزب واحد موحّد، وإنما هو الاتفاق (أولا وقبل كل شيء) على تشخيص الأخطاء أو الأمراض التي تعاني منها قوى اليسار. وتشخيص أوضاع المجتمع. ويُرجى في هذا التشخيص أن يكون محايدا، وموضوعيا، ودقيقا، ومعلّلا، ومقنعا. وبعد وضع هذا التشخيص، يصبح بالإمكان وصف العلاجات الملائمة والدقيقة. خاصّة وأن المشكل الأهم هو أن نسبة هامة من مناضلي قوى اليسار تفكّر بمناهج غير سليمة، وغير دقيقة. فلا بدّ من تدقيق، وتقويم، وعقلنة، وتثوير، المناهج المستعملة. وإذا ما بقي مناضلو اليسار لا يعرفون كيف يفكّرون بشكل منهجي سليم، فإنهم لن يستطيعوا تشخيص المشاكل، فبالأحرى أن يقدروا على التفاعل مع واقع المجتمع بأساليب ملائمة وفعّالة. وإذا لم تُبْنَ السياسةُ على أسـس علمية، فإنها قد تبقى مجرد خطابات جوفاء، أو تخمينات مهزوزة، أو سلوكيات غير عقلانية. وبعد تقويم مناهج التفكير، تصبح مهمة التوحيد سهلة، أو ناضجة، أو غير إجبارية. لأنه، إذا غدت مكوّنات اليسار تفكر بمناهج سليمة، فإنها ستتعاون بالضرورة، وستتكامل فيما بينها، سواء كانت موحّد داخل جبهة أو حزب، أم أنها بقيت على شكل أحزاب متعدّدة ومتكاملة.

وإذا كان مجمل مناضلي قوى اليسار يُقرّون بوجود نقط ضعف متعدّدة لدى قوى اليسار، فما هي المظاهر التي يتجلّى فيها هذا الضّعف، أو النّقص، أو القصور؟ ومِمَّا يزيد المشكل صعوبةً أنه لا تُوجد إلى حدّ الآن وثائق تحلّل نقط ضعف قوى اليسار، بشكل منهجي، وشمولي، ودقيق، وموضوعي، ومحايد. لذا نُعِيد اليوم نشر الوثيقة التي تحمل عنوان «نقد أحزاب اليسار بالمغرب» (للكاتب عبد الرحمان النوضة)، وذلك بالضّبط لأنها تنفرد بالسّبق المُبكر (حيث نشرت لأول مرة في يونيو 2012) إلى نقد مجمل قوى اليسار، بمنهج واضح، ومحايد. وسواءً اتّفق القارئ مع أطروحات كاتب هذه الوثيقة أم لا، إن جزئيا أم كلّيا، فإيجابية هذه الوثيقة هي أنها تقدم أرضية للنقاش فيما بين مناضلي اليسار، وتقترح تحليلاً دقيقا، ومعلّلا، لأوضاع قوى اليسار بالمغرب، بهدف إبراز نقط الضعف، وتمكين قوى اليسار من الاضطلاع بأدوارها النضالية والسياسية.

وفيما يلي الوثيقة (كما نُشرت في 2012 ، على شكل استجواب):

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

1) ما هي الأحزاب التي يتكوّن منها اليسار بالمغرب؟
◾يوجد رسميا بالمغرب ما يزيد عن 35 حزبًا سياسيا. لكن معظم هذه الأحزاب تشبه قبائل سياسية. لأنها لاَ تتميّز فيما بينها بفكرها، أو بِبرامجها، أو بمشاريعها، وإنما بطريقة نشأتها، أو بالجماعة التي تقودها، أو بأساليب اشتغالها أو استقطابها للأنصار. وأغلبية هذه الأحزاب هي جماعات صغيرة على مستوى عدد أعضائها النّشطين. ونـقسّم هذه الأحزاب إلى قسمين:

– «أحزاب خاضعة» للسلطة السياسية المركزية، وتشمل الأغلبية المطلقة من بين هذه الأحزاب.

– «أحزاب مستـقلّة» عن السلطة السياسية، وهي قليلة العدد (أي أنها تُعدّ على رؤوس أصابع اليدين).

أمّا «الأحزاب الخاضعة»([1]) فقد أُنْشِئت بإيعاز من السّلطة السياسية. ولا تتحرك إلاّ بأمر من القصر الملكي، أو بإيحاء منه، أو من وزارة الداخلية، أو من مستشاري الملك، أو من أجهزة المخابرات. ونسمّي عادة هذه الأحزاب بعبارة «الأحزاب الإدارية»، أو «الأحزاب المَخْزَنِية» (نسبة إلى ’’المَخْزَن‘‘، أي للنّظام السياسي القائم). والخاصّية الأساسية المشتركة لمعظم المسئولين في هذه «الأحزاب الخاضعة» هي ولاؤهم المطلق للنظام الملكي. ويعمل هذا النّوع من الأحزاب كمُجرّد أدوات، تُحَرّكها السلطة السياسية متى شاءت، وكيفما شاءت. والميزات العامة ل «الأحزاب الخاضعة» هي التالية:

1- كلّ «الأحزاب الخاضعة» هي ملكيّة، محافظة، ويمينية. وأعضاءها هم في غالبية الحالات أعيان محلّيين، ورجال أعمال، ووصوليين، يستغلّون انتخابهم في الهيئات التمثيلية (من برلمان، ومجالس محلية) لتنمية مقاولاتهم، أو لخدمة قضاياهم الشخصية والعائلية، تحت غطاء الولاء والمناصرة للنظام السياسي القائم.

2- لا تتوفر هذه «الأحزاب الخاضعة» على إرادة سياسية حرّة ومستـقلّة([2]).

3- لا تحمل مبادئ ثابتة، ولا خطّا سياسيا واضحا. عقيدتها الوحيدة هي مناصرة الملك، ودعم النّظام الملكي القائم، في كل الظّروف، وفي كل القضايا، وبدون أي شرط كان، مقابل الحصول على امتيازات.

4- ليس لديها برنامج فعلي في ميادين الاقتصاد، أو السياسة، أو الثقافة.

5- تعجز كليّا عن مخالفة أو معارضة ما يريده، أو ما يوحي به، القصر الملكي.

أما «الأحزاب المستـقلّة» فهي على الخصوص أحزاب اليسار التـقدّمي أو الثوري. وهي التالية (بدون ترتيب) : ”الحزب الاشتراكي المُوحَّد”، و ”حزب الطّليعة الديمقراطي الاشتراكي”، و ”حزب النّهج الديمقراطي”، و ”حزب المؤتمر الاتّحادي”. الشيء الذي لا ينفي أن بعض الأشخاص الوصوليين في قيادات أحزاب اليسار يطمحون في الخفاء إلى تحويل حزبهم إلى حزب مشابه «للأحزاب الإدارية»، بهدف تحسين أوضاعهم المجتمعية أو التحاقهم بالنخب الرسمية.

وتدخل أيضا ضمن قوى اليسار بالمغرب جماعات مناضلة، وتنظيمات ثورية، وكذلك تيارات متواضعة، وهي عموما صغيرة في حجمها، وتـعمل في شبه سرّية بسبب القمع، لكنها تساهم في النضالات الجارية، وتتوفر على تأثير معترف به في الساحة السياسية أو النضالية، ولو أن هذا التأثير يبقى متواضعا، أو ضعيفا.

وأما ”حزب الاتّحاد الاشتراكي” فلم يعد حزبا ثوريا، ولا يساريا، منذ سنوات 1990، حيث أصبح يتأرجح بين موقعي يسار الوسط، ويمين الوسط. و ”حزب التـقدم والاشتراكية” تخلّى عن التقدّمية وعن الاشتراكية. وقد بدأ تحوله إلى حزب يميني، منذ سنوات 1975. و ”حزب الاستـقلال” كان ولا يزال حزبا يَمِينيا ومُحافظا.

وأما ”حزب العدالة والتنمية” الإسلامي، فَيَحْتَلّ، على العموم، موقع اليمين، أو يمين الوسط. تارة يدافع عن مواقف تـقدمية (مثل التنديد بالفساد، ولو عبر الخطاب فقط، ومن منطلق ديني)، وتارة أخرى يدافع عن قضايا يمينية، أو مُحافظة، أو رجعيّة (مثل المُساندة المُطلقة للنّظام الملكي القائم، ومسايرة النظام الرأسمالي الليبيرالي المتوحّش، وتزكية القمع، والدّفاع عن ”إمارة المؤمنين”، وعن أَسْلَمَة الدولة (Islamisation de l’Etat)، وعن الخضوع الأعمى «للشّريعة الإسلامية»، وعن دوام التمييز ضدّ النساء).

2) هل يجوز نـقد أحزاب اليسار؟
◾أنتـقد أحزاب اليسار، لكن هذا النّـقد هو نـقد من نوع جديد. لأنني لا أنتـقد أحزاب اليسار من منطلق الكراهية، أو المزايدة، أو التّحدي، أو المنافسة، أو تصفية حسابات ذاتية. على عكس ذلك، أعلن انتمائي إلى قوى اليسار، وأحترمها، وأتـعاطف معها، وأساندها، وأتـضامن معها، وأُصِرّ على النضال إلى جانبها. واحترام أحزاب اليسار لا يلغي شرعية نـقدها. والاحترام لا يتناقض مع النّـقد. وأحزاب اليسار تبقى هي نفسها في حاجة إلى النّقد. وأنتقد أحزاب اليسار ولو أن بعض أعضاء هذه الأحزاب لا يطيقون هذا النقد. ولا أنتـقد قوى اليسار إلاّ لأنني أريدها أن تكون قوية وفعّالة أكثر مِمّا هي الآن. وبقدر ما أدعّم قوى اليسار، بقدر ما أحرص على مُناقشتها، ونـقدها، كُلّما دعت الضّرورة إلى ذلك. والنّـقد المُتبادل هو من بين أهم السُّبل لتحسين أداء هذه القوى. ومن لا يَجْرُؤُ على تبادل النّـقد، بشكل بناء، وعلني، لن يتـقدم.
3) هل اليسار في المغرب بخير؟
◾يظهر كل حزب من بين أحزاب اليسار بالمغرب أنه راض عن حاله. بينما في الواقع، أوضاع أحزاب اليسار تُخيّب الأمل، أو تُثير القلق والاستياء. لأن أحزاب اليسار لا تـعمل بما فيه الكفاية لتطوير نـفسها، أو لرفع مستوى فعاليتها. وتبقى ممارستها أقلّ من القدر المطلوب.

وكل خطاب سياسي يعتبر اليوم أن حالة أحزاب اليسار بالمغرب جيّدة، أو حسنة، أو عادية، هو خطاب خاطئ، ومُكَرّر، ومُحافظ، ولا فائدة منه. بل نـقد اليسار هو عمل ضروري، وهو الوحيد الذي يمكن أن يُساعد على إبراز نـقط ضعف هذه الأحزاب، أو نـقائصها، أو أخطائها. ولا يوجد سبيل آخر، غير النّـقد، لمُساعدة أحزاب اليسار على إصلاح نـفسها، أو تـقويمها، أو تَثْوِيرِها.

وبشكل إجمالي، وخلال ال 10 أو 20 سنة الماضية، نلاحظ أن قوى اليسار بالمغرب لم تتحسّن كيفيا، أو أنها لم تنجح في إعلاء درجة تأثيرها. بل إنها لم تجتهد إلى حدّ الآن لكي ترفع مستوى فعاليّتها السياسية. وهذا يعني أن أحزاب اليسار تـخلّفَت بالمقارنة مع أحزاب اليمين.

وسُوء حال أحزاب اليسار بالمغرب يتجلّى في كون تأثيرها السياسي على الجماهير هو الأقل فاعلية بالمقارنة مع الأحزاب الأخرى. وتظهر أحزاب اليسار كأنها مهمّشة، ليس فقط من وسائل الإعلام العمومية كما يقول البعض، ولكن أيضا من السّاحة السياسية، ومن الشارع، ومن الأنشطة الجَمْعَوِية والثقافية. فتظهر أحزاب اليسار، بالمقارنة مع أحزاب اليمين، كأنها غارقة في رتابة مُعْتَادَة، وفي الدُّوغْمَائية (dogmatisme)، وفي التـقليد، وفي فقدان المُبادرة، وفي ضعف دائم.

لقد تكوّنت معظم تيارات اليسار بالمغرب بين سنوات 1970 و 1995، على أساس الفكر الاشتراكي، أو ”الماركسي اللِّينِيني“. وكانت غايتها هي بناء مجتمع اشتراكي. لكن منذ انهيار نموذج منظومة ”اتّحاد الجمهوريات الاشتراكية السّوفياتية (URSS)“ في قرابة سنة 1989، وإلى حدّ الآن، لم تُجب أحزاب اليسار على الأسئلة المحرجة التي يطرحها ذلك الانهيار. ومن أهمّ هذه الأسئلة ما يلي: 1) ما هي الدّروس السياسية المستخلصة من تجارب ”الاتحاد السّوفياتي“ المنهار؟ 2) ما هو تقييم الفكر ”الماركسي اللّينِيني“ على ضوء انهيار ”الاتحاد السّوفياتي“ في سنة 1989؟ 3) ما هو المشروع السياسي البديل عن المشروع الماركسي القديم (إن كان هناك بديل مُعدّل لهذا المشروع)؟

وإذا لم تُـقدّم أحزاب اليسار إجابات واضحة ومُقنعة عن هذه الأسئلة المُحرجة، فإنها ستبقى في حالة حيرة فكرية. كما أن تصوّراتها للاستراتيجية وللتّكتيك ستبقى ملفوفة في الغموض، أو الارتباك. والأحزاب السياسية «الإسلامية»، المنافسة لأحزاب اليسار، هي المرشّحة للاستفادة من هذا الارتباك الفكري الذي يوجد فيه اليسار.

وأحزاب اليسار هي تـقريبا الأحزاب الوحيدة في المغرب التي لا تتوفّر على أعضاء أو مسئولين مُحْتَرِفين، أي مُتـفرّغين للعمل السياسي وحده، وقادرين على تـخصيص كل وقتهم لحزبهم، أو لقضايا النّضال. والسّبب في هذا النّـقص لا يرجع فقط إلى ضعف الإمكانيات المالية ([3])، كما يقول البعض. بل يُحتمل أن يرجع السّبب إلى غَلَبَة الهِوَاية على الاحتراف في مجال العمل السياسي. فمُعظم مناضلي كل حزب يساري مُحدّد، بقواعده وأجهزته القيادية، يركّزون ذهنهم على انشغالاتهم الشخصية اليومية، أو على قضاياهم المهنية المُعتادة، خلال ستة أيام من الأسبوع، ولا يفكرون عُمومًا في شؤونه النّضال، إلاّ خلال يوم الراحة الأسبوعية (الذي هو يوم الأحد في المغرب). كما لو كانوا مُجرد مواطنين عاديين. ونسمّيهم «مناضلي يوم الأحد فقط» ! كيف يمكن في هذه الحالة أن يقدر أي حزب يساري محدّد على تـخصيص طاقات فكرية كافية لدراسة مجمل القضايا المجتمعية التي تستوجب الدّراسة؟ كيف يُعقل في هذه الحالة، أن يقدر هذا الحزب اليساري على تلبية جميع الاحتياجات التي يَسْتَلزمها النّضال الثّوري؟ كيف يستطيع هذا الحزب اليساري أن يُدرك واقع المجتمع، وأن يُبلور الخطط النّاجعة، وأن ينظّم النّضالات الجماهيرية الكفيلة بتحقيق طموحات الشعب؟

لهذا، يُستحسن أن يُشْتَرَطَ في كل مناضل يترشّح لمنصب رئيس الحزب، أو كاتبه العام، أو لأي منصب قياديّ آخر، أن يلتزم بالتَّـفَرُّغ للعمل الحزبي والنّضالي. كما يُستحسن أن ينصّ القانون الداخلي لكل حزب من بين أحزاب اليسار على إعطاء أفضلية معيّنة للمرشّحين للهيئات القيادية في الحزب الذين يلتزمون بالتـفرّغ للعمل الحزبي (وذلك مثلاً عبر منحهم زيادة 10 في المئة من كتلة الأصوات التي تصوّت على المرشّحين لهذه المناصب أثناء المؤتمر).

وإذا كان الحِسّ النّـقدي لمناضلي أحزاب اليسار تجاه القوى اليمينية حادّا، فإن حِسّهم النّـقدي هذا، تُجاه أنـفسهم، وتُجاه أحزابهم الخاصة، يُصبح في معظم الحالات مَكْبُوتا، أو مُلَجّما، أو مُحَرّما.

ويبقى تطبيق الديمقراطية داخل أحزاب اليسار بعيدا عن أن يكون سَليما. لأن المُنافسة فيما بين مُختلف الشّخصيات، أو الكفاءات (إبان المُؤتمرات، إن وُجِدَت)، لا ترقى إلى مُستوى مُرض. ولأن مواقع المسئولية داخل أحزاب اليسار تُـقْتَسَمُ فيما بين أفراد جماعات صغيرة، وثابتة، أو فيما بين بضعة جماعات مُتماسكة، وفق مُحَاصصة معيّنة، سرّية، أو غير معلنة.

ولا يرجع نموّ قوّة الأحزاب ”الإسلامية” (بالمقارنة مع أحزاب اليسار) فقط إلى كونها تستغل الدّين في مجال السياسة، كما يعتـقد البعض. وإنما يرجع أيضا، وعلى الخُصوص، إلى كونها تستـعمل مناهج في التـفكير وفي العمل تَتّسِم بواقعية، وبفعالية أكبر (بالمقارنة مع مناهج أحزاب اليسار)، ولو أن مناهج الأحزاب ”الإسلامية” تكون مُغَلّفة بخطاب ديني. بينما المناهج التي تستـعملها أحزاب اليسار (في التـفكير وفي العمل السياسيين) تبقى دون المستوى المطلوب. كما تجرؤ ”الأحزاب الإسلامية” من حين لآخر على اتّـخاذ مبادرات سريعة، وعملية، بينما أحزاب اليسار لا تـقوم بمبادرات إلاّ نادرا.

وخلال ال 20 سنة الماضية، فإن الأحزاب التي تـقدّمت أو تـقوّت أكثر بالمغرب، ليست هي أحزاب اليسار، وإنما هي على الخصوص الأحزاب ”الإسلامية”. ويُحْتَمل جدّا أن يستمر هذا التوجّه خلال ال 10 سنوات الآتية. كما يُحتمل جدّا، خلال السّنوات المقبلة، أن تستمر هذه الأحزاب ”الإسلامية” في الفوز بأكبر عدد من أصوات الناخبين في مجمل الانتـخابات المُبرمجة في المستـقبل. وذلك لسببين: الأول هو ضعف أحزاب اليسار، والثاني هو استلاب (aliénation) جماهير الشعب من طرف الأيديولوجية الدّينية. لكن الجانب الأساسي هو أن قوّة الأحزاب ”الإسلامية” تأتي من ضعف أحزاب اليسار.

ويُحتمل أن يَسْتمرّ فوز الأحزاب ”الإسلامية” في مجمل الانتـخابات إلى أن تُحِسّ غالبية الشعب، من خلال ممارسة ”الإسلاميين” للسلطة السياسية، أن هيمنة الدّين (على الدولة، أو على المجتمع) تتناقض مع الديمقراطية، ومع التنمية الاقتصادية. وتحتاج جماهير الشعب، لكي تُدْرِك أن ”الإسلاميين” غير مُؤهّلين لتحقيق الديمقراطية والتّنمية، إلى قرابة 10 أو 20 سنة من التجربة. وتحقيق التّنمية والديمقراطية، يبقى مشروطا بالفصل بين الدّين والدولة، وبين الدّين والسياسة.

4) لماذا لا يوجد نضال مشترك فيما بين أحزاب اليسار؟

لكي يوجد نضال مشترك، فيما بين أحزاب اليسار بالمغرب، يجب أن يتوفّر إطار منظّم ومضبوط لهذا الهدف. مثلا على شكل جبهة، أو فدرالية، أو تحالف، أو تنسيق. وخلال عقود متتابعة بالمغرب، توالت الخطابات حول ضرورة بناء جبهة قوى اليسار. لكن هذه الجبهة (بمعناها السليم) لا توجد إلى حدّ الآن بالمغرب.

ومنذ 20 أو 30 سنة، ظلّ كلّ حزب من بين أحزاب اليسار بالمغرب يتكلم نظريا عن «الحاجة إلى نضال مشترك فيما بين قوى اليسار»، وعن «ضرورة تكوين جبهة يسارية»، أو «جبهة ديموقراطية»، أو «جبهة وطنية». لكن أحزاب اليسار ظلّت، إلى حدّ اليوم، عاجزة على تحويل هذا الكلام النظري عن «الجبهة» إلى أفعال ملموسة.

وأسباب غياب «جبهة قوى اليسار» بالمغرب متعددة، وأبرزها النواقص التالية في أحزاب اليسار: 1) قصور في التواصل (فيما بين قوى اليسار)؛ 2) سوء التفاهم؛ ت) نقص في القدرة على الإنصات المتبادل؛ ث) ضعف التواضع السياسي؛ 3) قلّة الاحترام المتبادل؛ 4) نقص في مُرُونَة الفكر؛ 5) الخوف من احتمال إقدام بعض أحزاب اليسار المنافسة أو الحليفة على مناورات غير مرغوب فيها. 6) خوف كل حزب (من بين أحزاب اليسار) من أن يذوب، أو أن يتلاشى، في إطار جبهة أكبر منه. 7) لا تُجٍيد أحزاب اليسار فنّ مُعالجة التناقضات السياسية الدّاخلية، ولا تُـتـقن فنّ العمل المشترك فيما بين فاعلين يحملون مواقف سياسية مختلفة. (وتـقول نكتة أن «العرب والمسلمين يجيدون أنشطتهم الفردية المُعتادة، لكنهم رديؤون أو فاشلون في أعمالهم الجماعية أو المشتركة») ! 8) تَحْمِل أحزاب اليسار تصوّرا خاطئا حول طريقة بناء «الجبهة». حيث يشترط كلّ حزب في الحزب الآخر المُرشّح للعضوية في «الجبهة» أن يتّـفق معه في الآراء على كل القضايا ! وإذا كان حزب مرشّح للعضوية في ”الجبهة“ يحمل رأيا مخالفا في قضية سياسة معيّنة (مثل الموقف من قضية الصحراء، أو الموقف من النظام الملكي)، تعتبر أحزاب اليسار الأخرى هذا الخلاف في الرأي مبرّرا كافيا لرفض إنشاء أي «تنسيق»، أو «تحالف»، أو «نضال مشترك»، أو «جبهة»، مع هذا الحزب المخالف. 9) بعض الأشخاص في قيادات أحزاب اليسار لا تؤمن (في سرّية ذهنها) بجدوى بناء جبهة يسارية، وتفشل كل اقتراح عملي للشّروع في تشييدها.

وقد إتّـفقت الأحزاب الثلاثة: ”الحزب الاشتراكي الموحّد“، و”حزب الطليعة“، و”حزب المؤتمر“، على عدّة قضايا من بينها المواقف التالية: «أ) تَسْقِيف النضال السياسي بالملكية البرلمانية؛ ب) المشاركة في الانتخابات المحلية والبرلمانية؛ ت) الانخراط في الإجماع الوطني حول مغربية الصحراء الغربية»([4]). واعتبروا هذه المواقف الثلاثة من بين شروط العضوية، أو المشاركة، في «فدرالية أحزاب اليسار»، أو في أي عمل جبهوي، أو فدرالي، أو تحالفي، أو تنسيقي. فَـتُشكّل هذه الشّروط حيلة مقصودة لتبرير إقصاء ”حزب النّهج“ من أي عمل مشترك فيما بين الأحزاب الثلاثة المتعاونة داخل «فدرالية أحزاب اليسار». لأن ”حزب النهج“ يُميّز هويّته الثورية بالضبط بمواقف معاكسة لتلك الشّروط. حيث أن ”حزب النهج“: أ) يرفض تَسْقِيف النضال السياسي بالملكية البرلمانية؛ ب) يرفض المشاركة في الانتخابات في إطار نظام سياسي استبدادي وفاسد؛ ت) يعتبر أن حلّ مشكل الصحراء الغربية يمرّ عبر تمكين شعب الصحراء من تقرير مصيره بحرّية. وبالتّالي، فإن الشّروط التي سطّرتها «أحزاب فدرالية اليسار الثلاثة» هي تعبير عن «التّطليق بالثلاثة» تُجاه ”حزب النهج“. وهي إرادة واضحة، ليس فقط لإقصاء ”حزب النهج“ وتهميشه، وإنما أيضا لإبقاء اليسار بالمغرب مقسّما، وبالتّالي ضعيفا. وهذه الاستراتيجية التّقسيمية لا تخدم قوى اليسار، وإنما تخدم مصالح النظام السياسي القائم.

وتتعامل أحزاب اليسار بالمغرب مع مسألة بناء ”جبهة اليسار“ بمهارة غير كُفئة. وتعامل أحزاب اليسار بالمغرب مع مسألة بناء ”الجبهة“ يفضح أن هذه الأحزاب تفتـقد إلى المرونة الكافية في تفكيرها. وذلك لعدّة اعتبارات. أولا، لأن أحزاب اليسار تنسى أن تعدد أحزاب اليسار، وتعدد الآراء فيما بينها، وحتى فيما بين أعضاء نفس الحزب، هي ظاهرة موضوعية، ومزمنة، بل حتمية. وثانيا، لأن أحزاب اليسار تنسى أن بناء «الجبهة» يكون بالضّبط مع القوى السياسية التي تختلف في بعض الآراء. بينما القوى التي تتّـفق حول كلّ، أو حول مُعظم القضايا، فمن المُفترض أن تُوجد هذه القوى داخل نفس الحزب، وليس فقط داخل «جبهة» !

ورغم تأسيس ”تَجَمُّع اليسار” بالمغرب في سنة 2004 (ويشمل هذا ”التجمّع” أحزاب اليسار الأربعة المذكورة سابقا)، فإن الحوار، أو التنسيق، أو التّـعاون، أو النّضال المُشترك، فيما بين أحزاب اليسار الأربعة، بقي في الواقع ضعيفا، أو هزيلاً. وأحيانا أخرى، يغيب كلّيةً. وذلك رغم أن أفكار وأهداف أحزاب اليسار مُتشابهة، أو مُتـقاربة، أو مُتطابقة. وكذلك رغم أن الظّرفية التاريخية الحالية تستوجب بإلحاح تـعاون وتكامل أحزاب اليسار. ويؤدّي غياب النضال المشترك، أو انعدام قيام جبهة قوى اليسار، يؤدّي حتمًا إلى ضعف أحزاب اليسار، وإلى تشرذمها.

وما دامت بعض أحزاب اليسار تعتبر نفسها هي «حزب الطبقة العاملة»، وأنها هي وحدها تكتسب الشرعية السياسية أو التاريخية للقيام بدور «الطليعة» أو «القيادة» (حسب نظرية الماركسية اللينينية)، فإن «جبهة» قوى اليسار لن تقوم في هذه الحالة.

وعندما نلتـقي بِمُمثلي أحزاب عالمية معروفة بنجاحها في بناء ”جبهة“ يسارية أو ديمقراطية، في بلدان مثل تونس، أو فرنسا، أو تركيا، أو اليونان، أو إسبانيا، وعندما نسألها عن السرّ في توفيقها هذا، يُجيبنا عادة هؤلاء الممثلين أن هذا السرّ يكمن في التزام الأحزاب والمناضلين المُنخرطين في ”الجبهة“ بالمبادئ التالية:

أ) أن لا تشترط النقاوة الأيديولوجية، أو الاتّفاق الفكري الشامل.

ب) أن لا ترغب في أن تصبح ”طليعة“ للجبهة، أو ”قيادة“ للحركات الجماهيرية.

ت) أن تعطي دائما الأسبقية إلى مصالح الشعب، وليس إلى مصالح حزبك الخاصة.

ث) أن تتلافى الوصول إلى وضعية فيها منتصرين ومنهزمين.

ج) أن تتذكّر دائما أن ”الجبهة“ ليست حزبا طاهرًا، وإنما هي مجرّد وعاء تنظيمي، مؤقّت، ومَرِن، يهدف إلى تسهيل نضالات جماهيرية مشتركة، على مدى قصير أو متوسّط.

فمتى سترقى قيادات أحزاب اليسار بالمغرب، في المستـقبل، إلى مستوى التحلّي بهذه المبادئ؟

5) هل خطاب أحزاب اليسار يتلاءم مع مُمارستها ؟
◾تميل أحزاب اليسار عادة إلى إخفاء ضعفها عبر التركيز على إنتاج بيانات ثورية، أو عبر نشر نصوص يسارية جذرية. بينما ممارستها السياسية تبقى على العموم دون المستوى المطلوب. ومبادراتها السياسية تظل نادرة، أو محدودة، أو خجولة.

وتتميّز أحزاب اليسار، ولو بدرجات متـفاوتة من حزب لآخر، بِصِفَتَين متناقضتين ومترابطتين، وهي أنها تميل إلى التّـصعيد في خطابها السياسي من جهة أولى، ومن جهة ثانية تتـجنّب أو تتلافى الفعل النّضالي المُشترك والملموس.

وغالبا ما نجد انـفصاما واضحا بين خطاب أحزاب اليسار وممارستها. ومن بين الأمثلة المُعبّرة في هذا المجال، نذكر مثلاً علاقة أحزاب اليسار ب ”حركة 20 فبراير“ (التي اندلعت في المغرب في سنة 2011، في ارتباط ب ”ثورات الربيع الديمقراطي العربي” في كل من تونس ومصر). فكل أحزاب اليسار (الحقيقية) تـعلن في بياناتها أنها تـقدّر ”حركة 20 فبراير”، وتُساندها، وتـعظّمها، وتُشارك فيها، وتُراهن عليها في برامجها وفي خُططها. لكن في الواقع، نلاحظ أن مُشاركة أعضاء أحزاب اليسار في ”حركة 20 فبراير” تبقى غائبة، أو هزيلة، أو ضعيفة، أو أقل من المستوى المُمكن. ومناضلو أحزاب اليسار الذين كانوا يشاركون في ”حركة 20 فبراير“، كانوا يفعلون ذلك كاجتهاد شخصي، وليس نتيجة لتوجيه حزبي.

حيث لا يُشارك معظم مناضلي أحزاب اليسار في ”حركة 20 فبراير”، ولا يتواجدون في لجانها، ولا يتحمّلون فيها مسؤوليات تنظيمية. بمعنى أن غالبية أطر أحزاب اليسار لا تُساهم في تأطير شباب ”حركة 20 فبراير”. وأعداد أعضاء أحزاب اليسار الذين يُشاركون في المسيرات الأسبوعية ل ”حركة 20 فبراير” تبقى ضعيفة، أو دون المستوى الممكن. ومُشاركة هؤلاء المناضلين في ”حركة 20 فبراير” تكون، في غالب الحالات، ناتجة عن مبادرات شخصية، وليس عن قرارات حزبية واضحة وصارمة.

فالموقف الرسمي، أو النظري، لأحزاب اليسار من ”حركة 20 فبراير” هو الدّعم المُطلق لهذه الحركة. لكن موقفها العملي هو إهمالها. وتظهر الأمور كما لو أن ”حركة 20 فبراير” توجد على شكل حركتين، واحدة خيالية، أو أسطورية، تُساندها أحزاب اليسار، وتـؤيّدها مجمل القوى الديمقراطية، وحركة ثانية، واقعية، توجد في الشارع، لكن أحزاب اليسار تتجاهلها، أو تحتاط منها، أو لا تشارك فيها بالقدر المطلوب !

وبدلا من أن تكون أحزاب اليسار هي المُنَشّْط، أو القائد الطّبيعي، ل ”حركة 20 فبراير”، نجد أنها تسير ورائها، أو تُهْمِلها، أو تَحْذَر من ديناميكيتها، أو لا ترغب في استمراريتها. ومن بين نتائج هذا الإهمال، نجد أن أنواعا مختلفة من عناصر البوليس المُسْتَتِرَة تشارك بكثافة في ”حركة 20 فبراير”، وفي جمعها العام، وتـقوم بمحاولات لا يستهان بها للتّحكّم فيها.

ولا تستطيع القِلّة القليلة من المناضلين المُتحَزّبين، العاملين داخل ”حركة 20 فبراير”، والذين يُحاولون تنمية فعالية هذه الحركة، أن ينجحوا في نضالاتهم، أو في مجهوداتهم، إلا إذا طَوّرت أحزاب اليسار نـفسها، بهدف الرّفع من مستوى مشاركتها السياسية في هذه الحركة.

إن ضعف ”حركة 20 فبراير”، أو توقّفها، أو موتها، سيكون، في جوهره، نتيجة لضعف أحزاب اليسار ! وفشل ”حركة 20 فبراير”، سيكون فشلا لأحزاب اليسار !

والمثال الثاني الذي يتجلى فيه انـفصام تام بين خطاب أحزاب اليسار وممارستها، هو مسألة بناء ʼʼجبهة قوى اليسارʽʽ. فمنذ عشرات السّنين، كل أحزاب اليسار تـقرّ بضرورة تَكَتّلها وتـعاونها داخل جبهة لليسار. لكنها لا تـفعل أي شيء ذي أهمية في مجال بناء هذه الجبهة. أو أنها تـختلق أكثر مِمّا ينبغي من الأعذار لكي تُبرّر رفض أي عمل مُشترك، أو جبهوي. فمن جهة أولى، كل أحزاب اليسار تتّـفق على الحاجة إلى بناء جبهة اليسار، ومن جهة ثانية، ترفض أية مُبادرة تهدف إلى الشروع العملي في بناء جبهة اليسار([5]).

6) ما هي أسباب مشاكل أحزاب اليسار؟

مشاكل وصعوبات أحزاب اليسار متعدّدة ومُتداخلة. وأهم الأسباب لهذه المشاكل (التي تُعاني منها أحزاب اليسار، وكذلك ‘حركة 20 فبراير’ بالمغرب)، ترجع إلى العقل، أو المنطق، الذي يعمل به تفكير معظم المناضلين. جلّ الحوارات التي تُجْرَي فيما بين مناضلي أحزاب اليسار بالمغرب (وكذلك فيما بين مناضلي ‘حركة 20 فبراير’)، تبقى مثل حوارات صُمّ أو طُرشان. كأن هؤلاء المناضلين يرفضون (بشكل غير واع) الاستماع إلى بعضهم بعضًا، ولا يفهمون بعضهم بعضا، ولا يقبلون التفاعل فيما بينهم. بينما كان يلزم أن يكون هدف الحوار هو بالضبط التّـفاعل، والتأثّر، والتّأثير، والاستفادة المتبادلة. وإذا كانت قوى سياسية ترفض التفاعل فيما بينها، فإنها لن تـقدر على خوض نضالات مشتركة فيما بينها. وكل شخص لا يتحلّى بالتواضع، ولا يمارس الاحترام المُتبادل، لن يقدر على الاستماع لمن يختلف عنه في الرأي. من الموضوعي أن نختلف جميعا في آرائنا، لكنه سيكون من قبيل التـخلّف أن لا نعرف كيف نعمل جماعيا، ولا كيف نناضل بشكل مشترك، وذلك بالرّغم من خلافاتنا. وكل شخص لا يُدخل المُرونة أو النّسبية على فكره، لن يستطيع خوض أعمال أو نضالات مشتركة مع غيره. خاصة وأن الآراء أو المواقف السياسية التي يحملها كل مناضل (أو حزب) لا تنبني على يقينيات علمية، أو مُطلقة، وإنما تنبني، في آخر المطاف، على معتـقدات أيديولوجية، أو على تـقييمات ذاتية، أو على افتراضات مُحتملة، أو على اختيارات مُتعمّدة، أو على تفضيلات ثقافية، أو على ظنون، أو تخمينات، أو إحساسات، أو ما شابه ذلك. فإذا لم يُصحّح مجمل مناضلي أحزاب اليسار (وكذلك مناضلي ‘حركة 20 فبراير’)، منهجهم في الحوار، وإذا لم يصلحوا العقل الذي يفكّرون به، فقد يبقون عاجزين على التّفاهم، أو التفاعل، أو التلاقح، أو التكامل فيما بينهم. وفي هذه الحالة السيّئة، قد يكون مصيرهم المشترك هو التشرذم، ثم التّهميش، ثم الفشل، ثم التخلّف.

7) هل تجتهد أحزاب اليسار لتطوير نفسها؟
◾من بين الملاحظات التي لا تَسُرّ، والتي لها دلالة سلبية، أذكر أن أغلبية أحزاب اليسار تنظّم مؤتمراتها الحزبية منذ عدّة سنوات. لكن هذه المؤتمرات الحزبية لا تُحْدث تغييرات كيفية، لا في الخط السياسي لهذه الأحزاب، ولا في برامجها، ولا في أساليب عملها، ولا في ممارساتها. فإذا استثنينا إصدار بعض البيانات المكتوبة بلغة جذرية، وإذا استثنينا إحداث تغيير جزئي في أعضاء بعض الأجهزة القيادية، فإن الرّكود الماضي للحزب، ورتابته السّابقة، وعاداته القديمة، تـعود بسرعة، وتستمر في السّيطرة، كأن شيئا لم يتغيّر في هذه الأحزاب. بينما تطوّرات الصّراع الطبقي تستوجب منها ملائمات، أو تغييرات سريعة، أو عميقة، أو جذرية.

وهكذا، عندما يحين وقت تنظيم مؤتمر حزب معيّن من بين أحزاب اليسار، ترتـفع حمّى المناقشات، والخلافات، والمنافسات، والتحالفات. ويتسابق أعضاء الحزب على مواقع المسئوليات، وعلى الكراسي، والألقاب، والمناصب. كلّ مناضل يريد أن يصبح زعيما، أو قائدا، أو ممثّلا، أو مسئولا كبيرا. لكنه في نفس الوقت، يتهرّب هذا المناضل من بذل المجهودات التي يتطلّبها تحمّل المسئولية. وبعد انتهاء المؤتمر، يرجع كل مناضل من الحزب إلى حال سبيله. وتـعود الرّتابة، والرّوتين، والانتظارية، والإتّكالية على التّطوّر الطبيعي للأشياء.

والحقيقة التي ينساها، أو لا يدركها، كثير من المناضلين، هي أنه يستحيل أن تـنهض ثورة مجتمعية، أو أن تنجح في بلد محدّد، إذا لم يقم سلفًا مجمل مناضلي هذا البلد بثورة داخل فكرهم، وفي وعيهم، وفي مناهجهم، وفي سلوكهم، وفي أساليبهم النضالية.

8) هل هناك أمثلة أخرى تُبَيّن ضعف أحزاب اليسار؟
◾على العموم، أحزاب اليسار بالمغرب تـعاني من قِلّة مُبَادراتها، ومن ندرة أنشطتها. وتـعاني أيضا من ضعف حماس غالبية أعضائها. وتـعاني أيضا من ضعف الانضباط داخلها.

ويبقى الإنتاج السياسي لأحزاب اليسار غير كاف. كما تظل إبداعاتها في مجال أساليب النضال شحيحة، أو منعدمة. أمّا قدرتها على تـعبئة جماهير العمال، أو الفلاحين، أو فئات الذين لا يستغِلون ولا يُستغَلّون، فقد ظلّت محدودة، بل كانت في كثير من المناسبات الهامّة منعدمة.

ويظهر أن أحزاب اليسار غير راضية عن بعضها البعض. حيث تُسَرِّب انتـقادات شفوية لاذعة عن بعضها البعض. لكنها لا تجرؤ، في نـفس الوقت، على صياغة هذه الانتـقادات ونشرها بشكل مكتوب، علني، رسمي، أو مسئول.

وتدلّ ظاهرة نَدْرَة، أو غياب، تبادل النّـقد المكتوب فيما بين أحزاب اليسار، أو فيما بين أعضائها، تَدُلّ على أنها غارقة في فكر يظهر أنه ثوري، أو يساري في خطابه، لكنه مُحَافِظ في جوهره. وتتجلّى أيضا هذه الصّفة المُحافظة في كون أحزاب اليسار لا تجرؤ بما فيه الكفاية على مُراجعة، أو تطوير، أطْرُوحَاتها السياسية القديمة. ولا تُبْدِع أفكارا سياسية، أو لا تجرؤ على تجريب أساليب نضالية جديدة. ونتيجة ذلك هي أن أحزاب اليسار تتـفاعُل بِبُطْء كبير مع التطوّرات العميقة الجارية داخل المجتمع. وهذا البُطء في التّـفاعُل مع تطوّرات المجتمع يُفَوّت عليها الكثير من فرص التدخّل، أو التّأطير. فَتَضعف أحزاب اليسار، ولا تَتـقوّى.

ومن بين المظاهر الأخرى المُعبّرة عن ضعف أحزاب اليسار، نجد أيضا هروب الأطر العُليا، والمُفكّرين، والعلماء، والخُبراء، والمهندسين، والأطبّاء، والباحثين، والكتّاب، والمبدعين، من أحزاب اليسار، أو نُـفُورهم منها. بينما الظاهرة الطبيعية (التي كان ينبغي أن توجد) هي أن تكون أحزاب اليسار مُتـقدّمة، أو حَيَوِيّة، أو طليعيّة، فتجذب إليها، أو تستـقطب حولها، أكبر المُثـقفين، وأحسن المُفكّرين في المجتمع.

وعلى مستوى المالية، نجد أن أحزاب اليسار هي الأكثر فقرًا من بين كل الأحزاب الموجودة في المغرب. ويساهم فقرها في تـقييد أو تـقليص أنشطتها. الشيء الذي يزيد في الحدّ من إشعاعها. وكلّما أراد حزب من بين أحزاب اليسار تنظيم أيّ نشاط كان، فإنه يعاني كثيرًا من قلّة موارده المالية. فيضطر إلى تبسيط هذه الأنشطة، أو حصرها، أو اختصارها، أو التخلّي عنها. فتدخل أحزاب اليسار في الحلقة المفرغة التالية: «فقر الحزب ← قلّة أنشطته ← إشعاع ضعيف ← أنصار قليلين ← موارد ضعيفة أو منعدمة ← تـفاقم ضعف الحزب وفقره». بينما الأحزاب التّابعة للدولة، أو التي تتعاون معها، تحصل رسميا من هذه الدولة على دعم مالي (يعدّ في كلّ عام بملايين، أو بعشرات الملايين من الدراهم)، وذلك طبقا لقانون وضع خصّيصا لهذا الغرض. بينما أحزاب اليسار لا تحصل على شيء ذي أهمية من الدولة. وقد يكون سبب فقر أحزاب اليسار هو فقر أعضائها.

وقد يكون الحل لخلاص أحزاب اليسار من ضعف مواردها المالية هو انفتاحها على، أو تـقرّبها من، المواطنين الميسورين الذين يتّصفون بدعمهم للتـقدّمية، أو للوطنية، أو للديمقراطية. وعلى عكس بعض المواقف السياسية التي ترفض أو تعادي كل ما له صِلة بما يُسمّى «البرجوازية الصغيرة»، أو «البرجوازية الوطنية»، فإن تعاون وتكامل مجمل الطبقات المجتمعية الوطنية والتـقدمية، يشكّل ضرورة مرحلية تاريخية. حيث أن «الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية» لن تتحقّق إلا إذا تحالفت، أو تعاونت، مختلف طبقات الشعب، بما فيها طبقة العمال، وطبقة الفلاحين الفقراء والصغار، وطبقة الذين لا يستغِلّن ولا يستغَلّون، وطبقة المستغِلين الصغار، وربّما حتى فئات متنوّرة من طبقة المستغِلّين المتوسطين.

9) هل الأطر القديمة في أحزاب اليسار تلعب دورا مُبْدِعا أم مُحَافظا؟
◾بعض الأطر القديمة (Apparatchik) في أحزاب اليسار تلعب دورا مُحافظا. وتظهر بعض هذه الأطر كأنها هي التي تحتكر حقّ تحديد من هم «الأفراد المقبولين»، ومن هم «الأفراد المنبوذين». وتظهر هاته الأطر القديمة على شكل ”حرّاس المعبد“، الذين يَصُونون ”الأصول“، و”المراجع“، و”المشروعية“، و”الاستمرارية“. ويتحوّل أحيانا دور هذه الأطر القديمة إلى تَرْوِيج الدّوغمائية (Dogmatisme). وقد تُحَنّط الفكر الثوري، أو الفكر النضالي، إلى درجة تحويله إلى معتـقدات مُطلقة، أو جامدة، تَصْلحُ لكُلّ مكان، ولكل زمان. وتخاف من أن يكون كل مسعى لتطوير الفكر مغامرة قاتلة. وتَتّهِم كل مُحاولة لتجديد الفكر بأنها ”تراجع“، أو ”انحراف“، أو ”زَنْدَقة“ سياسية. وقد تُكون هذه الأطر القديمة من بين أهمّ الحواجز التي تـعوق إحداث تغييرات، أو مُراجعات، أو إبداعات، سواء في الأفكار، أم في الخط السياسي، أم في التّكتيك، أم في الأساليب النضالية.

وأحيانا، يغرق بعض الأطر القديمة في تـفاصيل صراعات سياسية داخلية خَفِيّة، مُعَقّدة، ومُتواصلة، بين شخصيات، أو جماعات، أو تيارات، مُتَنَافِسة داخل أحزابهم. وقد تستحوذ، أو تستهلك، هذه الصراعات، جُلّ طاقاتهم، إلى درجة أن مُساهماتهم في مجالات تطوير الأفكار، أو تحيين الخط السياسي، أو إبداع أساليب نضالية جديدة، تُصبح هزيلة، أو مُنعدمة.

وبقدر ما تكون تلك الأطر القديمة مَشْغُولة بتلك المُنافسات أو الصّراعات فيما بين شخصيات، أو جماعات، أو تيارات، داخل حزبها الخاص، بقدر ما تكون رؤيتها الشُّمولية للصراع الطبقي (الدائر على صعيد مُجمل المجتمع) محدودة أو ناقصة.

قد تكون هذه الأطر القديمة قوية، أو فعالة، في ميدان هذه المنافسات أو الصّراعات الدّاخلية للحزب المعني، فيما بين شخصيات، أو تيارات، لكنها قد تكون، بالمقابل، ضعيفة، أو مُتـخلّفة، في مجال فهم أو معالجة الإشكالات الكبرى للحزب، أو للمجتمع.

وفي مثل هذه الحالات، يُصبح الحزب المعني غير قادر على التّطوّر، وغير قادر على التّـفاعل بِسُرعة، أو بفعالية، مع مستجدّات، أو مع متطلّبات، الصّراع الطّبقي (الدّائر على مستوى عموم المجتمع). وقد يدخل الحزب المعني في صيرورة ضعف، أو تـخلّف متواصل، إلى درجة أنه قد يصبح مُهَمّشا، أو عاجزا، أو هامدا، أو مُتـخلفا.

10) هل أحزاب اليسار تـختلف حول اختيارات استراتيجية؟
◾تـعاني بعض أحزاب اليسار من ازدواجية في تَصوّرها لعملية الوصول إلى السلطة السياسية. فتارة، يعتـقد بعض مناضليها أن الوصول إلى السلطة يستحيل بدون استـعمال العنـف الثّوري (تَبَعًا لأطروحة فلاديمير لينين والبلاشفة). وتارة أخرى، يعتـقدون أن الفوز في الانتـخابات يمكن أن يكون سبيلا سلميّا للوصول إلى السلطة. وهذه الازدواجية في التصوّر قد تـؤثّر سلبا على التوجّهات، أو على البرامج السياسية، أو على النضالات. بينما الفعالية السياسية تـقتضي الانخراط الكُلّي، إما في استراتيجية العنـف الثوري، وإما في استراتيجية النّضال السّلمي، وليس التّذبذب المُتواصل بينهما.

ويعتقد بعض المناضلين أن المراهنة على صناديق الاقتراع هي انحراف سياسي ساذج وعقيم. لأن منظومة الانتخابات مُتَحَكَّم فيها، ومغشوشة. ولأن هذه الانتخابات منظّمة بشكل يفرض تهميش قوى اليسار، أو يمنعها من الفوز. ولأن منطق هذه الانتخابات يمكن أن يفاقم ميل بعض مناضلين اليسار نحو استغلال هذه الانتخابات بعقلية انتهازية، أو نفعية، لتحسين مواقعهم الطبقية. ولأن النظام السياسي القائم يحرص باستمرار على أن لا تتحوّل هذه الانتخابات إلى سبيل ممكن لتغيير طبيعة هذا النظام. ولأن هذا النظام «مُقْفَل» (verrouillé) بشكل مدروس، حيث لا يمكن لأي فاعل سياسي أن يُغيّره من داخله، سواءً عبر البرلمان، أم عبر المجالس المحلية، أم عبر السّبل الأخرى القانونية.

وأحزاب اليسار ملزمة بأن تحسم اختياراتها بشكل تام، وأن تُحدث قطيعة مع أطروحة فلاديمير لينين (V.I. Lénine) حول الوصول إلى السلطة عبر العنـف الثوري. خاصّة وأن العنف الثوري يمكن أن يتحوّل إلى حرب أهلية مدمّرة. وتنبني فكرة تجاوز العنف الثوري على تجارب الثورات الحديثة، في سنة 2011، في كل من تونس، ومصر، واليمن، (على خلاف حالتي ليبيا، وسوريا). حيث أن إسقاط نظام مُستبد (أو على الأقل خلخلته عبر إسقاط رئيسه)، يمكن الوصول إليه عبر نضال جماهيري، سياسي، حَاشِد، سلمي، ومُتواصل، دون اللّجوء بالضّرورة إلى عنـف ثوري شمولي([6]). كما أن الحصُول على الشرعية السياسية، سواء تُجاه داخل البلاد أم خارجها، يَقْتَضِي الوصول إلى السلطة بِرِضَا الشعب، أي عبر انتـخابات نزيهة، وليس بالقوّة.

ويَعتبِرُ مناضلون آخرون أن المُراهنة على العنـف الثّوري هي نوع من التّطَرّف السياسي. ويَستنتِجُون أن الواقعية السياسية، أو الاعتدال السياسي، «يفترض بالضرورة» القَبُول بالنّظام الملكي القائم. وأن الموضوعية السياسية تستلزم حَصْر كل النّضالات المُقبلة «تحت سقف الملكية البرلمانية». ويُحوّلون «سقف الملكية البرلمانية» إلى «حدّ مطلق»، أو «دُغْمَة» (Dogme). ثم يستـعملون هذا «السّقف» كمقياس، كلّما أرادوا الفرز بين ما هو مقبُول، وما هو غير مقبول. فيُكبّلون هكذا فكرَهم، وممارَستهم، دُون الوعي بهذا التّـكبيل، أو التـقييد القَبْلِي. بينما المُرونة الفكرية تـقتضي القبول ب «الملكية البرلمانية الديمقراطية»، إذا كان فعلاً بالإمكان تحقيقها. أمّا إذا ظَلّ هذا النظام السياسي القائم يرفض بعناد تغييره إلى «ملكية برلمانية»، على مَرّ عشرات السّنين من التضحيات، فإن الحلّ البديل المنشود، يلزم أن يُصبح هو «الجمهورية البرلمانية الديمقراطية». لكن المهمّ، ليس هو شكل السّلطة (ملكية أم جمهورية)، وإنما هو مضمونها (أي نظام سياسي ديمقراطي). وينبغي أن تتجلّى هذه الديمقراطية في التّناوب السّلمي على السلطة، عبر انتخابات ديمقراطية، وعلى أساس الفصل فيما بين السّلط، وكذلك الكرامة، والحرية، والعدل، وحقوق الإنسان.

وكل مناضل يضع «سقفا»، أو يُسَطّر «حدّا» سياسيا، ثم يُحَرّم على نـفسه تجاوز هذا «الحدّ»، قد يفقد موضوعيته، أو قد يفقد حِسّه النّـقدي، أو قدرته على التّـكيّف مع المستجدّات. فهل هناك فرق بين شخص يجبره نظام سياسي استبدادي على احترام «خطوط حمراء» محدّدة، وشخص آخر يفرض «خطوط حمراء» على نفسه، ويَمنع نـفسه من الطموح إلى أكثر من ذلك «السّقف»؟ أليس المناضل الثّوري، هو الذي يتـفاعل بحرية تامّة مع كل مستجدات الواقع المجتمعي، ويهتدي في كل مناسبة بعقله وحده، ولا يقبل الخضوع لأي «حدّ»، أو «سقف»، أو «مقدّس»، أو «خطّ أحمر»، سواء في فكره، أم في نضاله؟

11) هل انـقسام اليسار إلى عدة أحزاب يُشكّل عائقا؟
◾ظل اليسار بالمغرب ينـقسم إلى 4 أو 5 أحزاب، بالإضافة إلى وجود عدّة تنظيمات، أو جماعات، أو تيارات يسارية. وهذا الانـقسام يدوم منذ 20 أو 30 سنة. لكن المُبرّرات المقدّمة لتعليل دوام انـقسام اليسار إلى عدّة أحزاب متميّزة ومتنافسة، ليست واضحة بما فيه الكفاية، ولا مُقنعة. ولا يلمس الملاحظ وجود خلافات جذرية فيما بين مناضلي مُختلف أحزاب اليسار، سواء على مستوى الخط السياسي، أم على مستوى البرنامج النضالي، أم على مستوى منهج التـفكير. والغريب هو أن الخلافات السياسية، أو الفكرية، الموجودة فيما بين أحزاب اليسار، توجد أيضا داخل كل حزب يساري على حِدَة، وفيما بين أعضاء كل حزب يساري محدّد. فمن الوهم الاعتقاد بإمكانية وجود حزب يساري يتميّز أعضاءه باتّـفاقهم على كل شيء. وهذه الخلافات الموجودة فيما بين مناضلي أحزاب اليسار، هي خلافات طبيعية، ولا ترقى إلى مستوى تبرير انـقسامهم إلى أحزاب مُتَنَافِسَة، أو مُتناقضة.

وإذا ما استمرّ انـقسام اليسار إلى عدّة أحزاب متنافسة، فإن هذا اليسار سيظل بالضّرورة، مُتشرذما، ومُتـفرّقا، وضعيفا، وهزيلا. وستبقى الفَعالية السياسية لليسار، في هذه الحالة، ضئيلة، أو رَديئة، أو عاجزة، أو منعدمة. بينما تستوجب مصلحة اليسار توحيده عاجلا، في إطار حزب واحد، أو داخل جبهة مُوحّدة، أو على الأقل في هيكلة تنسيقية حيوية.

وعلى خلاف كثير من الآراء، لا تُبنى الجبهة فيما بين أحزاب تتفق على كل شيء، وإنما تبنى الجبهة فيما بين أحزاب تختلف حول كثير من القضايا. والجبهة هي، في آخر المطاف، مجرّد وعاء تنظيمي لتسهيل التنسيق والنضال المشترك. فَالجبهة ليست هدفًا في حدّ ذاته، وإنما الجبهة هي مجرد وسيلة. وهدف الجبهة هو تسهيل خوض النضال المشترك. وكل من يرفض بناء جبهة يسارية، فهو في الحقيقة يرفض وجود نضال يساري مشترك.

ويستوجب العمل الجَبْهَوِي بالضّرورة مرونة كبيرة في التّـفكير، وفي الممارسة. (ويمكن، إن اقتضى الحال، أن تعمل هذه الجبهة، أو هذا الحزب الذي سيتوحّد فيه أحزاب اليسار، بأسلوب التّيارات، ولو مُؤقّتا، لتمكين مختلف الحساسيات السياسية من التـعبير عن نـفسها. ولكن تجربة «الحزب الاشتراكي الموحّد» قد أكّدت بالملموس أن العمل بأسلوب التّيارات لا يُنشّط التنافس فيما بين مدارس فكرية، وإنما يتحوّل إلى مبرّر لِلْحَلَقِية، وللعصبية، بين جماعات أو زعامات ثابتة عبر الزمان، ولا تتغيّر ولو تبدّلت المواضيع أو الأفكار).

وعلى خلاف النّزعة السطالينية (stalinisme)، يلزم أن ندرك أن تنوّع مكوّنات اليسار هي ظاهرة طبيعية، وموضوعية، ودائمة. بل إن تـفاوت التصوّرات والآراء فيما بين المناضلين اليساريين، وفيما بين التّيارات اليسارية، هي ظاهرة حتمية. لكن العقل السّليم لا يشترط تطابق الآراء في كل شيء، بل يجتهد لتأسيس النضال المُشترك، ويكافح ضدّ تشتيت القوى أو تشرذمها. كما أن الحاجة إلى الفعالية السياسية توجب تنسيق وتوحيد الجهود، في إطار سياسي واحد، مثلا على شكل تنسيق، أو تحالف، أو فدرالية، أو جبهة وطنية تـقدمية، أو ما شابه ذلك. خاصة وأننا لا زلنا في مرحلة التّحرر الوطني الديمقراطي.

12) هل تحمل أحزاب اليسار تصوّرا مُوحّدا حول النظام السياسي المطلوب؟
◾منذ استـقلال المغرب من الاستـعمار الفرنسي، في سنة 1956، ظلّت قوى اليسار بالمغرب تُطالب ب ”دَمَقْرَطَة” النظام السياسي الملكي الاستبدادي. وذلك هو ما زال يُعَبّر عنه اليوم ثلاثة أحزاب يسارية عبر ِمَطْلَب «ملكية برلمانية ديمقراطية». لكن النّظام السياسي المُستبد لم يتوقّف، إلى حَدّ اليوم، عن التّحايل، وعن رفض أي إصلاح دِيموقْراطي حقيقي. فهل يُعْقَل أن تستمر أحزاب اليسار، خلال ال 60 سنة الأخرى المُقبلة، في المطالبة بِنـفس الطّلب الذي ظلّت تطالب به خلال ال 60 سنة الماضية، ألا وهو مطلب «ملكية برلمانية ديمقراطية»؟

ورغم عِنَاد النّظام، لا زالت بعض قوى اليسار تُصِرّ على ألا يَتَجاوز نضالها، الحالي أو المُقبل، «سقف الملكية البرلمانية»! والقوى السياسية التي تَتَشَبّث باحترام هذا «السّقف»، تـقضِي على أية إمكانية للنضال المُشْتَرَك مع قوى اليسار الأخرى التي ترفض هذا «التَّسْقِيف». ولا يُعقل أن تستمر أيّة قوة من بين قوى اليسار في تـقييد نـفسها داخل حدود شعار «سقف الملكية البرلمانية» خلال ال 60 سنة الأخرى المُقبلة.

ألم يَحِن بَعْدُ الوقت لكي تُراجع مُجمل قوى اليسار بالمغرب شعارها حول طبيعة النظام السياسي المطلوب، عبر حوارات صريحة، ودراسات معمّقة؟ ألم يحن الوقت لكي تُبَلْوِر أحزاب اليسار تصوّرا مُوحّدا حول طبيعة النظام السياسي المَنْشُود؟ ألا تـقتضي الفعالية السياسية أن يكون تصوّر أحزاب اليسار للنظام السياسي المطلوب، مُوَحّدًا، واضحا، وحازما؟ ألا يُسْتَحْسن أن يكون شعار اليسار من قبيل الشِّعار التالي: «إمّا ملكية برلمانية وديمقراطية الآن، وإمّا جمهورية برلمانية وديمقراطية الآن، ولا نـقبل بأي بديل ثالث لهما» !

13) ما هو نـقدك ل ”حزب الاتحاد الاشتراكي”؟
◾تناولتُ فيما سبق انتـقادات مُوَجّهة إلى عموم أحزاب اليسار. ولا بُدّ أيضًا من استـعراض أمثلة مَلْمُوسة على بعض الانتـقادات الخاصّة، الموجهة إلى كل حزب على حِدَة. وفيما يخصّ ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، وخلال الفترة الممتدّة من سنوات 1960 إلى قرابة سنوات 2000 م، ظلّ هذا الحزب هو أكبر حزب تقدّمي في السّاحة السياسية. وهو لا زال يحتوي على عدد من المناضلين المُخلصين. إنه فعلاً حزب ضخم، ثـقيل في حركته، إلى درجة أنه لم يعد يقدر على المَشي أو التـقدم. وأصبحنا لا نسمع شيئا عن وجوده، أو عن نضاله، إلا خلال مناسبات الانتـخابات. أو عندما يأمر القصر الملكي الأحزاب الإدارية بالدّفاع عن قضية رسمية مَا (مثل قضية الصحراء). ويظهر أن غالبية النُّخبة السائدة داخل ”حزب الاتحاد الاشتراكي“ أصبحت مُترهّلة، أو محافظة. ولم تـعد تتوفّر على أية رغبة في تنظيم أي نضال جماهيري حازم، أو تـقدّمي، أو ثوري.

و”حزب الاتحاد الاشتراكي“ يطبّق مقولة: «هدف الحزب هو وصوله إلى الحكومة». لكن التّجربة بَيّنت (خلال سنوات 1980 و 1990 م) أنه كُلّما حصل هذا الحزب على مناصب وزارية في الحكومة، فإنه لا يدري ماذا يفعل بتلك الوزارات. وفي الحقيقة، فإن مقولة «هدف الحزب هو الوصول إلى الحكومة» خاطئة. لأن الحزب، وكذلك الوصول إلى الحكومة، إنّما هما وسيلتان، أمّا الهدف الحقيقي للحزب، ومُبرّر وجوده، فيجب أن يكون هو المُساهمة في تغيير الدولة، وتغيير المُجتمع، في اتجاه الدّمَقْرَطَة (démocratisation)، والتّنميّة، والحُرية، والعدل، والرفاهية لكل المُواطنين، ولكل مُكوّنات المُجتمع. وكل حزب يصل إلى السلطة السياسية، ثم يستمتـع بها، دون أن يعمل على إصلاح الدولة، ولا على تغيير المجتمع، يصبح وجوده زائدًا عن الحاجة، أو غير مجدي، أو غير مُبرّر.

وكُلّما جاءت مناسبة تاريخية حاسمة بالمغرب، إتّضَح من خلالها العجز التام ل ”حزب الاتحاد الاشتراكي“ على استغلال هذه المناسبة، أو على التّـفاعل معها. وقع ذلك مِرارًا وتكرارا. وقع مثلا خلال الانتـفاضات الشعبية الماضية (في سنوات 1965، و1980، و1981، و1984، إلى آخره)، ووقع أيضا كلما حصل هذا الحزب على نِسَب هامة من مقاعد البرلمان. ووقع أيضا حينما نادى الملك المستبد الحسن الثاني على المناضل عبد الرحمان اليوسفي، زعيم ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، لكي يَرْأس أول حكومة «للتّناوب التّوافقي» بالمغرب، (بين أبريل 1998 و 2002 م). كما تَكَرّر ذلك العجز عِدّة مرّات، مثلا حينما حصل هذا الحزب على عدد مُعتبر من الوزارات داخل الحكومة. ورغم كل هذه الفُرَص التاريخية الضّائعة، فإن هذا الحزب لم يَتَمَيّز بأيّ إنجاز سياسي ذي أهميّة. وكان النّظام القائم، في كل مرّة، يحتال على هذا الحزب، ويستغلّه، ويتلاعب به، ثم يُضْعِفه، ثم يُهَمّشه. ولا شيء يُثْبِتُ، إلى حَدّ الآن، أن هذا الحزب قادر على الاستـفادة من أخطائه السابقة.

14) وما هو نـقدك لِ ”حزب التـقدم والاشتراكية”؟
◾يحتوي هذا الحزب هو أيضا على بعض المناضلين المُخلصين، يعملون في صمت، أو في الخفاء، لكن غالبية الجماعة الصغيرة التي تُسيطر على قيادة هذا الحزب تمارس السياسة باعتبارها «فَنّ النّـفاق والانتهازية». ورغم خطابها السياسي الباهت، فإنها لا تهتم سوى بمصالحها الشّخصية النّفعية. ويكفي أن يَنْزَع النّظام السياسي القائم «رَضّاعَة الحليب» من فَمِ قِيَادة هذا الحزب لكي يَنْدَثِر خلال بضعة سنوات. ومن الصّعب أن يبقى هذا الحزب موجودا بعد قرابة ال 10 سنوات المقبلة.
◾15) وما هو نـقدك ”لحزب النهج الديمقراطي”؟
◾هذا الحزب، مثله مثل أحزاب اليسار الأخرى، يحتوي على كثير من المناضلين الصّادقين أو المُخلصين. المشكل هو أن الرّوح النّـقدية تَنـقصهم، وذلك إلى درجة أنهم لا يُحِسّون بنـقط ضعف حزبهم.

وظل الرأسمال الرئيسي لهذا الحزب، ليس هو نضاله العملي، وإنما هو الاستثمار في تُرَاث ”منظمة إلى الأمام“ وشُهدائها. لكن ’’تاريخ انتهاء صلاحية‘‘ أيديولوجية منظمة ”إلى الأمام“ فَاتَ منذ زمان. حيث أن غالبية مُناضليه، أو قادته، لم يعودوا يؤمنون بالأطروحات الماضية لِ ”منظمة إلى الأمام”، مثل «العنـف الثوري»، و«حرب التحرير الشعبية»، و«ِالقواعد الحمراء المُتنـقلة».

ف ”حزب النهج“ هو حزب مُقَلّد، ومُحافظ في ثوريته. ولا زال غير قادر على مراجعة أو تجاوز بعض الأطروحات ”الماركسية اللّينِينية“ القديمة. يتـعامل مع نظرية ”الماركسية اللينينية“ باعتبارها «علما مُطلقا». وَعلى العموم، لا يقرأ مُناضلو ”حزب النهج“ مُؤلّفات كارل ماركس، أو فلاديمير لينين، أو مَاوُو تْسِي تُونْغ، أو غيرهم، وإنما يكتـفون بحفظ بعض أطروحات ”الماركسية اللينينية“ كآيات قرآنية مُقدّسة، ويؤمنون بأنها حقائق صَائبة بشكل دائم ومُطلق. ويتـعاملون مع كارل ماركس كنبي مُقدّس للطّبقة العاملة. وفي الحقيقة، ليست ”الماركسية اللينينية“ لا علمًا، ولا أيديولوجية، ولا دين جديد. وإنما هي مُجرد اجتهاد فلسفي أو سياسي، يرجع إلى نهاية القرن ال 19 وبداية القرن ال 20 الميلادي. فيها أشياء كثيرة سليمة، وثمينة، ورائدة، وفيها أيضا أشياء أخرى ناقصة، أو مُتجاوزة، أو خاطئة. فلا يُعقل أن تكون «بُوصَلَة» المناضلين هي فقط «الماركسية اللينينية»، باعتبارها علما أو ”دُغْمَة“ (dogme)، بل يُستحسن أن تكون «بُوصَلَتهم» هي العقل، أو المنطق، أو البحث الموضوعي، أو العلوم الدّقيقة. والعقل يُشجّع على الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وعلى التـقدّمية، أو الثورية، ويُؤدّي إلى الجَدَلِيّة (Dialectique). وينبغي أن نستـفيد من اجتهادات كارل ماركس، مثلما يلزم أن نستـفيد من كل المفكّرين الآخرين الذين ساهموا في إغناء التّراث الثّـقافي العالمي. فلم يبدأ الفكر الثوري مع ماركس، أو لينين، ولم يَنْتَهِ عند مَوْتِهِمَا. وماذا عَسَانَا أن نـفعل لو لم يوجد كارل ماركس؟

ويتـعامل بعض مناضلي ”حزب النهج” مع «الماركسية اللينينية» كأنها ”قرآن“ من نوع جديد، يحتوي على كل شيء، ولا يحتاج إلى أي اجتهاد جديد. بل يعتبر هؤلاء المُناضلين كل من يُحاول تجديد أو إغناء الفكر الثوري، بأنه «مُنحرف»، أو «زنديق». ويُعاني ”حزب النهج“ من الدُّوغْمَائِية (Dogmatisme). ولا يجرؤ على إبداع أطروحات سياسية جديدة، ولا يَتَجَرّأ على ابتكار أساليب نضالية من نوع جديد. يحفظ بعض مناضليه بعض المفاهيم أو العبارات الثورية، أو ”الماركسية اللينينية‟، ثم يعتـقدون أن ترديد هذه العبارات هو حُجّة قاطعة على أنهم ثوريون.

و”حزب النهج“ غارق في النّزعة ”السْطَالِينِية“ (Stalinisme). ولا يتحمّل النـقد، لا من داخل الحزب، ولا من خارجه. ويميل إلى مُحاولة السّيطرة على مجمل التّيارات أو التّنظيمات الجماهيرية. ويطلب من مناضليه أولا الولاء أو الإخلاص للقيادة، بدلا من أن يطلب منهم الكفاءة السياسية، أو استـقلال الشخصية، أو الفعالية النضالية، أو النزاهة الأخلاقية. وتوجد داخل هذا الحزب هيمنة الولاء لأشخاص، وليس الولاء لمبادئ. وإذا استمرت هذه الظاهرة، فقد تُـعرّض هذا الحزب لانشقاقات في المستـقبل.

ويميل أحيانا بعض قِيّادِيّي حزب النهج، أو بعض المسئولين فيه، إلى ممارسة مناورات خفية داخل الحزب.

ويُروّج عادة بعض قياديّ حزب النهج خطابا سياسيا جذريا، وذلك دون أن تكون ممارسة الحزب تطبيقا حرفيا لخطابه. ويأتي إلى هذا الحزب على الخصوص الشبان الذين يحملون اختيارات جذرية، أو راديكالية، بما فيها خيّار العنف الثوري، ومقاطعة كل الانتخابات. ويرفض بعض قادة هذا الحزب تَلْيِين أو عقلنة خطابهم السياسي الجذري، وذلك خشية من أن يبتعد الشباب الراديكالي عن هذا الحزب. ومثلما هو الحال في أحزاب أخرى من اليسار، يتناسى كثير من أعضاء هذا الحزب أن ترويج خطاب سياسي جذري، خلال فترات غير ثورية، يسوق بسهولة هذا الحزب المعني نحو التهميش (في الانتخابات، وفي الساحة السياسية).

ولا يجتهد هذا الحزب بما فيه الكفاية لتكوين مناضليه الشبان. ولا يهتم بتنمية روح الاستـقلالية لديهم. ومستوى التّكوين السياسي لمناضلي هذا الحزب يبقى غير مُرض.

ويستـعمل هذا الحزب أساليب التَّجْيِيش وسط الشّبان، ويستـعمل شَحْن العواطف، ويبالغ في تـقوية الارتباط الحماسي، وذلك على حساب تنمية التّكوين السياسي المُعَمّق، وعلى حساب تـقوية المنهج النّـقدي، أو العقلانية.

16) ما هو نـقدك ل ”حزب الطليعة”؟
◾هذا الحزب يُشبه إلى حَدّ مُعيّن ”حزب النّهج“. وكثير من الانتـقادات السّابقة المُوجّهة إلى ”حزب النّهج“ تنطبق أيضا على ”حزب الطّليعة“ (فلا أكرّر هذه الانتقادات المشتركة). و”حزب الطّليعة“ هو أيضا محافظ في ثوريته، لا يقدر على تجاوز أطروحات «الاشتراكية العلمية»، أو «الماركسية اللينينية». ولا يجرؤ على تبني أطروحات سياسية جديدة. ولا يبتكر أساليب نضالية من نوع جديد. ويميل هو أيضا إلى تـقليد النّزعة «السْطَالِينية»(Stalinisme). ويميل إلى السّيطرة على الحركات أو التنظيمات الجماهيرية (طبقا لنظرية «طَلِيعية الطبقة العاملة» التي وضعها كارل ماركس، وطَوّرها فلاديمير لينين والبلاشفة). ويظنّ أنه يمتلك هو وحده مشروعية «الطليعة». ويُعاني هو أيضا من الدّوغْمَائِية (Dogmatisme).

ولا زالت الولاءات فيه لأشخاص أو لزعماء قوية. ويظهر أن هذا الحزب لا يعرف بعد كيف يتغلب على مشكل خلافة زعيمه المريض، والذي يحظى بتـقدير كبير ومُسْتَحَقّ. ويتوفّر على زعماء آخرين يَحْضَوْن باحترام مَشهود لهم. لكن المشكل هو أن التّجربة تُبَيّن أن نزعة الزّعَامِيّة([7]) تُضِرّ دائما، وفي آخر المطاف، بالمنهج النضالي أو الثوري، ولو مُورِسَت هذه الزّعامة بِحُسن النّية.

17) ما هو نـقدك ”للحزب الاشتراكي الموحد”؟
◾هذا الحزب يحتوي هو أيضا على كثير من المناضلين الصّادقين. لكنه يعيش تناقضا حادا بين جناح ثوري، وجناح إصلاحي، أو ’’لِيبِيرَالِي‘‘ (libéral)، أو شبه مَلَكِي. وإذا لم يُعالج هذا الحزب هذا التناقض المذكور، فمن المُحتمل أن يتـعرّض لخطر انشقاق في المُستـقبل([8]). ويعاني هذا الحزب من ضعف الانضباط لدى بعض مناضليه. بعض الأعضاء القلائل في هذا الحزب يناضلون ويُضَحّون بشكل مُتواصل، لأنهم يؤمنون بالحزب، بينما بعض الأعضاء الآخرين يظهرون كأنهم دائما غائبين، لا يُبَالُون لا بالحزب، ولا بالمُقَرّرات الحزبية، ولا بالنضال الجماهيري، إلا في مناسبات نادرة، مثل مناسبات الانتخابات.

ويُفضّل جزء هام من أعضاء هذا الحزب صيانة قربه، أو ارتباطه، ب ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، بالمقارنة مع قربه من أحزاب اليسار الأخرى. ربما لأن هؤلاء المناضلين يعتـقدون أن ارتباط حزبهم ب ”حزب الاتحاد الاشتراكي“ يُعَزِّز لديهم الواقعية السياسية، أو يُقَوّي داخلهم المُراهنة على الانتـخابات. أو ربّما لأنهم يظنّون أن اقتراب حزبهم من أحزاب اليسار يحتوي على خطر تـقوِيّة التّيار الثوري، أو المُتَشَدّد، أو المغامر، داخل حزبهم.

وكلّما قَرُبت استحقاقات انتـخابية، ظهرت أزمات معقّدة داخل هذا الحزب. وذلك نظرا للخلافات، أو المنافسات، التي تثيرها هذه الانتـخابات داخل هذا الحزب. حيث يَتسابق بعض مسئوليه وأعضاءه من أجل أن يكونوا على رأس قوائم مُرَشّحي هذا الحزب في الانتـخابات (المحلية أو البرلمانية). وبعضهم يطمح إلى تحسين موقعه الطبقي عبر هذه الانتخابات. وبعضهم يحلم بأن يُعيّنه النظام السياسي في يوم قريب ضمن النخب الرّسمية. ولا يرى في الحزب سوى وسيلة من بين وسائل إنتاج النخب التي يحتاجها النظام السياسي القائم.

18) وما هو نـقدك ”لحزب المؤتمر الاتحادي”؟
◾يوجدِ ’’حزب المؤتمر الاتحادي‘‘ في وضع خاص. لأنه يَتَمَاهَى مع نـقابة ”الكُونـفدرالية الديمقراطية للشغل“. ويقول بعض المراقبين أن ’’حزب المؤتمر الاتحادي‘‘ هو الدّرع السياسي لنقابة ”الكُونـفدرالية الديمقراطية للشغل“. وفي الأصل، إنشقّ مناضلو هذا الحزب عن ”حزب الاتحاد الاشتراكي“. وقاموا بقطيعة فكرية أو سياسية معه. وجلبوا معهم نسبة هامة من مناضلي يسار ”حزب الاتحاد الاشتراكي“، ومن مناضلي النقابة التّابعة لهذا الحزب. إلاّ أن غالبية مناضلي ”حزب المؤتمر الاتحادي“ لا زالت تطمح إلى استعادة التّأثير القوي الذي كان لها في الماضي على ”حزب الاتحاد الاشتراكي“. بينما هذا الطموح يبقى حلما مستحيل التحقيق. وعدد من الانتـقادات السياسية السّابقة تنطبق أيضا على ”حزب المؤتمر الاتحادي“. وهذا الحزب لا يتحمّل النّقد. وهو من بين أحزاب اليسار الذين لا يتـفاعلون إلا نادرا مع باقي أحزاب اليسار. وتبقى مشاركته في الأنشطة الثـقافية، أو في الحركات الجماهيرية، تبقى أضعف نسبيا بالمقارنة مع باقي أحزاب اليسار بالمغرب. لكن حينما يتحرّك هذا الحزب، فإنه يأتي بجماهير حاشدة تابعة لنـقابته. ويبقى التَوَجّه الفكري أو السياسي لهذا الحزب متذبذبا، أو غير مُستـقر، أو غير واضح بما فيه الكفاية. ولا يعمل هذا الحزب بالقدر الكافي لتدقيق اختياراته المبدئية، أو لتـعميق تصوّراته السياسية، أو لترسيخها لدى مناضليه.
◾19) هل الحل هو الانسحاب من هذه الأحزاب، أم خلق أخرى بديلة؟
◾كَلاّ ! ليس الحلّ هو خلق أحزاب بديلة. يجب عَلَى مناضلي أحزاب اليسار أن لا يظنّوا أن الحلّ لمعالجة نـقط ضعف أحزاب اليسار يكمن في الانسحاب منها، أو في تأسيس أحزاب جديدة، أو بديلة. هذا المنهج طُبّق مرارًا وتكرارا بين سنوات 1960 وسنوات 1990 م. لكن هذا المنهج بقي في غالب الحالات عقيما. لأنه يخلق مشاكل جديدة، دون القدرة على فهم، أو حلّ، المشاكل القديمة. يجب أن ندرك أن أحزاب اليسار (الحالية الموجودة بالمغرب) تتوفّر على قوى بشرية معتبرة نسبيا، وتشتمل على مؤهّلات نضالية كافية لخلق سيرورة كفاحية متصاعدة، ومتنامية، وناجحة. لكن ضعف أحزاب اليسار ينتج عن النقص الحاصل في المعارف التي يحملها مناضلو هذا اليسار. وينتج أيضا عن القصور في المناهج المستعملة، وعن عدم ملائمة الأساليب النضالية المُتّبعة. كثيرون من مناضلي أحزاب اليسار يحتاجون إلى تكوين معمّق ومتعدّد الاختصاصات. ما ينقص غالبية مناضلي أحزاب اليسار هو رفع مستوى الكفاءات، والدّقة في الأفكار، وفي التصوّرات، والمرونة في المناهج، والإبداع في الأساليب، والانضباط في التطبيق، والاحترافية في الاشتغال. المعضلة المشتركة اليوم لدى عموم العرب والمسلمين، وليس فقط لدى أحزاب اليسار، هي أنهم لا يعرفون كيف يعملون بشكل جماعي. ولا يدرسون فنّ معالجة التناقضات (الداخلية أو الخارجية). وعندما يحاولون خوض عمل أو نضال مشترك على مدى زمني متوسّط أو طويل، فإنهم لا يعرفون كيف يعالجون التناقضات المشتركة فيما بينهم. وبالتّالي، فالحلّ السّليم (لمعالجة ضعف أحزاب اليسار) هو الانخراط في هذه الأحزاب، أو الصّمود داخلها، والعمل من أجل إصلاحها وتثويرها من الدّاخل. المنهج السليم (لمعالجة ضعف أحزاب اليسار) يتطلّب التّـعاون والتّـكامل، وليس التنافر والتّحدي، فيما بين مناضلي هذه الأحزاب. يلزم استبدال التنافس على الزعامات، أو على المناصب، أو على الألقاب، بخصال التّواضع، والتعاون، والتكامل، والتضامن. والطريقة المطلوبة هي التّـقييم، والتّـقويم، والتّثوير. ولا يكمن الحلّ في الاستـقالة، أو الانشقاق، أو المزايدة، أو التحدّي. والهدف ليس هو إقصاء المُخالفين، أو معاداة المعارضين، أو هزم المنافسين. وإنما الغاية هي التّـعاون، والتّـكامل، بهدف مساعدة البشر، لكي يتطوّروا في الاتجاه الثّوري السّليم.
◾20) ما هي المهام المطروحة على أحزاب اليسار؟
◾أذكّر أن قوى اليسار الثوري بالمغرب تتكوّن من الأحزاب الأربعة المشار إليها في البداية، وتتكوّن أيضا من جماعات وتيارات أخرى صغيرة نسبيا، لكنها موجودة، ولها تأثير ملحوظ في السّاحة. والمهام التي يجب على قوى اليسار أن تنجزها هي كثيرة ومتجدّدة. وأقترح فيما يلي لائحة للمهام التي هي مستـعجلة اليوم. وهي التالية:

1 – ضرورة انخراط مجمل أحزاب اليسار في تـقييم صادق لتجاربها، وفي إعداد نـقد ذاتي على النـقص الحاصل في أعمالها النضالية خلال السّنوات الماضية.

2 – العمل من أجل التّـعجيل بتوحيد مجمل قوى اليسار الثّوري، من خلال النّضال المُشترك، وذلك في إطار فدرالية، أو حزب واحد، أو جبهة عريضة، أو تنسيق حيوي.

3 – ضرورة التزام كل قوى اليسار بقاعدة «النّضال المُشترك». ومعنى هذه ’’القاعدة‘‘ هو أن كل حزب من اليسار يريد القيام بنشاط ما، أو بنضال ما، يتوجّب عليه، قبل الخوض في هذا النشاط أو النضال، أن ينسّق مع كل قوى اليسار الرّاغبة في هذا التنسيق، لكي يُنجز هذا النشاط أو النّضال بشكل مُشترك، مع أكبر عدد ممكن من بين قوى اليسار.

4 – ضرورة التزام كل المناضلين بأسلوب «التـقارب، والتـعاون، والتكامل، والتضامن» فيما بين كل قوى اليسار الثوري.

5 – خلق «مدرسة مُشتركة فيما بين قوى اليسار»، يكون هدفها هو التّكوين المشترك لمناضلي وأطر قوى اليسار، مثلا على شكل «جامعة مُتواصلة». ويلقي فيها أطر أحزاب اليسار عورضا، أو محاضرات تكوينية، لفائدة مجمل مناضلي اليسار الراغبين في ذلك.

6 – ضرورة نـقد وتجاوز «المنطق الحزبي الضّيق» من طرف مناضلي مجمل قوى اليسار. والإقرار أن ما هو في مصلحة الشعب هو أولى مِمّا هو في مصلحة الحزب.

7 – في كل حزب من بين أحزاب اليسار، يجب أن يلتزم (على الأقل) قرابة 3 أو 4 من بين كبار مسئوليه بالتـفرّغ للعمل الحزبي والنضالي.

8 – تسريع التّناوب على قيادات أحزاب اليسار، عبر حصر المدّة الزمنية لتحمّل المسئوليات الحزبية (وكذلك لعقد المؤتمرات الحزبية) في 2 سنوات، وليس في 4 أو 5 سنوات.

9 – إلغاء العمل بأسلوب «التّيارات» (المعمول به مثلا داخل ’’الحزب الاشتراكي الموحّد‘‘)، لأنه يُقوّي الحلقية، ويؤجّج «العصبية» السياسية الضيّقة.

10 – إنخراط مجمل قوى اليسار الثوري في إعداد مشروع دستور ديمقراطي للبلاد، يكون مُشتركًا لمجمل اليسار، والنّضال فيما بعد من أجل التّـعريف به داخل الشعب، وجمع التوقيعات المؤيدة له.

11 – ضرورة مساهمة مجمل مناضلي قوى اليسار في عملية خلق فكر سياسي من نوع جديد، يكون ديمقراطيا وثوريا، ويستجيب لمستجدات المرحلة التاريخية الرّاهنة. وتـعميق تصوّرات قوى اليسار لمنظومة المجتمع الديمقراطي والحداثي الذي يناضل من أجل تحقيقه.

12 – ضرورة انخراط مجمل قوى اليسار في بلورة تصوّر مشترك لكيفية التـعامل مع مختلف الأحزاب والجماعات «الإسلامية».

13 – الحذر من تسرّب العناصر البوليسية داخل إطارات اليسار، وإفشال تأثيرها التخريبي، والتصدّي لها بشكل جماعي موحّد.

14- ونظرا للإقصاء الكُلّي والمزمن لقوى اليسار، ولمثـقّفيها، وفنّانيها، ومناضليها، من التّلفزات والإذاعات العمومية، يصبح من حقّ أحزاب اليسار، ومناضليها، ومناصريها، أن يساهموا في خلق قناة تَلْفَزِية مُشتركة (وليس إذاعة أو جريدة مشتركة مثلما يبتغي البعض). ويُستحسن أن تكون هذه التّلفزة المشتركة على شكل ’’شركة جماعية مشتركة‘‘، أو ’’مجهولة الهويّة‘‘ (société anonyme). وبيع أَسْهُمِها لدى عموم المناضلين والمتعاطفين. ويُستحسن أن يكون مقرّ هذه القناة التّلفزية في بلد أجنبي يضمن حرّية التعبير (لضمان استمراريتها، وإفلاتها من القمع، أو المنع، أو التخريب). ومعلوم أن وسائل الاتصال الحديثة (عبر الأنترنيت) تسمح بأن تعمل هذه القناة التلفزية وكأنها موجودة داخل البلاد. ومن المعلوم أيضا أن التكنولوجيات الحديثة خفّضت أثمنة التجهيزات التـقنية اللاّزمة في هذه التّلفزة المشتركة.

21) تنتـقد الأحزاب، وهل تنتـقد نـفسك أيضا؟
◾طبعًا ! أنتـقد نـفسي في كل صباح، وفي كل مساء. (يضحك). أخطائي، أو نـقط ضعفي الشخصية، هي أكبر، وأكثر، من نـقط ضعف أحزاب اليسار. أنا أُقدّر، وأحترم المناضلين الذين يتحمّلون عناء العمل من داخل أحزاب اليسار. وأنا لا أتـعالى على أحزاب اليسار، بل أعتبر نـفسي جزءا عضويا ومتواضعا فيها. ورغم أنني لستُ حاليا عضوا في أي حزب، فإنني أشعر كمناضل بتحمّل جزء من مسئولية التدهور الذي أصاب قوى اليسار بالمغرب. ولو لم أكن أشعر شخصيا بهذه المسئولية لما فكرتُ طويلاً في موضوع نـقد أحزاب اليسار. بل أعتبر أنني ساهمتُ شخصيا في بعض الأخطاء التي انتقدتها في كلامي السابق. فأتحمّل جزءًا من مسئوليتها. وهذا النقد الحالي الذي أوجّهه إلى قوى اليسار هو في نفس الوقت نقد ذاتي لي شخصيا. إنه بمثابة نـقذ ذاتي شخصي، أو نـقد ذاتي جماعي (على الأقل بالنسبة للمناضلين الذي يوافقون إلى حد ما على هذه الانتـقادات). النّـقد هو قضية فلسفية. النّـقد هو مثل الهواء أو ”الأُوكْسِيجِين” الذي نَحْيَى يَوْمِيّا به. وبدون النّـقد الجيّد والمسئول، لا يمكن أن نتـقدّم. وإذا لم ينـفع النّـقد، فإنه لا يَضُرّ. وبدون تـعاوني وتكاملي مع المناضلين الآخرين، فسيكون وجودي بلا قيمة، وبلا فعالية.

وكون شخصية النّاقد (أنا مثلا، أو أي ناقد آخر) ناقصة، أو مُخْطئة، لاَ يبرر الرّفض المُسْبق للانتـقادات التي يطرحها هذا النّاقد. لأن صَوَاب أو إفادة نـقد مُحدّد، ليس مشروطا بكون شخصية النّاقد أو ممارسته نَمُوذَجِيّتَين. يمكن أن أكون كشخص ضعيفا، أو مُخْطِئا، أو منحرفا، لكن ضعفي الشخصي المُفترض، لا ينـفي إمكانية أن تكون انتـقاداتي، جزئيا أو كلّيا، صائبة، أو مُفيدة.

وفي حضارتنا العربية الإسلامية، نواجه دائما النّـقد بالرفض. لأننا نميل إلى الإحساس بالنّـقد كأنّه إهانة خطيرة. ونعتبره هجوما عدوانيا علينا. ولا نتحمّل عادة النّـقد إلاّ إذا كان موجّها ضد غيرنا. أما إذا كان النـقد موجها لشخصنا، أو لحلفائنا، فإننا نلفظه، أو نستهجنه. وقد يوجد تـفسير لهذه الحساسية المفرطة ضد النّـقد في كون حضارتنا الإسلامية تـخاف إلى حَدّ كبير من نـقد الدّين. بينما في الحقيقة، النّـقد هو مُساعدة ثَمين. وبدون ذهن نـقدي، سَنبقى سطحيّـين في حياتنا. وعلى العُمُوم، لا ننتـقد أعدائنا، وإنما ننتـقد أحبابنا، وأصدقائنا، ورفاقنا، وشُركائنا، ومنافسينا. وحينما ننتـقدهم، فهذا يعني أننا نريد منهم أن يَتَحسّنوا. بل مضمون النقد الجيّد هو الذي يشرح للشّخص المنتقَد ما يلزمه أن يفعل لكي يصبح أكثر إتقانًا.

لا أنتمي حاليا لأي حزب. لأنني لا أريد أن يُؤوَّل انتمائي إلى حزب يساري معيّن على أنه نفور، أو عداء، تُجاه الأحزاب اليسارية الأخرى. لكنني أساند صراحةً، وعلنيةً، كل الأحزاب التـقدّمية والثّورية. وأحترم مناضليها، وأُقَدّر تضحياتها. وإذا توحّدت أحزاب اليسار في حزب واحد، أو تعاونت بشكل جدّي، آنذاك يمكن أن أنخرط في هذا الحزب المُوحّد. وَإِلّا، فإنني أفضل حاليا عدم الانخراط في أي حزب. (يضحك).

22) من أين تأتيك هذه الانتـقادات؟
◾لا أعرف تـقريبا أي شيء عن الحياة الداخلية لأي حزب. لكن الأهم هو ملاحظة ممارسة هذه الأحزاب، من خارجها، وفي الميدان. فلا يحتاج الناقد إلى مُخبرين مُنْدَسّين داخل هذه الأحزاب. من يريد أن تكون هذه الأحزاب أكثر فعالية، يمكن أن يصبح مؤهلا لملاحظة نـقط ضعفها.

ورغم أنني أتكلّم عن أحزاب اليسار، فإنني لاَ أتناسى، ولا أنكر، أن ما أعرفه عن هذه الأحزاب، هو جزئي، أو ناقص، أو غير مرض، أو غير محايد. وبالتّالي فإنني أبذل ما في وسعي لكي أبقى متواضعا في تقييمي لأحزاب اليسار. وأظل واعيا بكون الأحكام التي أصدرها عن هذه الأحزاب تبقى هي أيضا جزئية، ومعرّضة لاحتمال المبالغة أو الخطأ. ولا يسعني سوى أن أعمل بهذه المعرفة الجزئية (لأحزاب اليسار)، مع ضرورة الحرص على تلافي كلّ استخفاف، أو تهوّر، في منهج التحليل، أو في استنتاج الأحكام.

23) هل من خاتمة ؟
◾أوّلاً، أعتذر مسبقًا إن استعملتُ في نقدي السابق والصريح بعض العبارات القاسية. لكن هدفي، وبكل صدق، ليس هو التجريح، وإنما هو الإفادة. ثانيًّا، الانتقادات التي عبّرتُ عنها سابقا هي أمثلة فقط من الانتـقادات الموجّهة إلى أحزاب اليسار بالمغرب. ويُوجد مناضلون آخرون يُوَجّهون انتـقادات أخرى إلى أحزاب اليسار. ويتكلمون عن نـقط ضعف أخرى فيها.

ولا تزول الأخطاء أو النّقائص من تلقاء نفسها. فإذا لم نُصحّحها، فإنها ستستمرّ في إنتاج الأضرار، أو الانحرافات. والمنطق السليم يستوجب، إن وُجِد ولو نـقد واحد صحيح من بين هذه الانتـقادات المذكورة سابقا، ألا يهدأ بال المناضلين المعنيين بهذا النّـقد حتى يُصَحّحُوا هذا الخطأ أو النّـقص، بشكل منهجي كامل، أو جذري. فهل هذا هو ما يفعله مجمل مناضلي أحزاب اليسار بالمغرب؟

عبد الرحمان النوضة

(حُرّر في الدار البيضاء، ونُشرت صيغته الأولى على الأنترنيت، على مدوّنة الكاتب، في 11 يونيو 2012، وخضع فيما بعد لتحسينات متوالية).

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

(1) أبرز الأحزاب الخاضعة: حزب الاستقلال، حزب الأصالة والمعاصرة، حزب التجمّع الوطني للأحرار، حزب الحركة الشعبية، حزب التقدم والاشتراكية، حزب العدالة والتنمية (إسلامي)، إلى آخره.

(2) في يناير 2016، حينما ”انتخب” إلياس العماري ككاتب عام ”لحزب الأصالة والمعاصرة”، كمرشّح وحيد، وبالتصفيق، وبالإجماع، بعث الديوان الملكي رسالة إلى إلياس العماري يشهد فيها بخصاله الحميدة. وبعد استقبال إلياس العماري من طرف الملك، صرّح إلياس للصحافة أنه تلقى من الملك «توجيهات نيّرة»!

(3) في مجال المالية، وحسب تقرير لِ «المجلس الأعلى للحسابات»، لخّصته جريدة “المساء” (العدد 2552، تاريخ 12.12.2014)، بلغت نفقات الأحزاب (الخاضعة، أو المخزنية) قرابة 192 مليون درهم، من مجموع الدّعم العمومي الذي استفادت منه الأحزاب لتمويل حملاتها الانتخابية خلال سنتي 2009 و2011 م. (وهذا الدّعم المالي يُجسّد دعما حاسما للأحزاب اليمينية على حساب الأحزاب اليسارية). وقد خصّصت الأحزاب (الملكية اليمينية) من تلك الأموال 135 مليون درهم للتّدبير، و27 مليون درهم للمؤتمرات. وحصلت خمسة أحزاب فقط على 86 في المئة من الدّعم العمومي (منها قرابة 34 % “لحزب العدالة والتنمية”، و 17 % “لحزب التجمّع الوطني للأحرار”، و 16 % “لِحزب الأصالة والمعاصرة”، و 12 % “لِحزب الاتحاد الاشتراكي”). ولم ترجع ستّة أحزاب بعض مبالغ الدّعم العمومي التي لم تنفقها، أو لم تقدّم وثائق تبرّر إنفاقها.

(4) مثلا بصدد إعلان تأسيس ”فيديرالية أحزاب اليسار بالمغرب“، في الرباط، في 24 مارس 2014، فيما بين الأحزاب الثلاثة: ”حزب الطليعة“،”حزب المؤتمر“، و”حزب الاشتراكي المُوحّد“.

(5) بعد مرور مدّة هامّة على نشر هذا النصّ، أعلنت أحزاب اليسار الثلاثة (حزب الطّليعة الديمقراطي الاشتراكي، وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي، والحزب الاشتراكي الموحّد) في 23 مارس آذار 2014، عن تأسيس ‘‘فدرالية اليسار المغربي‘‘. وصرّحت أن هذا الإطار يتجاوز التنسيق، ويقترب من الاتحاد، مع احتفاظ كلّ حزب بقوانينه وأنظمته وهياكله الخاصة.

(6) أنظر كتاب ”كيف نسقط الاستبداد“، لعبد الرحمان النوضة، على مدوّنته: http://LivresChauds.Wordpress.Com.

(7) أنظر مثلا فَصْلَ ’’ضدّ الزعيم، وضدّ الزّعاميّة‘‘، في كتاب عبد الرحمان النوضة: ’’كيف ؟ (في فنون النضال السياسي)‘‘، على الموقع الإلكتروني: (http://LivresChauds.Wordpress.Com).

(8) في شهر يونيو 2015، أي ثلاثة سنوات بعد نشر هذا النص على الأنترنيت، حدثت فعلاً (مثلما توقعه هذا النص في يونيو 2012) انسحابات جماعية (لقرابة 150 عضو ومسئول) من ”الحزب الاشتراكي الموحد“. وكان المنسحبون من بين أكثر مناضلي هذا الحزب نشاطا وحيويةً. وكان سبب هذه الانسحابات هو تعذّر، أو استحالة، معالجة خلافات سياسية عميقة، وقديمة، حول الخط السياسي المطبّق، وحول مناهج العمل الحزبي.