(البروليتاريا)الرثة..البعد الاجتماعي والسياسي للمفهوم.


ماجد الشمري
2016 / 6 / 4 - 21:02     

"اما اللمبنبروليتاريا(دون،او تحت البروليتاريا)هذا النتن المستسلم،حثالة الفئات الدنيا من المجتمع القديم،فانها قد تنجرف هنا وهناك بفعل ثورة بروليتارية،ولكنها بحكم وضعها الحياتي كله تصبح اكثر استعدادا لبيع نفسها لمكائد الرجعية"...
كارل ماركس/البيان الشيوعي..

لم تحضى البنية الطبقية والاجتماعية في البلدان المتخلفة(العالم الثالث)بقدر كاف من الدراسة المنهجية والتحليل التشخيصي وتحديد المفاهيم،والوزن الفعلي الاجتماعي لكل طبقة،او فئة اجتماعية،وبالذات الفئات الدنيا،او القعر الاجتماعي:الجماهير نصف البروليتارية..شبه البروليتارية..البروليتاريا الرثة..حثالة البروليتاريا..الغوغاء..الرعاع..الخ وكلها مفاهيم مترادفة ودالة على تلك"الكتلة الشعبية"الضخمة،والتي تطلق عليها الادبيات الماركسية بعض هذه التسميات،والمدلول واحدا في معانيه.وان كان هناك تفاوتا واختلافا بين بلد واخر،الا ان ماتتميز به هذه (الجماهير)من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية،هو مشترك وعام وشامل كبنية اجتماعية هامشية وطرفية خارج الكيان الاجتماعي للمنتجين،ولكن لها ثقلها الكبير والمؤثر..والسؤال الملح الذي يفرض نفسه،وينتظر الاجابة:ماهي الاسباب الكامنة وراء بروز وتشكل حثالة البروليتاريا بهذا الشكل الكثيف،وهذه السعة،وهذا الوضوح في بلداننا المتخلفة؟!.اي ..لماذا يفرخ الواقع الاجتماعي لهذه البلدان،فئات اجتماعية جديدة وكبيرة في حجمها-خارج الانماط الطبقية المعروفة والمشخصة-الى جانب العمال والفلاحين الفقراء والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة؟!.اي..التي تفرزها المجتمعات خلال انحلال الانماط الاقتصادية التقليدية،وكنتيجة لعملية التشرذم والتفتت الطبقي،والانتقال ،او اعادة انتاج انماط سابقة على الرأسمالية،تتعايش سوية،مع نمط الانتاج الرأسمالي( الكولونيالي-الكمبوردوري)-بحكم تبعيته للمتروبولات السابقة-فهو تابع ومشوه وهجين وغير قابل للانفلات او التطور المستقل،خارج منظومة الرأسمال المالي الكوني،الذي انتجها ويعيد انتاجها،بطفيليتها،وسمسرتها،وخدميتها،وتبعيتها الدائمة لمراكز الامبرياليةالقديمة والجديدة.ان مسألة الجذور الطبقية والانحدار الاجتماعي لهذه الكتلة من البروليتاريا الرثة،وتوسعها المستمر في بلداننا.تضع امامنا وجهات نظر في الاصول الاجتماعية لتلك المجموعات منها:انتماء تلك الفئات للاطر البروليتارية،والتي مازالت تحبو،وفي طور التشكل.والبعض الاخر يعتقد ان هذه الفئة (المليونية)"نصف بروليتارية"لان افرادها مرتبطون جزئيا بالصناعات الفتية،وبالانتاج الزراعي من جانب اخر.وهناك من يقسم هذه الفئات الى قسمين:الرعاع والمعدمين،اي انتقال المعدمين الى الطور الاعمق من بؤسهم وهو الدرك الاسفل(الرعاعية).والبعض من الباحثين الماركسيين يعتبر الشرائح السفلى في المجتمعات المتخلفة،والبروليتاريا الرثة ،هي الروافد الرئيسية لتكوين البروليتاريا الحديثة في البلدان المتخلفة.هناك اهمية منهجية لطرح المشكلة الخاصة بالمصير التاريخي لحثالة البروليتاريا خلال تطور البلدان ذات الانماط المتعددة-وهذا موضوع اخر-.ان مشكلة الفئات المعدمة تعتبر نتاجا طبيعيا وغير مباشر لتغول رأس المال العولمي،ولا يخرج عن اطار المشكلة الطبقية الاساسية وهي(صراع العمل-رأس المال)..لقد برزت مابعد المرحلة الاستعمارية،والتحرر السياسي الشكلي للمستعمرات السابقة،مجموعة كبيرة من المشكلات،مرتبطة بالتطور المشوه والممسوخ والشاذ والمصطنع لانماط اقتصادية مرقعة اشبه بالكولاج المتنافر!،ومن هذه المشاكل:ظهور مجموعة هائلة من البشر يعيشون في اوضاع اسوء بكثير من وضع البروليتاريا،مع انهم لاينتمون طبقيا ومهنيا لطبقة البروليتاريا!..يفسر المنظر الثوري فرانز فانون اسباب تشكل تلك الفئات الاجتماعية فيقول:"ان الفلاحين الذين لايملكون ارضا، والذين يطرح عليهم تزايد السكان مشكلة لاسبيل لحلها،يهجرون الريف ويفدون على المدن فيتكدسون في اكواخ الصفيح ويحاولون ان يتسربوا الى الموانيء والمدن التي اوجدتها السيطرة الاستعمارية فيكونون هناك البروليتاريا الدنيا".ان الاهتمام بمشكلة الجماهير غير البروليتارية،ينطلق من الدور الهام الذي اعطاه لينين لها،حيث يقول:"الفئات العريضة من الجماهير الكادحة،والمهيأة لعمل المعجزات في الحركة التحررية الوطنية"وفيما بعد اكتوبر اشار لينين الى ان:"اغلبية شعوب الشرق تعتبر ممثلة تقليدية لجماهير الشغيلة،وليست بروليتاريا،اجتازت مدرسة المعامل والمصانع الرأسمالية،بل منتجة صغيرة،تعرضت للاستغلال ما قبل الرأسمالي".وفي الاعوام اللاحقة(1921-1924)تحدث لينين مرارا مؤكدا:"ان الجماهير الشغيلة،وفلاحي البلدان المستعمرة،يشكلون الاحتياطي الهائل للحركة المعادية للامبريالية والرأسمالية".واكد ايضا ان:"انتصار الثورة التحررية الاجتماعية غير ممكن دون اتحاد طبقي وسياسي للبروليتاريا مع"الفئات العريضة غير البروليتارية"من ملاكين صغار،وجماهير فلاحية فقيرة،وجزء من الانتلجنسيا الوطنية".لكن الوضع ازداد تعقيدا وقتامة واحباط! بدلا من ان يبعث على الامل والتفائل!!فالتطورات التي حصلت بعد نيل (الاستقلال)لبلدان التخلف،سرعت من عملية تحطم وانهيار الاجزاء الاكثر تخلفا في الانماط الاقتصادية شبه الاقطاعية شبه الرقية من المجتمع القديم الخراجي الاستبدادي،وادت الى قيام جماهير غفيرة من الفلاحين المعدمين بالنزوح من الارياف الى المدن وخاصة العواصم-هذا ماجرى قبل وبعد ثورة تموز 58في العراق وغيره من بلدان المنطقة-،وهجر كثير من الناس لاعمالهم المهنية الاعتيادية السابقة،هذا الامر قاد الى تزايد عدد العاطلين عن العمل،والى سيل لاينقطع من المهاجرين الى المدن،وتعاظم مشكلة البؤس والفقر والبطالة الى حدود قصوى،فقد تحولت الارياف الى مناخل لترسيب مختلف انواع السكان نصف المنسلخين طبقيا وبيئيا،وهؤلاء هم الاصناف المختلفة من ممثلي"جيش العمل الاحتياطي الزائد"!والذين يمكن تسميتهم"نصف"و"شبه"المشتغلين،وباتت حياة البؤس بالنسبة اليهم كنمط عيش بحق،او القاعدة العامة في المعيشة.
والفئات الاجتماعية التي يطلق عليها"حثالات"المدن-بالمعنى التحليلي الاجتماعي،لابالمعنى الاخلاقي السلبي الاحتقاري-مثل:المتشردين،المتسولين،الصعاليك،المقامرين الصغار،باعة اليانصيب،باعة الارصفة والاكشاك والعربات الصغيرة،سماسرة بيوت الدعارة والمومسات،العصابات الاجرامية،الارهابيين،المليشيات،اهل الخاوات من شقاوات وبلطجية،والمبتزين ،والمحتالين،والمجرمين،اي كل العناصر والشرائح المتفسخة والمنحلة اجتماعيا وطبقيا وخارج دائرة الانتاج.هؤلاء هم من يحصلون على ادنى مستوى معيشي في افقر مدن العالم المتخلف والمتقدم ايضا!-وان اصبح لبعض شرائحهم سلطة ونفوذ في عراقنا الجريح بعد زرع مافيا الاسلام السياسي في الحكم من قبل الولايات المتحدة خدمة لمصالحها!-.ومن الناحية الطبقية،فأن ازدياد حجم العاطلين عن العمل،والمحرومين،والجياع والمفلسين والمتسكعين طوال يومهم في الارياف والمدن،يشمل مختلف الفئات الاجتماعية في مختلف مراحل الانحلال والتفسخ الاجتماعي،كما ان تشتت الجماعات الطبقية الاساسية للفلاحين وسكان المدن،لايتجسد في ظهور فئات طبقية"صافية"بقدر ما يتجلى بكثرة الفئات الطبقية الانتقالية والمتشظية والهابطة لحضيض الفقر المدقع..ان تكاثر عدد الناس المعدمين والرعاع والجياع"حثالة البروليتاريا او البروليتاريا الرثة"لايحصل فقط نتيجة الظروف الاقتصادية المتخلفة والسيئة البحتة،بل هناك اسباب وعوامل اخرى كثيرة تفاقم من حدة ازمة الازدياد الانفجاري لهؤلاء مثل:الحروب الطائفية والدينية،الانشقاقات والشوفينيات العرقية والقومية وحروب الابادة الجماعية للاقليات،الاحتلال وتدميره للبنى التحتية ونهب الثروات،النزاعات والصراعات الاقليمية والدولية الخ.-هذه البانوراما المأساوية حاضرة بوضوح في الدراما السياسية العراقية الحالية!-.فالكل يتذكر مأساة الملايين من اللاجئين والمحرومين والجياع من الهنود اثناء تقسيم الهند البريطانية الى الهند وباكستان،والصراع الذي دار لتأسيس بنغلادش،وكذلك اجبار اكثر من مليوني فلسطيني للنزوح عن الاراضي الفلسطينية بسبب الاحتلال الاسرائيلي،ولازال الكثير من هؤلاء يعيشون في مخيمات البؤس وفي ظروف اقتصادية واجتماعية غير انسانية ولاتطاق حتى الان،والحرب الاهلية اللبنانية،والاجتياح الاسرائيلي للبنان،والذي شرد الالاف من المواطنين،وتركوا لمصيرهم المجهول،واخيرا ماجرى في بلدنا المستباح والممزق(العراق) قبل وبعد الاحتلال من مأسي وقتل وخراب ولازال متصلا وبلا انقطاع.كل هذه الاحداث والظواهر والموجات ترفد مباشرة فئات حثالة البروليتاريا في كل مكان..يؤكد اغلب الباحثين في سسيولوجيا البلدان معدومة التنمية والنمو الاقتصادي(المتخلفة):ان التفسير لاوضاع الفئات الهامشية في تلك البلدان،يجب ان ينطلق من دراسة ومعاينة الخصائص التي تتميز بها رأسماليتها،ومدى اقتراب او ابتعاد برجوازياتها من قطاعات الانتاج،حيث يلاحظ نشوب ازمات اجتماعية تعود بالدرجة الاولى للطابع السكوني والمتهالك للبنية المتعددة الانماط،والنظام الاقتصادي الريعي الاستهلاكي،ورأسماليتها الكمبرادورية الطفيلية،واستمرار تبعيتها البنيوية للنظام الرسمالي المالي الكوني.وجواب سؤال من اي الطبقات ينحدر المعدمون؟!ولماذا تستمر هذه الفئة الاجتماعية الجبارة بالتنامي والتكاثر في وقتنا هذا؟!.ان القسم الرئيسي الذي يتدفق منه المعدمين هو من الانماط التقليدية المنهارة والمضمحلة من الاقتصادات ماقبل الرأسمالية،ومن الانماط البضائعية الصغيرة والاقتصاد الخدمي،والمتحركة صعودا وهبوطا بصورة دائمة، وتبعا للازمات الرأسمالية الدورية.ومن الاشكال الاخرى،تنفصل"الحثالات"الاجتماعية،فتنشق،وتتشرذم،وتتفتت شرائح اجتماعية جديدة منسلخة من طبقات وفئات اجتماعية لها ملامح وسمات وانتماءات طبقية متباينة ومختلفة،تعكس ولو بصورة مشوهة وقميئة وضيقة،سمات وملامح جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية المتواجدة داخل المجتمع المعني.لذا ليس من الصعب ان نجد بين هؤلاء:حثالة البروليتاريا،وحثالة البرجوازية الصغيرة ،وحثالة الانتليجنسيا،وحثالة الحرفيين،وحثالة الفلاحين الفقراء،وحتى نستطيع ان نظم الى هذه القائمة حثالة السياسين الذين يحكمون بلااخلاقيات ورذائل وانانيات تلك الشراذم!!.ان اهم ماتتميز به ظاهرة التشرذم الطبقي هو ديمومتها النسبية،لدرجة انها تؤدي في نهاية المطاف الى تشكل فئة سكانية متجذرة وواضحة للعيان في تلك المجتمعات..
لقد تكونت للرعاع ايديولوجيتهم الخاصة،وبات لهم ممثلين كزعماء وقادة،لمجموعة من التنظيمات الرعاعية الصلبة جدا:ميليشيات"دينية وطائفية وعرقية وعشائرية ومناطقية"ومجموعات ارهابية مسلحة تستخدم الدينوية كغطاء لعملياتها الاجرامية ضد المجتمع، -كداعش وبقية التلاوين الارهابية!-فجزءا من هذه التنظيمات،وحسب تركيبها وطابع نشاطها،اقرب للجمعيات السرية والباطنية،وهي تلتزم"بقوانين"سلوكية خاصة بأفرادها.هذه التشكيلات عبارة عن عصابات،ومجموعات لصوصية،بعضها يتستر بالدين والطائفة والمذهب،وفي بعض الاحيان تشارك بالحياة السياسية،وتفرض ارادتها وان بشكل غير رسمي..ولكن تبقى شرائح المعدمين بكتلتها الاكبر مرتبطة بعراها التقليدية(القبلية،والدينية،والطائفية،والعرقية،والمناطقية)والتي تلعب دورا هاما للغاية.فبدون تلك الصلات يصعب على تلك الفئات الصمود والاستمرار في الحياة،فتلك العناصر تضطر احيانا لاتباع سلوك طفيلي في توفير معاشها،وعلى حساب الجماعات التقليدية:"كالاقارب،والعشيرة،والطائفة"ومن خلال المناسبات الاجتماعية والدينية من:زواج وموت واعياد واحتفالات دينية ومناسبات الزيارات للائمة والاولياء وغيرها حيث يتوفر الطعام والشراب بسخاء ولاسابيع ودون توقف.ومن هذا النسغ المستمرتعيد انتاج نفسها وديمومتها!..تبدو وضعية البروليتاريا الرثة سيئة للغاية في بلدان التخلف والفقر،وهي تجتذب المزيد وبأستمرار لافواجا جديدة من الفئات الفقيرة جدا بالدرجة الاولى،حيث فقدت كل شيء حتى الامل الانساني في الخلاص من وضعها الشديد البؤس،ولانحدارهم وانسلاخهم من عدة طبقات ،فهم ليسوا ولا يشكلون طبقة بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي.وسرعان ماتتحول هذه الخصائص الاجتماعية والنفسية الى طابع ثابت وسمة خاصة تنتقل الى جحافل المسحوقين الجدد،وكأنها متوارثة وصفة يمررونها لاجيالهم الناشئة.ان اهم ماتتميز به هذه الفئات وبشكل عام هو:الامية،والاهمال واللامبالاة من ناحية الصحة والنظافة،والتشرد الدائم،والخضوع للواقع المزري،واستباحة الاخلاقيات والقيم ،وهذا مايشكل صيدا سهلا لبعض التنظيمات السياسية لاستغلالهم وتجنيدهم كقواعد اجتماعية مشحونه ومعبأة للتحول الى قوة ضاربة،فتجيشهم خدمة لاغراضها السياسية الحقيرة في بعض التحركات والمواقف،ولنوع من استعراض القوة مع الثورة او ضدها،وحسب الاتجاهات السياسية لمن يقف خلفهم،وهذا ماجرى في التاريخ المعاصر فقد استعملتهم الفاشية الايطالية لضرب الحركة العمالية اليسارية،ووظفهم النازيون ايضا في سحق الحركة العمالية الماركسية في المانيا،واستخدمهم فرانكو في اسبانيا لضرب الجمهورية،وايضا ماحدث لدينا في العراق في انقلاب شباط63 الفاشي،فقد جندهم الانقلابيون الفاشست في حملات صيد ومطاردة الشيوعين والديمقراطيين والوطنيين ومارسوا ابشع اساليب التعذيب والقتل..هذا السيل المتدفق من :المتسولين والعاطلين والمفلسين والجياع والمهجرين والنازحين في الداخل والخارج،في المناطق الرئيسية من المدن،تؤثر جدا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية لتلك البلدان.ان هذه الظاهرة الاجتماعية والسياسية الكارثية،تفرض على القوى السياسية اليسارية والديمقراطية الاقتناع الكامل بأن اي نموذج غير اشتراكي للتطور الاجتماعي والاقتصادي،عبث،وذو افق مسدود،ولن يحل مشاكل هذه البلدان المتفاقمة بشكل جذري وفاعل،ومهما تكن شعاراته وطروحاته العقيمة،فكل النماذج غير مؤهلة ولا تصلح لتوفير حلولا ناجعة لمشاكل معقدة وعصية على الحل وباهضة التكاليف وستكون مفرخا لمزيد من البؤس اذا لم تتدارك من الآن،فالمشاريع الرأسمالية واقتصاد السوق التابع في البلدان المتخلفة تظل في جوهرها وفي الواقع قاصرة وضعيفة في مردودها اجتماعيا واقتصاديا.فالجيوش المتلاطمة من المسحوقين والمهجرين والعاطلين والارامل والايتام،من ساكني الصرائف والاكواخ وبيوت الصفيح والعشوائيات التي تطوق المدن وتنتصب داخلها،وتتغلغل في مدننا،وتملأ شوارعها بباعة الاكشاك والارصفة،والمتسولين الذين يجوبون كل المناطق وعلى مدار اليوم،وماسحي الاحذية والنشالون والمتسكعون،ليست هذه النماذج نتيجة لتدهور وانحلال القطاعات الانتاجية التقليدية والفتية فقط،بل هي ثمرة مباشرة لادخال النمط الرأسمالي التابع والطفيلي بصورته العاجزة والمشوهة الى الحياة الاقتصادية في العالم الثالث.والسبب الرئيسي لظاهرة المعدمين والرعاع،هو فترات الحكم الديكتاتوري القمعي على الشعوب مابعد المرحلة الكولونيالية،وكذلك المستوى المتدني لقوى وعلاقات الانتاج المحلية،والانفجار السكاني المتنامي للقادرين على العمل،والذي يتجاوز الامكانيات المتوفرة،للاستيعاب المخطط لهذا الكم الهائل من السواعد والافواه،فما يتم استيعابه من القوى العاملة لايتجاوز2% من مجموع الباحثين عن عمل .وفي بلدنا حيث لازراعة ولا صناعة ولا خدمات،والاقتصاد ريعيا والكل عالة على النفط اي مستقبل لهؤلاء؟!.ان التزايد الهاءل لحثالة البروليتاريا يصبح واحدا من اخطر المشاكل الاجتماعية-الاقتصادية،والتي تحتاج لمعالجات وحلول سريعة وجذرية وشاملة من خلال التخطيط والتنمية ووضع البرامج الاستثمارية الفعالة.فخطورة هذه الظاهرة الاجتماعية تنبثق من حيث ان الجياع والمعدمين الذين يشكلون القطاع الاجتماعي الاسفل في المجتمع مؤهلون موضوعيا(كما وصفهم ماركس في حينه)للقيام"بأحط الاعمال اللصوصية وبأقذر انواع الانحلال الخلقي".وحين درس لينين ظاهرة الرعاع والمعدمين انطلاقا من الواقع الروسي عشية الثورة،اكد ان النفسية الاجتماعية لهذه الفئات تتسم"بالتذبذب الطفيلي وعدم الكفاءة لخوض النضال"وقد وصف لينين المتشردين:"بأنهم الفئة الاجتماعية المعادية للبرجوازية وللموظفين الرجعيين وفي نفس الوقت للسلطة العمالية".وقد ذكر لينين مرارا ان البروليتاريا الرثة تتكون اساسا من الفئات الاجتماعية التي انحدرت الى الدرك الاسفل للبنية الاجتماعية خلال عملية التطور الرأسمالي.ولقد اثبتت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث صحة هذا التحليل ودقته خاصة في:الهند الصينية،وفي اندونوسيا،وفي الشرق العربي،وفي افريقيا الاستوائية،وفي غيرها من بلدان.وتقتضي الحقيقة العلمية ان لانسبغ بعض القيم العاطفية الرفيعة على فئات حثالة البروليتاريا بشكل مطلق!وان نتذكر ان الظروف القاسية جدا اجبرت الكثير من المعدمين والرعاع للاندماج والعمل في زمر مسلحة وغيرها من التجمعات اللصوصية والاجرامية وتجار السوق السوداء وتهريب المخدرات والممنوعات(المافيات وشبكات الدعارة وتجارة الرقيق الابيض،مشكلين بصورة او باخرى اليد القوية الضاربة والعيون السرية العميلة للسلطات الفاشية والرجعية والديكتاتورية:فقد تم استخدامهم كما ذكرت من قبل الفاشيون في انقلاب شباط الاسود63 كمعذبين وقتلة لابناء الشعب العراقي الاحرار،واستخدموا وعلى نطاق واسع من قبل الثورة المضادة للعسكر الفاشيون في اندنوسيا ايلول1965 حيث اظهر الكثير من المتشردين والرعاع في عالم الجريمة المنظمة قسوة وعنفا لامثيل له اثناء عمليات النهب والحرائق وسفك الدماء والذي تعرض له الحزب الشيوعي الاندونوسي ،وقد اكدت احداث اندونوسيا المأسوية والتي راح ضحيتها مئات الالاف من الشيوعين،صحة التقيمات الماركسية للعناصر والجماعات الرعاعيةواللومبنبروليتاريا في العالم المتخلف..
ومن هنا يمكن القول،انه في ظروف معينة قد يصبح الرعاع،وبشكل خاص الممثلون لعالم الجريمة والعنف(من لصوص وعصابات ومليشيات قتل مسلحة ومهربين وتجار ممنوعات ورقيق ابيض وبغايا..الخ)المنبوذون اجتماعيا وقيميا،والذين هم خارج مجالات الانتاج المادي والعمل،والمنخرطون في المليشيات والزمر المافيوية المسلحة،والتي تثير الرعب والخوف داخل المجتمع المدني،وناشرين فعليين لكل الافكار والمفاهيم والخرافات الدينية الاصولية المتطرفة والارهابية والتخريبية المدمرة للمجتمعات.ونتيجة لدروس التجربة الحية،والماثلة للعيان في عراقنا الجريح،قد تصبح جماعات حثالة البروليتاريا في مدن العالم الثالث اداة خطيرة في ايدي القوى الرجعية الظلامية والمرتبطة اقليميا ودوليا بمراكز الامبريالية المتسيدة والمهيمنة على الشعوب،وهذا ما نلاحظه في مجتمعنا المحلي بالشكل الاكثر وضوحا...فالتشرذم الطبقي يؤدي عموما الى نبذ المعايير والقيم الاجتماعية والتعايش الاجتماعي المسالم،حيث تتميز الفئات الرعاعية بوضعية الانتقاد الفوضوي السلبي،وعدم الرضا واللامبالاة والانانية الفجة والحدية والعاطفية الملتهبة الجهول،والممارسات الاجرامية والاخلاقية المتهتكة،وروح العداء لقيم الديمقراطية والحرية،والانحطاط الغرائزي المتسفل،والنظرة الى المثل والقيم السامية بسخرية وتهكم واستهانة وتسفيه،واعتبارها خداعا وضحكا على الذقون وسذاجة مغفلين،وفي هذه الاوساط،تظهر انواعا من السلوكيات السلبية على شكل مباديء(اخلاقية)!جديدة لحثالة البروليتاريا في المجتمعات السائرة في طريق التطور الرأسمالي واقتصاد السوق والتابع لأملاءات صندوق النقد والبنك الدولي ومراكز الرأسمال المالي تحديدا..هذه الظاهرة الشائكة والصورة البالغة التعقيد،والتي تواجه الباحث في الشأن السسيولوجي،من تداخل وتنافذ بين التشتت الاجتماعي والسايكولوجي والطبقي والسياسي في نفس الآن!!..فالتفتت والانسلاخ الطبقي طويل الامد يؤدي في النهاية الى عواقب وخيمة بالنسبة للجوانب الثقافية والاديولوجية والسيكولوجية لتلك الشرائح المتضخمة من الهامشيين ولعموم المجتمع ككل،وتشكل عبئا ثقيلا على المجتمع ذو الانماط المتعددة البالغة التخلف والتبعية.ويمكن القول بالنسبة للفئات خارج الطبقات وخارج مجال الانتاج،فان المفاهيم وقوانين التطور الاجتماعي المعروفة،تقف عاجزة ومشلولة عن المعالجة،ويبطل مفعولها،وتحتاج لرؤى ومعالجات حديثة تستوعب مشاكل بهذه الحدة وهذ الالتهاب المستشري..اذا..قد تتحول طاقات هذه الشراذم اللاطبقية الى قوة سلبية مدمرة،وتزعزع هذة القوة"المتمردة" التنظيمات السياسية والاجتماعية في العالم المتخلف،حيث يندس فيها حملة لواء الفوضوية-بالمعنى الغوغاغي-والمعاداة المطلقة لكل القيم الاجتماعية المالوفة من تعايش وتسامح وتقبل للمختلف،بل وللنظام السياسي القائم بالذات.وهذا يعني انه قد تتحول هذه الكتلة البشرية الهائلة والغير منضبطة في لحظة سياسية معينة الى عبوة ناسفة تفجر المدن بأكملها والدولة معا.ويعقد هذا (الطوفان) الكاسح للفقراء والمعدمين والمتسولين والجياع عملية بناء المجتمع الحديث والمزدهر،الامر الذي قد تستغله-بل هي تستغله فعلا-!!بصورة خطرة الطبقات والفئات الرجعية من اسلام سياسي ونيولبرالي والقوة المحافظة من كهنوت وفقهاء معادين للتقدم،والمتسترين خلف واجهات وشعارات دينية وشعبوية وطائفية واثنية،وغيرها من عوامل تساعد وقابلة للاشتعال!!ان هذه الفئات ورغم عوزها الشديد وقربها من الطبقة العاملة،الا انها ليست مضمونة في ولائها او وقوفها مع اليسار او الثورة او الهبات الجماهيرية المطلبية والسياسية،لان اوضاعها البائسة جدا وعدم امتلاكها الحد الادنى من الوعي،يجعلها اقل صبرا واضعف قدرة على التماسك والمقاومة لاغراءات القوى الرجعية والظلامية الدينية،والبرجوازية السياسية الحاكمة والمتسلطة،وان تشرذمها وتفتتها وضياعها يسمحان بتعبئتها سياسيا وايديولوجيا وبصورة سهلة،قياسا على الطبقات الاجتماعية المتماسكة واضحة الاهداف والمصالح.لهذا يقول انجلز:"ان الناس الشغيلة من هذه الفئات لايستطيعون ان يشكلوا النواة الحقيقية لحركة ضخمة على نطاق قومي شامل ولكن اثناء تفاقم الازمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية،تصبح هذه الفئات اكثر تقبلا للاراء الاشتراكية،من سكان المدن الكبرى".كما ان الخبرات المتراكمة من الصراع الطبقي في مجتمعات الشرق الاوسط وافريقيا،تسمح لنا بالقول:ان استيعاب افكار الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والتحرر من قبل الجماهير شبه البروليتارية،مرتبط مباشرة بمدى حجم ونوعية اهتمام الاحزاب والقوى اليسارية والماركسية الثورية بها.وان التحالف مابين البرجوازية الصغيرة والجماهير غير البروليتارية والفئات الوسطى والفلاحين الفقراء يشكل بلا شك السد المنيع امام هجمة القوى السوداء الرجعية والمحافظة من اسلام سياسي والنيو ليبراليون المعادون لاي اتجاه او فكر ديمقراطي او علماني او يساري او اشتراكي فعلا في البلدان المتخلفة..في الختام لابد من القول بأن خلف البروليتاريا الوطنية الفتية والتي لازالت في طور التكوين والتشكل الطبقي تقف جماهير واسعة من الفئات نصف البروليتارية وجماهير الرعاع التي تهبط في مستواها الاقتصادي الى الحضيض والدرك الاسفل من السلم الاجتماعي للبنية الطبقية متعددة الانماط،والتي تشكل رغم كل سلبياتها رافدا رئيسيا ومهما لبروليتاريا العالم الثالث،ووسطا ملائما للتعبئة والتنظيم لشتى التنظيمات والحركات السياسية والاجتماعية وخصوصا الحركات العمالية الماركسية الثورية..ان حثالة البروليتاريا تشكل حقا اخطر عبوات الانفجار السياسي والاجتماعي المصاحبة للحركات الاجتماعية العنيفة والتي قد توجه باتجاهات سياسية متعاكسة ومتناقضة بين فترة واخرى تبعا للظروف الموضوعية المحيطة،ولطبيعة ووزن العوامل الذاتية للقوى السياسية اللاعبة في الحقل الاجتماعي لتلك البلدان،كما يجدر القول ان نجاح التحولات بأتجاه العلمانية واليمقراطية والدولة المدنية،وسيادة القانون والمؤسسات والتنمية الشاملة والمستدامة في جميع القطاعات،مرهون بمدى عمق التحالف الجماهيري اليساري الواسع الديمقراطي والطبقي والاجتماعي بين الطبقات الكادحة:من عمال وفلاحين وفئات اجتماعية وسطى وجماهير المعدمين والرعاع بقيادة القوى والتنظيمات الماركسية الثورية واليسارية والعمالية النقابية ودعاة اليمقراطية والعلمانية والتحديث المجتمعي بطبيعة الحال.والا فليس هناك من مستقبل خلاف ذلك سوى الخروج من التاريخ،والانضمام للاثنيات البدائية كمادة للدراسة والفولكلور!!!!..
...................................................................................................................................................................
وعلى الاخاء نلتقي...