بنية التخلف والاستبداد حاضنة وحيدة لحركات الاسلام السياسي


غازي الصوراني
2016 / 5 / 25 - 16:48     


ان سرعة نمو وانتشار الجماعات والحركات الإسلاموية في بلادنا منذ ثلاثينات القرن الماضي ، وتفاقم ذلك الانتشار والنمو في اطار تفجر الصراعات الطائفية الدموية بصور بشعة غير مسبوقة، لم يكن ممكناً ان يتم بالاعتماد فقط على الجوانب الدينية أو المذهبية كما وردت لدى ابن تيمية وابن القيم الجوزية والحركة الوهابية والمودودي وسيد قطب .. إلخ، وكلها مذاهب وأفكار دينية معروفة في مجتمع عربي متدين، وبالتالي فإن ذلك الانتشار الواسع لم يكن ممكناً تحقيقه أبداً لولا تفاقم مظاهرالاستبداد والاستغلال والتبعية واعادة انتاج التخلف وتجدده في البنية الاجتماعية العربية عموما والانظمة الحاكمة فيها خصوصا، الى جانب التخطيط والدعم المالي والعسكري والاعلامي من النظام الإمبريالي، انطلاقاً من المصالح المشتركة بينهما، على الرغم من كل ما يتبدى على السطح من تناقضات شكلية أو مدروسة أو مبرمجة، كما كان الحال مع القاعدة ، وكما هو الحال اليوم مع "داعش" وهي تناقضات أو تعارضات شكلية لا تلغي مطلقاً تبعية الحركات الإسلاموية للنظام الإمبريالي وخدمتها لمصالحه الآنية والمستقبلية في بلادنا.
نستنتج مما تقدم، أن الدوافع، أو بالأحرى الذرائع الدينية التي تزعم الحركات والجماعات الإسلاموية، أنها هي السبب الوحيد أو الرئيسي وراء توسعها العددي الهائل من العرب والأجانب، ووراء ارتكابها للصراع الدموي البشع وأعمالها الارهابية ، ليس أكثر من تزييف للحقائق من جهة ، وتكريس للمصالح الطبقية الأنانية للشرائح الطبقية الحاكمة في الأنظمة في إطار تزايد هيمنة الكمبرادور ورأسمالية المحاسيب البيروقراطية والمالية والعقارية ذات الطابع الطفيلي من جهة ثانية.
في هذا الجانب أشير إلى أنَّ تراجع الأوضاع الداخلية العربية، وتبعية وتخلف أنظمتها، وتزايد استبدادها وانحطاطها وخضوعها، كان ومازال هو السبب الرئيسي للتدخل الخارجي، ومن ثم تكريس سيطرة النظام الإمبريالي المعولم على مقدرات شعوبنا (خاصة النفط) ، وتخطيطه ودعمه للحركات الرجعية الإسلامية، (بدءاً من الإخوان المسلمين مروراً بالجماعات التكفيرية والقاعدة، وصولاً إلى "النصرة" و "داعش" وغيرهما) بهدف استمرار احتجاز تطور مجتمعاتنا واخضاعها لمقتضياته لأهدافه ومخططاته ومصالحه وشروطه، بالتعاون الكامل مع دولة العدو الصهيوني التي تأسست لهذا الغرض من جهة ثانية. بحيث بات مشهد الانحطاط المجتمعي السياسي العربي اليوم محكوماً لمحددين رئيسيين الهيمنة الإمبريالية الأمريكية الغربية على وجه الخصوص من جهة ، والأنظمة وجيوشها من ناحية وحركات الإسلام السياسي من ناحية ثانية.
وهنا ، فإن من المفيد أن نستذكر ونستعيد – بالمعنى الموضوعي- التفسير الذي يقدمه المفكر الإسلامي العقلاني المستنير الراحل جمال البنا، عن أسباب الانحطاط العربي الإسلامي؛ فهو أيضاً مبتكر ويستحق الإعجاب. يقول : نحن نعيش نوعا من الردة بالقياس إلى ما كانت عليه مصر والعالم العربي في الأربعينيات من القرن الماضي؛ ففي تلك المرحلة الليبرالية الحرة كان يمكن لمفكر كإسماعيل أدهم أن ينشر كتابا بعنوان: "لماذا أنا ملحد"؟ دون أن يتصدى له أحد بالمصادرة أو المحاكمة أو التفريق بينه وبين زوجته، كما فعلوا مع نصر حامد أبي زيد.. فقط رد عليه مؤلف آخر بكتاب عنوانه: "لماذا أنا مسلم"؟ وانتهى الأمر. وهذه هي المناقشة الحرة الديمقراطية، هذا هو السجال الحضاري الذي يؤدي إلى سقوط الباطل وانتصار الحق وتوضح الأشياء والإشكاليات.
وحول سبب هذه الردة الفكرية التي نعيشها حالياً، يقول جمال البنا: "إن سببها هو تحول رجال الدين إلى أوصياء على الدين" .
فالحديث عن دور الأفكار الدينية التقليدية، الموجودة في مجتمعاتنا منذ ألف وأربعمائة عام، أو الحديث عن قوة الحمية الدينية ، والحماس لإقامة شيء اسمه "الخلافة الإسلامية"، لا يمكن أن يكون مبرراً أو دافعاً حقيقياً – كما يقول جلال امين- وراء ذلك التوسع والانتشار والممارسات الدموية البشعة لحركات الإسلام السياسي المتطرفة ، التي لم تقتصر على المسلمين السُّنة فحسب، بل أيضاً انتشرت في السنوات الأخيرة في أوساط المسلمين الشيعة في العراق حيث تم تأسيس عدد من المنظمات من أهمها ما يسمى بـ"الحشد الشعبي" وهو تنظيم حكومي ، وما يسمى بـ"كتائب الإمام علي" التي يبدو أنها تمارس عمليات القتل والتعذيب ضد خصومها من السُّنة بنفس الأساليب البشعة التي مارسها ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" .
وبالتالي فإن مزاعم وشعارات الحركات الإسلاموية المتطرفة (من السُّنة والشيعة) "لا يمكن أن يقبلها العقل، خاصة شعارات السُّنة حول مفهوم الخلافة ، إذ ما هي هذه "الخلافة الإسلامية" بالضبط التي يراد إقامتها؟ ما هو شكلها ومبادئها التي يمكن أن تتعايش مع العالم الحديث في عصر العولمة؟ ولماذا لم يحاول احد من هؤلاء الدعاة نشر أفكارهم العبقرية على أوسع نطاق مثلما فعلوا في نشر صور جرائمهم وضحاياهم؟ لماذا تزامن ظهور حركة "داعش" مع قيام حركات ما يسمى بـ"الربيع العربي"؟ وهل وجد دعاة "داعش" الوقت ملائماً لتحقيق مبادئهم وقبول الناس بدعوتهم بعد الحالة الثورية في تونس ومصر أكثر مما كانوا قبلها؟
على أي حال، إن الإجابة على هذه الأسئلة، تعود إلى منشأ حركة داعش، الذي لا يختلف عن منشأ القاعدة ودورها الخطير والمشبوه في نقل الصراع على أرض أفغانستان وإبعاده كلياً عن الصراع مع العدو الصهيوني، وبالتالي بات من الواضح أن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن وما نُسب إليه لم يكن سوى أكذوبة كبرى ، لا علاقة لها بالإسلام أو بشعاره الديماغوجي الذي أعلن فيه "أنه يقاتل العدو البعيد"!!!
ذلك إن أحزاب وحركات الإسلام السياسي "المعتدلة" و"المتطرفة" لا تختلف– في رأينا- من حيث جوهر الهدف الذي تسعي إلى إنجازه، بل فقط في وسائل تحقيقه، وبالتالي فإن الطرفين يتكاملان أكثر من كونهما يتناقضان، وهنا تتبدى الحاجة الموضوعية لإعادة صياغة المشروع النهضوي القومي التقدمي الديمقراطي العربي.
والسؤال الآن : كيف وصل العرب في المرحلة المعاصرة إلى هذه الحال من الانحطاط، وأين يكمن الخلل؟ ، وجوابنا انه يكمن في طبيعة التطور الاجتماعي الاقتصادي التاريخي المشوه والمتخلف، وخصوصاً في مرحلة الانفتاح والبترودولار، التي وفرت المناخ الملائم لإعادة تجديد وانتاج الفرضيات والحركات السلفية الغيبية، تمهيدا لهيمنتها على صعيد الفكر والمجتمع العربي، انسجاما مع تزايد تبعية وتخلف ومن ثم ارتهان المجتمعات العربية للنظام الإمبريالي، بما أدى إلى ازاحة المعرفة العقلانية والسلوك الديمقراطي لحساب التخلف والافكار الرجعية السلفية ، التي كانت - وما زالت - تشكل عقبةً في وجه تفتح الرؤية العقلانية التنويرية العربية، وأبقت الأوضاع العربية أسيرة لمناخ التخلف ومظاهره، التي تتبدى في أن " العقل السياسي العربي محكوم في ماضيه وحاضره – كما يقول المفكر الراحل محمدالجابري – " بمحددات ثلاثة هي : القبيلة والغنيمة والعقيدة ، أي بعلاقات سياسية معينة تتمثل في القبيلة ، وفي نمط إنتاجي معين هو النمط الربوي ، الذي يرمز إليه بالغنيمة (الدخل غير الإنتاجي) ، وسيادة العقيدة الدينية ، ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق متطلبات النهضة والتقدم بغير نفي هذه المحددات الثلاثة نفياً تاريخياً وإحلال بدائل أخرى معاصرة لها . ولهذا يقول المفكر الراحل محمود العالم " إن قضية تجديد العقل السياسي العربي اليوم مطالبة بأن ، تحول " القبيلة " في مجتمعنا إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي ، وتحول " الغنيمة "أو الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي، يمهد لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية، كفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة ، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي ، أي التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوجمائي ، دينياً كان أو علمانياً ، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي"، ما يستدعي من المثقف العربي في مجابهة هذا التمدد الرجعي السلفي غير المسبوق، التأمل والتفكير والنضال الديمقراطي ضد الاستبداد والاستغلال ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة، صاعداً وثوريا وديمقراطيا بلا حدود أو ضوابط، بعد أن أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع .
في ضوء ما تقدم ، أعتقد أنه بات من الواضح أن حركات الإسلام السياسي وكافة القوى الرجعية والبورجوازية الرثة (المدعومة من الإمبريالية الأمريكية) يتحركون في بلادنا داخل حلقة دائرية تعيد انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتجدده، في محاولة منهم للتهرب من تحدي الحداثة والنهضة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الثورية والتقدم بالعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية إعادة زراعته وإنتاجه باسم وأوهام ما يسمى بـــــــــ" الربيع العربي" عبر شكل "جديد" من أنظمة الاستبداد والتبعية والعمالة والتخلف والاستغلال الطبقي ، في قلب عفوية الجماهير الشعبية، ما يؤكد على أن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، عبر منطق تراجعي، من خلال الدعوة للعودة، بحسب ادعاء هذه الحركات، إلى الماضي بذريعة العودة إلى أصول الإيمان والاعتقاد، بعيداً عن أي شكل من أشكال الحوار أو الإختلاف في الرأي، بل تقوم بمحاولة فرض رؤاها السلفية الماضوية بوسائل دموية من خلال الذبح والقتل العشوائي والتعذيب البشع، كوسائل إكراهية إرهابية تتوهم الجماعات الإسلاموية عموماً، وداعش خصوصاً، خضوع الجماهير واقتناعها بشعار الإسلام السياسي.
وفي كل الأحوال ، يبدو أن أنظمة الاستبداد العربية عموماً وأنظمة البترودولار الرجعية العميلة خصوصا في قطر والخليج والسعودية، إلى جانب ضعف تأثير وهشاشة القوى الديمقراطية اليسارية ..مهد الطريق –كما أشرت من قبل- إلى انتشار حركات الإسلام السياسي وحركة "داعش" على وجه الخصوص، عبر استغلال بساطة وعي الجماهير وعفويتها ...الأمر الذي أدى إلى تعزيز وتعميق اوضاع التخلف الاجتماعي في كل البلدان العربية ،وتزايد الهيمنة الإمبريالية والصهيونية والكومبرادورية على مقدرات شعوبنا التي ستكتشف –طال الوقت أم قصُر- طبيعة حركات الإسلام السياسي وزيف برامجها وعدم تناقضها مع السياسات الرجعية والامريكية، ودورها النقيض للمصالح والاهداف التي تجسد تطلعات الجماهير الشعبية، ولكل أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية (أو الشعبية) بآفاقها الاشتراكية في كل بلد عربي، تلك الأهداف تشكل بالنسبة لكل القوى اليسارية الديمقراطية في فلسطين والوطن العربي، أحد أهم المنطلقات الاستراتيجية الثورية لنضالنا الوطني والتحرري الديمقراطي في هذه المرحلة.