مسارات المقاومة حول عمل النساء‬

برناديت ضو
2017 / 2 / 26 - 11:05     

‫تتعامل معظم الأحزاب الشيوعية مع العمل بمفهومه التقليدي القائم على قوة العمل الذي يُقابله أجر. يعتمد هذا التعريف على نظرة اقتصادوية للعمل على أنه سلعة متداولة في سوق العمل. لا يأخذ هذا التعريف بعين الاعتبار العمل من دون أجر، أو المجاني وهو العمل الذي تقوم به النساء، مثل العمل المنزلي، أو الانتاج الاجتماعي، والعمل لدى المؤسسة العائلية والعمل الزراعي. فتقوم النساء بالعمل مجانا لمصلحة العائلة، وهي من الركائز الأساسية لبناء المجتمع الرأسمالي. إن قمع النساء والقسمة الجندرية للعمل هي إذاً من وسائل الانتاج الرأسمالي التي تهدف إلى مراكمة وتحقيق الحد الأقصى من الربح. فمع انتفاء القيمة الاقتصادية للعمل المنزلي نضيف من مراكمة الأرباح لدى أرباب العمل.‬

‫نتج عن التعريف الماركسي الكلاسيكي للعمل إهمال الشيوعيين لقضايا العمل في الحيز الخاص، ضمن العائلة، من قبل النساء. وبالتالي لم تبلور هذه الأحزاب أجندات نسوية ضدّ النظام البطريركي والرأسمالي. هم يعتبرون أن تحرّر النساء سيكون نتيجة لتحرّر العمّال، في حين أن النضال النسوي، كما أراه، هو في صلب المعركة ضدّ النظام الرأسمالي.‬

‫توجد استثناءات وتجارب جديدة اليوم ضمن اليسار المناهض للنظام يحاول العمل على توسيع التحليل الماركسي ليشمل بنى مختلفة من القمع. فيرى أن قمع النظام الرأسمالي له أشكال مختلفة، كالقمع الطبقي وقمع النساء أو القمع العرقي، أو القمع الطائفي. إلا أنه لا يزال يوجد توزيع جندري للعمل داخل هذه الأحزاب. فمن تجربتي الشخصية، كما من تجارب متعددة لنساء غيري، هناك سلطة تدير الشؤون الأيديولوجية للحزب، قد تكون غير مرئية وقد تكون مندرجة في الأنظمة الداخلية. كما هناك تقسيم جندري للعمل الحزبي، فيقود العمل الفكري عادة الرجال الأكبر سناً، ومعظم العمل التنظيمي والتنفيذي والمالي تقوم به النساء ومن هم أصغر سناً. تفرض هذه السلطة الأيديولوجية أدوات تحليلية ليست بمتناول الأعضاء بشكل متساوٍ، وليست بالضرورة الأداة الوحيدة التي يمكن أن يعتمدوها. كما أن الحجة السياسية داخل هذه التنظيمات يجب أن تبنى على طرق تقليدية من المعرفة المنتجة من أسماء ماركسية رنانة، وبالتالي تُطمَس الخبرات الشخصية من الحياة اليومية لأعضائها التي يمكن أن تغني التحليل وتضفي عليه بعضا من السياق. فإذا حصل نوع من التفاوض حول المواقف الأيديولوجية أو السياسية، يتم اتخاذ القرار في معظم الأحيان بطريقة نزاعية، تنتهي بتهميش الأعضاء المخالفين.‬

‫إذا نظرنا من جهة ثانية إلى المسارات النضالية النسوية، نرى وجود خاصتين أساسيتين لهذه الحركات. الأولى، كونها حركة وطنية انبثقت من الاستقلال الوطني عام 1943 وصولا إلى تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. أما الخاصية الثانية، فكون الحركات النسوية صودرت من قبل الرجال بدلا من أن تتمايز عنهم. وبالفعل إن جيل السبعينات من النسويات اليساريات أحدث خرقا على مستوى تناول قضايا عمل النساء واعتمد منهجاً توعوياً حول حقوق النساء في العمل. فمع نزوح الكثير من النساء إلى المدينة، بسبب الاحتلال أو النزاعات الطائفية أو بسبب التفاوت التنموي المناطقي، دخلت الكثير من النساء إلى سوق العمل. كان اليسار من الأعمدة الاساسية للحركات المطلبية والعمالية في هذه المرحلة، إنما التوجه السياسي العام له في البلد كان متحالفا مع قوى برجوازية طائفية، الأمر الذي أدى إلى إقصاء شرائح واسعة من العمال والعاملات من الطوائف المسيحية.‬

‫انبثقت نسوية يسارية من داخل الأحزاب اليسارية الّا أن أولويات هذه النسوية كانت تابعة للأولويات الوطنية التي كانت تضعها هذه الأحزاب. وقد تمّ قمع الأولويات النسوية لصالح أولويات التحرر الوطني والتنمية المناطقية. بالإضافة إلى المراقبة التي كانت تخضع لها هذه الموجة من قبل "الرفاق" في الأحزاب، مما دفع بالنسويات إلى الانفصال عن أحزابهنّ وتشكيل منظمات خاصة بهن، إلا أن أجنداتهن بقيت تابعة للأولوية الحزبية. ثم ما لبث نضالهن النسوي أن تحوّل خلال الحرب الأهلية إلى نضال إغاثي ومساعدة اللاجئين والنازحين.‬

‫أما مرحلة ما بعد الحرب، فتميزت بتحول الحركات النسوية إلى نمط المنظمات غير الحكومية. وتحولت المناضلة النسوية إلى موظفة، خبيرة، أو مديرة. فهذه المنظمات تركز على التخصص بجزئيات تقنية، مثل تشريع قوانين تحمي من العنف المنزلي، دون التطرق إلى مشكلة العنف البنيوي الرأسمالي والبطريركي المسلط على المجتمع. فتحوّل هذه المنظمات إلى أرباب عمل يعيق التضامن الطبقي إذ يتناقض مع مصلحة قيادياتها بمراكمة الرأسمال. والرأسمال هذا يُراكَم ليس فقط عبر فرص التمويل إنما أيضا عبر بناء شهرة وشعبية القيادات النسوية تمكنها من الاستفادة من شبكات علاقاتية قريبة من السلطة.‬

‫جاءت النظرية التقاطعية، فيما بعد، لتعمل على تقاطع التحليل الطبقي والنسوي والعرقي، في جيل جديد من النسويات الراديكاليات. إلا أن هذه النظرية كما تعرفنا عليها قد انحرفت عن المسار النضالي التي انبثقت عنه ضمن النسوية الماركسية السوداء في الولايات المتحدة. فتستعمل اليوم النظرية التقاطعية للخلط بين مسارات وتجارب حياتية مختلفة، بل متناقضة ومتنازعة. وتعمد على تقديم النسوية كمجال متنوّع ومتجانس وخال من علاقات السلطة والتفاوت الاجتماعي. فالجذور الراديكالية للنظرية التقاطعية هي عكس ذلك تماما. فقد ناضلت النسوية الماركسية السوداء لاظهار هذه النزاعات والانقسامات، وأن علاقات القوة الناتجة عن العرق والطبقة هي في صلب الخلاف مع النسوية الليبرالية والبيضاء.‬

‫إذا حاولنا فهم العمل في ظل النظام الرأسمالي المعولم اليوم، فنرى أن منطق مراكمة الأرباح يتقاطع مع منطق القمع الجندري. فتعتمد الآليات النيوليبرالية على التسليع وتوسيع نطاق تبادل السلع في الاسواق. خصخصة الحيزين الخاص والعام واطراد في استغلال النساء في أسواق العمل كمورد غير مستغل بعد إلى أقصى الحدود ترافق مع تسليع العمل الرعائي الذي خلق أشكالا جديدة من قمع النساء، فالغالبية الفقيرة والمهاجرة منهن هن اللواتي يقمن بتوفير هذه الخدمات المسلعة. ووجود قنوات عالمية للعمل الرعائي والاتجار بالنساء هو من الميزات البارزة للنيوليبرالية.‬

‫من هنا، وبناء على ما تقدم، لا يمكن تحقيق المساواة من دون العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروات. فالمشاريع اليسارية التقليدية قمعت النسويات. أما المشاريع النسوية الحقوقية والمساواتية، وخاصة في ظل النيوليبرالية، لا تأخذ بعين الاعتبار التفاوتات الطبقية او العرقية وغيرها التي تبقي على الاستغلال. وبالتالي هو مشروع يحافظ على البنية الرأسمالية للمجتمع. لذلك إن مناهضة البطريركية تأتي بنفس أهمية مناهضة الرأسمالية عبر بناء مشروع نسوي يعتمد التحليل الطبقي للنظام، الطبقة ليس بمعناها الاقتصادي وحسب، بل ايضاً بجميع اشكالها العرقية والجندرية والثقافية وغيرها من اشكال الهيمنة في المجتمع الرأسمالي.‬

--

* ألقيت هذه الورقة في مؤتمر أول نوار ضمن ندوة أجساد النساء بين العمل المأجور وغير المأجور في 30 نيسان/ابريل 2016