الرأسمالية والحرية

إريك أولين رايت
2016 / 5 / 15 - 09:27     

مالعمل -فريق الترجمة


إن أردنا حريّةً وديموقراطيةً حقيقيّتين، فلن يكون ذلك في ظلّ النظام الرأسمالي.



في الولايات المتحدة، يسلم الكثيرون جدلًا بأنّ الحرية والديمقراطية مرتبطتان بشكلٍ وثيق بالرأسمالية. وفي كتابه «الرأسمالية والحرية»، ذهب ميلتون فريدمان بعيدًا في زعمه إلى أن الرأسمالية شرطٌ ضروري لتحققهما.

من المؤكد أن ظهور وانتشار الرأسمالية تسبب في توسيع مساحة الحرية الفردية بصورة هائلة، وهو ما قاد لنشوء نضالاتٍ شعبية للمطالبة بأشكال ديمقراطية من التنظيمات السياسية. ولذا فإنّ الادعاء بأن الرأسمالية تعرقل جوهرَ الحرية والديمقراطية سيبدو أمرًا مستهجنًا عند الكثيرين.

القول بأن الرأسمالية تقيّد ازدهار هذه القيم، لا يعني الزعم بأنّ الرأسمالية تجري بشكلٍ مضاد للحرية والديمقراطية في جميع الحالات. ولكن من خلال تطبيق عملياتها الأساسية، نجد أن الرأسمالية أحدثت قصورًا في كلٍ من الحرية والديمقراطية، وهو قصورٌ لا يمكن لها إصلاحه أبدًا. ورغم أنّ الرأسمالية روّجت لظهور أشكال معينة ومحدودة من الحرية والديمقراطية، إلا أنها فرضت سقفًا متدنّيًا على أي محاولة تحقيقٍ أوسع لأيٍّ منهما.

جوهر هذه القيم هو حرية الإرادة: وهو الإيمان بحق الناس في امتلاك القدرة على تقرير ما يمكن أن تكون عليه حيواتهم إلى أبعد حدٍ ممكن.

عندما تكون تبعات فعلٍ صادر عن إنسان لا تؤثر إلا عليه وحده فمن حقه الانخراط في هذا العمل دون أخذ الإذن من أيّ شخص آخر؛ هذا ما تعنيه الحرية. لكن عندما تؤثر تبعات هذا الفعل على حيوات الآخرين، عندها يجب أن يؤخذ برأيهم؛ وهذا ما تعنيه الديمقراطية. في كلا الحالتين، تبقى المسألة الأهم هي أن يحتفظ الناس بأقصى قدر من القدرة على التحكم بالشكل الذي تتخذه حيواتهم.

عمليًّا، كل اختيار يقوم به شخصٌ ما سيؤثر على الآخرين بشكل تقديري. ومن المستحيل أن يشارك الجميع في كل القرارات المتعلّقة بهم، وأي نظام اجتماعي يُصرّ على مثل هذه المشاركة الديمقراطية الشاملة سيفرض عبئًا لا يطاق على الناس. ما نحتاج إليه هو مجموعة من القواعد للتمييز بين مسائل الحرية وتلك المتعلّقة بالديمقراطية. وفي مجتمعنا، عادةً ما يحدث مثل هذا التمييز فيما يتعلّق بالحدود بين المجالين الخاص والعام.

وفيما يخص هذا الحد بين الخاص والعام لا يوجد هناك ما هو طبيعي وتلقائي، بل يوجد ما صاغَتهُ السيرورات الاجتماعية وصانته، والمهام التي تنطوي عليها هذه السيرورات معقّدةٌ ومتنازعٌ عليها كثيرًا.

تفرض الدولة وبقوة بعض الحدود الفاصلة بين المجالين العام والخاص وتترك البقية ليتم رفضها أو ترسيخها كأعرافٍ اجتماعية. وغالبًا ما تبقى هذه الحدود غامضة وضبابية. ولكنها تخضع للمداولات الديمقراطية في المجتمعات كاملة الديموقراطية.

صاغت الرأسمالية الحدود الفاصلة بين المجالين العام والخاص على نحو يحدّ من تحقيق الحرية الفردية الحقيقية ويقلّص من نطاق الديمقراطية المُعتبرة. وهناك خمس طرق يتضح من خلالها هذا الأمر بشكلٍ جلّي.

أولًا: لا يمتُّ التخيير ما بين العمل والتضور جوعًا للحرية بصلة

ترتكز الرأسمالية على تكديس الثروة الخاصة والسعي لتحقيق الدخل من خلال السوق، وما يشكّل جوهرها هو عدم المساواة الاقتصادية التي تنجم عن مثل هذه الأنشطة والتي تؤدي إلى خلق تفاوت وعدم مساواة فيما يتعلّق بـ«الحرية الحقيقية» كما يدعوها الفيلسوف فيليب فان باريس.

مهما كان مفهومنا للحرية، يجب أن يشتمل على القدرة على قول «لا»، وفي حالة الشخص الثريّ، فلديه حريّة اختيار عدم العمل من أجل مرتب، بينما لا يتمكّن الشخص الفقير من القيام بذلك بسهولة طالما أنه لا يملك وسيلة مستقلة لكسب الرزق.

ولكنّ قيمة الحرية أعمق من هذا، فهي أيضًا تشتمل القدرة على أن يكون الفرد هو الفاعل في خُطط حياته – أي أن تكون لديه القدرة على اختيار الأسئلة، وليس الإجابة على ما يُطرح عليه من مسائل فقط. وفيما يستطيع أبناء الأثرياء العمل فترات إضافية للتدريب واكتساب الخبرة المهنية بدون مرتب، فإن هذه الفرصة لا تُتاح لأبناء العوائل الفقيرة.

وبهذا المنحى، فإنّ الرأسمالية تحرم الكثيرين من الحرية الحقيقة. والسبب في تفاقم الفقر على الرغم من وفرة الموارد هو الموازنة المباشرة بين الموارد المادية والموارد اللازمة لتقرير المصير.

ثانيًا: القرار بيد الرأسماليين

طريقة رسم الحدود بين المجالين العام والخاص في الرأسمالية تستثني القرارات الحاسمة – التي تؤثر على أعداد كبيرة من الناس – من التحكم الديمقراطيّ. ولعل أهم الحقوق الأساسية التي ترافق الملكية الخاصة لرأس المال هي امتلاك حق اتخاذ قرار الاستثمار أو الانسحاب بشكل صارم على أساس المصلحة الذاتية.

فاتخاذ شركة معينة قرارًا بنقل الإنتاج من مكان إلى آخر يُعتبر من المسائل الخاصة، رغم أن ذلك يؤثر بشكلٍ جذري على حياة القاطنين في كلا المكانين. وحتى لو زعم الشخص بأنّ تركيز السلطة في يد القطاع الخاص ستُسهم في زيادة كفاءة تخصيص الموارد، إلا أن عدم إخضاع مثل هذه القرارات للرقابة الديمقراطية سيحطم بشكلٍ صريح قدرة الكل على تقرير المصير ما عدا الرأسماليين.

ثالثًا: شروط عقود التوظيف ما هي إلّا طغيانٌ وظلم

يُسمح للمؤسسات الرأسمالية بأن تنظّم نفسها كديكتاتوريات عندما يتعلّق الأمر ببيئة العمل. وهناك عنصرٌ جوهريّ من عناصر قوة مالك المؤسسة وهو امتلاكه الحق في أن يُملي على الموظفين ما يجب عليهم القيام به. وهذا هو أساس عقد التوظيف: يوافق الباحث عن الوظيفة على إطاعة واتّباع أوامر رب العمل مقابل أجرٍ معين.

من المؤكد بأن رب العمل يمتلك الحرية في إعطاء الموظفين قدرًا لا بأس به من الاستقلالية الذاتية. وتُعتبر هذه الوسيلة من أساليب تنظيم العمل التي تهدف إلى زيادة الربحية. ولكن مثل هذه الاستقلالية لا تُعطى أو تُمنع إلا برضا رب العمل. وأيّ مفهوم مصقول لحق تقرير المصير لن يسمح بأن تكون هذه الاستقلالية مرتكزة على ما تحبّذه النخب شخصيًا.

قد يدافع أحدهم عن الرأسمالية بقوله إنّ العامل قادر على الاستقالة في حال عدم تقبّله للطريقة التي يحكمه بها رئيسه في العمل. ولكن بما أن العمّال يفتقرون إلى وسائل كسب الرزق المستقلّة فأنهم سيضطرون للبحث عن وظيفة أخرى، وفي الغالب ستكون الوظائف المتاحة في شركات رأسمالية. لذا سيظل العاملون خاضعين لأوامر رؤسائهم.

رابعًا: الحكومات مُجبرة على خدمة مصالح الرأسماليين

سيطرة القطاع الخاص على القرارات الاستثمارية الكبرى تخلق ضغطًا مستمرًا على السلطات العامة من أجل سن قوانين ملائمة لمصالح الرأسماليين. ودائمًا ما يكون التهديد بسحب الاستثمارات وانتقال رأس المال قائمًا في معرض النقاشات حول السياسة العامة. بالتالي، فأن الساسة – مهما كانت ميولهم الأيدولوجية – مضطرون إلى الاهتمام باستدامة «مناخٍ جيد للشركات».

يمكن القول بأن القيم الديمقراطية ماهي إلا قيم جوفاء، طالما أن فئة واحدة من المجتمع تُعطَى الأولوية والحظوة على حساب باقي الفئات.

خامسًا: تُسيطر النخب على النظام السياسي

يُتاح للأثرياء إمكانية أكبر من غيرهم للوصول إلى السلطة السياسية. هذا هو الحال في جميع الديمقراطيات الرأسمالية، رغم أنّ عدم المساواة في توزيع الثروة للسلطة السياسية أعظم في بعض الدول من غيرها.

والآليات المحددة لإمكانية النفوذ الأكبر هذه متفاوتة جدًا، مثلًا: المساهمات في الحملات السياسية، وتمويل جماعات الضغط السياسية، وشبكات النخب الاجتماعية من مختلف الأنواع، والرشاوي الفورية وغيرها من أشكال الفساد.

في الولايات المتحدة، لن تجد قيود مفروضة على الأشخاص الأثرياء أو الشركات الرأسمالية للحدّ من قدرتهم على توزيع الموارد الخاصة لأغراض سياسية. وإمكانية الوصول التفاضلية إلى السلطة السياسية هذه تُفرغ أكثر المبادئ الجوهرية للديمقراطية من معناها.

هذه العواقب ملازمة للرأسمالية كنظام اقتصادي. وهذا لا يعني استحالة تخفيفها في المجتمعات الرأسمالية. ففي أزمنة وأماكن مختلفة، تم استحداث العديد من السياسات لإصلاح ما أحدثته الرأسمالية من تشويه للحرية والديمقراطية.


من الممكن فرض قيود عامة على الاستثمار الخاص بطرق تؤدي إلى تآكل التُخُم المتصلب بين القطاعين الخاص والعام، حيث يمكن ضعضعة التهديد المتمثل في نقل رأس المال من خلال تقوية القطاع العام وتنشيط أشكال مختلفة من استثمارات الدولة. كما أنّ فرض القيود على استخدام الثروات الخاصة في الانتخابات والتمويل العمومي للحملات السياسية يمكن أن يقلل من نفوذ الأثرياء المتميز إلى السلطة السياسية. كما بإمكان قوانين العمل تعزيز القوة الجماعية للعمّال في كلٍ من الميدان السياسي ومكان العمل. علاوةً على ذلك، وجود تشكيلة واسعة ومتنوعة من سياسات الرعاية الاجتماعية قد يزيد من «الحرية الحقيقية» لدى المُفتقِرين إلى الثروات الخاصة.

عندما تتوافر الظروف السياسية الصحيحة فأنه بالإمكان التخفيف من سمات الرأسمالية المعادية للديمقراطية والمعرقلة للحرية، ولكن لا يمكن محوها بالكامل. وترويض الرأسمالية على هذا النحو كان الغاية الرئيسية للسياسات التي تم تأييدها من قِبل الاشتراكيين داخل الاقتصادات الرأسمالية في جميع أنحاء العالم.

ولكن إن أردنا تحيق المعنى الكامل للحرية والديمقراطية فلن يكفي ترويض الرأسمالية، بل يجب التغلب عليها.

المصدر: مجلة جاكوبين