ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المستقبل المشرق!.(5)


ماجد الشمري
2016 / 4 / 30 - 23:08     

في طرحه الفلسفي يقترب بلوخ (الجدلي)ويلامس الفكر الوجودي في خياره الفردي.فهو يؤكد على امكانية الاختيار كسبيل وحيد للتقدم والتغيير،حتى ولو تحددت سيرورات العالم تحديدا مسبقا.فالجديد يطل بأستمرا على الوعي الانساني،محفزا ومتحديا لاختياراته،وحتى لوغاب او اختلف مع الواقع،وايضا حتى لو بات المستقبل مرسوما قبليا.فللدهشة،والتشوف،والشك،والقلق الايجابي مكانا في العالم.ولولا هذه العناصر الذاتية لما كان هناك مجالا لاي اصلاح او تغيير،ولاصبح الانسان مجرد عبد لمنطق التاريخ الحديدي،وما خرجنا من عالم الحيوان والغرائز.فلو كان كل شيء محدد سلفا واوليا،لكان معنى ذلك ان الانسان لايحتل مكان سائق العربة،وانما يكون بتعبير بلوخ:"مجرد راكب لايسمح له الا مجرد شراء بطاقة ركوب الى الاشتراكية،عند مكتب بيع التذاكر التابع للحزب الشيوعي"!.والحقيقة التي يراها بلوخ الماركسي الجدلي،هي:ان الانسان يصنع تاريخه،من المؤكد انه يعتمد على امكانات وفرص وظروف مناسبة."الا ان القرار لم يتخذ بعد،والشيء لم يبزغ بعد".هناك امكانات سالبة وموجبة،وفرص قد تضيع اذا لم تستغل بظرفها المناسب.فكل وجود يحيط به"العدم".والعالم يتحرك صوب العدم في نفس الوقت الذي يتحرك فيه صوب "الكل".صوب حالة من"التحقق الكامل".غير ان العدم لايعدو ان يكون خلفية او تمهيد للتحقق الكامل.كما ان الخواء والاخفاق خلفية للامتلاء والسعادة،وكما ان الجنة التي يحلم بها المؤمن لها خلفية مظلمة من الجحيم!.وبلوخ بالرغم من شطحه التجريدي وغموضه،يمقت بشدة مبدأ الحتمية بمعناه الوثوقي القطعي،وهو لايريد لمبدأ الامل نفسه ان يكون شبيها بالحتمية في وثوقيتها التامة والمستقيمة.فهذا يلغي او يهمش العامل الذاتي،وطبيعة الحياة المتحركة والمتغيرة،فالموت لازال يبتلع الحياة،ونحن لازلنا في ريبة،ولانمتلك الثقة بان النصر سينعقد في النهاية:للموت ام الحياة!.وكما يقول بلوخ:"نحن لانملك يقينا،انما نحن نملك املا فحسب"!وهنا نجد ان ابرز سمات نظرية بلوخ في فلسفة الامل،هو تفائلها ويقينها :بأنفتاح التاريخ عل نهاية غير محددة،وبامكانيات مفتوحة لاتخضع لصراطية الدغما الايديولوجية ومخططها الزائف.واعتبار ذلك الانفتاح الذي يتسم بالمرونة القصوى،هو وحده من يترك حيزا ودورا لمقولة الحرية وتفعيلها.فالواقع يقابله الحلم،والضرورة تقابلها الحرية،والحتمية يقابلها الانفتاح على تعدد المعنى والآخر.هذ مايترك للانسان القدرة بأتخاذ القرار والمشاركة من خلال حرية ارادته.وكما يقول بلوخ:"حرية الارادة تأتي من استعداد يصبح مثمرا من خلال سلسلة مطردة من الاختيارات والقرارات والافعال،فالاختيار هو نقطة انطلاق الحرية"..
وتأسيسا على المكانة العليا التي يسبغها بلوخ على الانسان ودوره في التاريخ،وخاصة في بؤرة فلسفته هو،وجدوا فيه الكتاب الغربيون ما دعاهم لوضعه بين ابرز الفلاسفة الاشتراكيين الذين اعطوا،و/او منحوا الاشتراكية"وجها انسانيا".و/او في عداد الذين اسهموا في وضع تصور يوتوبي مترع بالامل لاشتراكية الانسان،و/او اشتراكية من اجل الانسان لاالعكس.والحقيقة ان كلمات بلوخ الثرية عن مكانة ودور الانسان في التاريخ،وعن حريته ومستقبله تذكرنا دوما بماركس الذي لم يستطع بلوخ ان يتجاوز افكاره في فلسفته الاجتماعية والانسانية،فهي مجرد ترديد او صدى لما ورد في كتابات ماركس الشاب خاصة في:"المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام1848"وفي"نقد برنامج غوتا".
ف:"جذور التاريخ هو الانسان العامل،انه ما ان يمسك زمام ذاته ويقيم نفسه في ديمقراطية حقيقية دون اغتراب(استلاب)ونكران،حتى سيأتي الى العالم موطن لم يبلغه احد حتى الان،موطن حقيقي"..ما اشبه مايقوله بلوخ،وقربه من كلمات وصيغ ماركس،وتكاد تكون مفردات ماركس نفسه!.ولكن يبقى مايميز بلوخ عن ماركس،هو ان الاول ركز على اساس العامل الذاتي لنشاط الانسان،واعتبره القوة الدافعة وراء"توسع الذات"الى ماوراء هدف ضغط الذات.في حين كان ماركس لم يكتف بهذه النظرة التأملية المشوبة بالمثالية،والحالمة في تجريدها!.فماركس اعتبر الاساس الذاتي بمثابة"الجهاز التنفيذي"للقوانين الموضوعية للتطورات الاجتماعية والاقتصادية.ومن هنا يمكن القول،ان بلوخ كسر القاعدة الاساسية في الماركسية،والتي تقول،بان التاريخ هو نتيجة العلاقة الجدلية بين القوى الانتاجية والعلاقات الانتاجية،فماركس يرى بحق،ان القوى الانتاجية هي المحرك الرئيسي للتاريخ،ويحكم تطورها المنطق الموضوعي.وبالرغم من ان بلوخ تجاوز هذه القاعدة الماركسية المهمة في فكر ماركس،الا انه لم يكتب يوما،ولم يتخذ موقفا مخالفا او ناقدا لاطروحات ماركس.
فقد وصف بلوخ تحليل ماركس للعلاقات الانتاجية في ظل الرأسمالية،بانه تحليل"دقيق الى حد لايمكن تجاوزه".واعتبربلوخ موقف ماركس من مفهوم الانسان،بانه:"لم يكن موقف نسبية سوسيولوجية او تاريخية،وانما نظر اليه على انه كائن قابل للتحديد وقابل للادراك".
لقد تصور بلوخ ان نظرة ماركس للانسان هي نظرة"انثروبولوجية".فهو يقول في حديثه عن"طبيعة الانسان"انه لاتوجد حتى الان اية بنية غريزية طبيعية تفسر الجوع انما نجد بين ايدينا مجرد صورة لحاجة اصبحت اجتماعية ويتم توجيهها اجتماعيا،تتفاعل مع حاجات اجتماعية اخرى،وبالتالي متغايرة تاريخيا..
عندما يتحدث بلوخ عن اولويات المادية التاريخية،يلتقي مع ماركس،بتقرير اولوية الكرامة الانسانية على تلبية الحاجات المادية للانسان.وحسب بلوخ فان دور ماركس الاساسي هنا هو تطويره للنزوع الانفعالي للاستقلالية الشخصية والحرية،بعد ان اكتسبت طابعا اجتماعيا-ليصبحا ك"امر مطلق"على الطريقة الكانطية..اما جدل الحاجات الانسانية الآخذه بالاتساع،فهي دوما لدى بلوخ:نموذج للتطور التاريخي"نموذج للجدل الانتاجي بين فائض الحاجات الكامنة،وفائض القدرة الكامنة على تلبيتها،الموجودة في ادوات الانتاج المتاحة"..وبلوخ بعد ان ينسجم مع ماركس يعود الى التناقض معه،حين يؤكد ان:"الانسانية بالنسبة للماركسية هدف تاريخي،وليست مبدأ اوليا يستمد منه الاستنتاجات،وليست يقينا تاريخيا،انما هي هاجس طوباوي لاوجود له"!...
الفكرة المحورية في فلسفة التاريخ عند بلوخ هي ببساطة،فكرة الامكان،و"مبدأ الامل"هو المرادف لمبدأ الامكان باتجاه المستقبل.فالانسان هو غاية امكانه الحقيقي لما اصبحه في مسيرة تاريخه.ومايمكن ان يصبحه لاحقا في مسار تقدمه نحو المستقبل.ومع هذا يبقى الامكان يحمل في طياته وتضاعيفه،من ناحية:على الاثر السلبي للظروف والتغييرات في الاستجابة لها.ومن ناحية اخرى،يحمل القدرة الايجابية الخلاقة على التغيير.وفي هذه النقطة ليس هناك من تباعد عن مفهوم ماركس للانسان والمجتمع والتاريخ.ولكن بلوخ يميل-بتجاوز-نحو نزعة متطرفة في غائيتها مشبعة بالتصور البيولوجي للتاريخ وحركته،في تناوله للتطور الانساني،الامر الذي يصب في اهتمامه الانثربولوجي شديد الوضوح.فاذا كانت النزعة الغائية هي كعب اخيل في فلسفة بلوخ التاريخية،والتي تجعل منه ميالا للنظرة الذاتية،والمصحوبة بالتأمل اللاهوتي، الا ان اهتمامه بالمستقبل المنعكس في هذه النزعة يشكل اكبر اسهام لبلوخ في الفلسفة المادية المعاصرة.حتى يمكن القول انه جعل من بحثه الفلسفي في اليوتوبيا والمستقبل اول مشاغله الرئيسية في حياته الفكرية والشخصية معا..
........................
يتبع
وعلى الاخاء نلتقي...