ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المستقبل المشرق!.(4)


ماجد الشمري
2016 / 4 / 24 - 02:51     

يعتقد بلوخ ان كينونة الانسان والعالم يكتنفها غموض قاتم لايمكن اختراقه،وايضا لايمكن تحديده،والامر بالنسبة اليه:انه لايسعى الا "لتركه كما هو".والحقيقة الواحدة والوحيدة:هي اختمار تجارب وخبرات ونشاط الانسان،من اجل معرفته لذاته والعالم المحيط به.ففي داخلنا يمور توقا،وفضولا،وحافزا لايهدأ لتجاوز حالة الخواء وتفاهة اللحظة الراهنة،وان العالم يستمر في حركته بفعل"خواء مرعب"!

وبلوخ في جانب من اعتقاده هذا يخالف فرويد ونظريته السايكولوجية،والتي تقول:بغريزة محددة وحاسمة"الليبيدو"الجنسي،هي المحرك الاساس والرئيسي لعالم الانسان ودوافعه.فلبلوخ رؤية اخرى مختلفة،تتحدث عن "جوع شامل".ليس الجوع الفسيولوجي بطبيعة الحال،بل هو جوع متميز:ميتافيزيقي،يوتوبي،يسعى من الحاجة، لما لم يتحقق بعد،ومعناه هو ذلك الشغف،وعدم الاكتفاء بالحالة الراهنة للاشياء والوجود.
جوع لتجاوز المتحقق، لما لم يتحقق بعد.معنى الجوع لدى بلوخ هو:كل ما بداخلنا من توق عابر للطعام والشراب والمتعة والسيطرة والحياة بكل ابعادها ومراميها في صيرورة اكتمال وتكامل،واغناء وعمق وامتداد متواصل نحو "الغاية القصوى".ويعتقد بلوخ ان هذا التطلع الجائع،متأصل في بنية الطبيعة البشرية،وهو الذي حقق تلك الطفرة من التطور،وقاد الانسان من مرحلته الحيوانية الى رحاب الافق الانساني المفتوح على الارتقاء والتسامي،وهو المهماز الذي يدفع بأتجاه التقدم والمضي من حالة نقص الوجود البدائي الباهت،الى وجود ارفع انسانيا،من الوجود كمادة فحسب،الى مادة ادركت نفسها ووعت ذاتها.
هل كان بلوخ قريبا من القول ب"عذاب المادة"الذي اثاره قبله الفيلسوف الالماني الاشراقي"جيكوب بوهمه"؟!.لانجزم بذلك،فهي مجرد اشارة محتملة،يعززها قول بلوخ:"ان هذا التوق،شوق الانتقال من الظلمة الى النور هو اصل التاريخ والقوة الكامنة وراء سيرورة العالم الدائمة نحو الغاية القصوى"..
مامعنى مفهوم"الغاية القصوى"لدى بلوخ؟!.
انه يعني اشياء كثيرة ومتعددة:الخير الاسمى،الهوية،الطموح،النهاية،البداية،الانطلاق من النقص الى الامتلاء،من الضرورة الى الحرية،من القوة الى الفعل،من "ماهو"الى"ذلك"!.
عند هذه النقطة يكف بلوخ عن الكلام المباح،ويمتنع عن اعطاء صورة واضحة لما يعنيه،ويصمت عن تحديد ماهية تلك الغاية القصوى كمفهوم هو الاكثر استعصاءا وغموض!.والتي يشير اليها بأبتسار:كتعين ملموس قادم في غياهب مستقبل لم يأتي بعد!.هذه الغاية المرتجاة والوردية في رأي بلوخ غير قابلة للتحديد والحصر او الوصف،طالما هي لم تظهر بعد،وفي طور الكمون،لم تبزغ بعد بالوضوح الكافي،ولم تزل مجرد شعور باطني،و/او حدس وجداني مسبق يعتمل في الصدور والعقول.ورغم ذلك يصر بلوخ على ان الغاية القصوى هي:معنى الحياة،وجوهر الانسان،و"ضمير التاريخ"بل هو"الارض المولودة"و"المحتوى الطوباوي الكامن في الفن الجميل"..
وهكذ يستمر بلوخ في بناء متاهته الفلسفية،لنضيع نحن قراءه بمنحنياتها ودوائرها المقفلة!.
هل نحن هنا امام فسيفساءو/او كولاج من ماركس والمخلص،من مادية ولاهوت وتقنية وطوبى من معرفة ومعلومات واساطير؟!.لانعرف!.
ولكن لنقف برهة مع سؤال يعن لنا وعقولنا تلهث وراء مفردات وتعابير بلوخ المقعرة والملغزة!والسؤال:اين الجدلية؟..اين المادية؟..من كل هذا السيل الانتولوجي المتدفق،ومضامينه الفلسفية المشرعة على التأمل والحس المفعم بالصوفية الدينية!.لانجد امامنا سوى نصوص(وجودية)و/او حتى(فينومينولوجية)غريبة وبعيدة عن منهج ماركس المادي الجدلي النقدي!.
ولكن بلوخ نفسه،حين يتخذ من فلسفته موقف الشارح او المفسر،لايجد غير كلمات ماركس ليشرح بها معاني فلسفته!.فهو يقول:ان اوضح المعاني التي يقصدها في طرحه،هو حديث ماركس عن:"طبعنة الانسان وانسنة الطبيعة"او اكتساب الطابع الاجتماعي والطبيعي للانسانية في تحالفها وانسجامها مع الطبيعة لتحويل العالم الى موطن حقيقي للانسان..
ان آمال واحلام واشواق الانسانية-في فلسفة بلوخ للتاريخ-موجهة صوب هذه الغاية القصوى التي تعطي للعالم مضمونا ومعنى وقيمة.وهو يرى ان هناك تمثلا عقليا ووجدانيا لهذه الغاية"القصوى"في احلامنا المعبرة عن رغباتنا الدفينة،وحاجاتنا المتجددة،وفي رموز واشارات الواقع،والقوالب النمطية التي تتحكم وتقيد حياتنا وفكرنا واشواقنا،وايضا في الشخصيات الروائية الفذة والاستثنائية(اذا ماتحدثنا بلغة برغسونية)مثل:دون كيشوت،واوديسيوس،وفاوست،وحتى في الموسيقى والاساطير ،والوعود الآخروية التي ابتكرتها الاديان عبر الازمنة.
وعندما تتحقق تلك"الغاية القصوى"-المستقبلية بأمتياز-عندها فقط يحل عصرا الفيا فريدا:"تبزغ سماء فردوسية غامضة،وارض جديدة يتجه نحوها كل شيء،ولكن احدا لم يطأها من قبل"!.
ها نحن اولاء امام صورة لاهوتية اخروية خلاصية هي لب وجوهر كل الاديان والميثولوجيات الغابرة!.
ماذا يبقى اذا من الماركسية في داخل هذا اللاهوت المادي او المادية اللاهوتية سوى هذا الشكل الطوباوي من الشيوعية؟!.وهل ان ادعاء تجديد الماركسية يقودنا بعيدا لنغادرها ونخرج منها الى تخوم الطوبى والحلم؟!..
ما الذي يبقى في جعبة بلوخ الفكرية غير احلام التقدم،ولاهوت مبدأ الامل،والايمان الفلسفي اليوتوبي والمادي المتفائل بالمستقبل،وان كتب بلغة توراتية صارخة!.الايمان بالمستقبل،وتقدم الانسانية،و"مبدأالامل"هي ثالوث بلوخ ودعائم حلمه وتوقه،وهي محاولته للتغلب على طغيان السياسة المباشر ودوغما الحتمية على الفكر الحر،باللجوء الى الفلسفة التأملية المتحررة من كلس العقدية،والتعلق بالتقدم الانساني المضطرد نحو ذرى الغاية الفردوسية التي لم يكف او يقنط من مجيئها يوما ما..
وهكذا يحتفظ بلوخ بشرارة الجدل الثورية متوهجة،والتي تميز الفلسفة الماركسية في جذورها وجذوتها الاولى.او مايسميه بلوخ نفسه ب:"التيار البارد والتيار الساخن في الماركسية...الحمرة الباردة والحمرة الساخنة"!.
التيار الساخن هو الدافع للحرية والانعتاق،هو التفكير من خلال السيرورة،اي من خلال"حافز الجدل الثوري".اما التيار البارد،فيتمثل في التحليل الواقعي للظروف والاوضاع الانية،في التفكير من خلال الانساق المرئية والمستجدات اليومية،هو امعان البصيرة فيما هو ممكن ونافع وعملي.التيار الاول -الساخن-هو المعبر عن الامل الماركسي في المستقبل ،وهدفه هو الفداء الانساني.في حين ان التيار الاخر-البارد-هو المعبر عن تبني مهام الحاضر المباشر،والاستراتيجيات والتكتيكات السياسة-اي سياسة القوة وتوازن القوى،والهيمنة-.الاول تعبير عن فكرة عظيمة وسامية،والثاني،هو تعبير عن الوقائع الانية للعالم الحقيقي الموضوعي وتفاصيله..
لقد اكد بلوخ دائما-وعلى مدار حياته الفكرية-ان الماركسية بالنسبة اليه هي،نظرية ساخنة،نظرية ثورية،نظرية التغيير والتحويل للعالم،نظرية تركز على مبدأ الامل والتفائل بالمستقبل،والذي قامت عليه كل الفلسفات والحركات العظيمة والاديان،من المثالية الافلاطونية الى مادية ارسطو،الى مفهوم الاتجاه لدى لايبنتز،وحتى مسلمات كانط الاخلاقية،وجدل هيجل التاريخي..
ففي كتابه عن "توماس موتزر-لاهوتي الثورة"1921ندرك جيدا الصيغة اللاهوتية التي يضفيها بلوخ على مفهوم التقدم والثورة -حتى في بعدها الاجتماعي-فعنده ان نقطة التحول الحاسمة في التاريخ الحديث هي النقطة التي التقت عندها فكرة"العود الابدي"-وهي فكرة كامنة في اليهودية والمسيحية،وحتى الاسلام-مع المطالب الايجابية والاهداف المشروعة،وتطلعات الطبقات المقهورة والمحرومة في المجتمع.وهذه الفكرة تتضمن ميلا ثوريا راديكاليا لتحقيق العدالة كضرورة وواجب.ولهذا نجد الكنيسة والكهنوت الديني من كل الاطياف،وقفت بالضد والعداء السافردائما،لشل وطمس ومحاربة هذه الفكرة السامية التي كان الفكر الديني ورجاله يدركون انها ستقوض عالمهم القديم المتفسخ،والتي كانت تعاود الظهور والتجدد مع كل حركات الاحتجاج والتمرد الاجتماعية،والتي كانت تأخذ طبعا دينيا من الفلاحين وفقراء المدن ضد الاستغلال الاقطاعي والبؤس الاجتماعي..فقد كان موتزر زعيما لواحدة من تلك الحركات الثورية،والتي اتهمت بالهرطقة-كالعادة!تلك التهمة الجاهزة لوصم الثورات والهبات الاجتماعية المعارضة!-في المانيا منتصف القرن السادس عشر.
يقول بلوخ عن لاهوتي الثورة في كتابه :"الثورات تحقق اقدم آمال الانسانية،ولهذا السبب بالتحديد فانها تنطوي على،وتتضمن الانجاز المضطرد المحسوس بصورة متزايدة للمثل الاعلى للحرية،للرحلة التي لم تكتمل ابدا صوب تحقيقها،واذا كانت اليوتوبيا نفسها(اي ذلك النوع من ال واقع الذي لم يكن بعيدا ابدا)يمكن ان يمتلك المحتوى الدنيا لما هو هنا الان،عندئذ فأن الامل-الذي هو اساس وجودها-(اي وجود اليوتوبيا.م.ا)يمكن ان يندمج اندماجا كليا في الواقع،والى ان يأتي ذلك اليوم،فان عالم احلام اليقظة سيستمر ولن يؤدي اي رفع بالتقسيط بالانسان الى ان ينساه،فلا ينبغي تحويل مجرد شعور مسبق الى شيء مطلق بحيث يتعتم ذكر الغاية القصوى.."..هل كان بلوخ تحت وطأة نوستاليجيا معكوسة،لاتبالي بماضي طواه التاريخ واصبح ذكرى،بل هو حنين لازمنة قادمة،وتوق،لما لازال علقة في رحم آت يتشكل،هو المستقبل؟!..

.......
يتبع..
وعلى الاخاء نلتقي...