ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المستقبل المشرق!.(2)


ماجد الشمري
2016 / 4 / 9 - 21:40     

"جذر التاريخ هو الانسان العامل،انه ما ان يمسك زمام ذاته ويقيم نفسه في ديمقراطية حقيقية دون اغتراب(استلاب)ونكران،حتى سيأتي الى العالم موطن لم يبلغه احد حتى الان،موطن حقيقي"..
-ارنست بلوخ-


عانى ارنست بلوخ ضغطا ونبذا ومحاربة من النظام الالماني الفاشي اضطره لمغادرة وطنه الى المنفى،كما عانى الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرديائيف1874-1948من النظام القيصري والثورة البلشفية.كان بلوخ اصغر من ببرديائيف بعشر سنوات،ولكنه عاش بعده لثلاثة عقود.ومثلما حاول بيرديائيف الجمع بين ماركس وكانط في مرحلته الماركسية،فعل بلوخ الامر نفسه مع صديقه الحميم جورج لوكاش الهنغاري.1885-1971فقد رغب بأن يجمع في توجهه الفكري بين لوكاش وبيرديائيف،بين المادي الجدلي الماركسي الهنغاري،واللاهوتي الوجودي الروسي ذو النزعة الصوفية!.
لذا نجد ان اغلب التصنيفات لفلسفة بلوخ تضعه في خانة مايسمى:"الماركسية الطوباوية"او"الرومانتيكية"او"اللاهوتية العلمانية"او الاشتراكية التلمودية"!.ورغم الفارق الفكري الكبير بين بلوخ وبيرديائيف الا ان اوجه تشابه كثيرة تجمع بينهما.فكما كان شأن بيرديائيف الذي وقف ضد القيصرية وناضل ضدها،وناهض ايضا اشتراكية البلاشفة،واحتمى بضبابية اللاهوت المسيحاني،واعلاءه لقيمة الفرد والروح.كان بلوخ كذلك.فقد عارض الفاشية والرأسمالية وانتقد الاشتراكية البيروقراطية لدى السوفييت وفي وطنه المانيا.لكن بلوخ بخلاف بيرديائيف لم يلجأ للاهوت مسيحي،بل حاول التلفيق او التوفيق بين نوع من"اللاهوت المادي"والفلسفة الماركسية!.فقد كان انتقائيا،قبل من الماركسية مايتفق وينسجم مع ميوله ونزعاته وبنية فلسفته:(الاملية-المستقبلية)ورفض منها ماشكل لاحقا،احد دوافعه لطلب اللجوء السياسي الى المانيا الغربية.-مع ان ماركسية ماركس براء من كل ما ارتكب من انتهاكات وانحرافات وسلبيات وفهم جامد لتلك الدوغما الستالينية التي سادت ولفت الكتلة الشرقية!-.
وقد جاء لجوء بلوخ الى المانيا الرأسمالية في تلك الفترة التي راج فيها مفهوم ماسمي:"ب"التحريفية"revisoaismوهي الايديولوجيا"المارقة"التي رحبت بها وقبلتها الاوساط السياسية والثقافية- الفلسفية في اوربا الغربية خاصة-.واعتبرتها الفلسفة الماركسية الحقة التي شوهها المتمركسون البيروقراطيون!.وماعدا ذلك ليس اكثر من مجرد مساهمات ماركس في نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية!.او تقويمها ك:فلسفة جديدة تستلهم ماركس الفيلسوف الشاب في مرحلته الاولى من تطوره الفكري.او بالنظر اليها كتطور خصب لافكار ماركس(التقدمي)تجاري وتنسجم مع التطورات العلمية والتكنيكية الجديدة،او مواكبة وداعية ل"الثورة التكنولوجية"وتأثيراتها الكبيرة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا،والتي لم يشهدها او يعاصرها ماركس:فيلسوف القرن التاسع عشر،والثورة الصناعية في بداية تفتحها ونموها وتوسعها..-وكان من ثمار ذلك تلك النزعة "الاوروشيوعية"المستقلة والمجددة في فهمها للماركسية في اوربا الغربية واحزابها الشيوعية،بعيدا عن الماركسية التقليدية في اوربا الشرقية..
لذا كان انتقال بلوخ من الشرق الى الغرب تعبيرا عن قناعته وقبوله،كاعتراف فكري واكاديمي اخذ يترسخ ويمد جذوره في تربة فلسفته،بماركسية حداثية مرنة،وذات طابع متجدد ومنفتح ونقدي يرفض الدوغما المتحجرة-التي وصمت ذلك ودمغته ب"التحريفية"!-وفي الوقت نفسه كان انتقال بلوخ من وسط يدين"التحريفية"ويكفرها كخروج ليبرالي سافر،ومحرم ،على قوالب تلك الماركسية التقليدية اياها،والتي هيمنت على اغلب الاحزاب الشيوعية التاريخية،الى بيئة تمجد،او على الاقل تستوعب او ترعى"التحريفية"وتعتبرها-صدقا او نفاقا ومزايدة!-"الوجه الانساني"للماركسية،او اكثر من ذلك،فهي"الفلسفة الماركسية"ذاتها بعيدا عن الدوغما الارثوذوكسية المتكلسة والتقليدية السائدة،حين تخلو من شوائب الاقتصاد السياسي التي عكرت وعتمت فلسفة ماركس"المخطوطات" الانساني الشاب.هذا بأختصار مارأه او آمن به بلوخ في اخر ال15عاما من حياته..وبهذا المعنى لم يكن انتقال بلوخ الاول من براثن الرأسمالية،الى المانيا"الديمقراطية،الاشتراكية"-يختلف عن نقلته الثانية-من المانيا"الاشتراكية"الى المانيا الغربية"الرأسمالية"،اذا ما تأملناهما كحدثين مهمين في حياته الاجتماعية والفلسفية والسياسية.ويمكن ان نعزو تفضيل بلوخ للجوء الى المانيا الغربيةعام1961-ان لم يكن السبب الرئيسي،فهو واحد من اسباب عديدة لذلك اللجوء!-هو القضية التي شاعت وانتشرت في الوسط الاكاديمي،واثارت ضجة في المانيا"الديمقراطية"-وهي قضية"فولفجانج هاريخ-والذي كان من ابرز تلاميذ بلوخ،والذي جرى اتهامه ب:نشر وتدريس نظريات وآراء معادية للثورة والحزب والدولة الالمانية"الاشتراكية،الديمقراطية".ولكن بلوخ سرعان ما استجاب لضغط الحزب،واستنكر مواقف تلميذه وزميله-هاريخ- الذي عمل معه في تحرير مجلة"الصحيفة الالمانية الفلسفية"والتي كانت تصدر منذ بداية عام1953وهي المجلة التي حملت لواء الدعوة ل"تجديد الماركسية"وفيها نشر بلوخ الفصول التي شكلت المجلد الاول والثاني من اهم كتبه على الاطلاق:"مبدأ الامل"الذي كان ابرز ما انتجه عبر حياته الفلسفية،والذي ناهزال1600صفحة عند نشره بأجزائه الثلاث عام1959..
استثني بلوخ من اوامر الاعتقال،والتي صدرت بحق اربعة من تلاميذه،وزملاءه في تدريس الفلسفة،ومن ضمنهم"هاريخ".وقد حوكموا وصدرت بحقهم احكام بالسجن،كانصيب هاريخ منها عشر سنوات!.ولم يكن ذلك الاستثناء من الاعتقال لبلوخ الا لمكانته المرموقة كفيلسوف كبير معروف-او على الاقل كان هذا احد الاسباب-.لكن استنكاره وشجبه لمواقف تلاميذه"الليبرالية"المنحرفة والمعادية للدولة(الاشتراكية-الديمقراطية)جاء متأخرا،فلم يكن فوريا ومباشرا عند المحاكمة،بل جاء بعد انتهاء القضية والمحاكمة بعدة اشهر-على الاقل حتى لايفسر موقفه كأعلان ولاء سياسي للدولة!-حيث التزم بلوخ الصمت طيلة تلك الشهور!.في حين كانت هناك عناصر قيادية داخل الحزب تناهضه،وتعمل من اجل ادانته،ودفعه لممارسة النقد الذاتي-الجلد الذاتي!-.ففي اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الالماني طالب"كورت هاغر"سكرتير اللجنة المسؤولة عن الشؤون الايديولوجية،بضرورة التمييز بين الملتزمين بالمادية الجدلية كارنست بلوخ والمارقين عنها!!. كتكفير عن ذنبه حتى ينال الغفران،ورضى الكنيسة الارثوذوكسية كلية الاستقامة والمعرفة!!.في الوقت الذي كانت الدولة(الاشتراكية)قبل عام من ذلك،وقبل قضية هاريخ قد منحت بلوخ"الجائزة الوطنية"و"وسام الاستحقاق الفضي للوطن الام"!اعترافا منها بان اعماله:"تضم تحليلا عميقا وسابرا للاغوار وتفسيرا للعالم ذو نظرة شاملة تقدمية"!..بعد هذا التكريم والاشادة عام1955 كان من الطبيعي وكرد للجميل والتقدير الذي حصل عليه بلوخ ان يبدي ولاءه واعجابه واخلاصه لالمانيا(الديمقراطية)وحزبها الشيوعي،وكمظهر للطاعة والانصياع،وشجب الانحراف والخروج على العقيدة القويمة التي لاتعرف الخطأ او الزلل!.وبدلا من الوقوف الى جانب تلاميذه وزملاءه في محنتهم،استجاب لصوت السلطة،وسارع لاعلان ادانته واستنكاره لانحرافهم الليبرالي الشنيع!.وانحنى بلوخ وسبح بلسانه،حتى لاينكسر عقله!.
يبقى في كل الاحوال تفسير لجوء بلوخ الى المانيا الغربية من شرقها،عالقا ومحتاجا لتفسير وتوضيح وتبرير اعمق من مجرد الظروف السياسية والاجتماعية والايديولوجية التي دفعته لمغادرة المانيا"الديمقراطية".فذاك الفعل السياسي البليغ في معانيه،والذي يحمل في طياته روح القلق والجدل الفكري والفلسفي المصطرع داخل عقل ووجدان بلوخ،والتي وضعته-شاء ام ابى،حقا او باطلا،عن قناعة او شك!-مع فريق"التحريفيين"الملعون!.فلم يكن ذلك عفوا او رد فعل او استجابة سلبية ،بقدر ماكان اختيارا واعيا وقرارا،حتى لو قاده الى ان يحسب على دعاة تلك"التحريفية"المدانة.وبدلا من نضاله من اجل الماركسية المتجددة من داخل قلعة"الاصولية"او"الارثوذوكسية"،اختار المتراس المعادي للماركسية ككل،وليس فقط الدوغماتية التقليدية منها،اي من خارج المجتمع الذي خضع لنظام حزبها ودولتها.نظام رأسمالي يحارب الماركسية كليا وليس جانبا واحدا من جوانبها،وان كان يظهر-زيفا،وتملقا-ترحيبه واحتواءه لكل من يخرج او ينشق،او يعود الى المنابع الاصلية،او يعلن عن ماركسية مختلفة او مغايرة للسوفيتية،ولكن دون ان يعني ذلك تبني ذلك الغرب الرأسمالي لتلك الماركسية الخارجة عن الدوغما في العالم(الاشتراكي)فكل شيء كان يوظف ويستغل من اجل احراز الانتصارات في الحرب الباردة ويصب في صالح الدعاية للعالم الحر!!..
................................................
وعلى الاخاء نلتقي